بحث هذه المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات من الذاكرة الفلسطينية: الحاج إسماعيل سلامة حسين شاهد عيان على مجزرة الصّبيح. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات من الذاكرة الفلسطينية: الحاج إسماعيل سلامة حسين شاهد عيان على مجزرة الصّبيح. إظهار كافة الرسائل

2014-05-05

من الذاكرة الفلسطينية: الحاج إسماعيل سلامة حسين شاهد عيان على مجزرة الصّبيح






لن أنسى ولن أغفر مقتل أمي وإخوتي الأربعة، وصورتهم لا تزال ماثلة أمامي

أحمد الباش
مشاهد وفصول لملحمة بطولية سطّر ثلة من أبناء عشيرة الصبيح، وترويها ذاكرة واعية وقارئة للحاج إسماعيل سلامة حسين، شاهد العيان الذي جمع بين البصر والبصيرة.

التاريخ: فجر السادس من أيار عام 1948، ساحة المعركة بيوت ومضارب عشيرة الصبيح في قضاء الناصرة.

دماء ودموع
بدا المشهد يومها قاتماً، أبي وأخي خليل مصابان بجروح إثر المواجهة الدامية في الدفاع عن القرية، وينقلان إلى مستشفى الناصرة. أنا في السادسة من العمر، وأخي حسن في الرابعة، نختبئ خلف الباب، نراقب ما يحدث، ثرثرة جنود في الخارج، لغة لم نعتد سماعها. جنديان من العصابات الصهيونية يدخلان البيت من الباب الحديدي مدججين بالأسلحة والذخائر. يتقدمان نحو أمي وإخوتي. المشهد لا يزال ماثلاً أمامي وكأنَّه حصل بالأمس القريب: إخوتي الثلاثة يقتلون، لكل واحد منهم رصاصة في رأسه: حسين ابن الإثني عشر ربيعاً؛ وخالد ابن العاشرة؛ وغانم ابن الثامنة، وأمي. أمي يطلق عليها رشقات من رشاش غادر وهي تحمل رضيعها! تسقط أمي صريعة على الفور، أحمل أنا وأخي حسن أخي الرضيع حسني وهو مصاب وينزف، سرعان ما يفارق الحياة بين أيدينا.

بعد أن خرّب الجنود محتويات البيت، وكسروا جرار الزيت الذي اختلط بدماء أمي وإخوتي؛ انتقل الجنود الصهاينة إلى بيتنا الثاني، وكان فيه خالتي عليا النمر، أطلقوا عليها النار على الفور فألقوها صريعة أيضاً؛ حاول ابنها أن يفتح الباب ليخرج من البيت ويهرب؛ فأمطروه بوابل من الرصاص وأردوه قتيلاً. انسحب الصهاينة إلى الخارج. وبعد قليل خرجنا من البيت وذهبنا إلى بيت جارنا أبو عباس، وكان عندهم «تصوينة» كبيرة. رأيت الجنود متمركزين على تلك «التصوينة» يجمعون بعضهم وينقلون قتلاهم وجرحاهم من ساحة المعركة إلى خارج القرية، وأذكر أنه كان بينهم مجندات يهوديات اشتركن في المعركة.

هذا جزء من المشهد، والمشهد بالكامل كان يقول: إنَّ الخطر الداهم بات على الإنسان وعلى الأرض معاً.

مستوطنة (بيت كيشت) شرارة المعركة الأولى:
بدأت الشرارة الأولى عندنا بعد أن بُنيت على أطراف القرية مستوطنة سميت "بيت كيشت" في بداية الأربعينيات من القرن الماضي؛ حيث بدأ المستوطنون يزحفون بحدود مستعمرتهم على أراضي القرية ومضارب العشيرة، وبدأوا يحرمون أبناءها مراعيهم المعتادة في أراضيهم. لم يصبر أبناء عرب الصبيح على ذلك، وأخذوا يتحدون تلك العصابات بإرادة وتصميم؛ ما أدى إلى تسارع الأحداث، وصولاً إلى المعركة الحاسمة.

أول معركة خاضها عرب الصبيح كانت خارج مضاربهم، وعلى "طريق عين ماهل"، وقد وقعت حين هبّ رجال العشيرة لنجدة إخوانهم في القرى المجاورة (كفر كنّا، وعين ماهل)؛ حيث قامت مجموعة من رجال عرب الصبيح بقيادة القائد علي النمر برصد عودة الصهاينة إلى المستعمرة، فنصبوا لهم كميناً محكماً كانت من نتيجته تكبّد العدو خسائر فادحة، بينما لم يصب أحد من رجال العشيرة. وقد عُرفت تلك الخسائر من آثار الدماء في أرض المعركة، ومن الأسلحة التي خلفها الأعداء وراءهم؛ راح اليهود يبحثون عن وسيلة ينتقمون بها من هذه العشيرة المجاهدة، فقرروا منع المواشي والرعيان منعاً باتاً من دخول المراعي التي صادروها لهم من قبل؛ وعلى الفور كان رد الرجال في القرية المواجهة السريعة؛ وذلك لتلقين هذه العصابات درساً لا ينسونه أبداً، وقد يضطرهم بعد ذلك إلى الرحيل.

أدخل الرجال بعضاً من قطعان الماشية إلى أراضيهم التي منعوا من دخولها، وفي الوقت نفسه نصبوا كميناً للمستوطنين الصهاينة من مستعمرة "بيت كيشت". رأى الصهاينة تلك المواشي، فهبّوا لمصادرتها، ووقعوا في الكمين الذي نصب لهم؛ فأمطرهم المقاتلون بقيادة القائد علي النمر بوابل من الرصاص؛ فقتلوا منهم سبعة مستوطنين؛ بينما فرّ الباقون مذعورين مهزومين، وتركوا قتلاهم في أرض المعركة. ثم سحبت الجثث إلى مكان المقاتلين. حاول الصهاينة مراراً وتكراراً الإغارة على العشيرة لتخليص جثث قتلاهم ولم يستطيعوا ذلك، فلجأوا أخيراً إلى التفاوض، ووسّطوا لذلك البريطانيين والصليب الأحمر الدولي، واستطاعوا بذلك استرداد جثث قتلاهم.

تفاصيل المعركة الكبرى
بعد هذه المعركة التي أطلق عليها معركة الصبيح الأولى، والتي وقعت في 3 آذار 1948م؛ أخذ الصهاينة يسلحون أنفسهم أكثر فأكثر، واستقدموا لذلك تعزيزات إضافية من أمهر ضباطهم وجنودهم من عصابات البالماخ (التي هي نخبة عصابات الهاغانا)، وبدأوا يُعدّون العدة لخوض لمعركة كبيرة وواسعة؛ انتقاماً لما حصل معهم في المعركة السابقة على أرض الصبيح؛ بينما وصل بعض الأسلحة الخفيفة إلى المدافعين عن القرية من مدينة الناصرة. ومع بزوغ فجر السادس من أيار من عام 1948؛ فاجأ الصهاينة أبناء العشيرة بهجوم كبير كان واضحاً أنه غير متكافئ، لا بالعتاد ولا بالرجال؛ وبعد قتال عنيف استبسل فيه المدافعون، وسقط فيهم الشهداء والجرحى، ومع نفاذ الذخيرة؛ اضطر المقاتلون إلى الانسحاب إلى خارج القرية.

جرح في المعركة القائد علي النمر، وكان بجانبه ابنه (حسين) الذي قام بتغطية انسحاب أبيه من القرية. بعدها دخل الصهاينة إلى الساحات، وحاصروا بيت علي النمر، ومن ثم لغّموه ونسفوه. وكل ذلك كان من أجل قتل هذا القائد؛ وبالتالي كسر معنويات المقاتلين المدافعين عن العشيرة. طبعاً اليهود ظلوا متابعين زحفهم وتغلغلوا بالمضارب، وأصبحت المقاومة أثناءها من بيت إلى بيت؛ لكن، كما قلت: "المعركة كانت غير متكافئة".

شهداء وجرحى من القرية:
استعمل الصهاينة خلال الهجوم على القرية، المدافع المتوسطة والأسلحة الرشاشة؛ لذلك وقعت خسائر كبيرة بالمدافعين عن القرية ما بين شهيد وجريح، وخاصةً بحمولة الضهرات (أحد الفروع الخمسة لعشيرة الصبيح). وأذكر من الشهداء على سبيل المثال لا الحصر: حامد اجليّل، ومحمود العيد، وإبراهيم الحمد، وياسين الساري، وعلي الذياب، ومحمد أسعد القاسم، وسليمان الشمسي، ومحمد عقاب البياضي؛ أما جرحى المجزرة فأذكر منهم: حسن سعيد الحساني، ووالدي (سلامة حسين)، وأخي (خليل سلامة حسين)، وتوفيق النهار، وساري العقلة، وإسماعيل ساري العقلة، وإبراهيم النهار، ومحمود اشتيوي، وذياب الشكور، وحسن سعيد إحساني.

بعد أن انتهت المعركة؛ عاد المقاتلون من أبناء العشيرة، الذين كانوا قد ذهبوا لنجدة إخوانهم في قريتي (لوبية والشجرة)، ومعهم نجدات من تلك القرى، ليلتقوا في القرية مع نجدات أتت من قريتي:
"عين ماهل"، و"كفر كنّا"؛ وذلك بعد أن وصلتهم أنباء القتل والدمار الذي لحق بعشيرة الصبيح وأهلها، وبدأوا يحصون الخسائر ويجمعون جثث الشهداء من المنازل والساحات من النساء والأطفال والشيوخ، وأذكر منهم: غزالة النمر (زوجة سلامة حسين الخليل)، وأولادها الأربعة: حسين، وخالد، وغانم، وحسني؛ وعليا النمر (زوجة علي محمد الخليل)، وابنها (محمود علي المحمد)؛ وعدلة السعيد (زوجة محمد الخليل)، وأولادها الثلاثة: صالح، وسمية، وشمسية؛ وعمشة صعوب (زوجة أحمد حسين الخليل)؛ والشيخ الضرير (رجا الفارس)؛ والشيخ عايد الموسى؛ وعلي الخروب؛ أما الجرحى فأذكر منهم: حمدة إبراهيم (زوجة ياسين حوران)؛ وحمدة الخضر؛ والطفل عيد المحمود، والطفلة صالحة محمد الخليل، التي ضربت رجلاها بالفؤوس.

جمعت جثث الشهداء وكانوا بحدود ثلاثين شهيداً، نقلوا جميعاً بدون جنازة، ودُفنوا في مغارة في مدفن جماعي على أطراف القرية من الجهة الشمالية الغربية، وأغلقوا بابها.

هذه المجزرة جعلت الجميع في العشيرة يشعر بأن القرية أصبحت غير آمنة، وخاصة بعد أن دمرت العصابات الصهيونية من البالماخ، بيوتها وخربوا أرضها ونهبوا خيراتها، واستولوا على قطعان الماشية فيها؛ لذلك بدأ الجميع بالرحيل تحت جنح الليل؛ خوفاً من المزيد من القتل لأبنائهم ونسائهم. خرجوا من جهة الأرض الوعرة. وقد ساعد في التغطية على تحركاتهم وانتقالهم إلى مناطق أخرى أكثر أمناً حالة الطقس، إذ خيم وقتئذ ضباب كثيف على المنطقة كلها.

وفي مقام الشهداء؛ دعني أذكر أنَّ شهيدين سقطا خلال النجدات التي ذهبت من عشيرة الصبيح إلى قرية "لوبية" المجاورة، إضافة إلى الشهيدين: حسن المعارك، وذياب الشكور، اللذين سقطا في معركة الشجرة في قضاء طبرية.

بداية التغريبة
خرجنا من القرية إلى قرية عين ماهل، وبقينا فيها فترة من الزمن، بعدها انتقلنا إلى منطقة اسمها "وادي صلاميا". الرجال كانوا يروحوا ويرجعوا؛ يلي إلو بقايا محاصيل زراعية أو بقايا فراش؛ واللي عندوا بقايا مواشي راح جابها؛ رغم أن الأغلبية سلبت من قبل المستوطنين. وأذكر في هذا المجال على سبيل المثال: أن جدي سلب منه أربعمائة رأس غنم.

التقيت أبي وأخي، التقينا في مستشفى الناصرة، وذهبنا باتجاه "وادي الصلاميا" أو "وادي صلاما"، بعد ذلك؛ اجتزنا الحدود باتجاه الأراضي اللبنانية، وانتقلنا فيها من مكان إلى آخر، حتى وصلنا الحدود السورية؛ فدخلناها، وكنا نسمع في الطريق أن المجازر الصهيونية قد عمت أغلب القرى الفلسطينية، ونسمع أيضاً عن سقوط القرى الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى، والمدينة بعد المدينة، لتحط بنا الرحال (وأية رحال نحملها!!) إلى مخيم "خان الشيح" الذي ما زلنا نعيش به حتى الآن بانتظار العودة.

قسم وعهد
بعد مسيرة العذاب ومسيرة المعاناة في خيام الذل وطوفان الشتاء علينا، إلى بيوت الطين، إلى ألم الفراق والحسرة، بعد هذا كله، يريدون منا أن ننسى وأن نغفر! لا والله، فأنا لن أنسى ولن أغفر ما دام فيّ قلب ينبض بالحياة. والله إن المشاهد التي رأيتها تشيب لها الولدان، وإنها والله محفورة في الذاكرة ولن تمحى أبداً، وسأورثها للأجيال جيلاً وراء جيل، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

المصدر: تجمع العودة الفلسطيني(واجب) 6/7/2011