بحث هذه المدونة الإلكترونية

2013-05-15

قراءة في كتاب تزوير التاريخ للدكتور فايز رشيد

قراءة في كتاب تزوير التاريخ للدكتور فايز رشيد 
معن بشور 
 يُظلم كتاب "تزوير التاريخ" للمناضل والطبيب والروائي والكاتب الموسوعي فايز رشيد حين تعرضه في عدد من الدقائق، فيما يستحق كل فصل فيه، بل كل فصل من فصول الفصول إلى عرض خاص،
فأنت مع الدكتور فايز لا تقرأ كتاباً مستمتعاًً به فقط، بل تجد نفسك تسبح في بحر من المعلومات والوقائع المتدفقة والجديدة فلا تعرف من اين تغرف حاجتك، ولا تستطيع إلا ان تقف مبهوراً امامها، خصوصاً حين تكتشف مدى جهلك فيما كنت تظن نفسك انك محيط من كل جانب، وأعني بشكل خاص القضية الفلسطينية والحركة الصهيونية...

واذا كان الدكتور فايز رشيد قد اختار كتاب نتنياهو "مكان تحت الشمس" للرد عليه بالتفصيل غير الممل ابداً، فاننا نقرً لمجرم الحرب هذا بفضل استفزاز الدكتور رشيد ليعيد تعريفنا بحقنا وبعدوان الاخرين علينا فشمس الحقائق التي اطلق نورها كاتبنا المميز على اكاذيب رئيس وزراء العدو لم تترك لتزوير العدو مكاناً لدى أي دارس حقيقي للتاريخ، وكأني به يستشرف ما كشف عنه بشفافية كبيرة شلومو سانرز، وهو يهودي اسرائيلي، في كتابيه "اختراع الشعب اليهودي" و "اختراع الارض اليهودية"، بل وكأنه يطوّر حقائق كشف عنها المؤرخون الجدد في الكيان الصهيوني حول اكاذيب نشأة الكيان، قبل ان ينقلب ابرزهم بيللي موريس على اكتشافاته العلمية في الثمانينات فيما بقي الآخر ايلان بابي متمسكاً باستنتاجاته التي اثارت استياء العديد من الصهاينة.
اذن، وكما يكشف الدكتور فايز رشيد في كتابه الشيق، فان المعركة حول التاريخ ليست معركة حول الماضي، كما يظن كثيرون، بل هي معركة حول الحاضر وصولاً إلى المستقبل.. هي معركة قرر ان يخوضها د. فايز رشيد بكل كفاءة وعلمية وموضوعية فأعطى بذلك نموذجاً لالتزام يتحصن بالموضوعية، وبموضوعية لا تغادر الالتزام، لأن ما أصطلح عليه حقاً بالمفهوم الاخلاقي أو الوطني أو الديني، هو حقيقة بالمفهوم العلمي والموضوعي....
في المعركة حول التاريخ هذه، يشهر الدكتور رشيد كل الاسلحة العلمية من وثائق وتقارير ودراسات يمكن لأي مدافع عن القضية الفلسطينية ان يستند اليها لا سيّما امام المحافل الدولية التي علينا ان نلاحظ ملامح تحول هام في بعض اوساطها مما أدى بأكثر من مسؤول صهيوني إلى الاعلان عن مخاوفه من عزلة عالمية تلف الكيان الصهيوني، ومن حركة عالمية لنزع الشرعية عنه، وهي الحركة التي باتت منتشرة في جامعات الولايات المتحدة واوروبا تحت اسم المقاطعة أو حملات مناهضة الابارتايد الصهيوني، ناهيك عن تعاظم التأييد للقضية الفلسطينية في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية وصولاً إلى استراليا نفسها، وهو تحوّل من شأنه ان يفقد هذا الكيان اهم ركائزه....
هنا تبدو أهمية ترجمة كتاب د. رشيد إلى العديد من اللغات الحية، لكي يكون المطلعون عليه بحجم الذين قرأوا كتاب نتنياهو نفسه، واذا كانت المؤسسات العربية المعنية، لا سيّما الرسمية منها، مقصرّة في اعداد كتاب – رد بمستوى كتاب "تزوير التاريخ" فان احداً لن يعفيها من التقصير اذا لم تصله مترجماً إلى جهات الارض الأربع...
فنحن امام كتاب يعتبر وثيقة تاريخية، أو بياناً علمياً، يفنّد ادعاءات الصهاينة، التي كشفها نتنياهو في كتابه، وبالتالي امام كم من الحقائق والوقائع القادرة على دحض اكاذيب العدو في كل محفل أو منبر...
ففي فصوله العشرة التي ارادها د. فايز رشيد رداً على فصول نتنياهو العشرة نجد انفسنا امام موضوعات "كظهور الحركة الصهيونية"، ثم "التخلي عن الصهيونية" فحقيقة القضية الفلسطينية، ثم " قلب حقيقة السبب والمسبب"، ثم "حصان طروادة"، "فنوعان من السلام" "فالجدار الواقي والمشكلة السكانية" و"سلام دائم" واخيراً "مسألة القوة اليهودية"...
ولكل فصل من هذه الفصول عناوينه الفرعية الغنية بالمعلومات الداحضة لمزاعم نتنياهو الواحدة تلو الاخرى، بحيث تنتقل مع الكاتب في بستان من المعلومات المشوقة، والحكايات التاريخية الموثقة، بحيث يكون من الصعب عليك اذا فتحت الصفحة الأولى من صفحاته المئتين ونيف ان تتوقف عن الاستمرار في القراءة التي تدفعك كما يقول المثل العامي ان تأكل اصابعك بعد ان تكون قد قلبت الصفحات امامك..
ولعل الشمولية والدقة التي ناقش بها د. رشيد مزاعم نتنياهو تؤهل هذا الكتاب لأن يدّرس في مدارسنا وجامعاتنا واحزابنا ومنظماتنا، لانه نجح ، ككتب مماثلة صدرت عن مؤرخين ومؤسسات مختصة، في ان يجعل القضية الفلسطينية علماً، تتزود المقاومة من معينه بالكثير من المعرفة بقوانين حركة التاريخ من حولها، كما تتزود منه الديبلوماسية الفلسطينية والعربية بما يمكنها من محاصرة اعلام العدو ودعايته في كل مكان....
ربما يسأل البعض هنا ألم تجد في الكتاب ما يستحق النقد السلبي، فأجيب لقد حاولت فعلاً ان اجد سلبية في الكتاب تسمح بأن اضفي طابع الموضوعية على هذه المداخلة، ولكنني بالفعل لم أجد إلا رغبتي بأن يتوسع الكاتب في بعض الموضوعات والفصول لا سيما حين يشير إلى وجود صهيونية غير يهودية قبل الصهيونية اليهودية، خصوصاً واننا هذه الايام نواجه "صهيونية عربية" و "صهيونية مسيحية" وحتى "صهيونية اسلامية"...
ما كنت اتمنى لو توسع به الدكتور فايز هو العلاقة بين الصهيونية والنازية في ضوء ما كشف عنه البروفسور السوفياتي غ.ل. بونداريفسكي في مؤتمر صحفي للجمعية المناهضة للصهيونية يوم 12/10/1948 حيث اشار إلى أهداف ثلاثة للصهاينة من تحالفهم مع النازية اولها التحكم بيهود المانيا، ترحيل الرأسمال اليهودي الضخم إلى المؤسسات الصهيونية في فلسطين، واستغلال عنصرية النازيين لاجبار اليهود على الهجرة الجماعية إلى فلسطين.
ان هذه القضية تحتاج ربما إلى كتب ومجلدات لفضح هذه اللعبة المزدوجة التي تلعبها الحركة الصهيونية فهي تتحالف مع اعداء السامية من نازيين وغيرهم لدعم الهجرة اليهودية، ثم تستغل اضطهادهم لليهود لتبتز دول الغرب وتحركها بموجب "عقد الذنب" تجاه الكيان الصهيوني..
الأمر الآخر الذي كنت اتمنى ان يتوسع الكتاب فيه هو نظرة نتنياهو للاقليات في العالم العربي، متحدثاً عن تمييز عنصري مجرداً المسيحيين والاقباط من عروبتهم، بما يخدم فكرة التفتيت المجتمعي والذي يتطور هذه الايام إلى ما يمكن تسميته بالفتنة بين المسلمين انفسهم.
ان تسليط الاضواء على الدور الصهيوني في تمزيق المجتمعات العربية والاسلامية، وهو ما نراه جلياً حولنا هذه الايام، أمر بالغ الأهمية في تحصين هذه المجتمعات وفي تعطيل كل الافكار والاتجاهات والممارسات التي تحرض جماعة على أخرى، واتباع ديانة على اتباع ديانة أخرى، في امة كل ابنائها ينتمون إلى اكثريات فيها، فالعرب بمسلميهم ومسيحييهم هم اكثرية، والمسلمون بعربهم وغير العرب هم ايضاً اكثرية، والتكامل بين العروبة والاسلام هو الذي يضمن المواطنة الكاملة للجميع، والتفاعل بين الهوية والعقيدة.
والأمر نفسه ينطبق على ما خصص له الكتاب فقرة وهو "الدور الاسرائيلي التخريبي في البلاد العربية"، الذي ينبغي التوسع فيه لا للتخفيف من مسؤوليتنا، كأنظمة واحزاب ومنظمات في خلق تربة خصبة لهذا التخريب، بل لندرك طبيعتها والآليات وسبل المواجهة.
يقال ان التاريخ يكتبه المنتصرون، ومشكلة نتنياهو انه ظن ان المشروع الصهيوني بعناوينه الأكثر تطرفاً وعنصرية قد انتصر وبالتالي فمن حق نتنياهو ان يكتب تاريخ الصراع على طريقته، ليأتي فايز رشيد لا ليفضح تزوير التاريخ كما اراده نتنياهو فحسب، بل بشكل خاص ليقول له:
"رغم كل شي.. لستم منتصرين... فمقاومة شعبنا وأمتنا هي التي ستكتب التاريخ الحقيقي لهذه المنطقة".