إرهاصات الانتفاضة الثالثة
فهمي هويدي
قتل الفلسطيني لم يعد خبراً، أما قتل الإسرائيلي فهو الخبر الأول فى كل نشرات الأخبار والحدث الأهم الذي يسارع المحللون والمعلقون إلى مناقشة دواعيه والنتائج المترتبة عليه.
أتحدث عن الخبر الذي سارعت وكالات الأنباء إلى بثه يوم الاثنين 30/6 ونقلت إلى العالم فيه أن المستوطنين الثلاثة تم العثور على جثثهم، بعد اختطافهم في مدينة الخليل منذ نحو أسبوعين. وهي ذاتها الوكالات، التي أصبحت تذكر قتل الفلسطينيين في ذيل أخبارها.
لأن قتل الفلسطيني أصبح طقسا شبه يومي. فقد قر في الأذهان أنه أمر عادى وأن الأصل فى الفلسطيني أنه لا حق له في الحياة، إذ طالما اغتصب وطنه وصار ذلك أمرا مقبولا، فقد استكثروا عليه أن يعاند التاريخ ويتحدى قوة القهر ويبقى في ذلك الوطن. ومن ثم تعين عليه أن يختار بين أن يقتل إذا بقي فوق أرضه، وبين أن يبحث لنفسه عن ملاذ يؤويه خارجه.
جريمة الصمت على قتل الفلسطينيين جعلتنا لا نأسى على قتل الإسرائيليين، ليس فقط لأنه ما بقيت في أعيننا دموع نذرفها على الأخيرين، ولكن أيضا لأن الجرائم الإسرائيلية المتلاحقة ملأت قلوبنا بمخزون من الكراهية والمقت بحيث لم يبق لدينا على ذرة تعاطف معهم، لم أستغرب حين عمت الفرحة أوساط الفلسطينيين حين علموا باختطاف المستوطنين الثلاثة، بل وحين ذاع خبر العثور على جثثهم مقتولين. ليس لنقصان فى مشاعرهم الإنسانية، ولكن لأن ما من بيت فلسطيني إلا وفيه قتيل أو أكثر على أيدى الإسرائيليين.. من ثم فإن قتل المستوطنين الثلاثة هو بمثابة قطرة في بحر الكراهية الذي ملأه الإسرائيليون بدماء الآلاف من الفلسطينيين.
إن قتل المستوطنين ليس جريمة فلسطينية بأي حال، ولكنه من أصداء الجريمة الإسرائيلية الكبرى. حتى إننا لا نبالغ إذا قلنا إن الذي قتل المستوطنين هو الإجرام الإسرائيلي. وإذا أردنا أن نضع الحدث في إطاره الصحيح فإن القادة الإسرائيليين الذين احترفوا قتل الفلسطينيين هم أول من يجب أن يحاسب على قتل المستوطنين الثلاثة. هؤلاء هم المحرضون والمتسببون والفلسطينيين لم يكونوا سوى فاعلين، ناهيك عن أن السياسة الإسرائيلية أقنعتهم باستحالة إقامة سلام يحفظ للفلسطينيين الحد الأدنى من الكرامة. وبعد سيل التنازلات التي قدمت من خلال العقود الثلاثة الماضية. بدا الأفق مسدودا واقتنع الفلسطينيون بأن حقهم في الحياة بات مرفوضا.
تتحدث التقارير الصحفية عن أن المجتمع الإسرائيلي يزداد تطرفا، وأن نتنياهو سوف يسعى لكي ينصب نفسه «زعيما وطنيا» يقود الجميع وراءه حكومة ومعارضة. وأنه لن يتردد في استثمار الفرصة لتوجيه ضربات موجعة للفلسطينيين شهدنا نموذجا لها في غزة وتجاهل مشكلة الأسرى المضربين عن الطعام، كما أنه سوف يستمر في سياسة الاعتقال الإداري للفلسطينيين الذي لا أمد له ولا سبب. وربما انتهز الفرصة لتقويض المصالحة بين فتح وحماس. من خلال الضغط على أبو مازن واتهامه بالتصالح مع من وصفهم بـ«الإرهابيين» الذين قتلوا المستوطنين.
هذا كله صحيح في الأغلب، لكن من الصحيح أيضا أن العملية ردت الروح إلى الشارع الفلسطيني الذي ضاق بالذل والانكسار، فضلا عن الحصار. كما أن عملية الاختطاف بالجرأة والكفاءة التي تمت بها، أثبتت أن جذوة المقاومة لم تنطفئ بعد، وأن نيران الغضب الفلسطيني لم تهدأ. في الوقت ذاته فإن العملية أثبتت فشل الأجهزة الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية. التي طالما ادعت سيطرتها كاملة على الأوضاع في الضفة الغربية. بذات القدر فإنها أثبتت فشل وعجز التنسيق الأمني مع السلطة فى رام الله. صحيح أن الإسرائيليين قالوا إن الأجهزة الأمنية الفلسطينية متعاونة معها تماما، وأنها لم تأل جهدا في محاولة السعي للعثور على المستوطنين أحياء. إلا أن كفاءة المقاومة الفلسطينية أثبتت أنها متفوقة على كل ما يعده الطرف الآخر الصديق منه والعدو.
لقد كان موقف أبو مازن صادما للشارع الفلسطيني، ذلك أنه أدان العملية بشدة وتعهد بمحاسبة المسئولين عنها، كما حملهم المسئولية عن النتائج المترتبة على فعلتهم، في ذات الوقت فإنه أعلن تمسكه بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، وليس مستبعدا أن يخضع للضغوط الإسرائيلية ويتراجع عن تصالحه مع حماس التي رحبت بالعملية، من ثم فإنه بدا أقرب ما يكون إلى تأييد الإجراءات القمعية الإسرائيلية، وأبعد ما يكون عن مشاعر الشارع الفلسطيني.
لن نجد جديدا في الرد الإسرائيلي على قتل المستوطنين الثلاثة، سواء تم ذلك من خلال الغارات أو الاعتقالات أو إغلاق المعابر والتنكيل بالأسرى، لكن الجديد الذي يلوح في الأفق هو تزايد احتمالات الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، التي إذا ما انطلقت فلا أحد يعول عليها في التأثير على خرائط المنطقة، لكن الثابت أنها ستؤثر على أجوائها. وذلك أمر مهم للغاية في الظروف الراهنة. حيث صرنا نتلمس الهواء المنعش والروائح الزكية أيا كان مصدرها.
فهمي هويدي
قتل الفلسطيني لم يعد خبراً، أما قتل الإسرائيلي فهو الخبر الأول فى كل نشرات الأخبار والحدث الأهم الذي يسارع المحللون والمعلقون إلى مناقشة دواعيه والنتائج المترتبة عليه.
أتحدث عن الخبر الذي سارعت وكالات الأنباء إلى بثه يوم الاثنين 30/6 ونقلت إلى العالم فيه أن المستوطنين الثلاثة تم العثور على جثثهم، بعد اختطافهم في مدينة الخليل منذ نحو أسبوعين. وهي ذاتها الوكالات، التي أصبحت تذكر قتل الفلسطينيين في ذيل أخبارها.
لأن قتل الفلسطيني أصبح طقسا شبه يومي. فقد قر في الأذهان أنه أمر عادى وأن الأصل فى الفلسطيني أنه لا حق له في الحياة، إذ طالما اغتصب وطنه وصار ذلك أمرا مقبولا، فقد استكثروا عليه أن يعاند التاريخ ويتحدى قوة القهر ويبقى في ذلك الوطن. ومن ثم تعين عليه أن يختار بين أن يقتل إذا بقي فوق أرضه، وبين أن يبحث لنفسه عن ملاذ يؤويه خارجه.
جريمة الصمت على قتل الفلسطينيين جعلتنا لا نأسى على قتل الإسرائيليين، ليس فقط لأنه ما بقيت في أعيننا دموع نذرفها على الأخيرين، ولكن أيضا لأن الجرائم الإسرائيلية المتلاحقة ملأت قلوبنا بمخزون من الكراهية والمقت بحيث لم يبق لدينا على ذرة تعاطف معهم، لم أستغرب حين عمت الفرحة أوساط الفلسطينيين حين علموا باختطاف المستوطنين الثلاثة، بل وحين ذاع خبر العثور على جثثهم مقتولين. ليس لنقصان فى مشاعرهم الإنسانية، ولكن لأن ما من بيت فلسطيني إلا وفيه قتيل أو أكثر على أيدى الإسرائيليين.. من ثم فإن قتل المستوطنين الثلاثة هو بمثابة قطرة في بحر الكراهية الذي ملأه الإسرائيليون بدماء الآلاف من الفلسطينيين.
إن قتل المستوطنين ليس جريمة فلسطينية بأي حال، ولكنه من أصداء الجريمة الإسرائيلية الكبرى. حتى إننا لا نبالغ إذا قلنا إن الذي قتل المستوطنين هو الإجرام الإسرائيلي. وإذا أردنا أن نضع الحدث في إطاره الصحيح فإن القادة الإسرائيليين الذين احترفوا قتل الفلسطينيين هم أول من يجب أن يحاسب على قتل المستوطنين الثلاثة. هؤلاء هم المحرضون والمتسببون والفلسطينيين لم يكونوا سوى فاعلين، ناهيك عن أن السياسة الإسرائيلية أقنعتهم باستحالة إقامة سلام يحفظ للفلسطينيين الحد الأدنى من الكرامة. وبعد سيل التنازلات التي قدمت من خلال العقود الثلاثة الماضية. بدا الأفق مسدودا واقتنع الفلسطينيون بأن حقهم في الحياة بات مرفوضا.
تتحدث التقارير الصحفية عن أن المجتمع الإسرائيلي يزداد تطرفا، وأن نتنياهو سوف يسعى لكي ينصب نفسه «زعيما وطنيا» يقود الجميع وراءه حكومة ومعارضة. وأنه لن يتردد في استثمار الفرصة لتوجيه ضربات موجعة للفلسطينيين شهدنا نموذجا لها في غزة وتجاهل مشكلة الأسرى المضربين عن الطعام، كما أنه سوف يستمر في سياسة الاعتقال الإداري للفلسطينيين الذي لا أمد له ولا سبب. وربما انتهز الفرصة لتقويض المصالحة بين فتح وحماس. من خلال الضغط على أبو مازن واتهامه بالتصالح مع من وصفهم بـ«الإرهابيين» الذين قتلوا المستوطنين.
هذا كله صحيح في الأغلب، لكن من الصحيح أيضا أن العملية ردت الروح إلى الشارع الفلسطيني الذي ضاق بالذل والانكسار، فضلا عن الحصار. كما أن عملية الاختطاف بالجرأة والكفاءة التي تمت بها، أثبتت أن جذوة المقاومة لم تنطفئ بعد، وأن نيران الغضب الفلسطيني لم تهدأ. في الوقت ذاته فإن العملية أثبتت فشل الأجهزة الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية. التي طالما ادعت سيطرتها كاملة على الأوضاع في الضفة الغربية. بذات القدر فإنها أثبتت فشل وعجز التنسيق الأمني مع السلطة فى رام الله. صحيح أن الإسرائيليين قالوا إن الأجهزة الأمنية الفلسطينية متعاونة معها تماما، وأنها لم تأل جهدا في محاولة السعي للعثور على المستوطنين أحياء. إلا أن كفاءة المقاومة الفلسطينية أثبتت أنها متفوقة على كل ما يعده الطرف الآخر الصديق منه والعدو.
لقد كان موقف أبو مازن صادما للشارع الفلسطيني، ذلك أنه أدان العملية بشدة وتعهد بمحاسبة المسئولين عنها، كما حملهم المسئولية عن النتائج المترتبة على فعلتهم، في ذات الوقت فإنه أعلن تمسكه بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، وليس مستبعدا أن يخضع للضغوط الإسرائيلية ويتراجع عن تصالحه مع حماس التي رحبت بالعملية، من ثم فإنه بدا أقرب ما يكون إلى تأييد الإجراءات القمعية الإسرائيلية، وأبعد ما يكون عن مشاعر الشارع الفلسطيني.
لن نجد جديدا في الرد الإسرائيلي على قتل المستوطنين الثلاثة، سواء تم ذلك من خلال الغارات أو الاعتقالات أو إغلاق المعابر والتنكيل بالأسرى، لكن الجديد الذي يلوح في الأفق هو تزايد احتمالات الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، التي إذا ما انطلقت فلا أحد يعول عليها في التأثير على خرائط المنطقة، لكن الثابت أنها ستؤثر على أجوائها. وذلك أمر مهم للغاية في الظروف الراهنة. حيث صرنا نتلمس الهواء المنعش والروائح الزكية أيا كان مصدرها.