بحث هذه المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات من دفاتر النكبة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات من دفاتر النكبة. إظهار كافة الرسائل

2015-04-08

طيرة الكرمل: حكاية نضال وصمود وتهجير.. من دفاتر النكبة (18)


من دفاتر النكبة (18): طيرة الكرمل: حكاية نضال وصمود وتهجير..
د.مصطفى كبها/ خاص بـ عــ48ـرب

طيرة الكرمل التي تعرف أيضاً باسم طيرة اللوز هي قرية من قرى قضاء حيفا الانتدابي، وتبعد عنها مسافة 10 كيلومترات باتجاه الجنوب. تمتد أراضيها من منطقة جامعة حيفا في أعلى الجبل وحتى شاطئ البحر في الغرب، ومن حي "دانيا" في الشمال وحتى أراضي عين حوض في الجنوب. كما وتحيط بالقرية بعض الخرب مثل خربة الدامون والشلالة وعين الحايك وخربة لوبية.

بلغ عدد سكان الطيرة،عشية النكبة، 5800 نسمة في حين بلغت مساحة أراضيها قرابة 45000 دونم. ومن العائلات التي سكنت الطيرة يمكن أن نذكر: أبو راشد، السلمان، القوصيني، درباس، بستوني، زيدان، البطل، غنّام، حجير، أبو عيسى، الباش، الهندي، العسل، شبلاق، الناجي، باكير، بهلول، الحامولي، الشايب، الرباني، عمورة، السعدي، شلّح، الأبطح، أبو جاموس، دلول، أبو طايع، عسقول، الحسن، عويس، التيّم، بدران، قزلي والحميدي وعائلات أخرى.

كان في القرية مدرستان (الحديثة منهما أنجز بناؤها عام 1947 وتعلم فيها أبناء الطيرة فصلا دراسيا واحدا قبل التهجير واللجوء وهي مكونة من ثلاثة طوابق تستعمل حتى اليوم مدرسة يهودية ثانوية) ومسجد جامع (حوله المستوطنون الجدد إلى كنيس ) ومقامان (مقام الشيخ خليل ومقام الشيخ عبد الله).


الطيرة وثورة 1936 -1939 :
شاركت الطيرة في النضال الوطني الفلسطيني منذ بدايته، حيث شارك العديد من أبنائها في هبة البراق نذكر منهم نمر قبيعة ومحمد عبد السلام وإبراهيم الصرفندي ومحمود التيّم وأسعد الدعاس وخالد محمد السمير. في حين انضم العديد من أبنائها المقيمين أو العاملين في حيفا إلى الخلايا المسلحة التي أقامها الشيخ عز الدين القسام في مطلع الثلاثينيات، ومنهم حسن الزواوي وعيسى البطل والشيخ حسن شبلاق وصالح أبو ليل ومحمد أبو طايع وأحمد غنّام وآخرون. وقد كان لهؤلاء الفضل الكبير في إقامة لجنة قومية في الطيرة وتأجيج نار إضراب وثورة 1936 -1939 عند انطلاقها في نيسان 1936.

وفي أثناء الثورة تأسس في الطيرة فصيل كبير بقيادة الشيخ رشيد عبد الشيخ الذي كان يعمل تحت قيادة الشيخ عطية عوض من بلد الشيخ. وقد اشترك هذا الفصيل في عدة معارك منها معركة أم الدرج ومعركة أم الفحم ومعركة لد العوادين ومعركة أم الزينات. كما وشارك في اقتحام سجن عتليت.

استشهد من أبناء الطيرة في ثورة 1936 – 1939 كل من : الشيخ رشيد عبد الشيخ، الشيخ ديب المحمد، حسن موسى السعدي، محمود أبو حسان، عيسى مفلح أبو راشد، محمود نمر درباس، محمد قاسم الشواهين، أحمد موسى الباش، أسعد سيّد أبو راشد، عبد الله يوسف أبو راشد، محمد أحمد السلمان ومحمود أبو حسان.


معركة الصمود ومرارة التهجير :
مع اندلاع المواجهات بين العرب واليهود على أثر صدور قرار التقسيم بدأت معركة صمود الطيرة التي استهدفتها الهجمات العسكرية اليهودية منذ بداية كانون الأول 1947. ففي بداية هذا الشهر استشهد المواطن الطيراوي عبد الرازق عبد النور في سوق الحسبة في حيفا في حادث تفجير قنابل وضعتها وحدة تابعة لمنظمة "الإيتسيل" المتشددة. ولم تستفق الطيرة من جرحها هذا إلا على حادث أشد هولاً عندما قامت خلية أخرى تابعة لنفس المنظمة بمهاجمة بعض بيوت الحارة الشمالية في الطيرة مستخدمة الرشاشات والقنابل اليدوية. وقد استشهد في هذا الهجوم 12 شخصاً وجرح ستة كانت غالبيتهم من عائلة حجير.

على أثر ذلك تأسست في الطيرة لجنة قومية للدفاع تكونت من: المختار عبد الله السلمان، سلمان عبد الله حجير، أحمد سليمان الصادق نايف العبد المحمود، حافظ النجم، راجح الفهد، عبد الرحمن البطل، موسى نمر أبو راشد، محمود حسن عمورة وأحمد محمود أبو غيدا. ثم استمر التراشق بالنيران بين مدافعي الطيرة ومسلحين يهود كانوا يأتون عادة من حي "أحوزا" طيلة كانون الثاني وشباط وآذار 1948. وفي السابع والعشرين من آذار 1948 جرت معركة بين مدافعي الطيرة ومجموعة تابعة لقوات "الهاجاناه" في منطقة وادي العين الواقعة شرقي الطيرة. وقد استشهد في هذه المعركة كل من مصلح خليل غنام ونمر منصور باكير وفيصل خضر القزلي.

في منتصف نيسان وصل إلى الطيرة بعض الضباط العراقيين والسوريين، ومعهم عشرات المتطوعين الذين عملوا على تدريب المدافعين وإقامة خطوط دفاع مضادة للدروع خاصة من الجهتين الشرقية والشمالية.

وفي الليلة الواقعة بين الخامس والعشرين والسادس من عشرين من نيسان 1948 قامت قوات يهودية راجلة معززة ببعض المركبات المسلحة بالرشاشات ومدفعين من طراز "براوننغ" وقاذفتي هاون، بمهاجمة الطيرة وذلك بقصد فحص قدرات الطيرة الدفاعية بعد سقوط مدينة حيفا قبل ذلك بثلاثة أيام. أطلق على هذه العملية اسم "حوف 1" أي "الشاطئ 1". بدأت في تمام الساعة الثالثة والربع فجراً، واستمرت حتى السابعة صباحاً بعدما نجح المدافعون بصد الهجوم ومنع المركبات اليهودية من التقدم. واستشهد جراء عملية القصف أربعة مواطنين وأحد المدافعين، في حين قتل أحد المهاجمين وجرح خمسة آخرون. وفي رسالة بعثها قائد العملية للقيادة المنطقية لـ"الهاجاناه" في حيفا قال: "وجدنا أن القرية محصنة كاللازم، وأن المدافعين يسيطرون على نقاط استراتيجية في مساحة قطرها كيلومتر واحد في أطراف القرية. كما ووجدنا المدافعين يتمتعون بمعنويات عالية وقدرات قتالية فعّالة".

بعد فشل هذه العملية كانت هناك صورة ضبابية عما يجري داخل الطيرة سيما وأن المدافعين قاموا بزرع الألغام على الطرق والمسالك الترابية المؤدية إليها. وقد تضاربت التقارير التي وردت لقيادة القوات اليهودية في المنطقة، ففي أحد التقارير التي كتبها أحد المخبرين العرب الذي نجح بالخروج من الطيرة قبل عملية زرع الألغام بأن عدد المقاتلين هناك يربو على الثمانمائة مقاتل، من أبناء الطيرة وقرى أخرى لجأوا إليها بعد تهجيرهم من قراهم الأصلية.

أما تقرير آخر فيتحدث عن ثمانين من العراقيين والسوريين والباقي من الفلسطينيين يقدرون بالعشرات. وعلى الأغلب فإن القول الثاني هو الأقرب إلى الدقة لأن مجموع ما خرج من الطيرة من المقاتلين بعد سقوطها في السابع عشر من تموز 1948 كان أقل بكثير من رقم الثمانمائة. أما بالنسبة للعتاد فقد كان مقاتلو الطيرة قد استولوا على بعض العتاد الثقيل والمدافع والرشاشات الحديثة من المعسكر البريطاني الذي كان غربي القرية، بل إن بعض التقارير التي وصلت القيادة اليهودية تتحدث عن وجود دبابتين وأكثر من عشرة مدافع من طرازات مختلفة وعشرات الرشاشات من طراز برن وهوتشكيز والكثير من صناديق الذخيرة. وتحدث أيضا أحد هذه التقارير عن وجود ثمانية من الضباط والجنود البريطانيين الذين تركوا المعسكر البريطاني بعد خروج الإنجليز من فلسطين وانضموا للمدافعين عن الطيرة.

لا شك أن هناك بعض المغالاة في هذه التقارير خاصة فيما يتعلق بجنود انجليز انضموا للمدافعين عن الطيرة إذ لم نجد في الروايات الشفوية ذكراً لذلك.

منذ نهاية نيسان بدأ الضغط العسكري اليهودي على الطيرة يزداد يوماً بعد يوم، وتحول في أيار إلى قصف من الجو والبحر والبر بشكل شبه يومي، الأمر الذي جعل قادة الحامية يعمدون لإخلاء النساء والأطفال والشيوخ إلى قرى جبع وإجزم وعين غزال، وعائلات أخرى إلى منطقة وادي عارة.

في الأسبوع الثاني من تموز تحدث التقارير الاستخباراتية اليهودية عن مغادرة جماعية للسكان خلا المقاتلين، وبناء على هذه المعلومات تعرضت القرية لقصف جوي رهيب طيلة الأسبوع الواقع بين العاشر والسابع عشر من الشهر ذاته أسفرت عن استشهاد أكثر من عشرين شخصاً من المدافعين والأهلين. وبسبب تناقص الذخيرة والمؤن بشكل كبير تشكلت لجنة من السكان الباقين لمفاوضة اليهود على تسليم القرية وإبقائها قرية مفتوحة وآمنة، ولكن المفاوضين اليهود وضعوا شروطاً تعجيزية وطلبوا استسلام القرية بلا قيد أو شرط، الشيء الذي لم يدع لوفد الطيرة أي بديل عن الاستمرار بالقتال حتى الطلقة الأخيرة وهذا ما حصل بالفعل وقد لخص قائد العملية من لواء "الكسندروني" عملية احتلال الطيرة في السابع عشر من تموز 1948 كالتالي: "قرية الطيرة الواقعة بجانب حيفا احتلت هذا الصباح من قبلنا بعد مقاومة عنيدة، عمليات تطهير القرية ما زالت مستمرة، بعض السكان نجحوا بالفرار نحو جبع وإجزم".

أثناء احتلال القرية تم اعتقال عشرات الشبان وبعثهم إلى معسكر الاعتقال في عتليت، أما من بقي من السكان فقد حملوا في شاحنات أنزلتهم في مفرق اللجون ليتوجهوا إلى المناطق التي تسيطر عليها القوات الأردنية.

وتفيد الروايات الشفوية أنه أثناء عملية الطرد لم يتمكن بعض العجزة وكبار السن من اللحاق بركب التهجير السائر تحت حث الجنود وعصيهم الغليظة، فتم تجميعهم في أحد حقول القمح المجاورة لمفرق اللجون وحرقوا أحياء. ويتراوح عدد هؤلاء حسب الروايات المختلفة بين 14 -21 شهيداً وشهيدة.

بقيت بعض العائلات شرقي الطيرة فترة تقارب الخمسين عاماً، وكان عددهم في الستينيات والسبعينيات قرابة 300 نسمة. أقيمت لهم مدرسة أغلقت أبوابها عام 1979 وبعدها بدأ عقدهم بالانفراط والمغادرة إلى عسفيا وحيفا وأماكن أخرى وذلك في ظل عدم الاعتراف بهم وتزويدهم بالخدمات الأساسية، علماً بأنه لم يبق منهم اليوم سوى عائلتبن اثنتين تذكران ما كان مرة قرية زاخرة بالحياة تسير بخطى حثيثة نحو التحديث والتطور.

قصة معركة عراق المنشية.. من دفاتر النكبة (17)


من دفاتر النكبة (17): قصة معركة عراق المنشية..
د.مصطفى كبها/ خاص بـ عــ48ـرب
عراق المنشية قرية من قرى قضاء غزة الانتدابي، تبعد عن غزة 30 كم باتجاه الشمال الشرقي. تحدها من الغرب قرى الفالوجة وحتّا والجسير وعراق سويدان ومن الشمال الغربي صميل الخليل ومن الشرق بيت جبرين وزيتا الخليل وقد انتشرت من حولها كذلك مضارب عشيرة الجبارات.
بلغ عدد سكان القرية عشية النكبة قرابة 2500 نسمة، في حين بلغت مساحة أراضيها 14000 دونم زرعت معظمها بالغلال والحبوب والقسم الأخر ببساتين الفواكه (العنب واللوز والزيتون والحمضيات) والخضراوات. كان في القرية مسجدان ومقام (مقام الشيخ أحمد العريني الذي كان يقع على تل صغير في الجهة الشمالية للقرية)، وكذلك مدرسة بلغ عدد طلابها عشية النكبة 270 طالباً.

في ثورة 1936 -1939 كان في القرية فصيل ثوري نسق نشاطه مع قائدي منطقة الخليل عيسى البطاط وبعده عبد الحليم الجولاني.

في حرب عام 1948 وبعد دخول الجيش المصري فلسطين (مع باقي الجيوش العربية ) في الخامس عشر من أيار 1948 تمركزت في عراق المنشية والفالوجة وحدات من الكتيبة المصرية السادسة التي كان يقودها العقيد سيد طه (المعروف بلقب الضبع الأسود ) في حين كان الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قائد أركان هذه الكتيبة وقد كان في حينه برتبة بكباشي (مقدّم).

في شهر تشرين الأول 1948 بدأ تراجع للقوات المصرية بعدما كانت قد وصلت إلى منطقة شمال أسدود (على بعد 17كم من تل أبيب) في الغرب وإلى منطقة الخليل وبيت لحم في الشرق.

في الخامس عشر من تشرين الأول قامت وحدة إسرائيلية تابعة للواء "يفتاح" باحتلال خربة الراعي الإستراتيجية المسيطرة على شارع المجدل – الخليل. وقد أوجب ذلك من الجيش المصري محاول استعادة هذه النقطة المهمة. ويفيد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في مذكراته عن حرب فلسطين أنه أشرف بنفسه على التحضيرات للهجوم المعاكس الذي تحدد له تمام الساعة الخامسة من فجر يوم السادس عشر من الشهر ذاته.

عندما كانت التحضيرات المصرية للهجوم المعاكس بأوجها والتي كانت تتم في قرية عراق المنشية، قرر يجئال ألون، القائد الإسرائيلي للمنطقة الجنوبية في حينه، مهاجمة عراق المنشية ومنع خروج القوات المصرية للهجوم، وقد حدد ساعة الصفر للهجوم الإسرائيلي الموعد المصري ذاته.

كانت خطة الهجوم الإسرائيلي تقضي بأن تتم مهاجمة عراق المنشية من الشمال، وأن تشترك فيه قوات تابعة للوائين السابع والثامن التابعين للواء النقب بقيادة عوزي نركيس على أن تفوز هذه القوات بدعم من سلاح الجو واللواء المدرع الثاني والثمانين الذي أمد العملية بطاقمين انجليزيين لدبابتي "كرومويل" مع مدافع قطرها 57 ملم وثمانية طواقم شغلت ثماني دبابات فرنسية من طراز هوتشكيز مع مدافع قطرها 37 ملم، هذا إضافة إلى بضعة مدرعات خفيفة وسيارات الجيب المصفحة.

كان من المفروض أن تتم السيطرة على بعض مرابض المدفعية المحيطة بكيبوتس "جات" والمشرفة على عراق المنشية، وذلك تحت غطاء من القصف الجوي المركز، والذي كان من المفروض أن يبدأ تمام الساعة الخامسة صباحاً ولكن الطائرات تأخرت بالوصول وتم إرجاء الشروع به ساعة كاملة، بحيث بدأ بقصف مركز على مدرسة القرية التي تحصن فيها الجنود المصريون وبقصف على طول الشارع العام الذي يربط عراق المنشية بالفالوجة.

لم يطل الوقت وبدأ المصريون يردون على القوات المهاجمة بقصف مدفعي عنيف بقنابل زنة 25 رطلاً، من المدافع المصرية المنصوبة في الفالوجة وفي تل الشيخ العريني المشرف على عراق المنشية. ولما لم يكن لظهور الدبابات الإسرائيلية العامل النفسي الهدام الذي توقعه يتسحاق سديه في توجيهاته للقوات المهاجمة، بدأت القوات المصرية بهجوم معاكس ضد بعض السرايا الإسرائيلية التي نجحت بالتسلل نحو القرية تحت غطاء القصف المدفعي والجوي المركز. كانت المعركة الفاصلة في محيط مدرسة القرية التي وصلت طلائع القوة الإسرائيلية المدرعة إلى بعد أمتار قليلة عنها. وهناك تم إعطاب دبابتين من طراز هوتشكيز والاستيلاء على أخريين في حين تم إصابة وأسر كافة طواقمها.

مع تقدم ساعات القتال تمت إصابة أكثر من ثلث القوات المهاجمة وإعطاب نسبة كبيرة من عتادها الحربي، في حين لم يتمكن سلاح الجو من التدخل في ظل الالتحام الحاصل بين القوات في محيطي المدرسة وتل الشيخ العريني.

تراجعت القوات المهاجمة في الساعة العاشرة قبل الظهر لتبدأ موجة هجوم أخرى في الحادية عشرة، وقد قام المدافعون المصريون بصد هذه الموجة أيضاً تمام الثانية بعد الظهر بعد أن تكبدت المزيد من القتلى والجرحى وخسرت أربع دبابات أخرى.

لم تيأس القوات المهاجمة وزجت لأرض المعركة بقوات جديدة بدأت هجوماً ثالثاً في الرابعة والنصف استمر حتى غروب الشمس. وقد صده هذه المرة هجوم مصري كاسح، وتتبع بالقصف المدفعي المركز فلول المهاجمين حتى قرية القسطينة المهجرة. كانت الخسائر البشرية للقوات المهاجمة 74 قتيلاً و81 جريحاً، في حين بلغت خسائر الطرف العربي 24 شهيداً (منهم أربعة من المدنيين الفلسطينيين والباقي جنود مصريون) و32 جريحاً (نصفهم من المدنيين).

لم تهاجم القوات الإسرائيلية، هجوماً مباشراً، عراق المنشية مرة أخرى، بل تجاوزتها في تقدمها نحو الجنوب لاحتلال بئر السبع وباقي أجزاء النقب. بقيت هذه القرية وقرية الفالوجة صامدتين فيما عرف باسم " جيب الفالوجة حتى تم توقيع اتفاقية الهدنة بين مصر وإسرائيل وانسحاب القوات المصرية من ذلك الجيب وعن ذلك سنتحدث في حلقات قادمة من هذه السلسلة.

حكاية بئر السبع عاصمة الجنوب المنسية.. من دفاتر النكبة (16)


من دفاتر النكبة (16): حكاية بئر السبع عاصمة الجنوب المنسية..
د.مصطفى كبها/ خاص بـ عــ48ـرب
لعل قصة مدينة بئر السبع هي من أشد نقاط الضعف التي تعانيها الرواية التاريخية الفلسطينية، خاصة فيما يتعلق بقصة التهجير واللجوء. في حين يبدو تغييب الرواية الصهيونية للماضي العربي لبئر السبع أمراً معروفة دوافعه وأهدافه فإن هذا التغييب والتجاهل من الرواية الفلسطينية هو أمر غريب بل ومستهجن.

إزاء هذا الإهمال من جانب الرواية الفلسطينية علينا أن لا نعجب من تبني طلابنا الجامعيين وطالبي العلم والمعرفة على مختلف اهتماماتهم ومشاربهم لرواية الطرف المهيمن، لأن هذه الرواية هي الرواية السائدة والشائعة والمتواجدة في متناول اليد.

اسم بئر السبع هو اسم قديم ينسب البئر إلى سبع (حيوان بري مفترس) كان يعيش في محيطها، وليس كما يحاول البعض تفسيره بأنه نسبة إلى سبع آبار كما تقول الرواية العبرية، وإذا كان الأمر كما يقولون فلماذا سبق المعدود العدد؟ ولماذا تظهر لفظة بئر بصيغة المفرد إذا كان الحديث عن سبع آبار بالفعل؟

هناك مغالطة تاريخية نرى لزوماً علينا تصحيحها وهي القول بأن مدينة بئر السبع أقيمت عام 1900. ما علينا قوله هو إن العثمانيين جددوا بناء بئر السبع عام 1900 وذلك كي تكون مناسبة لمكانة عاصمة القضاء، والأصح القول بأنها مدينة قديمة أقيمت على الأغلب في عهد الكنعانيين وازدهرت في العصور التالية، وفي صدر الإسلام أطلق عليها البعض اسم "بلد عمرو" أو "مدينة عمرو"، وذلك نسبة لعمرو بن العاص فاتح مصر الذي يقال بأنه قضى الفترة الأخيرة من حياته في بئر السبع وكذلك فعل ابنه عبد الله.

كانت بئر السبع في هذه الفترة مفترق طرق ومحطة تجارية مهمة على الطريق بين مصر وبلاد الشام. ولكن تحول الاهتمام إلى طرق ونقاط أخرى أثر على مكانة هذه المدينة التي أهملت في القرن الحادي عشر الميلادي وتراجعت لتكون بلدة صغيرة في العهود الأيوبية والمملوكية، وعندما دخلها العثمانيون عام 1519 تحدثوا عن "بلدة صغيرة ومهملة".

بئر السبع الحديثة: عادت الحياة تدب في شرايين بئر السبع بعد أن قرر العثمانيون جعلها عاصمة لقضاء الجنوب الذي كان أكبر الأقضية في فلسطين (شكل فيما بعد 40 % من مساحة فلسطين الانتدابية)، حيث أقيم فيها مجلس بلدي ودار للحكومة. وتسارع تطور المدينة بعد وصول سكة الحديد الحجازية إليها عام 1905 الشيء الذي جعلها تلعب دور الحاضرة المدنية لمناطق النقب كافة، بحيث أصبحت مركز جذب لأبناء الأرياف والبادية الذين وجدوا فيها رزقاً ومتنفساً. وفي الحرب العالمية الأولى اكتسبت بئر السبع مكانة مميزة بسبب جعلها قيادة لجمال باشا لبضع الوقت وقد اصدر فيها جريدة ناطقة باسمه سماها "الصحراء المصورة".

بدأ المبنى الاجتماعي لسكان المدينة بالتشكل بداية من عائلات الموظفين الذين جاؤوا من مدن أخرى كغزة والقدس ويافا ونابلس، وبعد ذلك بدأت عملية توطين طبيعية لأبناء البادية الذين أخذ عددهم بالتزايد ليصبحوا أغلبية سكان المدينة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي.

في هذه الفترة، تزايد عدد سكان المدينة تزايداً ملحوظاً فمن 300 نسمة عام 1900 وصل عددهم إلى 7200 نسمة عام 1948. هذا علماً بأن عدد السكان عشية النكبة كان أكثر من ذلك بكثير لأن العديد منهم كانوا يعدون مع عشائرهم خارج المدينة وليس مع سكانها.

كان في بئر السبع مدرستان ابتدائيتان، واحدة للبنين وأخرى للبنات ومدرسة داخلية. وفي العام الدراسي 1947 -1948 (العام الدراسي الأخير قبل النكبة) أصبحت المدرستان مدرستين ثانويتين وكان مجموع عدد الطلاب فيهما 600 طالب منهم 290 طالبة.

كانت منطقة بئر السبع منطقة ناشطة في ثورة 1936 -1939 وقد تولى بعض شيوخ العشائر قيادة الفصائل الثورية في المنطقة التي عدت ضمن منطقة نشاط قائد منطقة الخليل عبد الحليم الجولاني (الشلف) الذي احتل مدينة بئر السبع في تشرين الثاني عام 1938.

التهجير: تولت الدفاع عن مدينة بئر السبع وحدات شبه نظامية من المتطوعين العرب بقيادة عبد الله أبو ستة ووحدات من متطوعي الأخوان المسلمين الذين عملوا، قبل ذلك، تحت قيادة الشهيد أحمد عبد العزيز وبعض مفارز المشاة من الجيش المصري.

بلغ مجموع المقاتلين العرب هناك قرابة 400 مقاتل، تحصنوا في مبنى شرطة المدينة وفي محطة القطار التركية وفي مدرستي المدينة. وكان سلاحهم مكوناً، بالإضافة للبنادق الخفيفة، من سبع قاذفات هاون، مدفعين زنة ستة أرطال وبطارية مدفع جبلي عيار 3.7 بوصة، و3 مدافع مضادة للطائرات وأربع مدرعات خفيفة غنموها من الجيش الإسرائيلي بعد معركة عراق المنشية الأولى وثلاث مدرعات بريطانية خفيفة.

بدأ الهجوم الإسرائيلي على بئر السبع تمام الساعة الثالثة من مساء العشرين من تشرين الأول 1948 من خلال قصف جوي مركز وعنيف وقصف مدفعي من مدافع تمركزت إلى الغرب من المدينة، في منطقة كيبوتس "حتسيريم".

بعد ساعتين من صب الحمم على المدينة تقدمت وحدة من اللواء الإسرائيلي التاسع، واحتلت الحي الحديث الذي كان خارج خطوط الدفاع المحفورة المانعة للمدرعات والتي أقيمت حول الأحياء القديمة. عند وصول طلائع القوة الإسرائيلية إلى منطقة المقبرة الإسلامية ووجهت بمقاومة عنيفة نجحت بإيقافها وتكبيدها العديد من الخسائر بشكل استدعى التراجع بقصد التعامل مع الحامية العربية بالقصف الجوي مجدداً.

بعد قصف جوي مركز لفترة ساعات إضافية استطاعت وحدة مشاة مهاجمة من اقتحام محطة القطار ومبنى المدرسة الداخلية، وبذلك تم تطويق الحامية التي تجمعت مجدداً في مبنى الشرطة من الوراء. وقد دارت على إثر ذلك معركة وجهاً لوجه وفي السلاح الأبيض من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت.

وفي الساعة العاشرة إلا ربعاً تم إخضاع آخر نقاط المقاومة، التي تعرضت للهجوم من جهات مختلفة، وأسر من كان داخل مركز الشرطة من جنود مصريين ومتطوعين فلسطينيين.

خسرت القوات المهاجمة ستة قتلى و21 جريحاً، في حين بلغت خسارة الطرف العربي 12 شهيداً من المقاتلين و21 شهيداً من المدنيين، في حين أصيب بجراح 44 شخصاً من المقاتلين والمدنيين.

وهكذا نجحت القوات اليهودية باحتلال بئر السبع، حاضرة النقب العربي، وتهجير أهلها بعد أن فشلت باحتلال عراق المنشية والفالوجة قبل ذلك بأسبوع. وقد بقيت هاتان القريتان صامدتين فيما عرف باسم " كيس الفالوجة " حتى إخلائهما من قبل الجيش المصري طبقاً لاتفاقية الهدنة الموقعة بين مصر وإسرائيل في شباط عام 1949.

فوزي القاوقجي ومعركة ’’مشمار هعيمق’’.. من دفاتر النكبة (15)

من دفاتر النكبة (15): فوزي القاوقجي ومعركة ’’مشمار هعيمق’’..
د.مصطفى كبها/ خاص بـ عــ48ـرب
تعتبر شخصية فوزي القاوقجي من الشخصيات المؤثرة والمثيرة للجدل في التاريخ الفلسطيني الحديث خاصة في تلك الفترة المفصلية التي جمعت ثورة 1936 -1939 ونكبة 1947 -1947. شهدت كيفية تسجيل نشاطه في النضال الوطني الفلسطيني في الذاكرة الجماعية الفلسطينية والعربية مراوحة بين وصفه بالبطل المغوار والقائد العسكري المتمرس في مراحل معينة (خاصة في تلك الفترة الدقيقة المشار إليها أعلاه) وبين نعته بعد ذلك بالخيانة أو التقصير والتفريط على أقل تقدير.

ولد فوزي القاوقجي في طرابلس لبنان عام 1890، تجند في الجيش العثماني وترقى إلى رتبة ضابط كبير في سلاح الخيالة. شارك في معارك الحرب العالمية الأولى على أكثر من جبهة: في العراق والبلقان وفلسطين، وجرح فيها أكثر من مرة.

اشترك القاوقجي كذلك في الثورات السورية المختلفة في عشرينيات القرن الماضي وعند تأسيس الكلية العسكرية في بغداد عين محاضراً فيها، وهناك حصل على الجنسية العراقية التي كانت قد سحبت منه بعد ذلك بعد اشتراكه في ثورة أيار 1941 التي قادها رشيد عالي الكيلاني.

في الثورة الفلسطينية لعام 1936 -1939 قاد القاوقجي أربعة فصائل من المتطوعين العرب الذين وصلوا إلى فلسطين في آب 1936 وغادروها في تشرين أول من السنة ذاتها. أقام القاوقجي قيادة له على جبل حريش قرب قرية صانور في منطقة المثلث الكبير ( جنين – نابلس –طولكرم ). وهناك انضمت إليه بعض الفصائل المحلية ليخوض معها أربع معارك ضد القوات البريطانية في بلعا وجبع وبيت أمرين وكفر صور. بعد هذه المعارك التي حقق فيها القاوقجي بعض المنجزات وأظهر فيها بعض ملامح القيادة الميدانية، أحكم البريطانيون حصارهم لقواته في منطقة جنين وسهل طوباس. وقد توصل الطرفان، كما يبدو، إلى تفاهمات سمحت للقاوقجي وقوات المتطوعين العرب بمغادرة فلسطين في الرابع عشر من تشرين الأول من خلال فتحة في الطوق بجانب إحدى العبّارات على نهر الأردن. وعند تجدد الثورة المسلحة في تموز 1937 كان قادتها هذه المرة من الفلسطينيين.

لم تنته بذلك قصة القاوقجي مع فلسطين، فمع اندلاع المصادمات المسلحة بين العرب واليهود على أثر صدور قرار التقسيم من قبل الأمم المتحدة في تشرين الثاني 1947، قامت اللجنة العسكرية التابعة للجامعة العربية بإرسال بعض الألوية العسكرية على عجل، وقد أطلق على هذه الألوية اسم " جيش الإنقاذ ". كان هذا الجيش تحت القيادة العليا للجنرالات العراقيين إسماعيل صفوت وطه الهاشمي، في حين أشغل القاوقجي منصب القائد الميداني في منطقة المثلث الكبير والأغوار في مراحل القتال الأولى وفي منطقة الجليل في مراحلها المتأخرة.

يقع كيبوتس "مشمار هعيمق"، الذي كان تأسس عام 1926 وكان يسكنه في ذلك الحين 600 نسمة، على جانب الطريق الرئيسي الذي كان يربط جنين بحيفا، على بعد قرابة 26 كم إلى جهة الجنوب الشرقي من حيفا. وقد أحاطت به بعض القرى العربية مثل أبو شوشة، أبو زريق والغبيّات.

في مطلع نيسان 1948 أراد القاوقجي أن يخفف من الضغط اليهودي على الأحياء العربية في حيفا من خلال مهاجمة بعض المستوطنات اليهودية الواقعة على طريق حيفا جنين وقد وقع الاختيار على كيبوتس "مشمار هعيمق".

جعل القاوقجي من قرية المنسة (آخر قرى قضاء جنين من جهة حيفا ) مقراً لتجميع وتنظيم القوات المهاجمة. اشترك في عمليات التحضير للهجوم فوج القادسية بقيادة الضابط العراقي صالح مهدي، وفوج اليرموك بقيادة الضابط السوري محمد صفا، وسرية من فوج حطين كانت تحت القيادة المباشرة لفوزي القاوقجي، هذا إضافة إلى فصائل مسلحة من المقاتلين الفلسطينيين قادهم علي الفارس محاميد من أم الفحم. كان بحوزة القوات المهاجمة بطاريتا مدافع فرنسيتا الصنع من عيار 75 ملم وراجمات هاون من عيار 81 ملم وعشر مدرعات خفيفة.

في ساعات بعد الظهيرة من يوم الرابع من نيسان 1948، بدأت القوات المهاجمة عملية الهجوم بقصف مركز على الكيبوتس، وقد سبب القصف أضراراً هائلة خاصة بكل ما يتعلق بالبنى التحتية وخطوط الدفاع الأولى. وما أن حلت ساعات المساء الأولى حتى كان قرابة 400 مقاتل من جيش الإنقاذ يقطعون الأسلاك الشائكة المحيطة بالمستوطنة، ويشتبكون مع المدافعين من قوات "الهاجاناه" وجهاً لوجه. استغل المدافعون توقف القتال في ساعات الليل ليخرجوا من الكيبوتس (من جهة الغرب التي كانت مازالت مفتوحة ) النساء والأطفال كما ووصلتهم نجدات جدية من السلاح وكتيبة كاملة من قوات "الهاجاناه" بقيادة مئير عميت.

في صباح يوم الخامس من نيسان واصلت قوات جيش الإنقاذ التي كانت قد تمركزت على الشارع الرئيسي جنين – حيفا ( قرابة المئة متر شرقي مشمار هعيمق) قصفها الشديد للكيبوتس، وقام المقاتلون الفلسطينيون تحت غطاء ذلك القصف بالاستيلاء على بعض التلال المهمة المحيطة بالمستوطنة، خاصة تل خربة بيت راس الواقع شمالها.

في ظهيرة اليوم ذاته تدخل قائد القاعدة الجوية البريطانية المجاورة، وعرض وقفاً لإطلاق النار لمدة 24 ساعة ليتسنى إخلاء القتلى والجرحى. وسارع الطرف اليهودي بقبول العرض، ولم يتردد الطرف العربي بقبوله هو الآخر الأمر الذي يطرح جملة من التساؤلات حول مدى حاجة الطرف العربي لهذا الوقف لا سيما وأنه كان على وشك إتمام احتلال المستوطنة. وقد يكون لهذا الموقف بالذات حصة الأسد في الشائعات التي انطلقت حول شخصية القاوقجي وعن وجود علاقات خفية بينه وبين القوات اليهودية.

استغل الطرف اليهودي فترة الأربع وعشرين ساعة أحسن استغلال، وقد تم إخلاء كافة السكان من غير العسكريين واستقدام كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة والمقاتلين، حيث قدم إلى منطقة الجعّارة (على بعد ثلاثة كيلومترات إلى الغرب من مشمار هعيمق ) اللواء الأول التابع لقوات "البلماح" بقيادة حاييم أبي نوعم. وضع الأخير خطة الهجوم المضاد الذي نوت القوات اليهودية شنه فور انتهاء الهدنة القصيرة. وقد اقتضت خطة الهجوم أن تقوم قوات "البلماح" بشن سلسلة من هجمات التغطية والتضليل على بعض القرى العربية في المنطقة وذلك بقصد تشتيت الجهد العربي في منطقة "مشمار هعيمق" وتجنيب الكيبوتس الدمار في حالة لو انطلق الهجوم من داخله.

بدأ الهجوم المضاد في الثاني عشر من نيسان 1948 حيث نجحت قوات "البلماح" باحتلال قرى الغبيات وأبو شوشة وأبو زريق وهاجمت المنسة واللجون، لكنها لم تنجح في حينه باحتلالها، وقد هدمت القرى التي جرى احتلالها على الفور وذلك لمنع عودة سكانها ومنع استغلالها مجدداً قواعد لمهاجمة القوات اليهودية. أصاب سقوط تلك القرى السريع جنود جيش الإنقاذ المهاجمين لـ"مشمار هعيمق" بالإحباط هذا إضافة إلى أخبار محبطة أخرى وصلت من جبهة القدس تحدثت عن استشهاد عبد القادر الحسيني، قائد جيش الجهاد المقدس الفلسطيني، في معركة القسطل في الثامن من نيسان وأخبار المجزرة الفظيعة التي وقعت غداة ذلك أثناء احتلال القوات اليهودية لقرية دير ياسين المحاذية للقدس.

هاجمت قوات "البلماح" قوات القاوقجي من جهتين: من جهة الغبيات في الجنوب، ومن جهة أبو شوشة من الشمال، وأصبح مقاتلو جيش الإنقاذ في مرمى نار القوات المهاجمة من الجهتين، إضافة إلى نيران المدافع الرشاشة التي انطلقت من داخل الكيبوتس. وبذلك وقع الجنود الذين كانوا ينتظرون استسلام الكيبوتس في مصيدة نيران شديدة أدت إلى سقوط العشرات منهم وتراجع الباقين إلى المنسة واللجون. وبذلك انتهت هذه المعركة بفشل الهجوم وتراجع جيش الإنقاذ إلى مواقع دفاعية.

كان مجموع قتلى القوات اليهودية في المعركة قرابة العشرين في حين بلغ عدد الجرحى العشرات، أما في الطرف العربي فقد قدر عدد الإصابات بمائة بين شهيد وجريح.

أثر فشل القاقوجي في "مشمار هعيمق" معنوياً على معنويات المقاتلين في العديد من المدن والقرى العربية، كانت أولها مدينة حيفا التي سقطت في الثاني والعشرين- الرابع والعشرين من نيسان وباقي القرى في الجهة الشرقية الجنوبية لقضاء حيفا والتي سقطت في تلك الفترة تباعاً.

بيسان: قصة اندثار مدينة كانت سباقة في عصر الحداثة.. من دفاتر النكبة (14)

من دفاتر النكبة (14):
بيسان: قصة اندثار مدينة كانت سباقة في عصر الحداثة..


خاص بـ عــ48ـرب/ د.مصطفى كبها
مدينة بيسان مدينة عريقة تضرب جذورها عميقاً في التاريخ على مدار قرابة خمسة آلاف سنة خلت. تقع هذه المدينة في الظاهر الجنوبي – الشرقي لمرج ابن عامر وعلى الأطراف الغربية لغور الأردن، وتبعد عن بحيرة طبريا 25 كم باتجاه الجنوب.

كانت في فترة الانتداب البريطاني مركز قضاء حيث حملت ملامح مدينة رغم قلة عددها سكانها (قرابة 6000 نسمة عشية النكبة ) سكنها خليط من أهل المدن والفلاحين والبدو ومن القبائل التي عاشت في محيطها الغزاوية والصقور والزيناتي والبشاتوة والبواطي. كان معظمهم يسكنون في خيام وبيوت من طين.


جاءت إليها عائلات من دمشق ونابلس والناصرة واستقرت فيها، هذا فضلاً عن بعض العشائر البدوية التي استقرت فيها مع بداية سنوات العشرينيات من القرن الماضي وخاصة من عرب الغزاوية والغوارنة. تشكل سكان المدينة من فسيفساء إثني وطائفي حيث سكنها العرب وبعض العائلات اليهودية (حتى العام 1929 ) والأرمنية والشركسية ومن الناحية الطائفية سكنها بالإضافة للمسلمين ( الذين شكلوا غالبية السكان ) أبناء بعض الطوائف المسيحية كالكاثوليك والأرثذوكس والأرمن.

بلغت مساحة أراضي بيسان حوالي 35000 دونم تم فرزها عام 1921 حسب اتفاقية فرز أراضي الغور. وقد نجحت المؤسسات الصهيونية بشراء ما يقارب 40% من مساحة هذه الأراضي خلال فترة الانتداب. زرعت هذه الأراضي بالغلال كالحنطة والشعير والذرة والسمسم ونسبة منها زرعت بأشجار الفاكهة كالموز والمشمش والرمان والتفاح والحمضيات.

لم تكن الزراعة مكان العمل الأساسي لسكان بيسان، بل عمل الكثيرون منهم كحرفيين وفي التجارة وفي الوظائف الحكومية. فمن الفئة الأولى نذكر : سالم السالم (حداد)، عبد الكريم قادري (نجار )، عبد الكريم سليم حجازي (نجار )، شفيق حداد (حداد )، نديم أبو غزالة (خياط )، مسعود درويش (خياط)، فوزي درويش أحمد (خياط ) ومحمد جلاد الصانوري ( خياط ).

ومن الفئة الثانية نذكر سعيد صالح عنبتاوي ( تاجر غلال وقماش )، إبراهيم حنا سابا ( تاجر وقود ووكيل شركة واكوم لإنتاج الوقود وتسويقه )، إسماعيل جمعة الشامي ( تاجر غلال وأقمشة)، إبراهيم حنا قبعين ( تاجر غلال وأقمشة )، سعيد ناجي عبد العلي ( تاجر غلال وأقمشة )، وآدم السالم ( تاجر قطع غيار للسيارات ووكيل شركة شل للوقود ). أما في الفئة الثالثة فقد عمل العديد من أبناء بيسان في الوظائف الحكومية المختلفة خاصة في إدارة الأشغال العامة والشرطة والجيش، نذكر منهم توفيق صالح تهتموني الذي كان ضابطاً كبيراً في سلاح حرس الحدود، عبد الله أبو رحمون ( دائرة الصحة )، حبيب وهبة ( محاسب بلدية الناصرة )، سلمان سليم أبو رحمون ( سكرتير بلدية بيسان )، جريس إبراهيم العورة ولبيب جريس حبيب وكامل الجندي (دائرة المساحة )، ناجي سعيد عبد العلي ( شرطة )، سليمان ديب العلي ( شرطة )، داود أسعد علي التهتموني ومحمد سعيد الناجي ( دائرة البريد، فرع بيسان )، عبد الرحمن درويش أحمد ( محاسب بلدية بيسان )، محمد ذيب علي تهتموني (معلم في بيسان ) أمينة أبو دراز ( معلمة في الطنطورة )، ربيحة حمادة ( معلمة في بيسان )، يسرى حمادة ( معلمة في بيسان )، صبحي عبد الله أبو رحمون، حسني محمد حسن أبو خليل ( معلم لغة عربية )، حسني منصور ( معلم علوم )، عدنان محمد سعيد الحلبوني ( معلم، أصبح طبيباً بعد التهجير ).

كانت في بيسان حركة تجارية نشطة، وكان فيها عدد من الدكاكين والمحال التجارية نذكر منها: دكان بنّا وسالم، دكان داود الطاهر وشركاه، دكان سعيد التميمي، دكان أحمد بندقجي الشامي، دكان مصطفى سليم صالح وشركاه ودكان إبراهيم أبو علي.

كما وكانت فيها مدرستان واحدة للبنين وأخرى للبنات، وقعت الأولى إلى الغرب من عمارة السرايا (مقر القائمقام العثماني أثناء الفترة العثمانية المتأخرة ) بعشرين متراً. أما الثانية فقد وقعت شمال الشارع الرئيسي وكانت عبارة عن بناية صغيرة حجرية سوداء مظللة بالأشجار. تعلم الطلاب في المدرسة الابتدائية للبنين حتى الصف الثالث، وكانت البناية مكونة من غرفة معلمين وثلاث غرف تدريس، كان مديرها حسن فرحان المصري وبعده أحمد الموسى من كفر قدوم، أما المعلمون فكانوا عزيز الخوري من الرينة، فؤاد مرعي من جنين، صبحي عبد الله أبو رحمون ومحمد ديب تهتموني من بيسان.

بيسان وثورة 1936 -1939: كانت بيسان نشيطة جداً في ثورة 1936 -1939 وكان فريد فخر الدين من أبرز الناشطين في المجال الوطني منذ العشرينات. وقد سجن أثناء الثورة في سجني صرفند وعوجا الحفير. وقد انضم لحركة الشيخ عز الدين القسام من بيسان كل من الشيخ محمد حنفي ومحمد عبد الهادي فخر الدين وعبد الجبار عبد الرحيم فخر الدين. أما رؤساء الفصائل في الثورة فكانوا: الشيخ عبد أبو رحال وقد استشهد في صدام مع قوة الحدود البريطانية، فؤاد عبد القادر الأحمد، ومصطفى أبو شام وقد استشهد في نهاية الثورة. أما من الثوار فقد كان كل من: محمد عبد الله العلي، سليم شاتي الحمدان، محمود عبد الله مرجان، فياض أبو سرية، محمود أبو سرية، عبد الله عبد أبو حسونة، كامل حسين أبو صقر، حمدي رباح أبو علي (اعتقل لمدة سنة ) محمد أعد أبو سرية (اعتقل لمدة ثلاث سنوات)، نايف محمود حلبوني ( شهيد، نفذ فيه حكم الإعدام بعد اعتقاله )، عيد محمد عطاري (شهيد )، مصطفى أحمد نداف، سعيد إبراهيم نداف، درويش صالح أبو زنط، خليل حسن المحروم (شهيد )، عبد الرحيم جاد الحاج (شهيد، نفذ فيه حكم الإعدام )، سلامة صالح برو ( اعتقل لمدة ستة اشهر ).

وقد لاحقت السلطات العسكرية البريطانية الثوار في بيسان وهدمت بيوت من ساعدهم أو آواهم، وفي معظم الحالات تم إعادة بناء تلك المنازل مباشرة بعد هدمها. ومن البيوت التي هدمت أثناء الثورة نذكر: بيت محمد ياسر محمود، بيت آدم السالم، بيت محمد سعيد حلبوني، بيت عبد سليم حلبوني، بيت يوسف العساف وبيت الحاج يوسف شلبية.

التهجير : تم احتلال بيسان وتهجير أهلها في الثاني والثالث عشر من أيار 1948. وقد كان الوضع في جبهة المدينة والمناطق المحيطة فيها بين أخذ ورد منذ مطلع العام 1948. وقد أنيطت مهمة الدفاع عن بيسان بقوات محلية جندتها اللجنة القومية من قدامى ثورة 1936 -1939 ومن رجال القرية الذين كان لهم تجربة عسكرية ممن خدموا في الجيش البريطاني وشرطة الانتداب.

بلغ مجموع هؤلاء المدافعين قرابة 150 مسلحاً هذا إضافة إلى قرابة 200 متطوع عربي جاؤوا مع وحدات جيش الإنقاذ. غادرت القوات البريطانية المدينة في الثامن والعشرين من نيسان مخلية ثلاث نقاط إستراتيجية مهمة أحاطت بالمدينة وهي محطة القطار في الجهة الشمالية الغربية من المدينة ومعسكر الجيش البريطاني في الجهة الشمالية ومركز الشرطة في جهة الجنوب الشرقي. سيطر اليهود على النقطتين الأوليتين، واستولوا في معسكر الجيش على كميات كبيرة من العتاد والذخيرة، في حين سيطر العرب على نقطة الشرطة.

في العاشر من أيار تم احتلال قرية الأشرفية في الجهة الجنوبية للمدينة. وقد أثر سقوط تلك القرية سلباً على معنويات المدافعين عن بيسان. وفي الحادي عشر من الشهر ذاته سيطرت قوات جولاني اليهودية على تل حوسان المشرف على المدينة. ومن هناك بدأت بسلسلة من أعمال القصف والقنص لأحياء بيسان المختلفة.

غداة ذلك اليوم تأهبت قوات الفرقة 13 من لواء جولاني لمهاجمة المدينة ليس قبل أن يتصل قائد تلك الفرقة، إبراهام يوفه، بزعماء اللجنة القومية في بيسان هاتفياً ودعوتهم للاستسلام وتسليم المدينة وذلك بتنسيق مع راجمات القنابل التي دكت مواقع المدافعين والأحياء السكنية بقصف متواصل.

طالب زعماء المدينة بهدنة لبضع ساعات واقترحوا لقاء يوفه في محطة القطار. هناك قدم لهم يوفه شروطه والتي تلخصت بتسليم المدينة وكافة الأسلحة والذخائر والسيارات وكذلك تسليم المقاتلين من غير الفلسطينيين ومقابل ذلك تعهد بإبقاء السكان وعدم تهجيرهم. طالب أعضاء الوفد البيساني بمهلة للتشاور وقد جاء جوابهم بالإيجاب بعد بضع ساعات. في صباح الثالث عشر من نيسان 1948 دخلت القوات اليهودية بيسان بعد أن كانت معظم القوات المدافعة عنها قد جلت عنها بما في ذلك رئيس البلدية الدكتور رشاد الشيخ درويش ورئيس وأعضاء اللجنة القومية.

وعما جرى بعد ذلك يحدثنا الحاج أحمد سرحان (أبو محمد) من سكان بيسان ويقيم اليوم في قرية الفريديس حيث يقول: "بقي في بيسان بعد التهجير الأول ألف نسمة تقريبا، بقينا هناك شهرين. بعد ذلك جاء اليهود وجمعونا في ساحة السرايا، كنت أنا ووالدي مع آخر مجموعة تركت بيسان، وكانت معنا امرأة اسمها أم رضا السالم وأرسين الأرمني – الكندرجي. جاء إلينا ضابط يهودي من مستعمرة "معوز حاييم"، وقال: لماذا ما زلتم هنا؟ فقلنا: "جئنا نأخذ الأغراض ولم ندرك الباص المغادر إلى الناصرة".

وبينما كان الضابط يتحدث معنا جاءت طائرة عراقية تقصف فاختبأنا، بعدها بعث الضابط لنا سيارة وحملناها أغراضاً كانت لنا وأخرى ليست لنا ومن هناك نقلونا إلى الناصرة بعد أن قالوا: اختاروا فهذه الباصات واقفة: إما الأردن أو الناصرة أو جنين. خلال وجودنا بالساحة اكتشفنا أن الشنطة التي وضعت فيها النقود والمصاغ الذهبي ظلت في الدار فهربت من الطوق ووجدت الشنطة في ساحة الدار بعدها لما رجعت كان الباص قد بدأ بالمغادرة، تعرضت له في الطريق وطلعت. لولا تلك الشنطة لكنا صرنا شحادين في الشوارع".

لم يف يوفه بتعهده وقام بإجلاء سكان المدينة العرب عنها. وفي مقابلة كنا قد أجريناها عام 2002 مع الضابط بلتئيل سيلع والمشهور لدى العرب باسم "بلطي"، الذي تولى تنظيم حركة الباصات والشاحنات التي أحضرت لبيسان لتنفيذ عملية التهجير، علل عملية التهجير بإمكانية تعاون سكان بيسان مع القوات العربية النظامية التي كان من المقرر أن تدخل فلسطين بعد ذلك بيومين. في عام 1949 أقيمت على أنقاض بيسان العربية مدينة بيت شان اليهودية.

كفر قرع؛ قصة معركة فاصلة وتهجير دام 11 شهراً.. من دفاتر النكبة (13)

من دفاتر النكبة 13:
كفر قرع؛ قصة معركة فاصلة وتهجير دام 11 شهراً..

د. مصطفى كبها
كفر قرع قرية من قرى وادي عارة الواقعة في المثلث الشمالي، وتبعد عن حيفا 47 كم في جهة الجنوب الشرقي. تقع في الحافة الشمالية الغربية لوادي عارة في منطقة الروحة والتي كانت فيها حتى العام 1948 اثنتان وثلاثون قرية هجرت ست وعشرون منها وبقيت كل من كفر قرع، عارة، معاوية، مشيرفة، مصمص والبياضة. بلغ عدد سكان هذه القرية عشية النكبة 1680 نسمة. في فترة الانتداب مرت كفر قرع بعملية تحديث مكثفة حيث بنيت فيها مدرسة ابتدائية نموذجية في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي.

كانت مساحة راضيها ما مجموعه 18000 دونم، زرعت بمختلف أنواع الغلال والخضروات والفواكه. ونظراً لاشتغال معظم سكانها بالزراعة فقد أقيمت فيها جمعية تعاونية زراعية عملت على استيراد وتشغيل التقنيات الحديثة من جرارات ومحاريث وبذور محسنة الخ...


في ثورة 1936 -1939 كانت كفر قرع قرية نشطة، حيث تشكل من أبنائها فصيل بقيادة ياسين الأسمر القبق والذي عمل في منطقة قيادة الشيخ يوسف سعيد أبو درة، والتي شملت منطقة جنوب حيفا والروحة ووادي عارة وجنين.

تعرض هذا الفصيل لنكسة شديدة عام 1938 عندما استشهد معظم أعضائه في عملية تطويق قامت بها القوات البريطانية في منطقة تدعى بيت الشمالي قرب قرية رمانة (قضاء جنين ). وعلى الأرجح أن الطوق فرض بسبب وشاية محلية ترتبط بتوتر داخلي تفاقم بعد ذلك حتى أدى إلى اعتقال قائد الفصيل ونائبه حسن شبلي (أبو سنان ) من قبل فصائل الثورة. أما من استشهد من أعضاء الفصيل في بيت الشمالي فكانوا: إبراهيم أبو فنة، محمود الحسن أبو فنة ويوسف العرباصي. كما جرح في المعركة محمد الزوقي مصاروة الذي توفي بعد ذلك متأثراً بجراحه، في حين تم اعتقال محمد أحمد أبو سرية وإعدامه لاحقاً في سجن عكا.

وقد انتمى لهذا الفصيل كذلك كل من مصطفى العرباصي، حسن الشتيوي وراجح العريدي، في حين انتمى لفصائل أخرى كل من: خليل حسن يحيى وفؤاد سعيد كناعنة (فصيل عبد الله الأسعد من عتيل )، حسن علي مصالحة ( فصيل العبد الصادق من عتيل )، محمود جبر مصالحة ( فصيل يوسف أبو درة من السيلة الحارثية ) وكامل أحمد علاوي (فصيل صبري الحمد عصفور من السنديانة ).

قصة التهجير واللجوء والعودة: كانت كفر قرع محط اهتمام كبير من رجال المستوطنات اليهودية المجاورة ونشطاء المؤسسات التابعة للوكالة اليهودية في المنطقة، أولاً بسبب كونها البلد الثاني (بعد صبارين ) في منطقة الروحة من حيث عدد السكان، وثانياً بحكم امتلاك شركة "بيكا" الصهيونية لقسم من أراضيها ومجاورتها لمستوطنات يهودية اعتبرت مواقع أمامية كجبعات عادة وكفار جليكسون، وثالثاً بحكم علاقات جيدة ربطت بعض سكان كفر قرع بالمستوطنات اليهودية والأشخاص الفاعلين فيها.

ومع اشتداد الصدامات بعد صدور قرار التقسيم عام 1947 اهتم رجال الوكالة اليهودية و"الهاجاناه" أن يكون لهم مصدر معلوماتي داخلي يزودهم بالمعلومات عن تحركات الطرف العربي على طول جبهة وادي عارة. وكما يبدو فقد كان هذا الشخص من الشخصيات المهمة في كفر قرع وقد اصطلح على تسميته في الأوساط الاستخباراتية اليهودية بلقب "الأمير". أرسل "الأمير" إلى مشغليه الأخبار تباعاً، شارحاً فيها استعدادات أهالي كفر قرع والقرى المجاورة من الناحية العسكرية، واصفاً معنوياتهم وشكل علاقاتهم مع الهيئات العربية الفاعلة كالهيئة العربية وجيش الإنقاذ واللجان القومية وغيرها.

بناء على المعلومات التي تم تركيزها في مقر قيادة "الهاجاناه" أناطت هذه القيادة بلواء "ألكسندروني" التابع لها مهمة احتلال كفر قرع كجزء "من الاختراقات التي يجب تنفيذها في العمق العربي " وذلك كما جاء في التعليمات التي بعثت لقادة "الكسندروني". حدد الهجوم ليوم الثامن من أيار 1948 وقد سبقته عملية مكثفة لجمع المعلومات عن تحركات جيش الإنقاذ وقوات المتطوعين العرب التي تواجدت في المنطقة.

بالنسبة لتفاصيل ما جرى في ذلك اليوم كثيرة هي المصادر التي تحدثت عن سير المعركة خاصة من الطرف اليهودي الذي يعدها إحدى المعارك الفاصلة التي خاضتها القوات اليهودية في المنطقة. وسنورد هنا رواية الطرفين حول ما جرى.

أطلقت قيادة الهاجاناه على المعركة اسم عملية "يوفال" وقد ورد في تلخيص للمعركة وجدناه في وثائق لواء ألكسندروني ما يلي:
"عملية ضد كفر قرع ووادي عارة : تكونت قواتنا من ثلاثة أفواج أربع مصفحات، راجمتين 3 إنش وثلاثة مدافع رشاشة. في الساعة العاشرة تم احتلال الأهداف. في الساعة 12:55 قام العدو بهجوم قوي مضاد من جهة عارة. توقفت لدينا الراجمتان وأحد المدافع الرشاشة عن العمل، كما ولوحظ نقص بأدوات التخندق وأجهزة الاتصال. في الساعة 18:40 انسحبت قواتنا من كفر قرع بعد نسف ثلاثين بيتاً. تقدر قوات العدو بخمسمائة رجل، تم تكبيدهم خسائر والعدد غير معروف أما خسائرنا فكانت 7 قتلى و23 جريحاً ".

إن المتأمل لهذا التلخيص لا يجد نبرة نشوة الانتصار التي ميزت أدبيات "الهاجاناه" من تلك الفترة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن نصراً لم يتحقق لهذه القوات في تلك المعركة، بل إن لجوء كاتب التلخيص للتهويل يدل على رغبة بتغطية الفشل الذريع الذي منيت به قوات "الكسندروني" في ذلك الهجوم. إذ أن عدد المدافعين لم يصل الخمسمائة بأي حال من الأحوال، في حين كان مجموع ما تضرر من بيوت أو نسف من قبل القوات المهاجمة ثلاثة بيوت فقط، وليس 30 بيتاً كما ورد في التلخيص. هذا مع العلم أن عدد قتلى القوات المهاجمة بلغ 13 وليس 7 قتلى، ولكن يمكن أن نبرر الفرق في أن يكون العدد قد زاد بسبب وفاة بعض الجرحى الذين كانت جروحهم بالغة.

أما الرواية المحلية للحدث فيمكن تلخيصها كما وردت على لسان شهود عيان كنا قد أجرينا معهم مقابلات حول المعركة وقد جاء فيها: " كان الهجوم من جهتي المقايل غرباً والعرق جنوباً. في البداية كان المدافعون من أهل القرية فقط وقد كان لديهم قرابة خمسون بندقية مختلفة الطراز. من الأشخاص الذين قابلوا الهجوم من جهة الجنوب وتصدوا للمهاجمين وجهاً لوجه نذكر حسن الشتيوي زحالقة، عبد الرحمن نجيب زحالقة، أحمد العبد اليحيى، حمدان أبو خاطر، راجح العريدي وآخرين. انضم لهؤلاء في مرحلة متأخرة كل من أحمد الجبر مصالحة، عبد الرحمن الجبر مصالحة، محمد جميل مصالحة، محمد يوسف بدوية، أنيس حسين مصالحة والحاج محمد الحمدان كناعنة.

قاوم أهل القرية أكثر من ساعة ولكن القوات المهاجمة استطاعت دخولها والسيطرة على بعض النقاط الإستراتيجية فيها. عندها بدأ الأهالي بمغادرتها، أول حارة غادر أهلها كانت الحارة التي تعرضت للهجوم الأول وهي حارة الزحالقة. في البداية تم إخلاء النساء والأطفال والعزل من السلاح وبعدها تم إخلاء البلدة تماماً إلا من العجزة والمقاتلين. بعدها بدأت الفزعات بالوصول من القرى المجاورة وقد كان معهم ثلاثة من جنود جيش الإنقاذ (ضابط وجنديان ) الذين احضروا معهم مدفعاً رشاشاً من طراز برن ( في نهاية المعركة استشهد الضابط السوري الذي كان يحمل البرن ).

جاءت الفزعات من قرى عارة، عرعرة، برطعة، يعبد وأم الفحم بعد ساعتين من بدء العملية. وقد فاجأت الفزعات اليهود فاخلوا القرية بعد أن نسفوا ثلاثة بيوت: بيت أحمد العبد الله يحيى، بيت أحمد العلي الزامل ( الذي هدم على رؤوس ثلاث نساء) وبيت مصطفى أبو يعقوب. بعد ذلك بيوم رجع السكان إلى القرية، أخذوا أغراضهم وتشتتوا".

كان هذا تلخيصاً للرواية المحلية لمجريات المعركة، وقد قمنا بمعاينة مواقع المعركة والبيوت المهدومة ولم نجد ذكراً لأكثر من ثلاثة بيوت. وقد حصر من قابلناهم أسماء الشهداء ب 11 شهيداً والجرحى بثلاثة وهم كالتالي : استشهد كل من: محمد حسن مسلماني ( كان عمره آنذاك 28 وكان متزوجاً حديثاً وله بنت واحدة )، راجح العريدي ( 50 عاماً وقد استشهد لاحقاً أحد أبنائه في منطقة القدس)، الحاج محمد الحمدان كناعنة (55 عاماً )، حمدان أبو خاطر ( 55 عاماً ) محمد عارف يحيى (30 عاماً وقد كان معوقاً عقلياً ) سليم أحمد أبو سرية ( استشهد في بيته )، آمنة عبد فنادقة ( مسنة لم يعرف عمرها بشكل دقيق )، أم العبد الزامل (لم يعرف اسمها أو عمرها بشكل دقيق )، فاطمة عبد الرحمن زحالقة، شخص من عرب التركمان ( لم يعرف اسمه أو عمره بشكل دقيق وقدر بأنه كان في العقد الرابع من عمره) ضابط سوري من جيش الإنقاذ (لم يعرف اسمه وقد قدر بأنه كان في العقد الرابع من عمره ). أما الجرحى فكانوا: شوكت فرج فنادقة، مريم عيسى سعد، ذيب محمد أبو نعسة.

اللجوء والعودة : بدأ لجوء سكان كفر قرع إلى القرى المجاورة ( عارة، عرعرة، برطعة، طورة، يعبد وأماكن أخرى) في العاشر من أيار 1948 واستمر حتى الثاني عشر من نيسان 1949. وبهذا يكون تهجيرهم قد دام 11 شهراً، عادوا قبل تسليم القرية لإسرائيل (الذي جرى في التاسع عشر من أيار 1949 بمقتضى اتفاقية رودس بين الأردن وإسرائيل) بقرابة الأربعين يوماً.

وعن تطور فكرة العودة وعن تفاصيل ما جرى بعد ذلك، يروي سليمان جبر مصالحة فيقول: " في بداية نيسان 1948 كنت مع عائلتي لاجئين في قرية طورة، حين سمعنا في الراديو أخباراً عن توقيع اتفاقيات الهدنة في رودس. وقد قال لنا يومها خالي إبراهيم القربي بأننا سنحاول العودة للبلد وقد ذهب في صباح اليوم التالي إلى حسن عيسى عثامنة وحسن محمد الحاج يونس مصالحة وطالبهم بالعودة للبلد ذلك أن القرية لم تحتل من قبل اليهود. وقد أجابه الاثنان بالإيجاب قائلين بأنه من الأفضل لنا أن نموت في بلدنا على أن نبقى لاجئين، في صباح اليوم التالي حملنا أغراضنا وعدنا للبيوت، وبعدها لحق بنا حسن العلي مصالحة وإخوانه، وقد كان العائدون يأكلون ويسهرون وينامون مجتمعين.

من الجدير ذكره أنه في هذه الفترة استشهد نتيجة انفجار ألغام زرعتها القوات اليهودية في محيط القرية كل من عوض العبد الموسى إسماعيل وزوجته وجرح محمد الحاج أحمد مصالحة وهم في طريقهم لقطف الذرة من حقولهم الواقعة في منطقة الزعفرانية غربي القرية.

كفر سابا العربية وقصة سقوطها وتهجيرها.. من دفاتر النكبة (12)

من دفاتر النكبة (12):
كفر سابا العربية وقصة سقوطها وتهجيرها..

د.مصطفى كبها/ خاص بـ عــ48ـرب
قرية كفر سابا هي قرية فلسطينية جرى احتلالها وتدميرها وتهجير أهلها في أيار 1948. تبعت هذه القرية في فترة الانتداب البريطاني قضاء طولكرم، وهي تبعد عن طولكرم مسافة 15 كم باتجاه الجنوب – الغربي، وعن قلقيلية مسافة 5 كم باتجاه الغرب، وحدتها كذلك من الجنوب بلدة كفارسابا اليهودية، ومن الشمال الغربي قرية مسكة، ومن الغرب خربة عزون ( تبصّر )، كما وحدّت القرية كذلك قرى جلجولية وبيار عدس.

بلغ عدد سكان كفر سابا عام 1948 حوالي 1500 نسمة، وكان من عائلاتها الولويل والنجار وياسين وجبر والقرعاوي وعائلات أخرى. أما مساحة أراضيها فقد بلغت حوالي 10000 دونم زرعت بالغلال والخضروات والحمضيات.


كانت القرية نشطة في ثورة 1936 – 1939 حيث وقعت في منطقة نشاط الفصائل التابعة لعارف عبد الرازق وفارس العزوني. وشارك العديد من أبنائها في الثورة بشكل فعلي وكذلك في تقديم المساعدات اللوجستية للفصائل الثورية.

النكبة والتهجير: منذ بدء المناوشات المسلحة بين العرب واليهود مع بداية كانون الأول/ ديسمبر عام 1947، كانت كفر سابا إحدى نقاط الاحتكاك الساخنة مع المستوطنات اليهودية خاصة مع كفار سابا ورعنانا. في البداية وقعت بعض الاشتباكات المتفرقة في منطقة النبي يامين وفي منطقة البيارات المتجاورة حيث وقعت أعمال قنص متبادلة وتفجير لآبار المياه في البيارات المتجاورة، والتي ادعت القيادة اليهودية أن البيارات العربية كانت قاعدة لتنظيم وانطلاق المسلحين الذين هاجموا المستوطنات اليهودية. وقامت على إثر ذلك ببعض العمليات الانتقامية في تلك البيارات والتي تضررت منشآتها إلى حد كبير.

في الرابع من آذار/مارس 1948 هاجمت قوات يهودية كبيرة قرية بيار عدس رداً على مهاجمة قوات عربية مستوطنة مجدائيل اليهودية، وشاركت مجموعة من مقاتلي كفرسابا في الدفاع عن بيار عدس، ما جعل قوات الهاجاناه تقرر معاقبة كفر سابا من خلال فرض شبه حصار على طرق مواصلاتها وضرب المركبات الداخلة إليها أو الخارجة منها وقنص ركابها. وفي نهاية الشهر ذاته قامت وحدة من قوات الكسندروني بمهاجمة الأطراف الغربية للقرية. واستشهد في هذا الهجوم اثنان من سكان القرية وأصيب كذلك سائق مركبة من قلقيلية.

في التاسع من أيار قامت قوات عربية مكونة من سرية تابعة لجيش الإنقاذ وقوات من المتطوعين العرب من كفر سابا بقصف مركز لبلدة كفار سابا اليهودية استهدف إسكات المواقع التي انطلقت منها نيران القناصة التي أصابت المارين على الطريق المؤدي لكفر سابا. وقامت ثلاث مدرعات خفيفة تابعة لجيش الإنقاذ بمهاجمة برج الماء المتواجد في الأطراف الشمالية لكفار سابا (حيث كان مقراً دائماً لأولئك القناصين ) وتدميره. بعد هذا الهجوم، قررت قوات الهاجاناه في المنطقة مهاجمة قرية كفر سابا العربية بغرض احتلالها، وحددت عملية الهجوم ليوم الثالث عشر من أيار 1948، وأطلق على العملية اسم عملية مديناه.

ألقي تنفيذ عملية الهجوم على عاتق قوات فرق 32 و 33 التابعة للواء ألكسندروني. واقتضى ذلك أن تقوم فرقة 33 أ بمهاجمة القرية من جهتي الجنوب والغرب، في حين تقوم الفرقة 33 ب بإقامة حاجزين من الموانع يكون من شأنهما منع توافد قوات نجدة عربية من جهتي الشرق والجنوب الشرقي خاصة من منطقة قلقيلية. كما وتم التخطيط لنصب ثلاث راجمات في منطقة البيارة التابعة لسلامة الحاج إبراهيم ( من طولكرم ) وذلك لدعم المهاجمين والتغطية على أعمال إقامة الموانع والحواجز. في البداية كانت ساعة الصفر للبدء بالهجوم قد تحددت لمنتصف ليل 13 -14 أيار، ولكن هذا الموعد تم تبكيره ليبدأ الهجوم في وضح نهار يوم الثالث عشر من أيار.

بدأت عملية الهجوم في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف ظهراً من خلال قصف مركز قامت به الراجمات من عيار ثلاثة أرطال لمركز قرية كفر سابا والأحياء الغربية منها، وسبب القصف دماراً كبيراً في المباني وإصابات عديدة بين المدنيين وأثار حالة من الهلع في صفوفهم.

وتحت غطاء القصف بالراجمات تقدمت قوات المشاة تحت غطاء البيارات الكثيفة المحاذية للقرية وأخذت لها مواقع في حقول الغلال الواقعة في الجهة الجنوبية الغربية لتبدأ الهجوم من هناك حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر.

شهدت القوات المهاجمة مقاومة شرسة من المدافعين عن القرية الذين بلغ عددهم حوالي الستين مقاتلاً، بما في ذلك سرية من المتطوعين العرب بقيادة ضابط سوري بلغ قوامها ثلاثين مقاتلاً. وقد دارت معارك ضارية وجهاً لوجه ومن بيت إلى بيت في مركز القرية وفي الحي الجنوبي الغربي. ونجحت قوات الهاجاناة المدعومة بقصف كثيف من الراجمات التشيكية الصنع بالسيطرة على معظم مساحة القرية بعد ساعتين من القتال. وقد استمر إطلاق النار المتقطع في محيط مقام النبي يامين وفي التل الشرقي المشرف على الطريق الرئيسي المؤدي إلى قلقيلية.

في الوقت الذي باشرت في القوات المهاجمة تفتيش البيوت وطرد من تبقى من أهلها نحو الشرق، قامت قوات الجهاد المقدس التابعة للهيئة العربية العليا وبأمر من القائد حسن سلامة، قائد قوات جيش الجهاد المقدس في منطقة المركز، بتنظيم هجوم معاكس شاركت فيه بعض المدرعات الخفيفة التي كان جيش الجهاد قد غنمها من قوات الهاجاناه في قطاع كفار عتسيون.

نجح هذا الهجوم باسترجاع التل الإستراتيجي الذي تمركزت فيه وحدة استكشاف يهودية وذلك بعد قتال ضار تم فيه الإجهاز على كافة مقاتلي فرقة الاستطلاع التابعة للهاجاناه. وقامت قوات الهجوم المعاكس كذلك بإيقاع إصابات عديدة من خلال تدمير حافلة مدرعة جاءت وقت المساء لنجدة وحدة الاستطلاع.

وجاء في شهادة يعقوب دورون، أحد الذين كانوا داخل الحافلة: شعرت بأن الدنيا تدور بي عندما استهدفت سيارة الباص المدرعة قنبلة من مدفع إحدى المدرعات التي وقفت أمامنا، وجدت نفسي ملقى على أرضية الباص المدرع ومن حولي ظلام دامس ومخيف... زحفت باتجاه الفتحة الخلفية للباص، شعرت بأني أزحف على جثث وقد عرفت بأن هذه الجثث هي جثث رفاقي، أحد أعضاء الفرقة ساعدني بالنزول من المركبة، وبالسير مع من ساروا. فهمت بأننا منسحبون نحو القرية.. الباص المشتعل ساعدنا بعض الشيء في عملية تغطية الانسحاب، ولكن عندما أصبحنا منكشفين أصابت رجلي اليمنى رصاصة أخرى، لكنني واصلت المسير بحيث كنت متكئاً على أحد أصدقائي وقد شعرت أن الطريق إلى القرية تطول إلى ما لا نهاية.

سبّب سيل السكان المطرودين من القرية نحو الشرق تأجيل الاستمرار بالهجوم المعاكس للقوات العربية، خاصة وأن الظلام كان قد حل، ولم تكن تلك القوات مالكة لأدوات وتقنيات القتال في الليل. مكّن هذا التأجيل قوات الكسندروني من التقاط الأنفاس وبمساعدة النجدات التي حصلت عليها هذه القوات أثناء الليل، كانت هي البادئة بالهجوم صبيحة يوم الرابع عشر من أيار/ مايو، حيث كبّدت القوات العربية خسائر كبيرة وأجبرتها على التراجع نحو قلقيلية. ولم يفلح هجومان قامت بهما القوات العراقية (التي قدمت إلى تلك الجبهة في الخامس عشر من أيار ) في السادس والسابع عشر من الشهر باستعادة القرية التي أضحت منذ ذلك التاريخ قاعدة أمامية للقوات الإسرائيلية التي انطلقت منها لاحتلال وتهجير قرى عربية أخرى في المنطقة.

صفد وقصة سقوطها عام 1948.. من دفاتر النكبة (11)

من دفاتر النكبة (11):
صفد وقصة سقوطها عام 1948..
د.مصطفى كبها / خاص بـ عــ48ـرب
صفد هي مدينة عريقة التاريخ، تقع في منطقة الجليل الأعلى على قمة جبل كنعان وعلى ارتفاع قدره 839 متراً. وكانت إحدى خمس مدن فلسطينية عامرة ومزدهرة في فترة الانتداب وما سبقها ( المدن الأخرى هي طبريا وبيسان والمجدل وبئر السبع )، والتي تم إنهاء الوجود العربي فيها بشكل تام بعد حرب ونكبة عام 1948 – 1949.

كانت هذه المدينة في فترة الانتداب البريطاني جزءاً من لواء الجليل ومركزاً لقضاء عرف باسمها. بلغت مساحة قضاء صفد في عهد الانتداب البريطاني حوالي 750 كيلومتراً مربعاً، وضم إضافة لمدينة صفد 69 قرية، هذا إضافة لبعض المجمعات البدوية.

وكانت قرى (قدس، صلحا، هونين والمالكية ) من هذه القرى قد ضمت لقضاء صفد بعد أن سلخت من لبنان عام 1923. علماً بأن الغالبية الساحقة لقرى هذا القضاء (بما في ذلك مدينة صفد العربية ) كانت قد دمرت عام 1948 باستثناء أربع قرى وهي الجش وعكبرة وطوبا وحرفيش والريحانية.

كانت صفد في فترة الانتداب مركزاً من المراكز النشطة للحركة الوطنية الفلسطينية، فقد كانت إحدى بؤر هبة البراق عام 1929 والتي ابتدأت أحداثها في القدس، وامتدت من هناك إلى مدن فلسطينية أخرى وخاصة مدينتي صفد والخليل. علماً بأن أحد أبنائها، فؤاد حجازي، كان واحداً من الشبان الفلسطينيين الثلاثة (الاثنان الآخران هما محمد جمجوم وعطا الزير من الخليل )، الذين أعدمتهم سلطات الانتداب البريطاني في السابع عشر من حزيران 1930 بتهمة تأجيج وتنظيم أحداث آب –أيلول 1929.

وفي صفد تشكل في نهاية عام 1929 وبداية عام 1930 فصيل جماعة الكف الأحمر برئاسة أحمد طافش وهو أول فصيل فلسطيني مسلح في منطقة الجليل. وفي ثورة 1936 – 1939 كانت صفد ومنطقتها معقلاً مهماً من معاقل الثورة الفلسطينية، وفيها نشطت فصائل منطقة الجليل بقيادة أبو إبراهيم الكبير ( خليل العيسى ) وفصائل محلية بقيادة عبد الله الشاعر وعبد الله الأصبح، وقد بلغ عدد ثوار هذه الفصائل بضع مئات من أبناء مدينة صفد وقراها.

بلغ عدد سكان المدينة عام 1947 قرابة 13500 نسمة، منهم 2600 يهودي. أما مساحة أراضيها الزراعية فقد بلغت قرابة 5000 دونم.

نكبة مدينة صفد وتهجير سكانها:

أكسبت تركيبة مدينة صفد السكانية وكونها مدينة مختلطة هذه المدينة أهمية خاصة ووضعتها على رأس أجندة الطرفين اللذين حاولا جاهدين تأمين السيطرة عليها وعلى محيطها القروي خاصة بعد مغادرة البريطانيين لها في نهاية نيسان 1948.

بدأت المناوشات في الثاني عشر من كانون الأول 1947 بعد قتل شاب يهودي في سوق صفد الكبير على إثر اتهامه بمحاولة تفجير نفسه بين الجموع. وقد رد اليهود على ذلك بسلسلة من أعمال القنص أدت إلى استشهاد شابين من العرب هما حسني القوصي وربحي قدورة.

في الخامس والعشرين من الشهر ذاته جرت المحاولة العربية للاستيلاء على القلعة، إذ جرت حولها معركة حامية سقط فيها بعض القتلى من الجانبين، ولم يكتب للمقاتلين العرب السيطرة على القلعة بسبب تدخل القوات البريطانية التي لم تغادر يومها القلعة بعد.

حتى بداية كانون الثاني 1948 قاد فايز قدورة المسلحين والحراس العرب في صفد إلى أن حضر إليها الضابط السوري إحسان ألماز. قام هذا الضابط بتنظيم المقاتلين العرب وعمل على تدريبهم وتحضيرهم للمواجهات. ووضع خطة محكمة لمحاصرة الحي اليهودي، ومنع قدوم المؤن والذخيرة إليه.

واضطر اليهود بسبب ذلك الحصار لتشغيل بعض القوافل من السيارات المصفحة بغرض الوصول للحي اليهودي ونجدته، كما وحاولوا كسر الحصار من خلال مهاجمة واحتلال بعض القرى العربية المشرفة على طريق جبل كنعان المؤدية لصفد.

في الخامس عشر من نيسان قامت قوات المتطوعين العرب من دخول نقطة البوليس البريطاني ومبنى الحاج فؤاد الخولي، الواقع على الحدود المتاخمة بين الحي اليهودي والأحياء العربية، والذي كان البريطانيون قد صادروه بعد بدء المناوشات للفصل بن الأحياء العربية والحي اليهودي. حاولت القوات اليهودية السيطرة على هذين المبنيين في هجوم معاكس في الثامن عشر من نيسان، ولكن القوات العربية المتحصنة فيهما نجحت في صد الهجوم والسيطرة على بعض المواقع اليهودية الأمامية.

في اليوم ذاته وصلت طلائع وحدة أردنية تابعة لجيش الإنقاذ يقودها الضابطان أميل الجمعان وساري فنيش. وفي اليوم التالي وصلت سرية متطوعين سورية قوامها 80 مقاتلاً بقيادة عبد الحميد السراج ( الرجل الأول في سوريا أيام الوحدة مع مصر لاحقاً ) وهشام العظم.

لم يكن قدوم هذه النجدات بادرة خير على المجهود الحربي العربي ومعنويات الأهلين، إذ أنه سرعان ما تصادم الضابطان الأردنيان، اللذان عملا على التهدئة، وفرضا منع التجوال على السكان، مع الضبط السوريين وقائد قوات المتطوعين إحسان ألماز الذي رأى بوجوب القيام بمبادرات هجومية لضرب معنويات الحي اليهودي من جهة، ورفع معنويات أهالي صفد من جهة أخرى.

وقد أدى هذا النزاع إلى انقسام أهل المدينة بين مؤيد لهذا أو ذاك من الضباط، ولم يكن بد من استبعاد إحسان ألماز خاصة بعد قدوم سرية أخرى من جيش الإنقاذ تحت قيادة الجنرال أديب الشيشكلي (رئيس سوريا فيما بعد في الفترة الواقعة بين 1949 -1955) وتوليه القيادة العليا بنفسه.

في مطلع أيار كان اليهود قد سيطروا على قريتي عين الزيتون وبيريا وقد نجحوا بذلك بكسر الحصار العربي على الحي اليهودي في صفد، وتحويل الوضع إلى وضع معاكس، بحيث أصبحت الأحياء العربية هناك تحت الحصار. وفي ظل هذه الظروف كان أمر سقوط صفد هو مسألة وقت ليس إلا خاصة إزاء الإصرار اليهودي على ذلك وذلك تمهيداً لبسط السيطرة اليهودية على الجليل الأعلى بكامله.

وعن أهمية كسر شوكة أهل صفد من العرب كمقدمة للسيطرة على الجليل الأعلى، قال يجئال ألون، قائد قوات البالماح التي تولت مهاجمة المدينة، في توجيهاته للقوات المهاجمة: إن عرب صفد هم العامل الأقوى في منطقة الجليل الأعلى، وعليه فإن احتلال صفد، سيخفف إلى حد كبير، من صعوبة احتلال أماكن أخرى في الجليل الأعلى وإصبع الجليل. وبغرض تجميع القوات اللازمة لهذه العملية قامت القيادة اليهودية بوضع لواء ألون 11 من قوات جولاني ولوائين من قوات البالماح تحت تصرف يجئال ألون الذي اخذ يتحين الفرص للانقضاض على الأحياء العربية من مدينة صفد واحتلالها.

في اليوم السابع من أيار قام أديب الشيشكلي بوضع خطة لمهاجمة الحي اليهودي وكسر الحصار، حيث بدأت بطارية المدافع التابعة لجيش الإنقاذ والمرابطة برأس التينة ووادي الطواحين بقصف الحي اليهودي تمهيداً لاقتحامه. وعلى أثر ذلك قامت القوات اليهودية بشن هجوم مضاد في الثامن من الشهر ذاته. نجح المدافعون العرب بصده بشق الأنفس. لكن القوات اليهودية أعادت الكرة في هجوم شامل حمل اسم عملية يفتاح بدأ في العاشر من أيار واستمر في الحادي عشر منه. وفي نهايته نجحت القوات اليهودية ببسط سيطرتها على المدينة العربية بعد أن أخلتها سرايا جيش الإنقاذ في اليوم الأول للهجوم ولم يبق في المدينة إلا عشرات من المقاتلين المحليين، وبعض المتطوعين العرب الذين تحصنوا في مبنى القلعة وقاتلوا حتى النفس الأخير.

ودخلت القوات اليهودية صفد بعد أن تم تهجير أهلها تحت وقع القتال المرير الذي دار هناك. استشهد في عملية الدفاع عن صفد قرابة 100 شهيد وجرح العشرات، وقد تم أسر بعض الشباب ووضعهم في المعتقلات حتى تم إطلاق سراحهم بعد التوقيع على اتفاقيات الهدنة.

معركة قاقون وانعكاساتها.. من دفاتر النكبة (10)

من دفاتر النكبة (10):
معركة قاقون وانعكاساتها..
د.مصطفى كبها/ خاص بـ عــ48ـرب
قاقون هي قرية من قرى قضاء طولكرم، تقع إلى الجهة الشمالية الغربية منها وذلك على بعد 8كم. يحدها من القرى الفلسطينية من الشرق قرى يمة وبير السكة، ومن الغرب كانت تحدها قرى زلفة الرمل، منشية عتيل ووادي الحوارث.
قلعة قاقون..


تقع القرية في وسط مرج أطلق عليه سكان المنطقة، في حينه، اسم جزر قاقون. وكما يبدو، كانت التسمية وصفاً لوضع يشكل المرتفع الذي تقع عليه القرية جزيرة في بحر من الأرض المستوية الخضراء التي كانت مزروعة بالبساتين والخضار. وهذا المرج هو جزء من منطقة وادي القباني التي تمتد على طول المنطقة من وادي الحوارث وحتى طولكرم.


بلغت مساحة أراضي قاقون، في فترة الانتداب، حوالي 15 ألف دونم، معظمها أراض مفروزة ملكت منها عائلة أبو هنطش قرابة العشرة آلاف دونم. وقد زرعت هذه الأراضي بالغلال شتاءاً، وبالخضراوات (خاصة القثائيات ) صيفاً. كما وزرعت بعض المساحات بالبساتين من التفاح والزيتون والحمضيات، كان منها بيارة حمضيات لأحمد الشكعة من نابلس بلغت مساحتها 300 دونم، وبيارة أخرى لنافع العنبتاوي من طولكرم كانت مساحتها 140 دونماً، وبيارة ثالثة لمدحت أبو هنطش بلغت مساحتها 150 دونماً.



كانت أراضي قاقون غنية بالمياه والينابيع خاصة المنطقة الواقعة غربي القرية والمعروفة بالحفاير، حيث كانت تسقى هناك قطعان مواشي القرية وقد زرعت حول الينابيع حقول الخضراوات خاصة مقاثي البطيخ الذي اشتهر بكبر حجمه وضرب به المثل بكبر الحجم والحلاوة.


وصل عدد سكان القرية، عشية النكبة، إلى 2000 نسمة، وقد شكلت عائلة أبو هنطش نصف السكان تقريباً. في حين انتمى بقية السكان لعائلة المصاروة وشاهين والجمايلة (زيدان) الذين يعودون بأصلهم إلى قرية دير الغصون المجاورة.


قام السكان في بداية الثلاثينات من القرن الماضي (وبمساعدة من مديرية التربية في حكومة الانتداب ) ببناء مدرسة مكونة من ثلاث غرف وقاعة للمحاضرات. وقد تعلم فيها عام 1947 قرابة 160 طالباً، قام بتدريسهم ثلاثة معلمين هم حيدر سعيد من قرية عنبتا، وصفي حندقجي من طولكرم وعبد الغني عرفة من قاقون
.


قاقون وثورة 1936 -1939: كانت قاقون بحكم موقعها (على السكة الحديدية التي كانت تربط الخضيرة وطولكرم)، وبحكم ثرواتها وخيراتها، أحد المقرات المهمة لقادة الفصائل في المنطقة خاصة عبد الله الأسعد من عتيل ، خالد الحامد من عتيل، وعبد الرحمن زيدان من دير الغصون. وقد انتظم من أبنائها في الثورة 18 ثائراً استشهد ثلاثة منهم (عثمان يوسف زيدان، فؤاد صالح زيدان وإبراهيم النايفة ). أما الباقون من الثوار فكانوا: نمر الحافي، راجح الحاج حسين، محمد سعيد شحادة، راغب الناصر، داود عبد ربه، علي الأعرج، أنيس عبد الحسن، نمر الحامد، محمد الأحمد السلمان، عبد الرؤوف محمد زيدان، محمد أبو حميد زيدان، عبد الفتاح محمد زيدان، عبد الرازق عثمان زيدان، محمد جابر العبد وكامل مصلح.


النكبة والتهجير عام 1948: كانت قاقون نقطة أمامية على خطوط القتال بين القوات اليهودية والقوات العربية المتعاقبة التي حاولت الدفاع عن منطقة طولكرم. بداية كان أولئك سكان محليون ثم قوات غير نظامية من المتطوعين العرب. وبعد ذلك كان جيش الإنقاذ الذي بعث بسريتين للدفاع عن القرية. وفي العشرين من أيار وصلت وحدة من الجيش العراقي إلى قاقون، وتولت الدفاع عنها إلى أن جرت المعركة الفاصلة في الخامس من حزيران 1948.


معركة قاقون، تفاصيلها وانعكاساتها: كانت قاقون نقطة مهمة من نقاط الارتكاز للقوات العربية في منطقة المثلث قبالة المواقع الإسرائيلية، وقد امتدت هذه الجبهة من رأس العين في الجنوب، وحتى مقيبلة وصندلة في الشمال. كانت قاقون مقامة على تل مشرف يسيطر على منطقتي وادي الحوارث ووادي القباني بكاملهما وعلى المستوطنات اليهودية التي جاورتها مثل همعبيل وعين هحوريش اللتين كانت بينهما وبين قاقون مناطق حرام فصلتها عن المناطق تحت السيطرة العربية.


بسبب هذا الموقع الاستراتيجي المهم قررت القيادة الإسرائيلية احتلال قاقون وبكل ثمن ملقية المهمة على عاتق قوات لواء ألكسندروني وقد تقرر أن يكون الهجوم في الليلة الفاصلة بين الرابع والخامس من حزيران 1948.


بلغ عدد القوات العربية المدافعة عن قاقون قرابة مائتي مقاتل من قوات المتطوعين العرب، وسرية مدرعات عراقية قدر عدد رجالها بمائة وخمسين مقاتلاً. كانت هذه القوات مركزة في مبنيين: الأول في الجهة الشمالية الشرقية في منطقة بيارات الحمضيات، وقد كانت مقر قيادة للقوات العراقية، والثاني في الجهة الغربية من القرية حيث كانت المدرسة. كما وأقام رجال المدرعات مرابض مدفعية في ثلاث جهات: الجنوبية والشمالية والغربية، وقد تم ربط هذه المرابض بقناة بعمق مترين تمركز فيها معظم مقاتلي القرية والمتطوعين. ترك المدافعون الجهة الشرقية غير محصنة بشكل يجعل الحركة نحو طولكرم حرة لتلقي النجدات والمؤن أو لنقل الجرحى. مع معرفة القوات المهاجمة للتحصينات في القرية وقع الاختيار على الجهة الشرقية لتكون المحور الأساسي للهجوم وذلك لكونها مفتوحة ولمباغتة المدافعين الذين لم يتوقعوا هجوماً من هذه الجهة.


تم تركيز قرابة 1500 جندي مهاجم مسلحين بالمدرعات والمدافع الثقيلة والرشاشة في محيط القرية ومن ثم تم تطويقها والتحضير لقصفها قبل اقتحامها. في الساعة الحادية عشرة ليلاً اكتشف المدافعون من الجهة الجنوبية التحضيرات للهجوم، وقاموا بالاشتباك مع وحدات الاستكشاف اليهودية الأولى التي جاءت من جهة الجنوب الغربي بقصد التضليل كي يتسنى للقوات الأساسية المهاجمة الالتفاف ومهاجمة القرية من الشرق. بدأ القصف المدفعي المركز تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل واستمر ثلاث ساعات كاملة. وقد تخلله قصف معاكس من قبل المدفعية العراقية الموجود في القرية ومرابض بعيدة أكثر تواجدت في محيط قرية شويكة.


بدأت محاولات الاقتحام مع فجر يوم الخامس من حزيران وقد تم صد الهجوم من جهتي الشرق والجنوب في حين حقق المهاجمون بعض الانجازات من جهة الشمال الشرقي حيث قاموا باحتلال مبنى المطحنة ومبنى القيادة العراقية وقام المدافعون بإيقاف تقدم القوات المهاجمة حيث تحصنوا قي قناة ربطت مبنى القيادة في الشمال مع مركز القرية حيث مبنيي القلعة والخان الأثريين.


في الساعة السادسة والنصف صباحاً قام المدافعون بهجوم معاكس بقصد السيطرة على المباني التي فقدوها في الليل. نجح الهجوم المعاكس بإيقاع خسائر كبيرة في صفوف القوات المهاجمة وصدها نحو500 متر إلى الوراء بحيث كان للنيران المساندة من محيط شويكة وطولكرم الأثر الكبير بإيقاع الإصابات في صفوف القوات المهاجمة لتواجدها في أماكن مكشوفة.


في الساعة الثانية عشرة ظهراً قامت القوات العراقية بقصف القوات المهاجمة وكيبوتس همعبيل الشيء الذي مكن المدافعين من التقاط الأنفاس ونقل الجرحى إلى مستشفى طولكرم. لكن هذا الهدوء لم يدم طويلاً حيث قامت القوات اليهودية بهجوم معاكس وقد زجوا في الهجوم بأربع فرق جديدة ساندتها أربع طائرات قامت بقصف أماكن تركيز المقاومين وإعطاب باصات النجدة القادمة من محيط طولكرم والتي كانت محملة بعشرات الفزاعة من القرى المجاورة. استمر الهجوم المركز حتى السابعة مساءاً، وقد تخللته اشتباكات بالسلاح الأبيض إلى أن نجحت القوات اليهودية بإقصاء آخر المدافعين عن القرية واحتلالها.


احتلت القوات اليهودية قاقون بعد معركة دامية استمرت 17 ساعة ذهب ضحيتها عشرات من أهالي القرية والمتطوعين العرب و23 جندياً عراقياً نظامياً، في حين كانت الخسائر اليهودية 26 قتيلاً وعشرات الجرحى.

صبارين عاصمة بلاد الروحة وقصة احتلالها وتهجير أهلها عام 1948.. من دفاتر النكبة (9)

من دفاتر النكبة (9):
صبارين عاصمة بلاد الروحة
وقصة احتلالها وتهجير أهلها عام 1948..
د.مصطفى كبها/ خاص بـ عــ48ـرب صبًارين (وتلفظ بفتح الصاد وتشديد الباء) قرية فلسطينية، تقع في الأطراف الغربية لبلاد الروحة على بعد 35 كم جنوبي حيفا وعشرة كيلومترات شرقي زمارين (زخرون يعقوب)، وكانت تتبع في فترة الانتداب البريطاني لقضاء حيفا. تحدها من القرى الفلسطينية السنديانة وبريكة من جهة الغرب، قنير وكفر قرع من جهة الجنوب والجنوب الشرقي، أم الشوف وخبيزة من جهة الشرق، وأم الدفوف ودالية الروحة من ناحية الشمال الشرقي. ترتفع صبارين قرابة المئة متر عن مستوى سطح البحر، وقد استمد اسمها، كما يبدو، من نبات الصبّار الذي يتواجد بكثرة في المكان.

كغيرها من قرى بلاد الروحة، صبارين ومحيطها منطقة غنية جداً بالمياه جرت حولها عيون كثيرة أهمها: عين البلد (التي ينبع منها الوادي الجوفي الذي يصب في البحر المتوسط قرب قرية جسر الزرقاء، ويسير بمحاذاة وادي التماسيح) وعين الحجة ووادي الزيوانية وعين أبو حلاوة وعين الفوار وعين البلاطة وعين أبو شقير وغدير الخضيرة الذي يمر منه الوادي القادم ممن جهة خبيزة.

بلغت مساحة أراضي صبارين في فترة الانتداب البريطاني قرابة 33،000 دونم وقد امتدت من السنديانة غرباً وحتى خبيزة شرقاً، ومن أراضي شفية ووادي الملح في الشمال وحتى قنير جنوباً. كانت صبارين أكبر قرى الروحة الاثنتين والثلاثين من حيث عدد السكان حيث بلغ عدد سكانها عشية النكبة قرابة 2000 نسمة. ومن العائلات التي سكنتها نذكر: الحاج محمود، الدعمة، أبو لبدة، حطاب، أبو السمن، عناية، المصاروة، العباهرة، أبو صيام، الحميدي، الخوجة، أبو جاد، أبو سويلم وعبد الهادي.

صبارين في ثورة 1936 -1939: كانت صبارين مركزاً نشطاً من مراكز الثورة في منطقة بلاد الروحة والكرمل. تشكل فيها فصيل ثوري برئاسة إبراهيم الخوجة، وكان يتبع صبري الحمد عصفور ويوسف أبو درة.

بلغ عدد أعضاء هذا الفصيل 13 ثائراً وقد استشهد من أعضائه حسني أحمد حطّاب، في حين استشهد من المدنيين خضر المحمد الذي لم يكن من الثوار، وقد قتلته القوات البريطانية عام 1938 أثناء الطوق الذي ضربته على المنطقة بحثاً عن القائد يوسف أبو درة.

النكبة والتهجير: مع بداية المناوشات في نهاية عام 1947 وبداية عام 1948، بدأت بعض المحاولات لتنظيم مواقع دفاعية في القرية والقرى المجاورة وأرسلت بعض الوفود إلى بيروت ودمشق لإحضار الأسلحة والذخيرة.

في نهاية كانون الثاني 1948 جاء بعض ضباط جيش الإنقاذ إلى صبارين واجتمعوا مع مخاتير صبارين والسنديانة وأم الشوف وبريكة وخبيزة، وطالبوهم بتنظيم مواقع دفاعية وتدريب الشباب على استعمال السلاح. لكن هؤلاء الضباط جوبهوا بمعارضة المخاتير الذين قالوا بأنهم يريدون المحافظة على العلاقات الحسنة التي تربطهم مع المستوطنات اليهودية المجاورة: بنيامينا وزخرون يعقوب. موقف المخاتير هذا لم يشفع لهم ولقراهم يوم الثاني عشر من أيار 1948 حين هاجمت قوات منظمة "إيتسيل" للقرى الخمس وبطبيعة الحال تم تجميع معظم القوات المهاجمة في محيط صبارين.

في شهادة لموشيه نير(نحشون) قائد الهجوم قال: " عند تسلمنا الأوامر بمهاجمة صبارين، أعطيت فرقتي أمراً بالتحرك على شكل كتائب يؤمنها في المقدمة بعض قصاصي الأثر وبعض الخلايا من الجناحين. تقدمنا نحو صبارين وقد أمّن تقدمنا فرقتان وسيارة "جيدي" المدرعة التي كان فيها مدفع رشاش ووحدة مسلحة بالبنادق. "

أظهر العدو مقاومة من جهات مختلفة، وخاصة باتجاه الوحدة التي تقدمت في الأرض المكشوفة، لكنه فوجئ من نيران الأسلحة الرشاشة والبنادق التي وجهت نحوه من الأجنحة والفرق التي سيطرت على التلال المشرفة على القرية.... أثناء التقدم تم تكبيد العدو خسائر فادحة وصلت إلى أكثر من عشرين قتيلاً، وقد أصاب سكان القرية الرعب والهلع وبدأت عملية هروب جماعية، عندها بدأت السيارة المدرعة بمطاردة الهاربين وإمطارهم بالنار الشديدة ". "

وأما معين الدعمة، وهو من سكان صبارين وكان شاهد عيان على ما حصل، فقد وصف الهجوم قائلاً: " دخل اليهود القرية من جهة الجنوب، وبدأوا بإطلاق النار بشكل عشوائي على كل إنسان يرونه. وكنت على البيدر أدرس الشعير، وكان دخولهم وقت الضحى، كانت أمامي صبية تحمل أخاها وقد أصيب الصبي ابن السنتين وبدأ الدم يتدفق من جرحه، كما ورأيت شخصاً عجوزاً كان يحل ضيفاً في البلد أصابته رصاصة فخر صريعاً، كما ورأيت بأم عيني مصرع ثلاثة من بائعي الزيت قتلهم المهاجمون مع حميرهم".

على إثر هذا الهجوم، يضيف معين الدعمة، نزح معظم سكان القرية من الجهة الشرقية التي فتحها المهاجمون عن قصد ليمكنوا السكان من ترك المكان. أما من لم يستطع منهم فعل ذلك من العجزة والمرضى وكبار السن فقد جمعهم المهاجمون في متبن كان تابعاً لسليم عبد القادر وهناك حرقوا عليهم المتبن"."

ويضيف معين الدعمة قائلاً بأنه "عاد بعد الهجوم بأسبوعين لأخذ بعض الأغراض من البيت فوجد المكان مليئاً بالجثث التي تنهشها الكلاب المسعورة". أما المهاجمون فيعترفون بتجميع من تبقى من سكان القرية في "محبس" لبضع الوقت ثم طردهم بعد ذلك في اتجاه أم الفحم.

وقال موشيه نير واصفاً ذلك: " في صبارين أقمنا محبساً أدخلنا فيه كل كبار السن والنساء والأطفال ممن لم يستطيعوا الهرب، والذين تواجدوا في القرية أثناء احتلالها وتفتيشها، وقد وصل عددهم إلى أكثر من مئة. بعد عدة أيام بعثناهم (في الأصل سلمناهم) إلى أم الشوف ومن هناك تم توجيههم، تحت الرقابة، إلى أم الفحم وذلك كي نكفل عدم بقائهم في المنطقة أو محاولة الرجوع إلى قريتهم".

هذه الرواية أخذ بها بيني موريس مضيفاً إليها بعض التفاصيل حول ماهية المحبس وكون جدرانه من الأسلاك الشائكة.

ثمة شهادة أخرى لضابط شارك في العملية هو أبراهام بندوري الذي يقول فيها بأن احتلال صبارين انتهى الساعة الثامنة والنصف صباحاً، وقد تحدث أيضاً عن وقوع 80 قتيلاً من سكان القرية و300 أسير، في حين ذكر بأن إجلاء الأسرى كان في تمام الساعة الثالثة من عصر ذلك اليوم.

إن المتمعن في شهادة الضابطين يرى تناقضاً واضحاً بالنسبة لعدد القتلى (الفارق بين الشهادتين كان ستين قتيلاً) وبالنسبة للأسرى إذا كانوا قد حجزوا بضعة أيام أو بضع ساعات فقط. هذا مع العلم أن موشيه نير كان قاد عملية الهجوم واحتلال القرية في ساعاتها الأولى، وسلمها إلى بندوري في ساعات الظهيرة حيث تمركزت وحدته في القرية لبضعة أيام قبل تسليمها لقوات "الهاجاناه".

وإذا أخذنا بالاعتبار أن موشيه نير لم يمض في القرية إلا بضع ساعات (من بداية المعركة وحتى الثانية عشرة والنصف ظهراً) فإن مصداقية شهادته تبدو عالية في الساعات الأولى للقتال، أما بندوري، الذي تسلمها ظهراً، فإن شهادته تبدو أكثر مصداقية فيما يتعلق بالفترة التالية. والسؤال يبقى هل ضم بندوري في إحصائه للقتلى أولئك الذين تحدث عنهم معين الدعمة؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب ينتج لنا تفسير معقول للفرق في عدد القتلى بين شهادتي نير وبندوري.

يتواجد معظم لاجئي صبارين في مخيمات اللجوء في الضفة الغربية والأردن، وبعضهم في مخيمات اللجوء في سورية ولبنان، وبعضهم في باقي المهاجر. كما ويعد قسم منهم على لاجئي الداخل حيث يقيمون في الفريديس وعارة وعرعرة وبرطعة وأم الفحم ومعاوية.