مقاربة قانونية لجرائم ’’إسرائيل’’ ضد الإنسانية. - 1 -
مقدمة
الاهتمام الدولي بالجرائم ضد الإنسانية قديم قدم القانون الدولي العام وقدم القوانين المنظمة للحرب والسلم، بل يمكن القول إنها موجودة قبل ذلك في الشرائع الدينية السماوية وخصوصاً الإسلام والمسيحية، ويعود هذا الاهتمام لقناعة راسخة عند الشعوب وخصوصاً المتحضرة منها أن الشعوب لن تنعم بالسلام والاستقرار ما دامت هناك دول أو جماعات أو أشخاص يعتبرون أنفسهم فوق القانون بحيث يتصرفون حسب هواهم مرتكبين من الجرائم ما يهدد بالخطر حياة شعب ما أو جماعة ما ـ عرقية أو طائفية ـ إلا أن هذا الاهتمام تعاظم في السنوات الأخيرة عندما ظهرت دول وجماعات ذات نزعات عنصرية وفاشية ضربت بعرض الحائط مبادئ وقواعد القانون الدولي والرأي العام العالمي وأخذت تمارس جرائم بشعة في حق شعوبها أو جماعة داخل حدودها أو ضد شعب آخر أقل منها قوة، الأمر الذي دفع المنتظم الدولي لخلق القانون الدولي الإنساني وتشكيل محاكم جنائية لمتابعة الدول والأشخاص الممارسين لهذه الجرائم من منطلق أن حق الحياة الفردية والجماعية وحق الإنسان بالعيش الكريم هما من الأهداف الرئيسة للمنتظم الدولي.
وجاءت الجرائم الأخيرة التي ارتكبتها إسرائيل في مخيم جنين ومناطق السلطة الفلسطينية عقب اجتياحها يوم 28 فبراير لتؤكد الحاجة الماسة لتفعيل قواعد القانون الدولي ذات الشان بالجرائم ضد الإنسانية وتقديم مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام المحاكم الدولية والوطنية المختصة في هذا المجال.
عندما يجري الحديث عن مساندة الشعب الفلسطيني والتنديد بالجرائم الإسرائيلية أو الدعوة لمحاكمة قادة إسرائيل كمجرمي حرب يعتبر البعض ذلك نوعاً من التحريض والمبالغة والتهويل من جماعات وأشخاص يكنون العداء لإسرائيل لأسباب عرقية أو دينية أو سياسية دون أن يكون لهذه الاتهامات أي سند قانوني أو هو نوع من الانفعالات العاطفية، فيما الواقع يقول إن عدالة القضية الفلسطينية لا تستمد من انحياز قومي أو طائفي بل من مفهوم العدالة الإنسانية والقانونية كما يعرفها القانون الدولي وكما تعارفت عليه الشعوب المتحضرة، نفس الأمر بالنسبة للتنديد بالجرائم الإسرائيلية فهذا التنديد يؤسَس على كون الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني هي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية حسب تعريف القانون الدولي الإنساني لهذه الجرائم. ومن هذا المنطلق سنتناول الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة في إطار مقاربة قانونية معرفين أولا الجرائم ضد الإنسانية قانونياً ثم نرى مدى انطباقها على الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني ثانيا.
أولا : الجرائم ضد الإنسانية من وجهة نظر القانون الدولي العام
أولى القانون الدولي وتحديداً القانون الدولي الإنساني اهتماماً بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والجرائم ضد السلم وجرائم الإبادة ولهذا الغرض وجد القانون الدولي الجنائي الذي هو "مجموعة من القواعد الموضوعية التي تنظم فرض العقوبات على الأفعال التي ترتكبها الدول والأفراد والتي يكون من طبيعتها الإخلال بالنظام العام الدولي وبالانسجام فيما بين الشعوب." (1)بالرجوع إلى قواعد القانون الدولي الإنساني فإن تعريف الجرائم ضد الإنسانية ينصرف إلى قتل المدنيين أو إبادتهم أو تهجيرهم أو أي أعمال غير إنسانية ترتكب ضدهم قبل الحرب أو خلالها وكذلك أفعال الاضطهاد المبنية على أسس سياسية أو عنصرية أو دينية ترتكب تبعا لجريمة ضد السلام أو جريمة حرب أو كانت ذات صلة بهما، وتلتقي الجرائم ضد الإنسانية مع كل من جرائم الحرب التي ترتكب ضد قوانين الحرب سواء كانت اغتيالات أو سوء معاملة للمدنيين في الأراضي المحتلة أو قتل الأسرى أو معاملتهم بشكل قاس أو نهب الأموال العامة أو الخاصة أو تدمير المدن والقرى، ومع الجرائم ضد السلم التي هي التخطيط لحرب عدوانية أو القيام بها وما شابه ذلك.(2) ويدخل في نفس السياق جرائم الإبادة ـ إبادة الجنس البشري ـ فقد حددت المادة الثانية من اتفاقية جرائم الإبادة لسنة 1948 الأفعال التي تعد جريمة إبادة للجنس البشري بأنها:
أ ـ قتل أفراد جماعة وطنية أو إثنية أو عرقية أو دينية.
ب ـ إلحاق ضرر بدني أو عقلي بالغ بأفراد الجماعة.
ت ـ إرغام الجماعة عمداً على العيش في ظل ظروف يقصد بها أن تؤدي كليا أو جزئيا إلى القضاء عليها قضاءً مادياً.
ث ـ فرض تدابير يقصد بها منع التوالد في الجماعة.
ج ـ نقل أطفال الجماعة قسرا إلى جماعة أخري.
ومن الملاحظ أن هذه الجرائم تتداخل مع بعضها البعض ومرتكبوها يعدون مجرمو حرب. فالقانون الدولي الجنائي يسمح لمحاكم دولية مختصة بمحاكمة مرتكبي هذا النوع من الجرائم بل أعطى الحق للقضاء الوطني بمتابعة مجرمي الحرب الذين يرتكبون جرائم خارج الحدود ولكن ضمن شروط. وقد ورد النص لأول مرة على إمكانية محاكمة مجرمي الحرب في معاهدة فرساي 1919 التي تم التوصل إليها بعد الحرب العالمية الأولى حيث نصت المادة 227 على محاكمة إمبراطور ألمانيا "ولهلم الثاني" وكذا أفراد القوات المسلحة الألمانية، إلا أن المحاكمة لم تتم. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية تم التطبيق الفعلي لمحاكمة مجرمي الحرب حيث تم إنشاء محكمتين عسكريتين دوليتين الأولى ـ محكمة نورمبرغ ـ لمحاكمة مجرمي الحرب من دول المحور الأوروبية والثانية ـ محكمة طوكيو ـ لمحاكمة مجرمي الحرب في الشرق الأقصى.
مع أن وجود هاتين المحكمتين كان مؤقتا، فإن القانون الدولي وخصوصاً الإنساني لا يمنع من قيام محكمة جنائية دولية أو أكثر تهتم بهذا النوع من الجرائم، وخصوصاً أن هناك عديد من الاتفاقات الدولية حول حقوق الإنسان لا توجد ضمانة لاحترامها دون وجود جزاءات دولية كاتفاقية لاهاي 1907 واتفاقية جنيف الرابعة 1948 الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب وكذا المواثيق الخاصة بمحاربة العنصرية والتمييز العنصري، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الخ. وهكذا نجد المادة السادسة من اتفاقية إبادة الأجناس لعام 1949 والمادة الخامسة من الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري "آبارتهايد" تنصان على قيام مثل هذه المحاكم. إلا أن تجاوب المنتظم الدولي في هذا السياق لم يحدث إلا في بداية التسعينات مع تفجر حروب أهلية نتج عنها جرائم ضد الإنسانية ، ففي 22 فبراير 1993 اتخذ مجلس الأمن القرار رقم 808 القاضي بإنشاء محكمة جنائية دولية بمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن الجرائم المرتكبة في الجمهورية اليوغسلافية السابقة وقدم مجموعة من مجرمي الحرب وخصوصاً من الصرب إلى هذه المحكمة وعلى رأسهم ميلوزوفتش الذي يقبع في السجن، وفي أول يوليو 1994 صدر عن مجلس الأمن القرار رقم 935 القاضي بتشكيل محكمة جنائية دولية خاصة بمجرمي الحرب في رواندا. وفي عام 1998 وضع النظام الداخلي للمحكمة الجنائية الدولية التي أخذت على عاتقها محاكمة مجرمي الحرب الذين يرتكبون جرائم ضد الإنسانية وقد صادق على نظام المحكمة حتى اليوم 69 دولة، وفي نظر المحكمة فإن مجال اختصاصها هو محاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية سواء ارتكبت هذه الجرائم في صراعات داخلية أو دولية وسواء ارتكبت في حالة الحرب أو حالة السلم.(3) وحسب المادة الخامسة من الاتفاقية فإن الأفعال التي تعد جرائم ضد الإنسانية ويجوز محاكمة مرتكبيها كمجرمي حرب هي: القتل، التصفية، الاسترقاق، الإبعاد، الاعتقال أو السجن الذي يتم خرقاً لقواعد القانون الدولي أو خرقا للمبادئ القانونية الأساسية، التعذيب، الاغتصاب أو المعاملات الجنسية المشينة أو الإكراه على ممارسة البغاء، الاضطهاد لأسباب سياسية ،عنصرية، وطنية، إثنية، ثقافية أو دينية والذي يصيب مجموعة أو جماعة معينة، الاختفاء القسري، الأفعال الأخرى غير الإنسانية والتي تسبب معاناة كبيرة أو أضرارا خطيرة بالجسم أو الصحة أو العقل.
وكان التطور الملفت للانتباه في هذا المجال هو صدور قانون في بلجيكا عام 1993 يسمح بمحاكمة كل مشبوه بارتكاب جرائم حرب سواء ارتكبت في بلجيكا أو خارجها حتى لو لم يكن بلجيكيا، وبموجب هذا القانون جرت محاكمة أربعة من كبار العسكريين السابقين في رواندا، ورفعت دعوى ضد رئيس ساحل العاج والأهم من ذلك رفعت دعوى ضد شارون من طرف الناجين من مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا وهي المجزرة التي جرت في سبتمبر 1982 أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان على يد قوات الكتائب المسيحية بإيعاز من شارون الذي كان وزيراً للدفاع آنذاك، وقد خلفت المجزرة حوالي ألفي قتيل من المدنيين، ومع أن القضية رفضت يوم 26 –6-2002 من طرف محكمة الاستئناف بحجة أن قانون المحكمة لا يجيز محاكمة شخص لارتكابه جرائم ضد الإنسانية إلا إذا كان هذا الشخص وقت رفع الدعوى متواجداً على الأراضي البلجيكية، فإن هذا لا يسقط التهمة عن شارون الذي سبق أن عزل من منصبة كوزير للدفاع عام 1993 تحت ضغوط دولية وداخلية لمسئوليته غير المباشرة عن الجريمة، وقد صرح محامي ضحايا المجزرة البلجيكي لوك والين أنه سيرفع القضية إلى المحكمة العليا. وهكذا كان لا بد للجرائم البشعة ضد الإنسانية التي ارتكبت في السنوات الأخيرة سواء في رواندا والكونغو أو في الاتحاد اليوغسلافي ـ سابقا ـ أو في الشيشان أو في الأراضي العربية المحتلة أن تثير حفيظة الدول المتحضرة وكل محبي السلام في العالم، الأمر الذي أدى إلى تفعيل القانون الدولي الإنساني وإقرار حق التدخل الدولي لأسباب إنسانية وتكثيف نشاط منظمات حقوق الإنسان لفضح الممارسات التي تعتبر جرائم ضد الإنسانية، وكان آخر إنجاز في هذا السياق هو افتتاح محكمة الجنايات الدولية في لاهاي في فاتح يوليو 2002. ومع ذلك لا بد من الإشارة إلى أن هذا التوجه العالمي لحماية حقوق الإنسان شابته شائبة في ظل الهيمنة التي تمارسها الولايات المتحدة على النظام الدولي، بحيث أصبح التدخل لأسباب إنسانية أو فتح بعض ملفات خرق حقوق الإنسان يخضعان لأولويات تحددها اعتبارات سياسية ومصلحية للدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة، والوضع في الأراضي المحتلة نموذجا على ذلك.
يتبع