رجل قام من بين الأحياء..
قصة قصيرة للقاص والناقد الفلسطيني محمود شقير
قصة قصيرة للقاص والناقد الفلسطيني محمود شقير
جاء من آخر البرية، كان دمه يتدفق من خاصرته تاركاً خلفه أثراً مخضباً، رآه الحصادون فاعتراهم فضول وتساءلوا من هذا الذي يصعد في البرية ودمه بالتراب يمتزج، ثم اقترب منهم فاطمأنوا إليه.
قال
مخاطباً إياهم: أنا أعرف أنكم محزونون، حدقوا في دمه النازف وقالوا: جئنا
نحصد فما وجدنا سوى زرع يأكله الجفاف، وسنابلنا كما ترى ليس فيها قمح، قال:
لا تحزنوا، الآن يكون لكم قمح وحصاد. أخذ دمه يتناثر في لحقول مثل نافورة،
فتألقت السنابل في الحقول وأخذت تتماوج بلون كالذهب، استبشر الحصادون
خيراً وانهمكوا يحصدون بمناجل متعطشة.
مرّ وقت، وسار الحصادون خلفه، كانت دماؤه تسيل في البرية، ورآه الرعاة والحطّابون والأطفال، فتجمعوا من حوله، وأصبح فوق الطريق جمع كبير، وحينما اقترب من بيت وارف الظل مزين بالمرمر والحجارة الكريمة، أطل صاحب البيت غاضباً وصاح: أنت يا من تنثر دمك في الطرقات، ابتعد عن بيتي، فإن دماءك قد تلطخه. والتفت نحو الجميع وأضاف: أنظروا، إنها دماء مثل دماء الميتة! ابتعدْ فوراً! ماذا أقول لمن هم في مثل مكانتي إذا جاءوا وسألوا ما الذي جرى لجدران بيتك الجميلة، ماذا أقول يا من تسيل دماؤه السوداء في الطرقات! أجابه بهدوء وثقة: لا تخف أيها الرجل فلن أطيل البقاء هنا، ولن يحدث لجدران بيتك ما يشين. قال صاحب البيت في حدة وصراخ: هكذا يفعل الدهماء دائماً، حينما يقتربون من بيتي يبدأون بالكلمات المنمقة ثم لا يلبثون أن يطيلوا البقاء فيزكموا أنفي بروائحهم الكريهة، وأنت يا من تسيل دماؤه في الطرقات، من يضمن لي ألا تجف دماؤك وتأخذ الروائح العفنة في الانتشار؟
كان الجمع يحدق مبهوتاً، ثم تحرك الأطفال مثل العصافير، وأحاطوا به من كل الجهات ريثما تجاوز جدران البيت المزين بالمرمر، لكنه قبل أن يبتعد كان سهم قد استقر في خاصرته فازداد دمه انبثاقاً.
وقال: يا أحبائي لا تحزنوا، فكلما نزفت دماً نبت من بطن الأرض خير وبركة. وسار إلى ميدان فسيح وخلفه جمع كبير، توقف في قلب الميدان الذي كانت جنباته غاصة بمنكسري القلوب، والشحاذين والمتشردين والعميان. قال: أعطيكم خبزاً وزيتوناً وبرتقالاَ، فقط دعوا دمي يجلل وجه البرية.
انتظر المتجمهرون لحظات، وأصبح في أيديهم خبز وزيتون وبرتقال، فطعموا وانشرحت قلوبهم ثم هللوا وانضموا إلى الجمع الذي أخذ يكبر ويكبر. نهض وقال: يا أحبائي لا تحزنوا فأنا ذاهب، قالوا أين تذهب وتتركنا، من أين لنا خير وبركة؟ قال: أنا ذاهب إلى امرأة معلقة من رموش عينيها عند ذراع البحر، وهي تنتظر عودتي. قالوا: ابق عندنا بعض الوقت فنحن لم نكد نفرح بقدومك حتى أعلنت علينا رحيلك! قال: حبيبتى تنتظر وقد طالت غيبتي وطال ترحلي.
وحينما كان يهم بالنهوض، جاءه رجل موفد من لدن صاحب البيت المزين بالمرمر، وأخبره بأن عليه أن يغادر المكان فوراً. وبعد لحظة استقر سهم في خاصرته الأخرى، وقال: يا أحبائي لا تحزنوا فثمة خير عميم ينتظر الناس، وهذه الدماء لا تذهب هدراً. سار ومن خلفه جمع كبير.
اقتربت منه عجوز واهنة القوى وقالت: يا ولدي كوخي صغير، ولكنه يتسع لكل الطيبين وفيه يمكنك الاختباء. قال: يا أحبائي جسدي مكشوف في السهول والوديان والجبال، في القرى والمخيمات والمدن، ثم إني ما جئت لكي أختبئ.
سار ومن خلفه الجمع، ورأى امرأة مطرقة تضع يدها على خدها، وسأل: ما بال هذه المرأة تبدو حزينة؟ قالوا له: طلقها زوجها لأنها عاقر، ولم تقدم للنهر مثلما قدمت النساء، قال: أنا أفهم حزن المرأة الوحيدة. اقترب منها ولوّح بذراعه النازف دماً، وقال: اقتربي أيتها المليحة بين النساء، اقتربي ولا تخشي شيئاً. بدأ التورد يسري في وجنتي المرأة، نهضت ودبت فيها الحيوية، ثم تقدمت مثل المهرة، وقال: انثري شعرك أيتها المليحة بين النساء، نثرت شعرها وقال: بدمائي تغسلين هذا الشعر ويكون لك أولاد بعدد أوراق الشجر. تلوّت المرأة والدماء تقطر من ذؤابات شعرها وقال: انزعي ثوبك عن صدرك أيتها المليحة بين النساء. كانت المرأة تفور مثل البركان. شقت ثوبها، فبان نهداها الأبيضان مثل حمامتين مقطوعتي الرأسين، وحينما بالدم تعفر نهداها، استلقت على الأرض وراحت تتلوى في حبور.
دماء غزيرة سالت على وجه البرية، بالدم تحنى بطنها، تخضّب وركاها اللذان من بلور، وقال: من دمي يغتذي جسدك أيتها المليحة بين النساء ويكون لك أولاد كثيرون. سار وتبعه الجمع، وكانت المرأة تسير من خلفه وهي تحس بالخصب يجتاح جسدها. كانت دماؤه تتجمع فوق البرية في قنوات تصب في النهر العريض، التفت إلى المرأة وقال: بعد وقت يكون لك أيتها المليحة بين النساء أولاد، وتقدمين لهذا النهر مثلما قدمت النساء الولودات، وحينما همّ بالخوض في نهر الدم ارتفعت أصوات هادرة: إلى أين تذهب وتتركنا؟
قال: أنا لا أترككم. دمي في عروقكم، وقد قلت لكم حبيبتي تنتظر عند ذراع البحر. سار بخطوات رزينة، وفي التو انهالت على جسده سهام كثيرة، وتدفقت من ثناياه نوافير دماء قانية. مضى يخوض في النهر وغاص حتى ركبتيه في الدم، وظل الناس عند الحافة مبهورين ثم صاح بعضهم: سوف نلحق بك، وسمعوه يقول: يا أحبائي.. ثم لم يميزوا بقيه كلماته، لكنهم تلمسوا لأول مرة رنة الحزن في صوته. كان الدم الغزير يصطفق.
ظل يسير، ولاحظ بعض الناس أنه يظلع من أثر الجراح، لكنه واصل السير،ثم غاب خلف الجبال البعيدة التي تطل على البحر.
من كتاب "خبز الآخرين وقصص أخرى"/ الطبعة الثالثة
دار القدس