من الذاكرة الفلسطينية الحاجّة سعاد سليمان: هناك من باع فراش بيته ليشتري قطعة سلاح. لو ملأوا الدّار ذهباً مقابل ذرة من تراب حيفا؛ ما قبلت
أحمد الباش/دمشق
"حيفا، تلك المدينة الفاتحة ذراعيها لكل الغرباء، كانت تقف شامخة أمام أمواج البحر العاتية، تصدها عندما تشعر بالخطر، وتحتضنها عندما كانت تأمن لها". بهذه الكلمات افتتحنا لقاءنا بـ"الحاجة سعاد سليمان، المقيمة مؤقتاً في مخيم العائدين في حمص- سورية" (كما يحلو لها أن تعرف نفسها)، مؤكدة أن الإقامة مؤقتة.
البدايات
تقول الحاجة سعاد: سكنّا هناك في أحد أوديتها التاريخية والجميلة (وادي روشميا). كنا نعيش الأمن والأمان، وكنا نعرف أن للمرأة دوراً واحداً هو رعاية الزوج والأولاد، والقيام بخدمتهم وراحتهم؛ لكن الغرباء مثلما قتلوا طفولة الأطفال، قتلوا أنوثة النساء فينا؛ امتشقنا السلاح، وقمنا بالحراسة مثل الرجال في الليالي الظلماء، ودافعنا عن بيوتنا وعن أرضنا وعن عرضنا.
وتتابع: جاء إليها الغرباء من أوروبا وأمريكا. أتوا بأولاد وبنات بلا آباء ولا أمهات، قالوا لهم: إن آباءكم وأمهاتكم قتلهم العرب الفلسطينيون المسلمون؛ فربّوهم على الحقد والكراهية والعنصرية؛ وقد كانوا هم من قتل آباءهم وأمهاتهم. كل ذلك لكي يجلبوهم إلى أرض "العسل واللبن" (كما سمّوها).
وتقول: إني ما زلت أتذكرهم، حين كانوا يجمعونهم ذكوراً وإناثاً في غرفة واحدة، ويقتطعون لهم من أراضينا ويعطونهم إياها، على أنها أرض آبائهم وأجدادهم. كنت في الثانية عشرة، أو أكثر بقليل، حين وقعت مجزرتا: "الحسبة" (سوق الخضار)، و"حواسه" في حيفا.
المجازر
المشهد الأول كان في وسط مدينة حيفا: في أحد صباحاتها الجميلة؛ فرض الإنكليز واليهود حظر التجوال على سكانها لمدة ساعة فقط، امتدت من الساعة السادسة إلى الساعة السابعة صباحاً. أعطيت التعليمات بإطلاق النار على كل من يفتح باب بيته، أو حتى شباكه ليرى ما يُعَدّ لهذه المدينة الآمنة؛ كنا نسمع في الشوارع هدير الدبابات وسيارات نقل الجنود، وتمتمات لألسن غريبة. وبعد ساعة رُفع حظر التجوال، وأخذ الناس يتوافدون بكثرة على الأسواق. دخل أبناء حيفا الحسبة، ليشتروا حاجاتهم اليومية.
وعند السابعة والربع؛ أي بعد ربع ساعة فقط؛ تحول السوق ومن فيه إلى ركام وأشلاء ونهر من الدم يسيل في الشوارع؛ تفجير لم يسبقه تفجير بهذا الحجم في وسط المدينة. براميل مُلئت بالمتفجرات؛ الرؤوس والأيدي والأرجل تطايرت في كل مكان! الأحشاء تراها معلقة على أسلاك الكهرباء وتلتصق بالجدران؛ ومن بقي حياً، وقف مذهولاً أمام ما حدث، وأخذ يجمع الأشلاء وهو يصرخ.
المشهد الثاني كان في حواسة (قرب حيفا)؛ حيث تسكن بعض العائلات الفلسطينية في بيوت من التنك، وكان بعض ملاك الأراضي في تلك المنطقة، يبنون البيوت البسيطة ويؤجرونها للعمال الذين جاؤوا من القرى والبلدات البعيدة عن حيفا: في ليلة ظلماء، تسلل بعض اليهود من عصابات "الهاغاناة" إلى تلك المنطقة، وأخذوا يذبحون تلك العائلات المسالمة بالسكاكين والسلاح الأبيض، فذهب ضحية ذلك العشرات.
النكبة
وبدأت أحداث 1948م، وبدأت معها المشاهد الفظيعة تتوالى. وكان العمال يهوداً وعرباً يشتغلون في الميناء، وكان الإنكليز يوقفون الباصات في الخارج، ويفصلون الركّاب اليهود، ويركبونهم في الباصات؛ بينما يركبون الركاب العرب في الشاحنات.
وهناك؛ عند الميناء، كانت تحدث العديد من الحوادث بين أولئك العمال، حيث تبدأ بالحجارة، وتنتهي بالسلاح الأبيض والفؤوس وأدوات العمل.
قسمت حيفا في تلك الآونة إلى قسمين: أعطيت المناطق المرتفعة لليهود؛ والمناطق المنخفضة للعرب. وفي هذه المرتفعات انتشر القناصة اليهود، وبدأوا عمليات القتل والتنكيل بأبناء المدينة.
وأصبحت بعض الشوارع من الصعب المرور بها، وخاصة في الليل. وأتذكر حادثتين جرتا في تلك الأيام العصيبة:
الأولى: جرت في حارة "الغزازوة" في "وادي روشميا"، حيث جلس ثلاثة قناصين يهود، وأخذوا يطلقون النار على كل من يمر في تلك المنطقة. وبينما كان يمر بائع كاز وقاعد عم بنادي على الطنبر: كاز... كاز، وما شفنا غير أطلقوا عليه النار بالقناصة، يا حرام! إلا هو واقع على الأرض، والنساء صاروا بدهم يطولوه. وكان كل واحد يريد أن يطوله يطلقون عليه الرصاص. بعد ذلك قامت امرأة قوية رجالية وزحفت زحف على الأرض على بطنها، وشدته من رجليه وسحبته، وأدخلته بين البيوت، وما بعرف شو صار فيه بعدين.
أما الحادثة الثانية: فكان في واحد حوراني حامل كيس الطحين، ونحنا وراء بيت عمي؛ ورايح ينقلوا من مكان لآخر، وقام القناصة أطلقوا الرصاص عليه، ولا هيّة جاي في عينه، يا حرام! وما بعرف مات ولا طاب. المهم: أسعفوه إلى المستشفى.
في الطيرة
بعد تلك الحوادث المتتابعة، تركنا حيفا وذهبنا إلى قرية أبو كايد (زوجي) (قرية الطيرة) المجاورة، وقعدنا فيها حوالي الشهرين أو الثلاثة؛ وصاروا اليهود ينزلوا ويتسللوا علينا، ويرموا قنابل ويحرقوا ويفجروا البيوت المتطرفة في البلد؛ وصرنا ننام على شط البحر في بعض الأيام؛ لأنه كان هناك بعض المعسكرات للجيش الإنكليزي.
كان زوجي يعمل سائق سيارة، ينقل الخضار والفواكه من القرى إلى المدن الفلسطينية. وفي الطيرة؛ وجدنا الأهالي يعدون العدة للتصدي لليهود الصهاينة.
وكنت أنا منذ صغري (عفريتة)، قوية القلب، جريئة، لا أخاف؛ لذلك، أخذت أساعد أبو كايد في تهريب السلاح للقرية. وكنت ألبس لباس أهل المدن، وأخبئ السلاح، مثل: الرشاش أبو ستة وثلاثين طلقة، تحت ملابسي (تحت الكبوت)؛ فلا يفتشونني، ويكتفون بتفتيش أبو كايد (زوجي). كان إقبال الناس على السلاح كبيراً، "وأذكر والله العظيم إنو في ناس باعت فراش بيتها؛ حتى تشتري قطعة سلاح".
تهريب السلاح والتدرب عليه:
كان بعض الشبان يذهبون لشراء السلاح من مناطق بعيدة عبر الجبال مشياً على الأقدام، وكان أبو كايد يعلمني على السلاح كلما كان يأتي من عمله؛ وعندما يسافر بسيارته عدة أيام؛ كنت أتدرب وحدي، فأضع تنكة بين الأحجار، وأرسم عليها دائرة ونقطة في وسطها، وأطلق عليها من المسدس الذي كنت أحمله. وكنت أعرف أضرب على البارودة، وعلى الرشاش كمان، وكنت أعرف أستخدمه منيح؛ بس كانت البارودة تهدلي كتفي عندما أطلق الفشكة منها.
أعطاني أبو كايد المسدس مع 15 فشكة، وأعطاني معه مخزنين رصاص؛ وكنت أيامها أطلع حرس في الليل، وأقول لأبو كايد: "روح نام، وأنا بوقف حرس محلك؛ من شان تروح على شغلك الصبح". وكان يوصيني عندما يذهب الصبح ويقول لي: "ضعي المسدس يا مرة تحت المخدة، وكوني حذرة؛ لأن اليهود يأتوا في الليل مثل الحرامية، ويتسللوا للبيوت ويقتلوا من فيها".
لقد جعلتنا تلك الأوضاع في بلادنا كالرجال، وقد شجعنا ذلك حين كنا نرى اليهوديات في حيفا يجلسن وراء الرشاشات، مثل الرجال وندرك أننا لسنا أقل منهن شجاعة.
وفي حادثة لا زلت أذكرها حول تهريب السلاح: حصلت مع شخص اسمه "سرور" من حيفا ، وكان مرة مهرب السلاح مع الخضار مع سيارتين أخريات؛ وكان السلاح جاي من سورية وقتها، عن طريق عكا- حيفا؛ وكان هناك عملاء؛ ففسدوا عليه، فأوقف اليهود والإنكليز السيارات وفجروهم بحمولتهم.
وطلعنا من البلاد بعد ما قصفوا الطيرة بالطيران، والمدفعية، ومن البحر بالزوارق، وتشردنا وذقنا مرارة فراق الوطن، لحتى وصلنا على هالبلاد في هالمخيم.
في انتظار العودة
واليوم، بعد ثلاثة وستين سنة، ما زلت أنتظر أي لحظة لأرجع فيها إلى مدينتي، وإلى قرية زوجي وأولادي وأحفادي، ومستعدة أن أنصب شادر وأقعد هناك. أريد أن أشم رائحة التراب يلّي ريحته عطر، ويلّي ريحته بتشرح القلب، ويلّي ارتوى بدم أولاد شعبنا؛ هذا التراب اللي لما كنا نمسكوا نلاقيه رطب، وإن كان بعز الصيف؛ الندى يلي كان ينزل من الزرع في الصباح يعبي أواعينا (ثيابنا) ميّ. بلادنا يا يمّا حلوة ما في زيّها بلاد.
وأنا بقول للي بقولوا: إنو ارجعوا على الضفة أو غزة أو توطنوا بالبلاد اللي انتو فيها، أنا بقُلّْهم: بلدي حيفا وبلد زوجي وولادي الطيرة، وأنا بدي أرجع عليها، مو على غيرها.
وأنا بسأل: كيف المسلمين لليوم ساكتة ولا بتتحرك؛ واليهود عم يهدموا مقدساتنا ويمحو تاريخنا؟ أنا اليوم لما بتذكّر بلادنا وحياتنا فيها بَصْفُنْ، ولما بشوفها على التلفزيون ببكي. والله لو ملأوا الدار هذه كلها مال وذهب مقابل ذرة من تراب حيفا ما ببيعها؛ بلادنا غالية علينا.
ومثل ما إجت ساعة وقالوا لنا: امشوا اطلعوا؛ الله -سبحانه وتعالى- قادر في نهار وليلة يقول لنا: ارجعوا لفلسطين لبلادكو، والله قادر على كل شي.
المصدر: مجلة العودة العدد السابع والأربعون - السنة الرابعة آب (أغسطس) 2011 م
أحمد الباش/دمشق
"حيفا، تلك المدينة الفاتحة ذراعيها لكل الغرباء، كانت تقف شامخة أمام أمواج البحر العاتية، تصدها عندما تشعر بالخطر، وتحتضنها عندما كانت تأمن لها". بهذه الكلمات افتتحنا لقاءنا بـ"الحاجة سعاد سليمان، المقيمة مؤقتاً في مخيم العائدين في حمص- سورية" (كما يحلو لها أن تعرف نفسها)، مؤكدة أن الإقامة مؤقتة.
البدايات
تقول الحاجة سعاد: سكنّا هناك في أحد أوديتها التاريخية والجميلة (وادي روشميا). كنا نعيش الأمن والأمان، وكنا نعرف أن للمرأة دوراً واحداً هو رعاية الزوج والأولاد، والقيام بخدمتهم وراحتهم؛ لكن الغرباء مثلما قتلوا طفولة الأطفال، قتلوا أنوثة النساء فينا؛ امتشقنا السلاح، وقمنا بالحراسة مثل الرجال في الليالي الظلماء، ودافعنا عن بيوتنا وعن أرضنا وعن عرضنا.
وتتابع: جاء إليها الغرباء من أوروبا وأمريكا. أتوا بأولاد وبنات بلا آباء ولا أمهات، قالوا لهم: إن آباءكم وأمهاتكم قتلهم العرب الفلسطينيون المسلمون؛ فربّوهم على الحقد والكراهية والعنصرية؛ وقد كانوا هم من قتل آباءهم وأمهاتهم. كل ذلك لكي يجلبوهم إلى أرض "العسل واللبن" (كما سمّوها).
وتقول: إني ما زلت أتذكرهم، حين كانوا يجمعونهم ذكوراً وإناثاً في غرفة واحدة، ويقتطعون لهم من أراضينا ويعطونهم إياها، على أنها أرض آبائهم وأجدادهم. كنت في الثانية عشرة، أو أكثر بقليل، حين وقعت مجزرتا: "الحسبة" (سوق الخضار)، و"حواسه" في حيفا.
المجازر
المشهد الأول كان في وسط مدينة حيفا: في أحد صباحاتها الجميلة؛ فرض الإنكليز واليهود حظر التجوال على سكانها لمدة ساعة فقط، امتدت من الساعة السادسة إلى الساعة السابعة صباحاً. أعطيت التعليمات بإطلاق النار على كل من يفتح باب بيته، أو حتى شباكه ليرى ما يُعَدّ لهذه المدينة الآمنة؛ كنا نسمع في الشوارع هدير الدبابات وسيارات نقل الجنود، وتمتمات لألسن غريبة. وبعد ساعة رُفع حظر التجوال، وأخذ الناس يتوافدون بكثرة على الأسواق. دخل أبناء حيفا الحسبة، ليشتروا حاجاتهم اليومية.
وعند السابعة والربع؛ أي بعد ربع ساعة فقط؛ تحول السوق ومن فيه إلى ركام وأشلاء ونهر من الدم يسيل في الشوارع؛ تفجير لم يسبقه تفجير بهذا الحجم في وسط المدينة. براميل مُلئت بالمتفجرات؛ الرؤوس والأيدي والأرجل تطايرت في كل مكان! الأحشاء تراها معلقة على أسلاك الكهرباء وتلتصق بالجدران؛ ومن بقي حياً، وقف مذهولاً أمام ما حدث، وأخذ يجمع الأشلاء وهو يصرخ.
المشهد الثاني كان في حواسة (قرب حيفا)؛ حيث تسكن بعض العائلات الفلسطينية في بيوت من التنك، وكان بعض ملاك الأراضي في تلك المنطقة، يبنون البيوت البسيطة ويؤجرونها للعمال الذين جاؤوا من القرى والبلدات البعيدة عن حيفا: في ليلة ظلماء، تسلل بعض اليهود من عصابات "الهاغاناة" إلى تلك المنطقة، وأخذوا يذبحون تلك العائلات المسالمة بالسكاكين والسلاح الأبيض، فذهب ضحية ذلك العشرات.
النكبة
وبدأت أحداث 1948م، وبدأت معها المشاهد الفظيعة تتوالى. وكان العمال يهوداً وعرباً يشتغلون في الميناء، وكان الإنكليز يوقفون الباصات في الخارج، ويفصلون الركّاب اليهود، ويركبونهم في الباصات؛ بينما يركبون الركاب العرب في الشاحنات.
وهناك؛ عند الميناء، كانت تحدث العديد من الحوادث بين أولئك العمال، حيث تبدأ بالحجارة، وتنتهي بالسلاح الأبيض والفؤوس وأدوات العمل.
قسمت حيفا في تلك الآونة إلى قسمين: أعطيت المناطق المرتفعة لليهود؛ والمناطق المنخفضة للعرب. وفي هذه المرتفعات انتشر القناصة اليهود، وبدأوا عمليات القتل والتنكيل بأبناء المدينة.
وأصبحت بعض الشوارع من الصعب المرور بها، وخاصة في الليل. وأتذكر حادثتين جرتا في تلك الأيام العصيبة:
الأولى: جرت في حارة "الغزازوة" في "وادي روشميا"، حيث جلس ثلاثة قناصين يهود، وأخذوا يطلقون النار على كل من يمر في تلك المنطقة. وبينما كان يمر بائع كاز وقاعد عم بنادي على الطنبر: كاز... كاز، وما شفنا غير أطلقوا عليه النار بالقناصة، يا حرام! إلا هو واقع على الأرض، والنساء صاروا بدهم يطولوه. وكان كل واحد يريد أن يطوله يطلقون عليه الرصاص. بعد ذلك قامت امرأة قوية رجالية وزحفت زحف على الأرض على بطنها، وشدته من رجليه وسحبته، وأدخلته بين البيوت، وما بعرف شو صار فيه بعدين.
أما الحادثة الثانية: فكان في واحد حوراني حامل كيس الطحين، ونحنا وراء بيت عمي؛ ورايح ينقلوا من مكان لآخر، وقام القناصة أطلقوا الرصاص عليه، ولا هيّة جاي في عينه، يا حرام! وما بعرف مات ولا طاب. المهم: أسعفوه إلى المستشفى.
في الطيرة
بعد تلك الحوادث المتتابعة، تركنا حيفا وذهبنا إلى قرية أبو كايد (زوجي) (قرية الطيرة) المجاورة، وقعدنا فيها حوالي الشهرين أو الثلاثة؛ وصاروا اليهود ينزلوا ويتسللوا علينا، ويرموا قنابل ويحرقوا ويفجروا البيوت المتطرفة في البلد؛ وصرنا ننام على شط البحر في بعض الأيام؛ لأنه كان هناك بعض المعسكرات للجيش الإنكليزي.
كان زوجي يعمل سائق سيارة، ينقل الخضار والفواكه من القرى إلى المدن الفلسطينية. وفي الطيرة؛ وجدنا الأهالي يعدون العدة للتصدي لليهود الصهاينة.
وكنت أنا منذ صغري (عفريتة)، قوية القلب، جريئة، لا أخاف؛ لذلك، أخذت أساعد أبو كايد في تهريب السلاح للقرية. وكنت ألبس لباس أهل المدن، وأخبئ السلاح، مثل: الرشاش أبو ستة وثلاثين طلقة، تحت ملابسي (تحت الكبوت)؛ فلا يفتشونني، ويكتفون بتفتيش أبو كايد (زوجي). كان إقبال الناس على السلاح كبيراً، "وأذكر والله العظيم إنو في ناس باعت فراش بيتها؛ حتى تشتري قطعة سلاح".
تهريب السلاح والتدرب عليه:
كان بعض الشبان يذهبون لشراء السلاح من مناطق بعيدة عبر الجبال مشياً على الأقدام، وكان أبو كايد يعلمني على السلاح كلما كان يأتي من عمله؛ وعندما يسافر بسيارته عدة أيام؛ كنت أتدرب وحدي، فأضع تنكة بين الأحجار، وأرسم عليها دائرة ونقطة في وسطها، وأطلق عليها من المسدس الذي كنت أحمله. وكنت أعرف أضرب على البارودة، وعلى الرشاش كمان، وكنت أعرف أستخدمه منيح؛ بس كانت البارودة تهدلي كتفي عندما أطلق الفشكة منها.
أعطاني أبو كايد المسدس مع 15 فشكة، وأعطاني معه مخزنين رصاص؛ وكنت أيامها أطلع حرس في الليل، وأقول لأبو كايد: "روح نام، وأنا بوقف حرس محلك؛ من شان تروح على شغلك الصبح". وكان يوصيني عندما يذهب الصبح ويقول لي: "ضعي المسدس يا مرة تحت المخدة، وكوني حذرة؛ لأن اليهود يأتوا في الليل مثل الحرامية، ويتسللوا للبيوت ويقتلوا من فيها".
لقد جعلتنا تلك الأوضاع في بلادنا كالرجال، وقد شجعنا ذلك حين كنا نرى اليهوديات في حيفا يجلسن وراء الرشاشات، مثل الرجال وندرك أننا لسنا أقل منهن شجاعة.
وفي حادثة لا زلت أذكرها حول تهريب السلاح: حصلت مع شخص اسمه "سرور" من حيفا ، وكان مرة مهرب السلاح مع الخضار مع سيارتين أخريات؛ وكان السلاح جاي من سورية وقتها، عن طريق عكا- حيفا؛ وكان هناك عملاء؛ ففسدوا عليه، فأوقف اليهود والإنكليز السيارات وفجروهم بحمولتهم.
وطلعنا من البلاد بعد ما قصفوا الطيرة بالطيران، والمدفعية، ومن البحر بالزوارق، وتشردنا وذقنا مرارة فراق الوطن، لحتى وصلنا على هالبلاد في هالمخيم.
في انتظار العودة
واليوم، بعد ثلاثة وستين سنة، ما زلت أنتظر أي لحظة لأرجع فيها إلى مدينتي، وإلى قرية زوجي وأولادي وأحفادي، ومستعدة أن أنصب شادر وأقعد هناك. أريد أن أشم رائحة التراب يلّي ريحته عطر، ويلّي ريحته بتشرح القلب، ويلّي ارتوى بدم أولاد شعبنا؛ هذا التراب اللي لما كنا نمسكوا نلاقيه رطب، وإن كان بعز الصيف؛ الندى يلي كان ينزل من الزرع في الصباح يعبي أواعينا (ثيابنا) ميّ. بلادنا يا يمّا حلوة ما في زيّها بلاد.
وأنا بقول للي بقولوا: إنو ارجعوا على الضفة أو غزة أو توطنوا بالبلاد اللي انتو فيها، أنا بقُلّْهم: بلدي حيفا وبلد زوجي وولادي الطيرة، وأنا بدي أرجع عليها، مو على غيرها.
وأنا بسأل: كيف المسلمين لليوم ساكتة ولا بتتحرك؛ واليهود عم يهدموا مقدساتنا ويمحو تاريخنا؟ أنا اليوم لما بتذكّر بلادنا وحياتنا فيها بَصْفُنْ، ولما بشوفها على التلفزيون ببكي. والله لو ملأوا الدار هذه كلها مال وذهب مقابل ذرة من تراب حيفا ما ببيعها؛ بلادنا غالية علينا.
ومثل ما إجت ساعة وقالوا لنا: امشوا اطلعوا؛ الله -سبحانه وتعالى- قادر في نهار وليلة يقول لنا: ارجعوا لفلسطين لبلادكو، والله قادر على كل شي.
المصدر: مجلة العودة العدد السابع والأربعون - السنة الرابعة آب (أغسطس) 2011 م