بحث هذه المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات رسالة ماجستير / دور بريطانيا في بلورة المشروع الصهيوني 1656-1917 - 3 -. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات رسالة ماجستير / دور بريطانيا في بلورة المشروع الصهيوني 1656-1917 - 3 -. إظهار كافة الرسائل

2014-04-11

رسالة ماجستير / دور بريطانيا في بلورة المشروع الصهيوني 1656-1917 - 3 -,


نتابع: رسالة ماجستير / دور بريطانيا في بلورة المشروع الصهيوني 1656-1917 - 3 -, 
رسالة ماجستير للأستاذ نهاد الشيخ خليل


المبحث الثالث
ثورة البيوريتان في إنجلترا (1628-1660)
يتضح مما تقدم أن الانفصال الإنجليزي عن كنيسة روما قد بدأ في عهد الملك هنري الثامن دون أن تأخذ عملية الإصلاح هذه طابعاً بروتستانتياً، وتواصلت عملية الإصلاح في عهد ابنه الملك إدوارد السادس. أما عهد الملكة ماري فقد شهد عودة رسمية للكاثوليكية والارتباط بكنيسة روما، وترافق هذا الأمر مع اضطهاد شديد للبروتستانت أجبر الكثيرين منهم على الهرب خوفاً من الاتهام بالخيانة العظمى، وانتشروا في أوروبا. ولما توجت إليزابيث ملكة على بريطانية، وكانت بروتستانتية، فقد عاد الكثير من المهجرين وهم يحملون مفاهيم جديدة عن الكنيسة والدين، وكان أغلبهم قد تبنوا النموذج الكالفني. وكانت الملكة إليزابيث لا تفضل هذا المذهب لأنه ينادي بانفصال كامل وسريع عن كنيسة روما، إضافة إلى أن الكالفنية تنطوي على توجه معارض للملوك واستفرادهم بالسلطة وتدعو لاستقلالية الكنيسة.
إن تعامل ملوك أسرة تيودور مع موضوع الإصلاح الديني من خلال اللجوء إلى الحلول الوسط لم يقدم حلاً لمشكلة العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية( )، هذه المشكلة الموروثة منذ الفترة السابقة على الانفصال، والفارق بين المرحلتين أن الكنيسة في روما كانت المحدد الرئيسي لهذه العلاقة، على الأقل من الناحية القانونية، أما في عهد الانفصال عن روما فقد أصبح الملك الإنجليزي هو من يحدد شكل العلاقة مع الكنيسة الوطنية. لكن عهد أسرة تيودور لم يحسم الأمر لأنه لم يقدم حلاً جذرياً للمشكلة بسبب التردد والتغير الذي حدث في عهد الملوك المتعاقبين. وبقي شكل العلاقة بين الكنيسة والدولة يعتمد على قدرات الملوك على السيطرة وإدارة الأوضاع الداخلية، وبالتالي فإن هذا النموذج لم يستطع الصمود في وجه المتغيرات الحاصلة إذ أن الانفصال عن روما فتح أبواباً جديدة للخلاف والجدل انتهت بالثورة التي قامت بها طائفة البيوريتان (المؤمنين بالعقيدة الكالفنية بشأن استقلال الكنيسة عن الدولة) شديدة الحماس لاستقلال الكنيسة عن الدولة.
وعندما أسس جيمس الأول ملك أسرة ستيوارت كانت حركة البيوريتان( بما تحمله من أفكار بشأن الإصلاح الديني الروحاني، والسياسي الذي يطالب بتقييد سلطة الملك وتحقيق الاستقلال للكنيسة، إضافة إلى قناعتهم بأن العالم يقترب من نهايته وأن خلاص المسيحيين يتطلب عودة اليهود إلى الأرض المقدسة في فلسطين) لاتزال محبطة داخل إنجلترا، خاصة وأن جيمس الأول رفض الالتماس((The Millenary Petition الذي قدمه له ألف شخص من رجال الدين البيوريتان، الذين طالبوا الملك بإدخال تعديلات على العبادة والإدارة في الكنائس( ). وكان جيمس الأول يرى أن للملك الحق في سن القوانين دون استشارة النواب، وكان يرى أنه فوق القانون، وقد ووجه باحتجاجات كثيرة من النواب الذين اعتبروا أن امتيازات البرلمان من العهود السابقة حقوق أصيلة، وأن المسائل الخطيرة المتعلقة بالملك والدولة والكنيسة والدفاع عن البلاد ووضع القوانين وصيانتها كلها من اختصاصات البرلمان. وحدث في عهد جيمس الأول أن تمت ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الإنجليزية.
يمكن القول أن عهدي إليزابيث الأولى وجيمس الأول هما اللذان شهدا بدايات الجدل على خلفية الإصلاح الديني بمعناه الحقيقي، إذ أنه في البداية لم يكن هناك أي خلاف ذي مغزى بشأن العقائد والعبادات، كما لم يكن هناك أي اهتمام يُذكر من قبل الشعب بالإصلاح الديني. لقد كانت عملية الإصلاح سياسية خالصة كما تبين لنا سابقاً. وربما تكون مسرحية شكسبير تاجر البندقية( )؛ إحدى التعبيرات الأساسية عن وجود نظرتين في المجتمع البريطاني تستخدمان الإيحاءات الدينية المستمدة من العهدين القديم والجديد لتبرير مواقفها. وقدم شكسبير( ) شخصية اليهودي في هذه المسرحية بشكل مركب يتضمن عدة أبعاد، تعكس التحولات التي طرأت على رؤية المجتمع الإنجليزي لليهود واليهودية في أواخر القرن السادس عشر الميلادي نتيجة وجود فئة في المجتمع الإنجليزي تأثرت بالكالفنية.
وتعرض المسرحية لشخصيتين مركزيتين هما أنطونيو وشيلوك. ويمثل أنطونيو دور الشخصية الأرستقراطية فهو كريم يقرض أمواله بدون فوائد، ويعيش حياة مترفة، ولا يهتم بتراكم رأس المال. وعلى النقيض من ذلك تأتي شخصية شايلوك اليهودي الذي يعمل بالربا ويهتم كثيراً بتراكم رأس المال ويؤمن بالتعاقد في التعامل المالي ويدافع عنه أشد الدفاع، ويلتزم حرفية القانون لا روحه، وهو بلا عاطفة خاصة عندما يطالب برطل اللحم البشري بدل الدين الذي عجز صاحبه عن سداده.، ويجيد استخدام الكتاب المقدس في تبرير أفعاله. وهذا يعكس فهماً عميقاً لشكسبير بالكتاب المقدس، إذ يُكثر من الإشارات والتلميحات للكتاب المقدس على لسان شايلوك( ).
وقد جاءت رواية شكسبير هذه لتعكس التغير الحاصل في الثقافة البريطانية بشأن اليهود، خاصة مع ترجمة الكتاب المقدس وشيوع تفسيراته الحرفية، إضافة إلى ظهور جماعات البيوريتان البروتستانت من عناصر الطبقة الوسطى الجديدة النشطة في مجال التجارة؛ والمؤمنة بتعاليم كالفن، والتي يصفها المسيري بأنها "حوّلت الزهد المسيحي في الدنيا من أجل الآخرة إلى زهد داخل الدنيا من أجل تراكم رأس المال، ولذلك كان هؤلاء يكرهون الملذات والانفاق والمسارح والمسرات. ويجئ شايلوك في هذه الرواية رمزاً لهذه القطاعات المتزمتة الملتزمة بالتراكم المالي وحسب، والتي تتنكر للعلاقات الإنسانية"( ). ويأتي هذا التفسير الذي يقدمه المسيري منسجماً مع التطور التاريخي للبيئة الثقافية في إنجلترا. بينما يتوقف بعض دارسي الأدب الإنجليزي عند ظاهر ما ينطق به النص محاولاً الادعاء بأن شخصية شايلوك هي استمرار للصورة الذهنية الشريرة لليهودي في الغرب( ). والأرجح أن ما يميل إليه المسيري في تفسيره هو الأقرب للصواب لأن الفترة التي عاش فيها شكسبير وهي عهد الملكة إليزابيث شهدت بداية ظهور البيوريتان الذين يؤمنون بمذهب كالفن وما يدعو له من ارتباط بالعهد القديم، إضافة إلى أن إنجلترا منذ عهد هنري الثامن احتضنت عدداً من المصلحين الدينيين مثل إرازموس وجون كولت اللذان أنجزا ترجمة للكتاب المقدس.
وقد جاء هنري فنش 1558-1625Henry Finch بعد شكسبير بقليل ليُصدر بحوثاً عديدة في القانون واللاهوت، ويضع قواعد تفسير النبوءات الدائرة حول الأيام الأخيرة في الكتاب المقدس أكد فيها أنه حيثما يتم إيراد أسماء إسرائيل ويهودا وصهيون وأورشاليم (في الكتاب) فإن الروح القدس لا يعني إسرائيل المعنوية أو كنيسة الرب المؤلفة من الأميين أو من اليهود والأميين على حد سواء، بل إسرائيل المتحدرة حقاً من صلب يعقوب. والحكم نفسه يجب اعتماده فيما يخص عودتهم إلى أرضهم ومرابعهم القديمة". وأكد فنش في كتاباته على أن اليهود سيُبعثون في المستقبل القريب كأمة( ).
وبمجيء شارل الأول للحكم (1625-1649) زادت مساوئ الملكية وبالتالي تصاعدت الاحتجاجات الشعبية والبرلمانية ضد الملك الذي يؤمن بحق الملوك الإلهي في الحكم المطلق، وفرض عدداً من الضرائب الاعتباطية، والسياسة الدينية القاسية التي اتبعها ضد البيوريتان. وعلى خلفية سياساته الداخلية والخارجية خاض الملك صراعاً مع البرلمان. وبدأ هذا الصراع سنة 1628م عندما سجن الملك بعض أعضاء البرلمان الذين اعترضوا على منحه القروض لتمويل حربه ضد أسبانيا ودعمه الهيجونوت في فرنسا، ولهذا طالب البرلمان بتحديد سلطات الملك، وأعد عريضة تُسمى "ملتمس الحقوق" Petetion of Rights، وهي من الأوراق المهمة جداً في التاريخ الإنجليزي، وفيها لفت المجلس نظر الملك إلى ما يقوم به من ابتزاز الأموال بطرق غير شرعية هو وعماله، وطلب منه ألا يجبر أي فرد على دفع شيء من النقود بدون موافقة المجلس، وألا يسجن أحداً إلا وفق القانون( ). ولما أجاب الملك هذه المطالب قرر المجلس صرف الأموال، لكن المجلس اشترط على الملك عزل أحد كبار معاونيه وهو دوق بيكنجهام الذي اشتهر بفساده منذ عهد جيمس الأول، فغضب شارل الأول وحل المجلس، ولم يعقد المجلس إلا بعد عزل دوق بكنجهام( ).
وفي هذه الأثناء كان شارل الأول يبدي ميلاً قوياً لإعادة الكاثوليكية لإنجلترا، فزوجته تعتنق المذهب الكاثوليكي، وكان النصر حليف الكاثوليك في أوروبا في تلك المرحلة من حرب الثلاثين عام (1618-1648) حيث انتصر والنشتين على ملك الدانمرك كرستيان الرابع، أما ريشيليو الوزير الفرنسي القوي فكان قد هزم الهيجونوت وحرمهم من حقهم في التعبير عن وجودهم على الصعيد السياسي، وظهرت في إنجلترا حركة قوية تطالب بالعودة للكاثوليكية. وعلى الأثر اتسعت شقة الخلاف بين البيوريتان من أعضاء البرلمان وبين الملك فقام الأخير بحل البرلمان سنة 1629م. وهكذا لم يكن أمام حماسة البيوريتان المتقدة لإصلاح الكنيسة وتبشير العالم برسالة المسيح إلا أن تتحول إلى تيار سياسي، خاصة وأن البيوريتان لم يكتفوا بالوعظ، بل أرادوا تنفيذ مبادئهم ونشر الورع والتقوى على طريقتهم حيث كانوا يوجهون انتقاداتهم للمسارح والرقص وعدم احترام يوم العطلة الأسبوعية، كما انتقدوا أُبهة الاحتفالات، ولهذا بدأ الملك يشن حملة بمساعدة كبير أساقفة كنتربري وليام لود ضد البيوريتان، وأخذت شقة الخلاف تتسع بين الطرفين مع مرور الوقت( ).
اتسمت إدارة شارل الأول ووزرائه بأنها سيئة فزادت من كراهية الشعب له، الأمر الذي مهد السبيل للثورة، وقد تم في عهده فرض العديد من الضرائب الاعتباطية وكان من أشهرها ضريبة السفن First Writ of Ship Mony من كل الناس لبناء الأسطول( ) . وتفاقمت الأزمة سنة 1638 عندما رفض الاسكتلنديون كتاب الصلاة الجديد الذي فرضه عليهم شارل الأول ورئيس أساقفة كانتربري وليام لود William Load على الكنيسة الاسكتلندية التي تدين بالمذهب البروتستانتي، وبسرعة كبيرة فقد شارل الأول سلطته على الحكومة وعلى الكنيسة في اسكتلندا، وفشل في استردادها بالقوة. وبسبب الحاجة للمال دعا الملك البرلمان القصير للانعقاد، لكنه عاد وحلّه بعد ثلاثة أسابيع من انعقاده، وشن حرب جديدة ضد الاسكتلنديين، لكن فشله في هذه الحرب جعلته يدعو البرلمان الطويل للانعقاد، وعندها أصبح الملك عاجز عن مواجهة مطالب البرلمان. واستمر هذا البرلمان في الانعقاد دون أن يحله أحد مدة واحد وعشرين عاماً، وأصدر البرلمان الطويل مجموعة من القوانين التي قضت على النظام الذي أدار به شارل الأول البلاد ومن هذه القوانين قانون الثلاث سنوات The Triennial Act الذي نص على وجوب عقد المجلـس اجتماعه كل ثلاثة أعـوام حتى لو لم يسـتدعه الملـك، ثم ألغى البرلمـان الطـويل ضـريبة الســفن Act Declairing The Illegality of Ship money، وألغى محكمة النجم Act for The Abolition of the Court of Star Chamber، وأصدر البرلمان قانون يمنع حل البرلمان بدون موافقة أعضائه The Act against Dissolving The Long Parliament without its own consent وذلك سنة 1641م( ).
وعندما احتدم الخلاف بين الملك ومعارضيه في البرلمان على أثر مطالبة البرلمان الطويل بأن يكون الوزراء مسؤولين أمام البرلمان، حينها غضب الملك وحاول إرهاب المعارضين من خلال اعتقال زعمائهم في البرلمان، لكنه فشل في ذلك حيث التف أهل لندن حولهم، ومنذ تلك اللحظة اندلعت الحرب الأهلية وامتدت على طول الفترة الواقعة بين (1642-1646) بين أنصار الملك، وبين البرلمانيين الذين يقودهم أوليـفر كرومويل( ) Oliver Crowmwell، وهو قائد فذ تلقى تربية دينية بيوريتنانية منذ صغره واستمر مقتنعاً بهذه الأفكار حتى آخر حياته، واستطاع كرومويل أن يصل بالثورة للانتصار على الملك، وبالفعل تم إعدام الملك شارل الأول بتاريخ 30-1-1649م، وأعلن المجلس أن حكومة إنجلترا أصبحت جمهورية وأن كرومويل هو حاكم البلاد( ).
وتمكن كرومويل من توحيد البلاد وإعادة الاستقرار لها، وأعاد هيبتها على الصعيد الأوروبي عندما هزم هولندا (وكانت هولندا آنذاك أكبر منافسي إنجلترا في البحار) وأجبرها على توقيع معاهدة تعترف بموجبها بسيادة إنجلترا على البحار، سنة 1654م( ). وتعتبر هذه أول الحروب التي تحدث في أوروبا بسبب المنافسة التجارية -التي بلغت أوجها بين إنجلترا وهولندا في ذلك الوقت- عكس كل الحروب السابقة التي كانت الخلافات الدينية أهم أسبابها. كما أن كرومويل سعى في عهده إلى إضفاء طابع الجدية والوقار على الحياة الإنجليزية وفقاً للتعاليم البيوريتانية، لكنه رغم ذلك سمح بقدر من الحرية الدينية فانقسم البيوريتان إلى عدة طوائف منها البريسبيتريان Presbyterian والكويكرز Quakers، ولم يتوحد البيوريتانيون مرة أخرى، ولهذا عندما مات أوليفر كرومويل لم يُفلح البيوريتان في الاستمرار في الحكم بسبب انقساماتهم وضعف قوتهم، إضافة إلى أن الرأي العام الإنجليزي لم يكن مرتاحاً لإلغاء الملكية.وانتهى حكم البيوريتان سنة 1660م عندما تولى شارل الثاني من أسرة استيوارت عرش إنجلترا.
وحتى تكتمل صورة الدور الذي لعبه البيوريتان على صعيد التجارة لابد من محاولة اكتشاف العلاقة بين كرومويل وبين يهود المارانو، وهي القوة التجارية العالمية في القرنين السادس والسابع عشر.
العصر الميركنتيلي (التجاري) وبروز اليهود من جديد في أوروبا الغربية
شهد القرنان السادس والسابع عشر بعض التحولات العميقة للجماعات اليهودية،خاصة على أثر القمع الذي تعرض له اليهود في أسبانيا في أعقاب سقوط الحكم الإسلامي هناك سنة 1492م، وما تلى ذلك من انتشار لدواوين التحقيق، وعلى أثر ذلك غادر الكثير من اليهود شبه جزيرة أيبريا بينما بقي الكثيرون واضطروا للتنصر حتى ينجوا بأنفسهم من الموت، وأُطلق عليهم اسم يهود المارانو. وبدأ يهود المارانو في تكوين مراكزهم السكانية والثقافية في أمستردام وسالونيكا وفي كثير من مدن الدولة العثمانية، وكان يُطلق عليهم "السفاراد" أو "البرتغاليين". وكان- السفارديون على مستوى ثقافي رفيع نظراً لاحتكاكهم بالثقافة العربية الإسلامية، وكانت النخبة منهم على دراية بالأمور المصرفية المتقدمة. وكانت تربطهم فضلاً عن ذلك علاقات وثيقة باليهود السفاراديين في الامبراطورية العثمانية، الأمر الذي سهّل عليهم القيام بالعمليات التجارية الدولية، وبذلك أمكنهم أن يلعبوا دوراً في الاقتصاد الدولي الجديد( ).
ومن الأمثلة على تعرض يهود أسبانيا للنفي والتشتت قصة اليهودي الأسباني ألفرو مينز دا كوستا Alvaro Mendez Da Costa –في عصر الصراع بين إسبانيا وإنجلترا. كان هذا الرجل قد عاش في المستعمرات الإسبانية في الهند وأمريكا اللاتينية وكوّن ثروة كبيرة؛ وامتلك خبرة واسعة في تجارة الماس. وعندما عاد إلى إسبانيا اعتقلته السلطات، وصدر أمر بنفيه من قبل دواوين التحقيق، فذهب إلى استانبول وأعلن يهوديته فيها. وفي سنة 1587 (حيث كان عمره 65سنة) عمل في السلك الدبلوماسي للدولة العثمانية( ). وخلال منصبه هذا راسل الملكة إليزابيث الأولى ملكة أسبانيا وقدم لها معلومات عن تحركات الأسطول الأسباني ووعدها بمضاعفة الجهود التي ستساعد على عقاب أعداء المملكة( ). وفي نفس الوقت فقد راسل ألفارو الدكتور رودريجو لوبيز Rodrigo Lopez طبيب الملكة إليزابيث ، وهي رسالة تحتوي على ترتيبات بشأن التجسس على أسبانيا والبرتغال( ).
ومع ظهور المارانو بدأت الحضارة الغربية تعيد توظيف اليهود من جديد، ليقوموا بالدور التجاري نفسه، ولكن بما يُعبّر عن التغيرات التي خاضها المجتمع الغربي. فبعد أن كان اليهود هم الأداة التي يمتص بها الحاكم الإقطاعي فائض القيمة من داخل مجتمعه، تحولوا إلى أداة يستخدمها حاكم الدولة المطلقة في النشاطات التي تقوم بها هذه الدولة داخل وخارج حدودها، إذ لم تعد هناك ضرورة لامتصاص فائض القيمة لأن مؤسسات الدولة كانت تقوم بتلك المهمة على وجه أفضل من خلال فرض الضرائب( ).
وقد كونت الجماعات اليهودية في هذه المرحلة شبكة علاقات تجارية على مستويين: دولي متقدم، ومحلي بدائي. فكان كبار الممولين اليهود يربطون بين الدول المختلفة، ويسدون بين احتياجات الأمراء للأموال وحاجات الجيوش للتمويل. وكان اليهود يقومون بتدبير المعادن النفيسة وأي كمية من الذهب يريدها الإمبراطور أو الأمير، ويعدوا له التموين اللازم للحملات العسكرية التي يجردها، وذلك في أسرع وقت ممكن رغم ظروف الحرب. كما كان بوسعهم من خلال الشبكة نفسها، القيام بأعمال التجسس لصالح هذا الفريق أو ذاك، وتوصيل المعلومات بسرعة غير متوفرة لأي من الفريقين المتحاربين، وذلك من خلال حلقة الاتصال اليهودية بين يهود المارانو المنتشرين في أوروبا الغربية والدولة العثمانية وأسبانيا والبرتغال( ).
وكان يهود المارانو يرون أنهم يملكون ما يقدمونه للدول الغربية على الصعيد التجاري والمالي العالمي، وكانوا يستمرون في التخفي حتى يستفيدوا من الفرص الاقتصادية المتاحة أمامهم، إذ كان تهودهم يعني فقدانهم إياها. ولذا نجد أن كثيراً من المارانو بقوا في شبه جزيرة أيبريا بحثاً عن الفرصة الاقتصادية، وحفاظاً على أملاكهم من المصادرة، مؤثرين ذلك على الهجرة إلى بلد بروتستانتي أو إسلامي يمنحهم حرية العبادة ولا يمنحهم الفرصة الاقتصادية ذاتها. كما أن كثيراً من يهود المارانو الذين هاجروا إلى دول جديدة بقوا على علاقات مع المؤسسات التجارية في أسبانيا والبرتغال، ومع أعضاء أُسرهم الذين تنصروا بالفعل. وكان الحكم الأسباني والبرتغالي يستفيدان من خبراتهم واتصالاتهم الدولية، وبنفوذهم ورأسمالهم، رغم اضطهاد محاكم التفتيش، وتوجد حالات عديدة قام بها يهود المارانو بالتجسس لصالح الدولتين الأسبانية والبرتغالية( ).
ولعب المارانو دوراً مهما وفعالا في تأسيس الشركات التجارية والاستيطانية الكبرى، مثل شركة الهند الشرقية وشركة الهند الغربية الهولنديتين، وساهموا في تأسيس شركات منافسة أسسها البرتغاليون ليخرجوا الهولنديين من البرازيل. كما أسس المارانو، بما كان لديهم من خبرة مالية، شركات تأمين والعديد من المصارف، حيث كانوا ذوو شهرة في التعامل مع بورصات الأوراق المالية. وأسسوا مصانع للصابون والأدوية، وساهموا في صناعة السلاح وبناء السفن. واحتكر المارانو التجارة الدولية تقريباً في سلع مثل المرجان والسكر والأحجار النفيسة، كما اشتغلوا بتجارة الرقيق بسبب وجود أعداد منهم في أوروبا والعالم الجديد ومستعمرات البرتغال في إفريقيا التي كانت تعد مصدراً رئيسياً للعبيد( ).
ويوجد عاملان أساسيان ساعدا على تبوء المارانو لهذه المكانة المالية والوظيفة الضخمة وهما أن المارانو كونوا أول شبكة تجارية عالمية وأول نظام ائتماني في العصر الحديث كان يربط بين معظم أطراف العالمين الإسلامي والمسيحي بشقيه الكاثوليكي والبروتستانتي. وامتد نشاطهم إلى العالم الجديد، حيث ارتبطوا بكثير من المشروعات التجارية للاستعمار الغربي. وتم كل ذلك في غيبة نظام ائتماني عالمي، أو نظام ثابت لعلاقات دولية. كما تزامن انتشارهم مع بداية علمنة المجتمع الغربي وظهور الحكومات المطلقة التي كانت تأخذ بالمنفعة والولاء لها وليس بالانتماء الديني معياراً للحكم على الأفراد( ).
وتجدر ملاحظة أن التجارة التي اشتغل بها المارانو كانت التجارة الدولية وأن الأعمال المصرفية التي قاموا بها كانت أعمالاً مصرفية متقدمة، فكانت كلتاهما (التجارة والأعمال المصرفية) لا تشبه من قريب أو بعيد التجارة البدائية التي كان يعمل بها يهود الأشكناز أو الربا التي كانوا يشتغلون به.
منسّى بن إسرائيل وكرومويل: حسابات الدين والتجارة
وفي هذه الأجواء برز التجمع اليهودي في هولندا حيث لعب دوراً مهماً في التجارة الدولية وحركة الاستعمار، الأمر الذي هيأ لقيادة التجمع اليهودي في هولندا لعب دور لصالح اليهود خارج حدودها. وقام منسّى بن إسرائيل، وهو يهودي من المارانو وُلد في البرتغال وعمل فيها، ثم فر مع أبويه واستقروا في أمستردام، حيث أصبح منسّى حاخاماً في أحد المعابد (1622-1639م)، وأسس أول مطبعة عبرية في أمستردام سنة 1626م نشرت عدة كتب من بينها كتاب نحو اللغة العبرية، وطبعة لكتاب المشناة*( ).
عندما استقر منسّى في هولندا في النصف الأول من القرن السابع عشر، وهو العصر الذي شهد ذروة تصاعد الكشوفات الجغرافية والاستعمار الهولندي( )، وتأثراً بتلك الأجواء فكّر منسى في الاستيطان في البرازيل، أي في التحرك مع التشكيل الغربي الاستيطاني. كان منسّى يؤمن إيماناً عميقاً بالقابلاة( )، وانشغل بالحسابات القبالية لمعرفة موعد وصول المشيّح، وتوصل إلى أن ذلك لن يتحقق إلا بعد أن يتم تشتيت اليهود في كل أطراف الأرض. وقد كان هذا المفهوم القبالي هو أحد المبررات التي استخدمها للدفاع عن ضرورة إعادة توطين اليهود في إنجلترا، وذلك في كتابه "أمل إسرائيل" الذي ترجمه إلى الإنجليزية عام 1650م.
شهد النصف الأول من القرن السابع عشر رواجاً للأفكار الألفية في بريطانيا، وبلغ الأمر بالألفيين أن ألقى بعضهم –من أعضاء البرلمان- خطاباتهم باللغة العبرية، ونادوا بأن تكون التوراة هي دستور إنجلترا( ).كما أن تلك الفترة شهدت شيوع أفكار شبتاي تسفي بشأن إقامة مملكة في فلسطين الأمر الذي أدى إلى قيام بعض أثرياء اليهود في أمستردام إلى بيع كل ما يملكونه استعداداً للعودة، كما استأجروا سفناً لتنقل الفقراء إلى فلسطين، واعتقد البعض الآخر أنهم سيحملون إلى القدس على السحاب( ). وقد أولى منسّى هذه الظاهرة عناية كبيرة، خاصة وأن هؤلاء الألفيون البريطانيون هم حكام بريطانيا في عهد كرومويل.
كان منسّى مقتنعاً بأن المسيح لن يظهر إلا بعد اكتمال عقاب اليهود بتشتيتهم في كل بقاع الأرض، ولما كان اليهود لا يُسمح لهم بالإقامة في بريطانيا( )، فقد رأى أنه لا بد من بذل الجهود للحصول على تصريح يسمح لليهود بالإقامة في إنجلترا، حتى لا يشكل عدم وجودهم في هذا المكان –حسب اعتقاده- عائقاً أمام ظهور المسيح( ). فكتب منسّى إلى البرلمان الإنجليزي رسالة سنة 1650 ملتمساً السماح لليهود بالإقامة في بريطانيا موضحاً لهم أن هذه الإقامة هي أمر مؤقت، لأن عودتهم لوطنهم الأم لن يحدث إلا إذا اكتمل تشتتهم( ). فاستقبل البرلمان رسالته بترحاب، وعلى الأثر بدأت اتصالات بين الطرفين، حيث قام اللورد مدلسكس Lord Middlesex (وهو الوسيط بين كرومويل ومنسّى) بإرسال رسالة شكر إلى منسّى مركزاً فيها على الأخوة المسيحية اليهودية، وأرفق مع هذه الرسالة تصريحا إلى منسّى بزيارة بريطانيا( ). وقام السفير الإنجليزي في هولندا أوليفر جون Oliver St. John بزيارة الكنيس اليهودي في أمستردام في أغسطس 1651، وبدأت حوارات بشأن السماح لليهود بالإقامة في بريطانيا. لكن دخول البلدين في حرب في ذات السنة أدى إلى قطع الاتصال بين أمستردام ولندن( ).
لقد كانت النخبة الحاكمة في عهد كرومويل واقعة تحت تأثير العهد القديم بشكل واضح، ودليل ذلك أنه عندما شكل كرومويل برلماناً من الصالحين والقديسين –في إطار إصلاحاته الداخلية سنة 1653، كان هذا المجلس مكوناً من سبعين شخصاً حسب مجلس السنهدرين اليهودي( ). وطالب الجنرال هاريسون General Hareson ،وهو أحد أعضاء البرلمان، بتطبيق التشريعات التوراتية في إنجلترا. ويبدو أن منسّى كان متابعاً بدقة لهذه التحولات في إنجلترا. وعندما اجتمع البرلمان في 5/7/1653 أرسل رسالة أخرى للبرلمان الإنجليزي، لكن البرلمان طلب منه أن يحضر بنفسه لحضور النقاش بنفسه، ولما كانت الحرب لا زالت دائرة فقد أجّل منسّى زيارته لإنجلترا لتنفيذ هذه المهمة( ).وعندما عقدت إنجلترا وهولندا معاهدة سلام في أبريل سنة 1654 اعتقد منسّى أن الوقت أصبح مناسباً لتحقيق أهدافه، فقدم عريضة في أكتوبر سنة 1654 لكرومويل يطالبه فيها بالسماح لليهود بالعيش في إنجلترا، وقرر كرومويل نقاش هذه الرسالة على وجه السرعة ( ).
وفي نفس الوقت، نشر منسّى مقالاً في الصحافة البريطانية، بيّن فيه الأسباب الموجبة لعودة اليهود إلى بريطانيا، وحصرها في نوعين الأول ديني، والآخر تجاري. والسبب الديني هو المتعلق بتشتتهم الكامل في كل بقاع الأرض قبل عودتهم. والسبب التجاري يتمثل في قدرة اليهود على زيادة كميات الصادرات والواردات، وذلك بفضل المزايا التي يمكن أن يمنحها اليهود للوضع الاقتصادي في إنجلترا، حيث أن يهود المارانو يملكون خبرات واسعة في مجال تبادل العملات والماس والخمور. وأضاف أن يهود هولندا يودعون أموالهم في البنوك، ويكتفون بالحصول على فائدة قدرها 5% . إضافة إلى أن لهم علاقات وثيقة مع يهود أسبانيا والبرتغال حيث يستثمر الأخيرون أموالهم مع يهود هولندا وإيطاليا حتى يتجنبوا جشع محاكم التفتيش( ).
وعلى الأثر دعا كرومويل لعقد اجتماع في قاعة الوايتهول White Hall بتاريخ 4/12/1655 لنقاش مسألة منح اليهود حق الإقامة في إنجلترا من جميع جوانبها. وقد حضر هذا الاجتماع اللورد جلاين Lord Chief Justice Glynn واللورد ستيل كبير البارونات Lord Chief Barons Steel، ورئيس بلدية لندن Lord Mayor، ومسجل المدينة The Recorder of The City، وأربعة عشر رجل دين بارزين في الدولة( ).
وكان أوليفر كرومويل –الذي تولى الحكم لخمس سنوات فقط ( 1653-1658م) من سنوات الثورة الإحدى عشرة، ويطمح أن يُخرج بريطانيا من مرحلة الانقسام الداخلي والحرب الأهلية، وأن يشارك هولندا في نفوذها التجاري الاستعماري فيما وراء البحار. واستخدم ذلك مبرراً إلى جانب استعداد البيوريتان الديني الجديد لإصدار موافقة برلمانية بالسماح لليهود بالعودة إلى بريطانيا والاستقرار فيها. وتطلع كرومويل إلى جلب الثروات والشبكة اليهودية التجارية العالمية حيوية لإنجلترا، كتلك التي جاؤوا بها إلى هولندا بعد هروبهم من أسبانيا الكاثوليكية( ).
وطرح كرومويل موضوعين للنقاش يتعلق أولهما بالإجابة على سؤال هل يُسمح لليهود بالإقامة في إنجلترا من الناحية القانونية؟ وإذا كان لا يوجد اعتراض قانوني على دخولهم فتحت أي الظروف سيتم السماح لهم بالدخول؟ وأثناء النقاش شهدت لندن نقاشات مثيرة فهنالك مشاعر مختلطة، حيث لا زالت توجد كراهية عمياء لدى أوساط واسعة من المسيحيين، لمن صلبوا المسيح، إضافة إلى الخوف من منافسة اليهود لهم في مجال التجارة. و في المقابل ظهرت مجموعات ذات نفوذ تبدي حباً أعمى لشعب الله المختار (كما فهموا من الكتاب المقدس)، ورغبة في الاستفادة مما يمكن أن توفره لهم إمكانيات اليهود التجارية. ويُضاف إلى المخاوف الآراء المسبقة بشأن قتل الأطفال ونحت العملات.
كان كرومويل ومؤيدوه مع السماح بدخول اليهود، أما أنصار الملكية والبابوية فكانوا ضد ذلك، وفي النقاش داخل الوايت هول استقر رأي رجال القانون على القول بأن قرار طرد اليهود من إنجلترا سنة 1290 صدر عن الملك دون موافقة البرلمان، ولهذا فهو غير قانوني. لكن رجال الدين كلنوا معارضين بشدة للسماح لليهود بالإقامة في بريطانيا( ).
كان كرومويل متحمساً للسماح لليهود بدخول إنجلترا، وأيده ثلاثة من رجال الدين من بينهم هيوج بيترس Hugh Peters، واضطر كرومويل لإنهاء النقاش في 18/12/1655 دون أن يتم اتخاذ قرار بشأن السماح لليهود بالإقامة في بريطانيا. وقد شن أعداء اليهود حملة ضد كرومويل، ومن أشهر هؤلاء وليام برين William Prynne الذي أصدر كراساً بعنوان "اعتراض قصير Ashort Demurrer" ذكر فيه أن اليهود يريدون شراء مكتبة أكسفورد، وأن يهود آسيا أرسلوا وفداً لبريطانيا ليكتشفوا هل كرومويل هو المسيح المنتظر عند اليهود أم لا؟ وحشد في هذا الكراس كل التهم القديمة ضد اليهود( ).
وفي المقابل وجد من نادى بضرورة منح اليهود حق الإقامة في إنجلترا مثل جون ديوري John Dury، وكان جون ديوري قد أبدى اهتماماً منذ سنة 1649 بمسألة عودة اليهود إلى فلسطين، وبعث إلى منسّى بن إسرائيل رسالة تتضمن العديد من الأسئلة عن موقفه من الموضوع، فاستثارت هذه الأسئلة اهتمام منسّى ولم يرد عليها برسالة فقط بل بكتاب، فأرسل إلى جون ديوري قائلاً "لقد كتبت لك مقالاً بدلاً من رسالة"( ). وكذلك قام كاتب آخر يُدعى توماس كوليير Thomas Collier بتفنيد آراء براين وإثبات بطلانها، وطالب باحترام اليهود مبرراً ذلك بأنهم سيصبحون عما قريب سادة الأمم، مشيراً إلى أن خلاص المسيحيين مرتبط بهم( ).
وفي مارس 1656 وجه منسّى بن إسرائيل مع مجموعة من اليهود المارانو المقيمين في لندن رسالة إلى كرومويل، أكدوا فيها للمرة الأولى رسمياً جذورهم اليهودية، وطلبوا من كرومويل أن يصدر قراراً مكتوباً يتيح لهم " حرية التجمع والعبادة في منازلهم وإقامة كنيس ومقبرة خاصين باليهود"( ). وبالفعل فقد وافق كرومويل ولكن شفوياً علىإقامة الكنيس والمقبرة.
لكن بخصوص السماح لليهود بالإقامة في بريطانيا بشكل كامل فقد انتظر منسّى ستة شهور في لندن للحصول على القرار الذي يريده لكن دون جدوى، لأن كرومويل وجد أنه ليس من السهل الاقتراب من المسألة اليهودية، لكن منسّى لم ييأس، وبالفعل فقد نشر مقالاً في 10 أبريل 1656 أكد فيه على نفي التهم الموجهة لليهود( ).وغادر منسّى بريطانيا بتاريخ 17/9/1657محبطاً لأنه فشل في الحصول على الإذن لليهود بالإقامة في بريطانيا( ). وعند خروجه بعث رسالة إلى كرومويل جاء فيها "أيها الأمير النبيل اعمل ما في وسعك لأجل الله"( ).
إن الإطلاع على الوثائق المتعلقة بهذا الموضوع خاصة مراسلات منسّى بن إسرائيل مع كرومويل ومجلس الدولة وبعض الشخصيات البيوريتانية –كما تقدم- تكشف أن قراراً بهذا الصدد لم يُتخذ، وأن منسّى غادر بريطانيا في سبتمبر 1656 محبطاً. وفي هذا الإطار فإن المؤرخ البريطاني هارولد بولينز يعتبر أن "تحديد سنة 1656 بداية لتاريخ اليهود الحديث في بريطانيا جاء لأن اليهود حصلوا في تلك السنة على ترخيص لبناء كنيس ومقبرة، وهما مؤسستان في غاية الأهمية بالنسبة للحياة الدينية اليهودية"( ).
في كل الأحوال فإن سنة 1656 شهدت انفجار التراكم الذي حدث عبر ما يزيد على نصف قرن من النقاش والجدال والصراع متعدد الأبعاد داخل المجتمع البريطاني. وقد أسفر هذا التراكم عن وضع فكرة عودة اليهود إلى بريطانيا كتمهيد لعودتهم إلى فلسطين على جدول الأعمال القومي في بريطانيا. لكن هذه الفكرة ولدت بسيطة، ولم يستطع أصحابها إقناع المجتمع البريطاني بها، رغم أنهم استخدموا في تبريرها –كما تقدم- مسوغات نفعية تجارية. وعلى العكس من ذلك فإن أصحاب هذه الفكرة (البيوريتان) هم الذين سقطوا، بانتهاء عهد كرومويل سنة 1658( ). ويبقى السؤال هل ستموت هذه الفكرة في مهدها؟ أم سيُكتب لها البقاء ويشتد عودها؟

يتبــــع