بحث هذه المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات مدينة القدس وعمقها الريفي، القدس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مدينة القدس وعمقها الريفي، القدس. إظهار كافة الرسائل

2014-04-12

مدينة القدس وعمقها الريفي.


مقدمة:
المدينة والريف

كان الإقطاع في القدس إبان القرن التاسع عشر أقل انتشاراً منه في أي مدينة من المدن الرئيسية في فلسطين ذلك بأن موقعها الديني وفعاليتها حددا إلى حد كبير طبيعة استثمارات العائلات الحاكمة وعلاقة هذه العائلات بريف المدينة وقيام الحج وإدارة الأماكن المقدسة بالدور الحاسم في حياة أشراف القدس وحلفائهم من القوى الريفية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

تزودنا (حوليات فلسطين) (Annals of Palestine)، وهي سرد لسير الحياة في القدس في النصف الأول من القرن التاسع عشر بقلم الراهب نيوفيتوس من طائفة الروم الأرثوذكس، تفصيلات وفيرة (وإن تكن منحازة) عن العلاقة بين الريف والمدينة ونلاحظ في هذه اليوميات عنصرين يتحكمان في هذه العلاقة.

أن قرى القدس كثيراً ما كانت مسرحاً لحركات تمرد متكررة ضد الإدارة المصرية لإبراهيم باشا ولم تكن الضرائب السبب الرئيسي في حركات التمرد هذه كما يمكن أن يظن المرء وإنما التجنيد الإجباري وغالباً ما تحالف أعيان القدس مع الفلاحين في تظلماتهم ضد الباب العالي ولاحقاً ضد محمد علي وربيبه إبراهيم باشا.

يدعي نيوفيتوس أن تجار القدس مسحيين ويهوداً غالباً ما كانوا هدفاً لحركات التمرد بين الفلاحين والأقليات للحصول على الحماية من إدارة إبراهيم باشا (وقد منحها لهم) التي لم تمتد إلى الفلاحين المسيحيين وكان بعض أقسى العقوبات التي أنزلها إبراهيم باشا بالمتمردين موجهة ضد الفلاحين المسحيين في بيت جالا وبيت لحم والكرك (الأخيرة في شرق الأردن)

في نيسان /أبريل – أيار /مايو1834حدثت أبرز ثورات الفلاحين وانضم فيها قطاع مهم من أعيان القدس إلى الفلاحين ضد توقيعات التجنيد في الجيش المصري لمحاولة أعدائه العثمانيين والأوربيين وقد حوصرت القدس في 8 أيار / مايو، وانضم إلى المتمردين من الفلاحين المحلين (بحسب تقدير نيوفيتوس) عشرة آلاف فلاح من الخليل ونابلس وقرى القدس الأخرى وفي غياب إبراهيم باشا الذي هرب إلى يافا في إثر شائعات عن انتشار وباء الطاعون انضم كثير من المقدسين إلى ثورة داخل المدينة وعلى الرغم من مناشدة نائب إبراهيم المقدسيين الدفاع عن المدينة فإنهم عملياً ساعدوا الثوار على اقتحامها:

سارع سكان القدس إلى كسر أقفال باب العمود وفتحوه واندفع آلاف الفلاحين إلى الداخل واحتلوا المدينة المحيطة بالقلعة، بعد أن أمطروها بزخات متلاحقة وكثيفة من النيران ثم انهمكوا شيباً وشباناً في النهب بادئين بمنازل الأميرلايات حيث أخذوا الأشياء الثقيلة المتروكة فيها مثل الوسائد والأغطية والمناضد الخشبية ثم نهبوا المنازل اليهودية بالطريقة نفسها وفي الليلة التالية بدأ الفلاحون مع بعض الرعاع من أهل القدس نهب دكاكين اليهود والمسيحيين الفرنجة ثم المسلمين وقد عانى الجميع على حد سواء من البقالين إلى صانعي الأحذية مروراً بمختلف المهن وخلال يومين أو ثلاثة لم يسلم دكان في السوق إذ كسروا الأقفال والأبواب واستولوا على كل شيء ذي قيمة

كان من المعتاد في مثل هذه الأوضاع أن يستأجر أعيان القدس ميليشيات فلاحية مسلحة لحماية أملاكهم من النهب وكان هؤلاء الحرس يجندون عادة من المالحة وعين كارم أما الأديرة فيحميها عادة فلاحو العبيدية وهم مسيحيون كانوا سابقاً عبيداً ألحقوا بدير مار سابا ثم أسلموا وبصورة مماثلة كان بدو التعامرة يحمون أديرة بيت لحم

عندما قمع التمرد في النهاية نعمت القدس بعدة عقود من الاسقرار النسبي والأمن والازدهار الاقتصادي امتدت حتى الحرب العالمية الأولى ودخول جيش اللنبي إلى المدينة المقدسة وأدت التجارة والمصالح التجارية في المدينة إلى زيادة التعاون فيما بينها وبين يافا (المدخل الرئيسي للحجاج الأوربيين واليونان والروس إلى فلسطين) ومدينة السلط في شرق الأردن التي كانت المزود الداخلي بالبضائع لكن القدس خلافاً لنابلس أو يافا لمن تكتسب قط شهرة كمركز لإنتاج البضائع أو توزيعها كما أدت الطمأنينة الناجمة عن الأصلاحات العثمانية والامتيازات التي منحت للأجانب إلى زيادة عدد الأوربيين بمن فيهم اليهود الأوربيون الذين بدؤوا السكن في القدس بعد الستينيات من القرن التاسع عشر وأدى الازدهار في البناء إلى نشوء طلب كبير على البنائيين والحرفين المهرة وهذا بدوره عزز العلاقة بين المدينة وبلدتي بيت لحم وبيت جالا (وهما المصدران الرئيسيان لتزويد القدس بحاجاتها من البنائين) وأيضاً بينها وبين قرى جبل الخليل لكن التوسع الفعلي للمدينة خارج الأسوار كان في اتجاه الشمال نحو وادي الجوز والشيخ جراح والطور حيث بدأ الأعيان المسلمون بناء بيوتهم الفخمة كما أنشأت الطبقة الوسطى المسيحية واليهودية في الأراضي الواقعة جهة الغرب تجمعات سكنية عصرية في اتجاه قرى لفتا ودير ياسين والمالحة.

كانت السمة الغالبة على العلاقة بين أعيان المدينة والقرى المحيطة بها هي الرعاية والحماية المتبادلة وليس حكم ارستقراطية غنية لفلاحين خاضعين لها وأحياناً كانت العلاقة التاريخية النموذجية القائمة بين الأعيان والفلاحين في المدن الإقطاعية في فلسطين (نابلس وعكا) تتخذ وضعا معكوساً عما هو الحال في القدس كما كان عليه الأمر بالنسبة إلى شيوخ أبو غوش في الغرب وعشائر اللحام في بيت لحم وقد وصفها شولش بعلاقة استمد فيها أعضاء مجلس القدس قوتهم وثروتهم من إدارة الأوقاف الدينية في المدينة ومن استخدام نفوذهم لدى الباب العالي لتقديم خدمات وامتيازات لشيوخ القرى والتوسط لحل النزعات بينهم ومع تزايد الهجرة والاستيطان الأوربيين امتدت هذه الرعاية لتشمل حماية الأقليات الدينية والإثنية في المنطقة.

لفترة طويلة من النصف الثاني من الفرن التاسع عشر انشغل ريف القدس الغربي بالنزاعات بين الملتزمين الكبار في المنطقة (سمحان وبيت لحم وأبو غوش) بشأن السيطرة على توكيل جباية الضرائب الزراعية من خلال تحالفات أعيان القدس في كثير من الأحيان وكانت العصبية الفلاحية التي تقسم الآهلين إلى قيس ويمن البوتقة التي استخدمها الشيوخ لتعبئة فلاحي قرى القدس وبيت لحم في عصابتهم المسلحة وكان شيخ أبو غوش (أبرز اليمنيين) مستقراً بمنطقة استراتيجيية بفعل سيطرته على طريق القدس- يافا الذي كان يسلكه الحجاج الأوربيين والتجار العرب الذين كانوا يستخدمون الطريق ولم يفرض حاكم القدس العثماني سيطرة الحكومة المركزية على هؤلاء القبضابات إلا في أوائل الستينيات من القرن التاسع عشر.

وفي أواخر الحكم العثماني تمكن باشا القدس بمساعدة مجلس المدينة من إعادة تنظيم العلاقة بين الحاكم والقرى المجاورة،من خلال تعين مخاتير القرى ممثلين محليين للدولة وكان ذلك تتويجاً للإصلاحات الإدارية التي أدخلها العثمانيون استجابة لما فرضته الدول الأوربية وشملت مركزة الجهاز البيوقراطي الإداري، وخصخصة الأراضي (من خلال قانون الأراضي لسنة 1858م، ومحاولة إلغاء نظام المشاع) وأخيراً الإلغاء الرسمي للمشيخات وجبايتها للضرائب الزراعية وفي مدينة القدس ازداد بروز المجلس البلدي وارتفعت مكانة عائلات القدس الحاكمة من أشراف المدينة إلى طبقة مهيمنة في فلسطين بأكملها وهو وضع ورثه الانتداب البريطاني

القرى الغربية قبل الحرب
مع تحول القدس إلى عاصمة لفلسطين بعد الحرب العالمية الأولى طرأ تحول على العلاقة بين المدينة وقرى قضاء القدس وهنا يجب أن نمييز بين ما أصبح قرى ضواحي (بيت حنينا ولفتا والمالحة ودير ياسين والعيزرية وسلوان وعين كارم) وبين تلك التي بقيت في عمق الريف.
إن (القدس الغربية) نفسها مصطلح يعود إلى سنة 1948م، ويرسم الحدود المعينة في اتفاقية الهدنة لسنة 1949م، للفصل بين ذلك الجزء من القدس الذي سيطرت عليه "إسرائيل" وبين القسم الشرقي الذي أصبح جزءا من الضفة الغربية تحت الحكم الأردني (1948-1967) مهما يكن الأمر فحتى قبل سنة 1948م، كان للقرى الواقعة إلى الغرب و الجنوب من المدينة خصوصيتها المستمدة من أهميتها الطوبوغرافية والتجارية فقد اتصفت القرى الغربية بقربها من طريق يافا الرئيسي واندماجها في أحياء الطبقة الوسطى في المدينة التي أخذت في التوسع في اتجاه الغرب.

وللحصول على صورة أفضل للطبيعة المغايرة لقرة غربي القدس عن باقي القضاء يجب مقارنة وضع هذه القرى بتلك التي بقيت في أيدي العرب بالمنحدرات الغربية لهضاب القدس تتميز بخصوصية التربة وبنسبة أعلى من كميات الأمطار والغطاء النباتي وتوجد في المنطقة جداول دائمة الجريان كما تتميز الأرض في المنحدرات الشرقية بأنها قاحلة وشبه قاحلة فالتربة فيها فقيرة وهي شديدة الانحدار نحو وادي الأردن وهذا ما يجعل من الصعب تدريجها كسلاسل والنتيجة هي (أو كانت) كثافة سكانية أعلى وتمركز للقرى في المنطقة الغربية التي وقعت تحت السيطرة "الإسرائيلية" وأحد العوامل الحاسمة التي أثرت في التغيرات التي طرأت على البنية الزراعية لهذه القرى هو قربها من المنحدرات الغربية للمدينة ومن مستوطنات الضواحي اليهودية تحديداً ويقترح الجغرافي عزيز دويك أربع حلقات متداخلة تتسع بإطراد ومراكزها القدس، على أن تعتبر خطوط هذه الدوائر (حدودا فاصلة) لبنية هذه القرى:

أولا: القرى الواقعة في نطاق الداخلية الممثلة بالحدود البلدية (على بعد أقل من 5كم من مركز المدينة) بما فيها العيسوية والطور وأبو عدس وسلوان وصور باهر. وهذه بقيت جميعاً في أيدي العرب بعد الحرب.

ثانيا: القرى الواقعة قريباً من مركز المدينة (5-10كم) وتشتمل من الجهة الغربية على لفتا والمحالحة وقالونيا والقسطل ودير ياسين وبيت صفافا والوالجة والجورة وعين كارم وهذه كانت في طريقها لأن تصبح ضواحي مدينة، وثبت أسعار الأراضي الزراعية فيها كالأراضي العقارية.

ثالثا: القرى المتوسطة البعد (10-20كم) وهي تشتمل على بيت تقوبا وأبو غوش وصوبا وخربة العمور وصطاف ودير عمرو وبيت ثول وساريس وعقور ودير الشيخ وراس أبو عمار وباستثناء قرية أبو غوش التي اعتبرتها الدولة اليهودية تجمعاً (متعاوناً) في حرب 1948م، فقد دمرت هذه القرى كلها عن بكرة أبيها.

رابعاً: قرى الحلقة الخارجية (أكثر من 20كم عن المركز) وتشتمل على نطاف وبيت محيسر ودير الهوا وإشوع وعطروف وعسلين وصرعة وخربة اسم الله ودير آبان ودير رافات وبيت عطاب وسفلى وجرش وبيت جمال والبريج وهذه أيضاً محيت تماماً عن وجه الأرض وأنشئت مستعمرات "إسرائيلية" فوق أنقاضها.

بلغت مساحة قضاء القدس 57،1 مليون دونم 4،88% يملكها عرب، 1،2% يملكها يهود، 5،9% أراضي عامة وبلغ عدد السكان 950،274 نسمة، 6،59% منهم عرب، 4،40% يهود (أرقام سنة 1945م) وكان مجموع مساحة أراضي قرى القدس الغربية التي دمرت 954،251 دونما منها 446،231 دونما للعرب (8،91%)، و6897نسمة لليهود (7،2%) و629،14 دونما أراضي عامة (8،5%) وكان مجموع السكان العرب الذين شردوا من تلك القرى 649،23 نسمة يضاف إليهم 25 ألف نسمة شردوا من أحياء القدس الغربية واحتوت على أثنين من أكبر ثلاث قرى في القضاء (عين كارم 1024دونما، ولفتا323دونما من الأراضي المبنية) وعلى المالحة وقالونيا وبيت محيسر التي كانت تعد بين أكبر عشر قرى في القضاء وأدى تشريد السكان من قراهم إلى ضغط سكاني على القرى الشرقية التي كان عليها استيعاب الكثيرين من اللاجئيين على أراضيها التي أفردت كمخيمات لهم.

إن القرى الواقعة في الحلقتين الداخليتين هي التي طرأ عليها أكبر قدر من التحول كونها أصبحت ضواحي للمدينة وللتصاعد في مكانة القدس كعاصمة مركزية للبلد ويعبر الوضع لفتا عن ذلك خير تعبير ففي أواسط الثلاثينيات أصبحت هذه القرية مصدرا رئيسيا لأنشطة البناء في المدينة (مقالع أحجار) والمهارات المرتبطة به واندمجت لفتا الفوقا في روميما الضاحية العربية اليهودية الجديدة وجعل اتساع أراضيها منها مركز جذب أساسي للاستثمار في العقارات وأوجد تفاوتاً في الثروات ضمن القرية إذ كانت حدود لفتا تنتهي عند صور باهر وبيت صفافا في الجنوب و الطور في الشرق وبيت حنينا وشعفاط في الجهة الشمالية الشرقية وعين كارم والمالحة في الجهة الجنوبية

أخذت العمارة في القرية تعكس طراز البناء في ضواحي القدس وتعقيداته وبدأت البيوت الفخمة المكونة من طبقتين مع ساحات داخلية وحدائق وبساتين ممتدة ترقط منحدرات لفتا التحتا وأدى إنشاء طريق للحافلات وتوسيع شبكة النقل إلى زيادة قدرة القرية على الحركة في اتجاه العالم الخارجي وتلقى عدد كثير من شبان القرية العلوم في كليات القدس وجامعات بيروت ودمشق والقاهرة وغيرها وتأسست في سنة 1935م، شركة باصات لفتا دير ياسين وامتلكت ثلاث حافلات وعدداً من سيارات الأجرة الخاصة وخلافاً للوضع في القرى الأبعد كان يوجد في لفتا مقهيان ومنجرتان وصالونات حلاقة وملحمة (قصاب) بالإضافة إلى عيادة طبية وطبيبين (درسا في الجامعة الأمريكية في بيروت) وممرضتين محترفتين كان لأهل القرية علاقات ودية واقتصادية جوهرية بالجالية اليهودية في القدس وذلك بسبب قرب قريتهم من الأحياء اليهودية والمختلطة (روميما وغفعات شاؤول ومحانيه يهودا ومئاه شعاريم) وربما كانت لفتا القرية الوحيدة بين قرى القدس التي نشأ تداخل مادي بينها وبين التجمعات السكنية اليهودية في القدس فقد بنيت مدرسة لفتا الأميرية المختلطة على أرض مشاع ملاصقة لروميما الحي اليهودي من أموال تبرع بها أهل القرية لكن هذه التطورات لم تكن مقصورة على لفتا وحدها إذ حدثت تطورات مماثلة في عين كارم ودير ياسين وبدرجة أقل في المالحة

شهدت دير ياسين التي أصبحت أكثر القرى الأربع شهرة تحولات مشابهة في الثلاثينات وقد ارتبط مصيرها بثراء المستعمرة اليهودية غفعات شاؤول التي نمت في نهاية المطاف بضم أراضي دير ياسين إليها بعد تدمير الأخير جزئياً في سنة 1948م، وبدأت القاعدة الزراعية لدير ياسين تتحول في العشرينيات المبكرة عندما شرح عدد من شبانها في العمل في صفوف الجيش والشرطة البريطانيين وفي مجال البناء: فقد بدأ استثمار مقلع الحجارة الأول فيها سنة 1927م، وكانت تعتز بوجود عشرة أنواع من حجارة البناء في الضواحي اليهودية الذي مارسته سلطات الانتداب رسمياً من أبرز شكاوى القرويين المتكررة يعلق عامل من دير ياسين :

اشتغلت مع الجيش البريطاني عشر سنين من سنة 38، وبقوا يعطونا 20 قرش ويعطوا اليهودي 40 قرش ولما بقينا نسألهم ليش اليهود بتعطوهم أكثر بقوا يقولولنا إنتوا بتروحوا على دياركم عندكم بندورة كوسا في أرضكم بس هدول مساكين ما عندهم أيشي

ويذكر هذا الشرح للفوارق في الأجور بين اليهود والعرب (حتى عندما يكون هؤلاء مدنيين ولا يملكون أرضا) والذي تم تبريره أيدلوجيا، بإشارة كارمي وروزنفلد في دراستهما لهذه الظاهرة إلى أن العمال العرب لديهم (خط أنابيب إلى حقول القرية) وهي مسألة ظلت مدار خلاف طوال فترة الانتداب وحتى سنة 1947م، كانت النشرات الرسمية للحكومة تصدر قائمة بمعدلات أجور مختلفة للعرب واليهود في مجالات العمل المتعددة.

بحلول الأربعينات كانت الحياة اليومية في لفتا وعين كارم ودير ياسين والمالحة قد أصبحت متداخلة بصورة متزايدة من النسيج الاجتماعي في الأحياء اليهودية المتنامية بيت هكيرم وغفعات شاؤول وكريات موشيه على الأغلب بصورة تعامل تجاري وأنشطة بناء وشكل بيع الخضروات والفاكهة ولا سيما من قبل نساء القرية وشراء مواد البناء من القرى الجزء الأكبر من الصفقات التجارية واستفاد القرويون أياً من الخدمات الطبية التي قدمها الأطباء اليهود منهم أخصائي العيون الدكتور تيخو الذي اكتسب شهرة كبيرة وأصبح اسمه يتردد في البيوت المتبادلة فيما بينها على وجه الإجمال ودية كما وصفها كناعنه في دراسته عن لفتا (ويقال إنه لا تزال صداقات قديمة بين أهل لفتا اليوم وبين يهود روميما قبل إقامة روميما كانت أقرب نقطة إلى لفتا هي مكان يسمونه محانيه يهود وغالباً ما كان أهل لفتا يتسوقون من ذلك السوق ويبيعون منتوجاتهم من الخضار والفواكه فيه وسكان ذلك المكان هم من اليهود الشرقين من الأكراد والبخاريين وكانوا يتكلمون اللغة العربية وتدل المقابلة التالية مع أحدى نساء لفتا على طبيعة العلاقات :كنا نشتري من عندهن وياخذوا منا حجار معاملة عادية زي الجيران ما كانش منافسات كلنا واحد يوم السبت بنزلوا اليهود والعرب في واحد لفتاوي تجوز وحدة يهودية منهم وهو فهمي إبراهيم أبو سعد

أما التناحرت التي ولدتها ثورة 1936م، التي شارك فيها عدد من فلاحي لفتا والمالحة ودير ياسين فما لبثت أن هدأت إلا إنها عادت لتطفوا على السطح خلال 1947-1948 بعد إعلان خطة التقسيم
حرب 1948 تضمنت العمليات العسكرية التي تلت خطة التقسيم في تشرين الثاني /نوفمبر 1947م، مواجهات بين القوات العربية واليهودية استمرت عاما واحدا (من كانون الأول/ديسمبر 1947حتى تشرين الثاني /نوفمبر 1948) تجمع في الجانب العربي الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني وجيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي وقوات من الجيش المصري والفيلق العربي (الأردني) بقيادة عبد الله التل ولم تشتبك القوات الرسمية العربية مع القوات اليهودية إلا بعد انتهاء الانتداب البريطاني في 15 أيار /مايو1948م، أي بعد أن حسم الصراع العسكري في فلسطين لمصلحة القرى (مثل المالحة ولفتا ودير ياسين) التي كان لديها بعض المدافعين المسلحين من سكانها.

في الجانب اليهودي كانت الهاغانا القوة العسكرية الرئيسية بقيادة دايفد بن غورين بالإضافة إلى قوات اليمن (التصحيحي) المنظمة العسكرية القومية إرغون تسفائي ليئومي وعصابة شيترون المعروفة أكثر باسم ليحي.
قامت القوات الصهيونية بثلاث عشرة عملية لاحتلال القدس وكان هدف هذه العمليات مزدوجاً فتح طريق تل أبيب يافا القدس الرئيسي لتأمين حرية الحركات للقوات اليهودية إخلاء القرى العربية الواقعة في نواحي (القدس الغربية) من سكانها الفلسطينيين لتوفير عمق ديموغرافي وتواصل بين الدولة اليهودية المقترحة وبين مدينة القدس في إطار خطة دالت وفي الفترة الفاصلة بين كانون الأول / ديسمبر 1947م، وفترة الانسحاب البريطاني (15أيار /مايو 1948) قام الصهيونيين بسبع عمليات عسكرية في القدس وهي براك ونحشون وهورئيل ومكابي ويبوسي وشفيفون وكلشون (المذارة) وقد جرت هذه العمليات كلها داخل حدود الدولة العربية المقترحة من جانب الأمم المتحدة وجرت العمليات الثلاث الأخيرة جزئياً داخل الحدود الدولية المقترحة للقدس واستمرت السلسة الثانية من الهجمات (عمليات بن –يورام وكلشون) بعد نهاية الانتداب (15 أيار/ مايو 1948) حتى الهدنة الأولى (11حزيران /يونيو1948) ووقع الهجوم الثالث أيضاً في المناطق المقترحة للدولة العربية (عمليتا داني وأن –فار) في الفترة ما بين الهدنتين واستغرق عشرة أيام (8-18تموز/يوليو) وكان الهجوم الرابع والأخير (الذي استمر فترة طويلة، ما بين 18تموز/يوليو حتى تشرين الثاني/نوفمبر1948) والمعروف باسم عملية ههار، حاسماً في إجلاء وتهجير سكان القرى العربية الواقعة غربي القدس

أظهرت المواجهة بين القوات العربية واليهودية المتحاربة ضعف الطرف العربي وقلة استعداده فأغلبية القوات الفلسطينية المحلية إما سحقت وإما ضعفت جراء حملة القمع البريطانية التي وجهت ضد ثورة 1963-1939 قبل فترة لا تتعدى ثمانية أعوام وكان جيش الإنقاذ غير موجود عملياً في منطقة القدس هذا الجيش الذي أنشأته اللجنة العسكرية المنبثقة من جامعة الدول العربية في تشرين الأول/أكتوبر1947من أجل الدفاع عن فلسطين وتألف من متطوعين عرب (معظمهم من السوريين والعراقيين والفلسطينيين) وقاتل في جليل والشمال وبسبب غياب جيش الإنقاذ عن وسط فلسطين اعتبرت اللجنة العسكرية بحكم الأمر الواقع القائد الكبير عبد القادر الحسيني قائداً لمنطقة القدس ورام الله والقائد الشيخ حسن سلامة قائداً لمنطقة يافا اللد وتابعين لها وفي القدس وقبل انسحاب القوات البريطانية كانت قوات الجهاد المقدس عملياً وحدها في ساحة القتال وجرى تعزيزها خلال أيار/مايو1948م، بسرية واحدة من جيش الإنقاذ تعدادها 300-500مقاتل (يبدو إن العدد كان يتأرجح زيادة ونقصاناً) بقيادة فاضل عبد الله رشيد وبسبعين متطوعاً من الإخوان المسلمين في سوريا بقيادة الشيخ مصطفى السباعي وفي المقابل كانت القوات اليهودية أكثر عدداً ومتفوقة جداً من ناحيتي التسليح والتدريب (كثير من أفرادها خدم في فرق الجيش البريطاني وفي جبهات القتال في أوربا) وكانت قوات المنشقين التابعة لإرغون تسفائي ليئومي التي نشطت بكثافة في منطقة القدس يافا متفوقة وحدها في العدد والعدة على القوات العربية إذ قدر عدد مقاتليها في سنة 1946م، بين 3000و5000 مقاتل بينما كان العدد الإجمالي لقوات جيش الإنقاذ بقيادة القاوقجي 3830مقاتلا وعدد مقاتلي الجهاد المقدس 1593 مقاتلاً.

في البداية كان عدد المقاتلين بقيادة عبد القادر الحسيني في الجهاد المقدس الذي أنشأته الهيئة العربية العليا في كانون الأول / ديسمبر 1947،25 مقاتلا فقط سرعان ما انضم إليهم متطوعون من المدن وميليشيات القرى ويذكر بهجت أبو غربية الذي كان ترتيبه الثالث في التسلسل الهرمي لقيادة الجهاد المقدس أن عدد سرايا الجيش إبان ذروة القتال من أجل القدس كان مجرد 15 سرية تشكلت خمس منها من ميليشيات المتطوعين المجندين من قرى الحلقة الخالدي القوات الريفية أما السرايا العشر الباقية فهي ميليشيات مجندة من المدينة بقيادة قادة فرعيين (رابطت في البلدة القديمة ووادي الجوز والشيخ جراح والقطمون وماميلا والمصرارة إلخ) وكان المجموع العام لهذه القوات كلها لا يتجاوز 740 مقاتلا بالإضافة إلى 1200مقاتل تابعين للقوات العربية المشتركة (جيش الإنقاذ والفيلق العربي والجيش المصري) وكانت القوات سيئة التنظيم والتسليح وتشير بيان نويهض الحوت إلى درجة عالية من التوتر ودرجة منخفضة من التنسيق بين القوتين العربيتين الرئيسيتين الجهاد المقدس وجيش الإنقاذ جزئياً بسبب العداوة الشخصية التي كان القاوقجي يكنها للحسيني وأساساً بسبب الرؤى المتباينة لدول الجامعة العربية لفلسطينيين.

حسمت مواجهتان عسكريتان رئيسيتان مصير أحياء (القدس الغربية) وقراها الأولى المعركة الاستراتيجية بشأن قرية القسطل (3-9نيسان /أبريل 1948م) والأخرى تطويق قرية دير ياسين (9 نيسان/أبريل 1948م) وتدميرها وفي الصراع الدامي بشأن القسطل تبادل العرب واليهود السيطرة مرتين على هذه القرية المشرفة على طريق القدس يافا لكن مقتل عبد القادر الحسيني القائد الأعلى لقوات الجهاد المقدس في ليلة 8نيسان/أبريل 1948م، أدى إلى تدهور معنويات القوات الفلسطينية وإخلاء المنطقة البالغة الأهمية الوقعة في الجهة الشرقية منها أما معركة دير ياسين فكان تأثيرها النفسي بالنسبة إلى نزوح السكان أخطر من نتائجها العسكرية فالقتال نفسه جرى بين بضعة مسلحين من القرية والقوات المشتركة من الأرغون ومجموعة شيترون ولم يكن هناك أي وجود لقوات من جيش الإنقاذ أو من الجهاد وفي إثر استسلام القرية أعلنت المجزرة وجرى تضخيم كبير من جانب القوات اليهودية (من أجل ترويع المقاومة في المنطقة وخارجها) ومن جانب القادة الفلسطينيين (من أجل استثارة ضغط دولي غربي ضد الصهيونيين) وبالغت الدعاية العربية كذلك في عدد ضحايا المجزرة من المدنيين (رفعت العدد من جانب 120إلى أكثر من 400) في البداية بسبب سوء تقدير عدد الضحايا ولاحقا من أجل تأكيد هول المأساة ونتيجة ذلك أصبحت القرية والمجزرة رمزاً للنكبة الفلسطينية وتولدت روح انهزامية شديدة الوطأة ساهمت في إخلاء القرى المجاورة وكانت لأحداث دير ياسين دور حاسمة في إخلاء لفتا وعين كارم والمالحة وغيرهما كما أدت لاحقا في أيار/مايو، دوراً حاسما في سقوط القطمون والبقعة وماميلا والمصرارة.

نجد في كتاب (كي لا ننسي) وصفاً منهجياً لعملية الطرد والنزوح هذه والكتاب المذكور مسح لما تعرضت له القرى الفلسطينية المدمرة استناداً إلى روايات شهود العيان العرب، والوثائق العسكرية "الإسرائيلية" والتقارير الفلسطينية والأجنبية المعاصرة للأحداث وبين العمليات العسكرية الثلاث عشرة لليهود المشار إليها أعلاه كان لعملتين دور حاسم في المجالات الناجحة لإجلاء السكان الفلسطينيين الأولى عملية نحشون (بدأت في ليلة 30آذار/مارس -1نيسان/ أبريل1948) التي وضع خطتها بن غوريون نفسه وشاركت فيها ثلاث كتائب من الهاغانا والبلماخ ونفذت في الإطار لعام لخطة دالت وبحسب بني موريس تميزت العملية بأنها كانت (بنية بذل الجهود لتطهير منطقية بأسرها وبصورة دائمة من القرى العربية والقرويين المعادين أو الذين يمكن أن يصبحوا معادين وقد نجحت العملية في احتلال وتطهير قرى دير محيسن وخلدة (كلتاهما في قضاء الهاغانا، هاجمت قوات إرغون تسفائي ليئومي وليحي دير ياسين وأسفرت المجزرة في القرية عن حالة ذعر واسعة النطاق وإخلاء عدة قرى مجاورة منها لفتا وعين كارم العملية الثانية ههار (بدأت في 18تشرين الأول/أكتوبر1948،بعد الهدنة الثانية) شكل رأس الرمح فيها لواءا هرئيل وعتسيوتي قادها يغآل ألون وكان هدف هذه العملية (توسيع الممر "الإسرائيلي" إلى القدس ووصله بالمنطقة المحتلة من قبل القوات اليهودية في هضاب الخليل ويعتقد موريس أن سكان المنطقة التي نفذت فيها هذه العملية (بما فيها قرى علار ودير آبان وبربرة) طردوا بأوامر ضمنية (أي غير مكتوبة) أصدرها يغآل ألون وقد انتهي المطاف باللاجئين من هذه المناطق إلى بيت لحم وهضاب الخليل

نتائج التشريد
أجلي سكان 38 قرية كبيرة وصغيرة من مجموع 40 قرية من قرى قضاء القدس بقيت في يد الجانب "الإسرائيلي" بعد اتفاقية الهدنة في سنة1949م، إلى الشرق من الحدود الجديدة.

وفي حالات نادرة جدا مثل قريتي العنب وقالونيا سمح لعدد قليل من السكان بالتوطن في قرى مجاورة مثل أبو غوش ولم يسمح عملياً لأي من لاجئي القدس بالعودة، على الرغم من بعض العروض الشكلية لإعادة اللاجئين وقرارات الأمم المتحدة بهذا الشأن وقد مكن دمج "القدس الشرقية" والضفة الغربية بعد حرب 1967م، في المناطق التي تسيطر عليها "إسرائيل" الآلاف من لاجئي القدس من العودة في الفترة الأولى من الاحتلال لزيارة خرائب قراهم الأصلية لكن هذه الزيارات أصبحت أشد صعوبة يوماً بعد يوم تشديد "إسرائيل" لحصارها على الفلسطينيين ومنعهم من دخول المناطق التي تحت سيطرتها.

ماذا حدث لهؤلاء اللاجئين؟
من الملاحظ أن الأغلبية الساحقة من لاجئي القدس واصلت العيش في مناطق الجوار المباشر لبيوتها الأصلية أي في نطاق يقل عن 100كم من تلك القرى. وقد تحدثنا في مقدمة الكتاب عن بيانات تسجيل الأونروا كمصدر رئيسي للمعومات بشأن عدد من لاجئي القدس وأماكن إقامتهم ونقطة الضعف الرئيسية في نظام السجل الموحد للأونروا ذات شقين أولاً بما أن الهدف الأساسي لتسجيل الأونروا هو أن يكون إطاراً لتقديم خدمات الإغاثة فإن يخفض بصورة جوهرية عدد اللاجئين المدنيين من الأحياء الغربية وهم الذين لم يكونوا بحاجة إلى هذه الخدمات أو رفضوا تلقيها وثانياً إنه لا يتضمن عدد اللاجئين الذين استقروا خارج نطاق حقل أنشطة الأونروا ولا يحدد وضعهم لكن هذه الفجوة هي أقل فيما يتعلق بلاجئي القدس الريفيين الذين كانوا في أغلبيتهم بحاجة إلى الإغاثة ونزعوا إلى الاستقرار في المخيمات وأماكن لجوء أخرى واقعة ضمن نطاق خدمات الأونروا الخمس: الضفة الغربية، الأردن، غزة، سورية، لبنان.

المصدر: (كتاب القدس 1948) الطعة الأولى 2002