نتابع: ج/6..التناقضات اليهودية ـ اليهودية، والصهيونية ـ اليهودية.
ويمثل الحزب المتدين القومي (المفدال) في اسرائيل هذا التيار الديني الصهيوني من النواحي السياسية، والاجتماعية، منذ ان تأسس عام 1956م من اتحاد (حركة همزراحي) (المركز الروحي) و(العامل المزراحي) اللتين ترعرعتا في قبل الحركة الصهيونية، على أفكار الحاخام يهودا قلعي، والحاخام الروسي شموئيل موهيليفر (1824 ـ 1898م) ومن بعدهما على افكار الحاخام ابراهام كوك اشرس الصهيونيين المتدينين، وأكثرهم تأثيرا في تسخير الدين اليهودي للاهداف الصهيونية[26].
فقد شن كوك في سنوات العشرينيات من هذا القرن هجوما شديدا، على من لا يهاجر الى اسرائيل من المتدينين اليهود المعارضين للصهيونية، واعتبر اليهودية في الشتات (ليس لها وجود حقيقي الا على اعتبار انها تتغذى بقطرات الحياة من ارض اسرائيل المقدسة) [27].
ورأى كوك ان الحياة المقدسة اليهودية الحقيقية (أي المنضوية بالصهيونية) لا تظهر الا بعودة الامة لبلادها رافضا انتظار (المسيح) رغم ايمانه به، وبالارادة التي يمثلها (رب اسرائيل) في اعادة اليهود لأرض (الميعاد).
وجاء من بعده الحاخام مئير بارايلان، ليؤيد بشكل اكثر شراسة على ضرورة الايمان بالصهيونية، وانضواء المتدينين اليهود في مشروعها تمهيدا لظهور مشيئة الرب (بالمسيح) القادم.
ومما لا شك فيه، ان النجاح في تأسيس (دولة اسرائيل) عام 1948 قد منح دفعة قوية للصهيونية الدينية، ومفاهيمها، وعزز دعواها في جعل (ارض اسرائيل) النقطة المركزية في حياة اليهود بدلا من انتظار (المسيح).
والمتدينون القوميون كانوا اول من شن الحرب على (المتدينين الحاراديم)، او (المتدينين اليهود التقليديين المتمسكين بقضية تعاليم التوراة، والتلمود وحرفية الالتزام بدعواهما) المعارضة للعمل الصهيوني وسياسته الكافرة) [28].
اما المتدينون (الحاراديم) المعارضون للصهيونية، والداعون الى تكفيرها، فينطلقون في رفضهم للصهيونية من مبدأ ان (الخلاص الحقيقي لليهود، هو الخلاص المسيحاني) الذي تقره التوراة والتلمود (أي انتظار المسيح)، وهذا الخلاص الذي يعني تأسيس (مملكة الرب في فلسطين) لا يمكن ان يتم بوسائل بشرية، حتى وان استخدم المال والسلاح، ويستشهد هؤلاء بما ورد في سفر اشعيا (52: 3): (هكذا قال الرب لقد باعوكم بدون مقابل لذلك لن يفك اسركم بالمال)… وفي سفر زكريا (4:6): (لا بالعنف، ولا بقوة الجيش لكن بروحي). وفي سفر هوشع: (1: 7): (سوف اخلصهم بقوة رب الخلود اليهم، ولن انقذهم بالقوة، ولا بالسيف، ولا بالحروب، ولا بالخيل، ولا بالفرسان).
وقد كان لهذا الرأي امتداداته الواسعة في أوساط اليهود منذ تأسيس الحركة الصهيونية، فثيودور هرتزل اعتبر من الهراطقة الكافرين، وتشكلت معارضة يهودية دينية لا يستهان بها، عرقلت مساعي الحركة الصهيونية على تشجيع هجرة اليهود الى فلسطين، حتى ان الهجرات الاولى، التي جاءت اثر الحرب العالمية الاولى، لم تضم في غالبية افرادها سوى يهود غير متدينين، معظمهم من روسيا التي انهارت القيصرية فيها واضطربت اوضاعها السياسية، والاقتصادية والاثنية مما اطلق العنان للحركة الصهيونية لاستغلال تلك الظروف السيئة، وتشجيع اليهود على الهجرة الى فلسطين.
وقد امتدت معارضة اليهود بين الطوائف اليهودية المتدينة الى الولايات المتحدة الامريكية ففي عام 1943 عقد اجتماع اثنين وتسعين حاخاما، في محاولة لعرقلة تيار الصهيونية، حيث صدر عن الاجتماع بيان جاء فيه: (اننا لا نستطيع الاسهام في التوجيه السياسي الذي يسيطر على البرنامج الصهيوني الحالي، ولا نؤيده، وذلك استنادا لمفهومنا العالمي لتاريخ المصير اليهودي، ولاننا مهتمون بوضع اليهود وأمنهم في الاجزاء الاخرى من العالم، ونحن نعتقد ان القومية اليهودية تعمل على خلق الحيرة، والغموض لدى زملائنا حول مكانتهم ووظائفهم في المجتمع، وتحويل انتباههم عن دورهم التاريخي، وهو أن يعيشوا في مجتمع ديني أينما كانوا) [29].
ومع ذلك تبقى نقطة الخلاف الجوهري بين المتدينين (الحاراديم) والفكر الصهيوني هي (ان الدعوة الصهيونية، واليهودية كتوراة وتلمود لا يمكن ان يتفقا، او ينسجما لان الصهيونية تعتبر تمردا على رب اسرائيل)، وخيانة لشعبه المختار، وان اليهودي الصالح لا يمكن ان يكون صهيونيا، والصهيوني لا يمكن ان يكون يهوديا صالحا[30].
والعودة (لارض الميعاد) لاعلان مملكة اسرائيل (رهن) بإرادة رب اسرائيل فقط. ويمثل هذا الرأي من الناحية التنظيمية، والسياسية (حزب اغودات يسرائيل) (جمعية اسرائيل) الذي اسسه عام 1912 في بولندا حاخاموا المانيا، وليتوانيا، وهنغاريا، وبولندا من اليهود الاورثوذوكس، كحركة تعارض الصهيونية، وتعتبرها كفرا، ومروقا عن التوراة، والتلمود، واعتداء على سلطة (المسيح).
وقد لاقت معارضة هذا الحزب الديني (الحاراديم) اصداء واسعة بين اليهود الاشكناز الى ان نجحت الصهيونية في خلق تيار معتدل داخل، ادى الى انشقاق مجموعة لا بأس بها، اطلقت على نفسها في الثلاثينيات اسم (ناطوري كارتا) أي (حراس العهد)، التي اعتبرت ان قادة (أغودات يسرائيل) تسعى رغم معارضتها للصهيونية الى استثمار الصهيونية، كأمر واقع، يبرر لها التعامل معها، وعدم مقاطعتها.
وعند اعلان الدولة عام 1948 التف حزب (أغودات يسرائيل) على افكاره التوراتية الرافضة لدولة اسرائيل الصهيونية، وبرر الاشتراك في عام 1949 بانتخابات برلمان (كنيست) دولة اسرائيل ضمن تجمع ديني ضمن احزاب دينية صهيونية، ومعادية للصهيونية فازت بـ16 مقعد من 120 (12.2%) ثم انفطر هذا التجمع، وتفتت قواه في انتخابات عام 1951، فاصبح لحزب أغودات يسرائيل، 5 مقاعد، وللحزب الديني القومي الصهيوني المفدال، 10 مقاعد.
وبعد احتلال الضفة الغربية، وقطاع غزة في حرب حزيران 1967 بدأت بعض القوى الدينية (الحارادية) المعارضة للصهيونية تبدل في علاقتها مع الدولة الصهيونية، معتبرة الانتصار في تلك الحرب معجزة، واشارة ربانية (للخلاص المسيحاني)، حين انطلق احد زعماء التيار الديني الحارادي زعيم حركة (حاباد) الحاخام شنيور سون قائلا: (ان دولة اسرائيل ككيان صهيوني، تعد تعبيرا عن الكفر، والتمرد على إرادة (رب اسرائيل) وهي لذلك ليست تعبيرا عن الخلاص لكن (ارض اسرائيل) تحت السيادة اليهودية لها معان دينية هامة، لذلك يهمنا عدم التنازل عن بقية أرض اسرائيل)… وفي المقابل رفض هذا المنطق مجموعة (دينية حارادية) أخرى، واستمرت على عدائها للحركة الصهيونية، وعدم التعامل معها، وهي حركة (ساطمار) الصغيرة[31].
ومع استمرار دولة اسرائيل اخذت اراء بعض التيارات الدينية الحرادية تصبح اكثر براغماتية من دولة اسرائيل، رغم استمرار معارضتها للصهيونية مثل تيار المدارس الدينية اللتوانية بزعامة الحاخام الكبير اليعازار شاخ الذي لا يقدس اسرائيل الراهنة برغم تعامله معها، معتبرا ان اقدر الاقداس هو (التوراة والمسيح القادم)!
ويتضح اخيرا بان الاتجاهات الدينية الحريدية تنقسم الى ثلاثة تيارات اساسية يجمعها العداء للطبيعة العلمانية للدولة (تكفير الدولة) واعتبار اسرائيل نوعا من انواع (المنفى) الروحاني طالما لم يظهر المسيح بعد هي: تيار (اغودات يسرائيل)، وتيار حركة (حاباد)، وتيار (ناتوري كارتا)، وبعض مجموعات هذه التيارات لا تهتم كثيرا بالتوجه بانشطتها الى المجتمع اليهودي العلماني في اسرائيل، وتكاد تكون مجتمع (غيتو) مغلقا على نفسه خصوصا حركة (اتقياء ساطمار) وحركة (حاباد). وفي مقابل هؤلاء توجد تيارات دينية حارادية تهتم باعادة اليهود غير المتدينين الى الدين اليهودي، وتطويعهم في المجتمعات الدينية المتزمتة. [32]
ومن بين الحركات الدينية الحارادية الجديدة، والمتنفذة داخل المجتمع الاسرائيلي ظهرت حركة (شاس) (شومري توراة سفاراديم) (المحافظون على التوراة الشرقيين) من ابناء الطوائف الشرقية (الحارادية) عام 1984 من قلب (حزب اغودات يسرائيل) احتجاجا على سيطرة الاشكناز على هذا الحزب الديني، ورفضهم اعطاء الشرقيين تمثيلا ملائما في مؤسسات الحزب وجمعياته. فقد مثل انشقاق زعيمه (عودباديا يوسف) الحاخام الاكبر لليهود الشرقيين ضربة قوية (لاغودات يسرائيل) حين حصل في انتخابات عام 1984 على 4 مقاعد في الكنيست، بينما لم يحصل (اغودات يسرائيل) الا على مقعدين، وخلال اثنتي عشرة سنة اصبحت حركة (شاس) ثالث حزب اسرائيلي بعد حزب العمل، والليكود، 10 مقاعد، وهي كحركة دينية (حارادية) للشرقيين اخذت تحصد تأييدا هائلا بين اليهود من اصول عربية، وشرقية مما جعلها لسان الميزان في تشكيل أية حكومة ائتلافية في اسرائيل.
(فأغودات يسرائيل) المنظمة الام لجميع التيارات الدينية المعارضة للصهيونية تفتت خلال عقود متعددة على خلفيات اثنية، اشكناز، سفاراد، وعلى خلفية براغماتية، التعامل مع الامر الواقع الاسرائيلي، وعلى خلفية فردية، اعتماد هذا الحاخام، ام ذلك (مسيحا) منتظرا.
مما جعل التيار الديني (الحارادي المتزمت) المعارض للصهيونية ينتشر في المجتمع الاسرائيلي على شكل (غيتوات) طائفية واثنية، ودينية متعددة جميعها تعارض الصهيونية، لكنها تتفاعل معها بهذا الشكل او ذاك لصالح افكارها، وزيادة نفوذها داخل اليهود، وان كانت تتمنى زوالها كحركة سياسية علمانية.
ومن المعروف ان كافة الاحزاب، والحركات الدينية لها مؤسسات خاصة دينية، واجتماعية، وكذلك مدارسها الخاصة، وكنسها المحددة، وميزانيتها وقيادتها الروحية المختلفة مع بعضها بعضا في أمور شتى.
ومن ابرز مظاهر الخلاف الملموسة داخل اسرائيل تعد مسألة الخدمة في الجيش الاسرائيلي من اشد مظاهر الخلاف الحاد بين المتدينين الصهيونيين والمتدينين غير الصهيونيين.
فبعد قيام اسرائيل، وسن قانون الخدمة الالزامية عام 1950 على كل يهودي يبلغ الثامنة عشر توجه عدد من زعماء (اغودات يسرائيل) بطلب الى دافيد بن غوريون رئيس الوزراء ووزير الدفاع، لاعفاء طلاب المعاهد الدينية اليهودية من الخدمة العسكرية من اجل اعداد جيل من الحاخاميين، تعويضا عن الذين قتلوا بان الفترة النارية في أوروبا، وبحجة ان انشغالهم في التوراة، والتلمود لن يوفر وقتا للخدمة في الجيش ابدا. فوافق بن غوريون لاعتبارات سياسية، وبراغماتية على هذا الطلب الذي كان يعني استثناء، 400 يهودي متدين من الخدمة رغم ان بن غوريون كان يعلن دوما، انه يريد تشكيل امة من الجنود لا أمة من الكهنة[33]، لكن هذا الامر، لم يكن هو السبب الحقيقي الوحيد لطلب اعفاء الشباب المتدينين (الحاراديم) من الخدمة، بل كان هناك اسباب اخرى يفرضها الدين اليهودي ايضا، فالمتدين اليهودي تدعوه التوراة، والتلمود الى الحرص على حياته كأولوية لا تعلو عليها أولوية، فالتلمود يصر على حفاظ اليهودي على نفسه، حتى لو كلفه ذلك التظاهر بتغيير دينه، وسلوك مسلك الامم التي اضطر للعيش بينها، وهذا ما يسمى (كيبوح هانيفيش) أي الحفاظ على الروح. والسبب الآخر هو ان اليهودي المتدين تدعوه التوراة لعدم خدمة الصهيونية، ومؤسساتها العسكرية، ثم ان هؤلاء المتدينين يعتبرون ان صلاتهم، ودراستهم للتوراة، والتلمود هي التي تنزل حماية (رب اسرائيل) على شعبه، وتحافظ عليه، أي انهم يحاربون، لكن بالدعاء، والصلوات، وقراءة التوراة. يقول التلمود: (ليس بعد قراءة التوراة ما هو أفضل ابدا). [34]
بل ان عدم التجنيد، وازدياد عدد (المتدينين الحاراديم) قد جعل ما يقرب من 26 ألفاً حسب احصاءات عام 1996 لا يخدمون في الجيش الاسرائيلي، وهذا التهرب من الخدمة اجج نار الخلاف بين المتدينين الصهيونيين (المفدال)، الذين يخدمون في الجيش، وقد يقتلون، وبين التيارات الدينية الحارادية التي لا يخدم ابناؤها بالجيش مثل حركة (شاس) و(أغودات يسرائيل) و(حركة يهود التوراة). مما جعل معظم تيارات المجتمع الاسرائيلي الدينية الصهيونية تستنكر تهاون الحكومة، مع المتدينين الحاراديم الذين يشاركون بالحكومة بعدد من الوزراء، ويتحكمون بقرارات هامة، داخل الساحة السياسية الاسرائيلية، ولا يخدمون…
هذا ماتم الحصول عليه من الكتاب قبل حجبه من جميع المواقع وبمجرد الوصول الى تتمة الكتاب نعدكم بمتابعة النشر بعون الله.
ويمثل الحزب المتدين القومي (المفدال) في اسرائيل هذا التيار الديني الصهيوني من النواحي السياسية، والاجتماعية، منذ ان تأسس عام 1956م من اتحاد (حركة همزراحي) (المركز الروحي) و(العامل المزراحي) اللتين ترعرعتا في قبل الحركة الصهيونية، على أفكار الحاخام يهودا قلعي، والحاخام الروسي شموئيل موهيليفر (1824 ـ 1898م) ومن بعدهما على افكار الحاخام ابراهام كوك اشرس الصهيونيين المتدينين، وأكثرهم تأثيرا في تسخير الدين اليهودي للاهداف الصهيونية[26].
فقد شن كوك في سنوات العشرينيات من هذا القرن هجوما شديدا، على من لا يهاجر الى اسرائيل من المتدينين اليهود المعارضين للصهيونية، واعتبر اليهودية في الشتات (ليس لها وجود حقيقي الا على اعتبار انها تتغذى بقطرات الحياة من ارض اسرائيل المقدسة) [27].
ورأى كوك ان الحياة المقدسة اليهودية الحقيقية (أي المنضوية بالصهيونية) لا تظهر الا بعودة الامة لبلادها رافضا انتظار (المسيح) رغم ايمانه به، وبالارادة التي يمثلها (رب اسرائيل) في اعادة اليهود لأرض (الميعاد).
وجاء من بعده الحاخام مئير بارايلان، ليؤيد بشكل اكثر شراسة على ضرورة الايمان بالصهيونية، وانضواء المتدينين اليهود في مشروعها تمهيدا لظهور مشيئة الرب (بالمسيح) القادم.
ومما لا شك فيه، ان النجاح في تأسيس (دولة اسرائيل) عام 1948 قد منح دفعة قوية للصهيونية الدينية، ومفاهيمها، وعزز دعواها في جعل (ارض اسرائيل) النقطة المركزية في حياة اليهود بدلا من انتظار (المسيح).
والمتدينون القوميون كانوا اول من شن الحرب على (المتدينين الحاراديم)، او (المتدينين اليهود التقليديين المتمسكين بقضية تعاليم التوراة، والتلمود وحرفية الالتزام بدعواهما) المعارضة للعمل الصهيوني وسياسته الكافرة) [28].
اما المتدينون (الحاراديم) المعارضون للصهيونية، والداعون الى تكفيرها، فينطلقون في رفضهم للصهيونية من مبدأ ان (الخلاص الحقيقي لليهود، هو الخلاص المسيحاني) الذي تقره التوراة والتلمود (أي انتظار المسيح)، وهذا الخلاص الذي يعني تأسيس (مملكة الرب في فلسطين) لا يمكن ان يتم بوسائل بشرية، حتى وان استخدم المال والسلاح، ويستشهد هؤلاء بما ورد في سفر اشعيا (52: 3): (هكذا قال الرب لقد باعوكم بدون مقابل لذلك لن يفك اسركم بالمال)… وفي سفر زكريا (4:6): (لا بالعنف، ولا بقوة الجيش لكن بروحي). وفي سفر هوشع: (1: 7): (سوف اخلصهم بقوة رب الخلود اليهم، ولن انقذهم بالقوة، ولا بالسيف، ولا بالحروب، ولا بالخيل، ولا بالفرسان).
وقد كان لهذا الرأي امتداداته الواسعة في أوساط اليهود منذ تأسيس الحركة الصهيونية، فثيودور هرتزل اعتبر من الهراطقة الكافرين، وتشكلت معارضة يهودية دينية لا يستهان بها، عرقلت مساعي الحركة الصهيونية على تشجيع هجرة اليهود الى فلسطين، حتى ان الهجرات الاولى، التي جاءت اثر الحرب العالمية الاولى، لم تضم في غالبية افرادها سوى يهود غير متدينين، معظمهم من روسيا التي انهارت القيصرية فيها واضطربت اوضاعها السياسية، والاقتصادية والاثنية مما اطلق العنان للحركة الصهيونية لاستغلال تلك الظروف السيئة، وتشجيع اليهود على الهجرة الى فلسطين.
وقد امتدت معارضة اليهود بين الطوائف اليهودية المتدينة الى الولايات المتحدة الامريكية ففي عام 1943 عقد اجتماع اثنين وتسعين حاخاما، في محاولة لعرقلة تيار الصهيونية، حيث صدر عن الاجتماع بيان جاء فيه: (اننا لا نستطيع الاسهام في التوجيه السياسي الذي يسيطر على البرنامج الصهيوني الحالي، ولا نؤيده، وذلك استنادا لمفهومنا العالمي لتاريخ المصير اليهودي، ولاننا مهتمون بوضع اليهود وأمنهم في الاجزاء الاخرى من العالم، ونحن نعتقد ان القومية اليهودية تعمل على خلق الحيرة، والغموض لدى زملائنا حول مكانتهم ووظائفهم في المجتمع، وتحويل انتباههم عن دورهم التاريخي، وهو أن يعيشوا في مجتمع ديني أينما كانوا) [29].
ومع ذلك تبقى نقطة الخلاف الجوهري بين المتدينين (الحاراديم) والفكر الصهيوني هي (ان الدعوة الصهيونية، واليهودية كتوراة وتلمود لا يمكن ان يتفقا، او ينسجما لان الصهيونية تعتبر تمردا على رب اسرائيل)، وخيانة لشعبه المختار، وان اليهودي الصالح لا يمكن ان يكون صهيونيا، والصهيوني لا يمكن ان يكون يهوديا صالحا[30].
والعودة (لارض الميعاد) لاعلان مملكة اسرائيل (رهن) بإرادة رب اسرائيل فقط. ويمثل هذا الرأي من الناحية التنظيمية، والسياسية (حزب اغودات يسرائيل) (جمعية اسرائيل) الذي اسسه عام 1912 في بولندا حاخاموا المانيا، وليتوانيا، وهنغاريا، وبولندا من اليهود الاورثوذوكس، كحركة تعارض الصهيونية، وتعتبرها كفرا، ومروقا عن التوراة، والتلمود، واعتداء على سلطة (المسيح).
وقد لاقت معارضة هذا الحزب الديني (الحاراديم) اصداء واسعة بين اليهود الاشكناز الى ان نجحت الصهيونية في خلق تيار معتدل داخل، ادى الى انشقاق مجموعة لا بأس بها، اطلقت على نفسها في الثلاثينيات اسم (ناطوري كارتا) أي (حراس العهد)، التي اعتبرت ان قادة (أغودات يسرائيل) تسعى رغم معارضتها للصهيونية الى استثمار الصهيونية، كأمر واقع، يبرر لها التعامل معها، وعدم مقاطعتها.
وعند اعلان الدولة عام 1948 التف حزب (أغودات يسرائيل) على افكاره التوراتية الرافضة لدولة اسرائيل الصهيونية، وبرر الاشتراك في عام 1949 بانتخابات برلمان (كنيست) دولة اسرائيل ضمن تجمع ديني ضمن احزاب دينية صهيونية، ومعادية للصهيونية فازت بـ16 مقعد من 120 (12.2%) ثم انفطر هذا التجمع، وتفتت قواه في انتخابات عام 1951، فاصبح لحزب أغودات يسرائيل، 5 مقاعد، وللحزب الديني القومي الصهيوني المفدال، 10 مقاعد.
وبعد احتلال الضفة الغربية، وقطاع غزة في حرب حزيران 1967 بدأت بعض القوى الدينية (الحارادية) المعارضة للصهيونية تبدل في علاقتها مع الدولة الصهيونية، معتبرة الانتصار في تلك الحرب معجزة، واشارة ربانية (للخلاص المسيحاني)، حين انطلق احد زعماء التيار الديني الحارادي زعيم حركة (حاباد) الحاخام شنيور سون قائلا: (ان دولة اسرائيل ككيان صهيوني، تعد تعبيرا عن الكفر، والتمرد على إرادة (رب اسرائيل) وهي لذلك ليست تعبيرا عن الخلاص لكن (ارض اسرائيل) تحت السيادة اليهودية لها معان دينية هامة، لذلك يهمنا عدم التنازل عن بقية أرض اسرائيل)… وفي المقابل رفض هذا المنطق مجموعة (دينية حارادية) أخرى، واستمرت على عدائها للحركة الصهيونية، وعدم التعامل معها، وهي حركة (ساطمار) الصغيرة[31].
ومع استمرار دولة اسرائيل اخذت اراء بعض التيارات الدينية الحرادية تصبح اكثر براغماتية من دولة اسرائيل، رغم استمرار معارضتها للصهيونية مثل تيار المدارس الدينية اللتوانية بزعامة الحاخام الكبير اليعازار شاخ الذي لا يقدس اسرائيل الراهنة برغم تعامله معها، معتبرا ان اقدر الاقداس هو (التوراة والمسيح القادم)!
ويتضح اخيرا بان الاتجاهات الدينية الحريدية تنقسم الى ثلاثة تيارات اساسية يجمعها العداء للطبيعة العلمانية للدولة (تكفير الدولة) واعتبار اسرائيل نوعا من انواع (المنفى) الروحاني طالما لم يظهر المسيح بعد هي: تيار (اغودات يسرائيل)، وتيار حركة (حاباد)، وتيار (ناتوري كارتا)، وبعض مجموعات هذه التيارات لا تهتم كثيرا بالتوجه بانشطتها الى المجتمع اليهودي العلماني في اسرائيل، وتكاد تكون مجتمع (غيتو) مغلقا على نفسه خصوصا حركة (اتقياء ساطمار) وحركة (حاباد). وفي مقابل هؤلاء توجد تيارات دينية حارادية تهتم باعادة اليهود غير المتدينين الى الدين اليهودي، وتطويعهم في المجتمعات الدينية المتزمتة. [32]
ومن بين الحركات الدينية الحارادية الجديدة، والمتنفذة داخل المجتمع الاسرائيلي ظهرت حركة (شاس) (شومري توراة سفاراديم) (المحافظون على التوراة الشرقيين) من ابناء الطوائف الشرقية (الحارادية) عام 1984 من قلب (حزب اغودات يسرائيل) احتجاجا على سيطرة الاشكناز على هذا الحزب الديني، ورفضهم اعطاء الشرقيين تمثيلا ملائما في مؤسسات الحزب وجمعياته. فقد مثل انشقاق زعيمه (عودباديا يوسف) الحاخام الاكبر لليهود الشرقيين ضربة قوية (لاغودات يسرائيل) حين حصل في انتخابات عام 1984 على 4 مقاعد في الكنيست، بينما لم يحصل (اغودات يسرائيل) الا على مقعدين، وخلال اثنتي عشرة سنة اصبحت حركة (شاس) ثالث حزب اسرائيلي بعد حزب العمل، والليكود، 10 مقاعد، وهي كحركة دينية (حارادية) للشرقيين اخذت تحصد تأييدا هائلا بين اليهود من اصول عربية، وشرقية مما جعلها لسان الميزان في تشكيل أية حكومة ائتلافية في اسرائيل.
(فأغودات يسرائيل) المنظمة الام لجميع التيارات الدينية المعارضة للصهيونية تفتت خلال عقود متعددة على خلفيات اثنية، اشكناز، سفاراد، وعلى خلفية براغماتية، التعامل مع الامر الواقع الاسرائيلي، وعلى خلفية فردية، اعتماد هذا الحاخام، ام ذلك (مسيحا) منتظرا.
مما جعل التيار الديني (الحارادي المتزمت) المعارض للصهيونية ينتشر في المجتمع الاسرائيلي على شكل (غيتوات) طائفية واثنية، ودينية متعددة جميعها تعارض الصهيونية، لكنها تتفاعل معها بهذا الشكل او ذاك لصالح افكارها، وزيادة نفوذها داخل اليهود، وان كانت تتمنى زوالها كحركة سياسية علمانية.
ومن المعروف ان كافة الاحزاب، والحركات الدينية لها مؤسسات خاصة دينية، واجتماعية، وكذلك مدارسها الخاصة، وكنسها المحددة، وميزانيتها وقيادتها الروحية المختلفة مع بعضها بعضا في أمور شتى.
ومن ابرز مظاهر الخلاف الملموسة داخل اسرائيل تعد مسألة الخدمة في الجيش الاسرائيلي من اشد مظاهر الخلاف الحاد بين المتدينين الصهيونيين والمتدينين غير الصهيونيين.
فبعد قيام اسرائيل، وسن قانون الخدمة الالزامية عام 1950 على كل يهودي يبلغ الثامنة عشر توجه عدد من زعماء (اغودات يسرائيل) بطلب الى دافيد بن غوريون رئيس الوزراء ووزير الدفاع، لاعفاء طلاب المعاهد الدينية اليهودية من الخدمة العسكرية من اجل اعداد جيل من الحاخاميين، تعويضا عن الذين قتلوا بان الفترة النارية في أوروبا، وبحجة ان انشغالهم في التوراة، والتلمود لن يوفر وقتا للخدمة في الجيش ابدا. فوافق بن غوريون لاعتبارات سياسية، وبراغماتية على هذا الطلب الذي كان يعني استثناء، 400 يهودي متدين من الخدمة رغم ان بن غوريون كان يعلن دوما، انه يريد تشكيل امة من الجنود لا أمة من الكهنة[33]، لكن هذا الامر، لم يكن هو السبب الحقيقي الوحيد لطلب اعفاء الشباب المتدينين (الحاراديم) من الخدمة، بل كان هناك اسباب اخرى يفرضها الدين اليهودي ايضا، فالمتدين اليهودي تدعوه التوراة، والتلمود الى الحرص على حياته كأولوية لا تعلو عليها أولوية، فالتلمود يصر على حفاظ اليهودي على نفسه، حتى لو كلفه ذلك التظاهر بتغيير دينه، وسلوك مسلك الامم التي اضطر للعيش بينها، وهذا ما يسمى (كيبوح هانيفيش) أي الحفاظ على الروح. والسبب الآخر هو ان اليهودي المتدين تدعوه التوراة لعدم خدمة الصهيونية، ومؤسساتها العسكرية، ثم ان هؤلاء المتدينين يعتبرون ان صلاتهم، ودراستهم للتوراة، والتلمود هي التي تنزل حماية (رب اسرائيل) على شعبه، وتحافظ عليه، أي انهم يحاربون، لكن بالدعاء، والصلوات، وقراءة التوراة. يقول التلمود: (ليس بعد قراءة التوراة ما هو أفضل ابدا). [34]
بل ان عدم التجنيد، وازدياد عدد (المتدينين الحاراديم) قد جعل ما يقرب من 26 ألفاً حسب احصاءات عام 1996 لا يخدمون في الجيش الاسرائيلي، وهذا التهرب من الخدمة اجج نار الخلاف بين المتدينين الصهيونيين (المفدال)، الذين يخدمون في الجيش، وقد يقتلون، وبين التيارات الدينية الحارادية التي لا يخدم ابناؤها بالجيش مثل حركة (شاس) و(أغودات يسرائيل) و(حركة يهود التوراة). مما جعل معظم تيارات المجتمع الاسرائيلي الدينية الصهيونية تستنكر تهاون الحكومة، مع المتدينين الحاراديم الذين يشاركون بالحكومة بعدد من الوزراء، ويتحكمون بقرارات هامة، داخل الساحة السياسية الاسرائيلية، ولا يخدمون…
هذا ماتم الحصول عليه من الكتاب قبل حجبه من جميع المواقع وبمجرد الوصول الى تتمة الكتاب نعدكم بمتابعة النشر بعون الله.