هل ممرات الغاز العالمي سر الصراع الدائر في العالم الآن؟؟
معتز منصور
قبيل اندلاع نيران ما يسمى بالربيع العربي، وبالتحديد في العام 2009، قدمت إمارة قطر عرضاً إقتصادياً تصورتهُ مغرياً للرئيس السوري بشار الاسد، متمثلاً في قيام مشيخة قطر بتمويل مَدْ خط أنابيب الغاز القطري المُسال، من قطر مرورًا بالعربية السعودية، وصولاً إلى سورية، الى البحر الابيض المتوسط.
رغم ما حفل به العرض القطري من مُغريات، لم يكن أمام سورية سوى إغلاق الباب أمامه، حفاظاً على علاقة دمشق الاستراتيجية مع موسكو. إذ كانت قطر تمثل المنافس الأكبر لروسيا في تصدير الغاز وخصوصا المُسال منه. و لم يكن الأمر متعلقاً بالفائدة المادية فحسب، إذ جاء في توقيت حرج بالنسبة لروسيا، التي تحاول استعادة مكانتها وسيطرتها على أوروبا عن طريق إمدادها بالطاقة التي هي عصب الاقتصاد الأوروبي.
وهكذا اتُخذ القرار السوري، بتجاهل العرض الآتي من "الشقيق" القطري، (الذي كانت العلاقات السورية معه دافئة على نحو يسمح بذلك)، من أجل تمتين التحالف مع "الصديق" الروسي. على أنّ ما كان كفيلاً باشتعال مرجل الحقد لدى القطري لم يكن تجاهل عرضه المُغري فحسب، بل كان موافقة سورية، بالوقت نفسه تقريباً، على عرض إيراني مُشابه، تمثل في مَد خط غاز يمتد من إيران مروراً بالعراق، منتهياً بسورية.
ما إن استشعر القطري أن سورية قد يممت وجهها شطر موسكو وطهران، حتى اعتبرها قد اصطفت مع خصميه اللدودين في "المعركة الكبرى" التي كان ملعبها "حقل بارس". فمن المعروف أن الغاز الإيراني مصدره ذلك الحقل في الخليج الذي هو عينه مصدر الغاز القطري، وهو من أكبر حقول الغاز في العالم. يقع نصفه تقريبا في المياه الإقليمية الإيرانية، بينما يقع النصف الآخر في قطر.
وهنا يمكن للقارئ أن يتخيل كأس ماء واحدة، يقوم شخصان بشفط مائها في الوقت نفسه من خلال أنبوبين، كما يمكن للقارئ أن يتذكر أمراً مشابهاً حدث على الحدود العراقية الكويتية في بداية تسعينات القرن العشرين، حين قامت الكويت بسحب كميات هائلة من النفط من حقل نفطي على حدودها مع العراق، وضخَته في الأسواق، عمداً، بسعرٍ بخس، ما أسهم في تخفيض سعر النفط إلى مستويات كارثية بالنسبة للعراق الذي كان خارجاً لتوّه من حرب الثماني سنوات مع إيران ويعوزه الكثير لترميم بُناه التحتية المُدمرة. ما كان سبباً مباشراً في قرار غزو الكويت، صيف العام 1990.
نعود إلى الغاز الإيراني الذي كان وصوله إلى سورية وتسييله وبيعه في أسواق متلهفة، يعني نجاح طهران في كسر الحصار الاقتصادي بالعقوبات التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون. وهذا يعني أيضاً فقدان مشيخة قطر الصغيرة مكانتها كأكبر مورد للغاز المسال في العالم، لأن الغاز الإيراني كان سيُصبِح أقرب لأوروبا وبالتالي أقل كلفة وأعلى قيمة إقتصادية وأجدر بالاستيراد.
هنا، دعونا نتوقف لدقيقة واحدة لنُطالع خريطة الغار في العالم، حيث تتمحور أهمية الغاز، بعد وقوع كارثة مفاعل فوكوشيما، التي أسهمت في إرباك خطط الاعتماد على الطاقة النووية، وتخفيضها إلى الحد الأدنى.
وبسبب الإحتباس الحراري، أصبح الإتجاه العام لدى الدول العظمى الاعتماد على الغاز النظيف الأقل تلويثاً للبيئة، وتقليل الإعتماد على البترول والفحم، ناهيك عن رخص أسعاره اذا ما تم تأمين طرق نقل اقتصادية. والتي لا تخرج عن طريقتين:
أولا: الأنابيب (وتلك هي الوسيلة الأرخص على المدى الطويل) لكنها تحتاج الى تأمين الإستقرار لخط سير الأنبوب.
ثانيا: الإسالة، ثم التعبئة في حاويات ضخمة تُنقل بناقلات عملاقة في البحر. ما يرفع من الكلفة الاقتصادية، على نحو يجعل من مَد الأنابيب هو "الخيار الأفضل" بالنسبة للدول الأكبر انتاجاً للغاز وهي روسيا - قطر - إيران - ومؤخرا سورية، وسنعرف أثر ذلك على الأزمة في الفترة السابقة والراهنة.
فغرب أوروبا من أكبر المستوردين للغاز، الذي يُشكّل تقريباً ثلث استهلاك تلك الدول من الطاقة، وكذلك الدول الصناعية في جنوب شرق أسيا.
هناك غاز روسي يأتي عبر البحر الأسود ليصل أسيا وكذلك لأوروبا. كما أن هناك غاز قطري يملك طموحاً جامحاً في الوصول، عبر الأنابيب، لأوروبا. بالمثل لدينا غاز إيراني يصل الى الصين. لكنه لا يصل لأوروبا لأسباب عدة.
أضف الى ذلك حقول الطاقة المكتشفة حديثاً (وخصوصا الغاز) في البحر المتوسط، وأميركا التي تختزن أرضها ثروات نفطية هائلة، في طبقات صخرية، أمكن إيجاد طرق لاستخراج الخام منها.. لتصبح الولايات المتحدة بغنى عن استيراد نفط من الخارج، على نحو جعلها تِفكر في أسواق تصريف إنتاجها النفطي الفائض عن حاجاتها.
ولا ننسى في هذا السياق الإعلان عن اكتشاف "الكيان الصهيوني" لحقول كبرى للغاز بالمتوسط، بشكل يُمكنها من التحول من مستورد إلى مُصدّر ولأول مرة ، للطاقة. ويشاع أن مصر وقعت معها عقود استيراد بعد ان استنفدت حكوماتها البائسة، مخزونها من الغاز ببيعه لـ"إسرائيل" والاردن وأسبانيا، بثمن بخس.
مهما يكن من أمر، فإذا وضعنا كل ما سبق إلى جوار بعضه بعضاً، لأمكننا اكتشاف أن هذا السيل العرم من الغاز خلق أزمة كبرى تسمى "ممرات الطاقة". فالغاز أو النفط، حتى ينتقل من الشرق للغرب أو العكس يحتاج الى ممر/أنبوب. ومن أجل أن يمر الانبوب في أرضك، تصبح أنت الخيار الانسب بل يمكننا القول انه الوحيد لمسار الأنبوب. فوجود ممر طاقة في أرضك، بغض النظر عن العائد المادي لذلك، يعني إن كل الدول الشريكة والمستفيدة من ذلك الممر، سواء مصدرة أو مستوردة ستدعم إستقرار نظامك، لأن استقرار نظامك يعني إستقرار مسار الطاقة.
وهنا نأتي الى دور تركيا وسيناء وسوريا وداعش وكل ما يدور في المنطقة الحيوية للطاقة ومساراتها.
كان التركي يواجه مشكلة بدت بلا حل: موارده من الطاقة ضعيفة، على نحو جعل سعر الغاز لديه هو الأعلى في العالم بأسره. وترتب على ذلك عدم قدرة على اعتماد الغاز كمصدر طاقة، لتأسيس صناعة، تمنحه منتَج رخيص ينافس في الاسواق العالمية. من أجل ذلك سعى المخطط التركي لرسم مسار مختلف: حيث يكون كل الغاز الآتي من وسط أسيا ومن الخليج مارا باراضيه. ثم تكون تركيا هي الموزع لدول أوروبا، بما يعنيه ذلك من تأثير تركي هائل في الاقتصاد الاوروبي، بشكل يُقرّب التركي من حلم قبوله عضواً بالاتحاد الاوروبي، كما لا يمكن اغفال تأثيره أيضا على علاقة تركيا بممالك الخليج.
وَمِمَّا زاد حجم الأزمة الكارثية التي عاناها التركي، الكشف عن حقول غاز ونفط داخل المياه الإقليمية السورية "انظر الخريطة"، تضع سورية موضع الكويت على خريطه النفط العالمية.
وهكذا كان ما يمكن وصفه بأنه "الهدف الاستراتيجي" للحلف الذي ربط مصالح الاخوان وتركيا وقطر. هو تدمير كل الخطط البديلة لأن تنفيذ خط أنابيب الغاز (إيران العراق سوريا) يعني بالضرورة تصدير الغاز لجنوب أوروبا عن طريق مد نفس خط الأنابيب الى قبرص (التي لديها مشاكل جمة مع تركيا) وتحاشي المرور بالاراضي التركية.
كان لزامًا على تركيا التعاون مع قطر على وضع لائحة أهداف أهمها تدمير أي فرصة لإنشاء ذلك الخط، عن طريق تنظيم "داعش" الارهابي. ويمكننا بالعين المجردة ملاحظة أن كل مواضع تمركز "داعش" في سورية والعراق، هي أهم محطات تجميع وتوزيع الغاز في سورية والعراق، فقد كان مستحيلاً أن يسمح الغرب لسورية (الممانعة) بحصد كل تلك الموارد الآتية من مصادرها الطاقوية المُكتشفة حديثاً، أو تلك التي ستحصلها من مرور النفط الايراني باراضيها، وهي حليف الروس وإيران ضمن "محور الشر" بالتعبير الساذج لجورج بوش.
عمّق من أزمة تركيا ومن جنون رئيسها "اردوغان"، قيام موسكو بإنشاء خط غاز إسمه "نورث ستريم" أو "السيل الشمالي" يصل من شمال روسيا الى ألمانيا، كقاعدة لتوزيع الغاز نحو شمال أوروبا، كما بدأت موسكو تخطط لتنفيذ خط غاز آخر "ساوث ستريم" أو "السيل الجنوبي" كان من المفترض أن يصل لجنوب أوروبا.
ولعل الصورة المرفقة، توضح أن "السيل الجنوبي" لم يكن ليمرعبر تركيا، كما توضح أن الغاز الروسي كان سيصل فعليا الى جنوب أوروبا عن طريق أوكرانيا. ولعل ذلك يصلح بدوره، كتفسير لما يجري في أوكرانيا، دون غيرها.
هنا دخلت واشنطن على الخط من زاويتين أولهما: إشعال الأرض تحت أقدام الروس في أوكرانيا، وثانيهما: انشاء خط للغاز إسمه "نابوبكو"، يُفترض به نقل الغاز من إذربيجان، ليمر عبر تركيا ثم الى جنوب أوروبا. وكان ذلك كفيلاً بإسالة لُعاب أردوغان، الذي كان مستعداً لفعل كل ما يطلبه الأميركي. لكن هذا الأخير لم يضع في حسبانه قيام الروس بضربة استباقية بارعة عبر قيامهم بشراء إنتاج الغاز من أذربيجان لعشرة سنوات قادمة.
غير بعيد عن السياق، يأتي دور سيناء، فمن أجل قراءة متعمقة لتفجيرات سيناء وهذا الوجود السرطاني لتنظيم "أنصار بيت المقدس" لا بد من الإلمام بالدور الاسرائيلي الطامع في ان يكون جزءاً من كل ذلك، وخصوصاً ممر الغاز العتيد. ومن اجل ان تكون جزءاً من الممر لا بد ان تكون الممرات البديله غير آمنة، على أقل تقدير. وهو ذات الدور الذي قامت ولا زالت تقوم به داعش في سوريا وما يقوم به أنصار بيت المقدس في سيناء، فلا تستطيع ان تغفل أبدا ان خط الغاز الذي كان يجري تفجيره في شبه جزيرة سيناء مرة كل بضعة أسابيع، ليس هو الانبوب المتجه حاملا غاز للعدو الاسرائيلي، بل هو الانبوب الذي ينقل الغاز للأردن ويمكنك الاطلاع على الخريطة، كمثال لأحد التفجيرات التي دائماً وأبداً ما تستهدف خط غاز العريش/ الأردن.
فقد كانت عين "الكيان الصهيوني" على استخدام ناقلات النفط والغاز لخطوط الأنبابيب بين ميناء إيلات وميناء أشكيلون على البحر المتوسط، وبأسعار أقل من البديل وهو عبور الناقلات لقناة السويس، ترافق مع ذلك ومنذ فترة انتشار فيديوهات لبيت المقدس تضرب السفن العابرة في قناة السويس، وهو ما يدفع شركات التأمين العالمية ليس لرفع قيمة التأمين على الناقلات فحسب، بل وعلى حمولاتها أيضاً، مما يضاعف من خسائر تلك الوسيلة ويدفع باتجاه الاخرى.
هنا يواجهنا سؤال، تمكين الاخوان وحكم مرسي لمصر، هل كان جزءاً من الإتفاق القطري التركي الإسرائيلي؟! وبإزاحة الإخوان من الحكم في القاهرة، وتوسيع وتأمين قناة السويس، لا بد وأن يتأثر موضع "إسرائيل" كممر طاقة. وبالسياق نفسه نستطيع قراءة الخلاف السعودي القطري، فعقب اتفاق الدولتين على قضية واحدة وهي الاطاحة بالنظام السوري، وتعطيل ممر الطاقة إيران – العراق – سوريا، تم اكتشاف حقول غاز عملاقة غرب السعودية، تعيد السعودية مرة أخرى لخريطة تصدير الغاز العالمية.
فقد كانت خطة القطري تتبنى إقامة خطها للأنابيب مارًا بشمال غرب السعودية، ما رفضته الأخيرة، لاعتبارات مرور الخط المزمع اقامته في المنطقة الشرقية، فضلا عن التوتر الناجم عن الغيرة التي تحكم العلاقة بين الأسرتين الحاكمتين في السعودية و قطر. فكان الحل القطري عبر محاولة إذكاء التوجهات الانفصالية لدى سكان شرق السعودية، بما يؤدي في خاتمة المطاف لتقسيم السعودية. والدولة الإنفصالية الجديدة التي كان يسعى القطري لخلقها، ستمتد حدودها بشكل يسمح بإقامة خط الغاز من قطر.. لكوردستان .. لتركيا في المستقبل.
ختاماً، لا يمكننا النظر الى ما يجرى الآن بالمنطقة خارج السياق السابق إجمالا، فدفع السعودية باتجاه مغامرة العدوان على اليمن، على هذا النحو الوقِح، والذي أيدته الولايات المتحدة الامريكية وقطر وتركيا والصهاينة، ربما كان من قبيل دفعة الى الأمام، ما دام هذا "الأمام" هو "الهاوية" التي تنبه إليها بعض أفراد العائلة الحاكمة، فتصاعدت انتقاداتهم، عبر الجدران المغلقة، للعملية العسكرية السعودية على اليمن، والتي يمكن أن تنسج خيوطها المتشابكة حبل مشنقة للسعوديين الذين احتفلوا العام الفائت بثمانين عاماً على تأسيس مملكتهم العتيدة.
معتز منصور
قبيل اندلاع نيران ما يسمى بالربيع العربي، وبالتحديد في العام 2009، قدمت إمارة قطر عرضاً إقتصادياً تصورتهُ مغرياً للرئيس السوري بشار الاسد، متمثلاً في قيام مشيخة قطر بتمويل مَدْ خط أنابيب الغاز القطري المُسال، من قطر مرورًا بالعربية السعودية، وصولاً إلى سورية، الى البحر الابيض المتوسط.
رغم ما حفل به العرض القطري من مُغريات، لم يكن أمام سورية سوى إغلاق الباب أمامه، حفاظاً على علاقة دمشق الاستراتيجية مع موسكو. إذ كانت قطر تمثل المنافس الأكبر لروسيا في تصدير الغاز وخصوصا المُسال منه. و لم يكن الأمر متعلقاً بالفائدة المادية فحسب، إذ جاء في توقيت حرج بالنسبة لروسيا، التي تحاول استعادة مكانتها وسيطرتها على أوروبا عن طريق إمدادها بالطاقة التي هي عصب الاقتصاد الأوروبي.
وهكذا اتُخذ القرار السوري، بتجاهل العرض الآتي من "الشقيق" القطري، (الذي كانت العلاقات السورية معه دافئة على نحو يسمح بذلك)، من أجل تمتين التحالف مع "الصديق" الروسي. على أنّ ما كان كفيلاً باشتعال مرجل الحقد لدى القطري لم يكن تجاهل عرضه المُغري فحسب، بل كان موافقة سورية، بالوقت نفسه تقريباً، على عرض إيراني مُشابه، تمثل في مَد خط غاز يمتد من إيران مروراً بالعراق، منتهياً بسورية.
ما إن استشعر القطري أن سورية قد يممت وجهها شطر موسكو وطهران، حتى اعتبرها قد اصطفت مع خصميه اللدودين في "المعركة الكبرى" التي كان ملعبها "حقل بارس". فمن المعروف أن الغاز الإيراني مصدره ذلك الحقل في الخليج الذي هو عينه مصدر الغاز القطري، وهو من أكبر حقول الغاز في العالم. يقع نصفه تقريبا في المياه الإقليمية الإيرانية، بينما يقع النصف الآخر في قطر.
وهنا يمكن للقارئ أن يتخيل كأس ماء واحدة، يقوم شخصان بشفط مائها في الوقت نفسه من خلال أنبوبين، كما يمكن للقارئ أن يتذكر أمراً مشابهاً حدث على الحدود العراقية الكويتية في بداية تسعينات القرن العشرين، حين قامت الكويت بسحب كميات هائلة من النفط من حقل نفطي على حدودها مع العراق، وضخَته في الأسواق، عمداً، بسعرٍ بخس، ما أسهم في تخفيض سعر النفط إلى مستويات كارثية بالنسبة للعراق الذي كان خارجاً لتوّه من حرب الثماني سنوات مع إيران ويعوزه الكثير لترميم بُناه التحتية المُدمرة. ما كان سبباً مباشراً في قرار غزو الكويت، صيف العام 1990.
نعود إلى الغاز الإيراني الذي كان وصوله إلى سورية وتسييله وبيعه في أسواق متلهفة، يعني نجاح طهران في كسر الحصار الاقتصادي بالعقوبات التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون. وهذا يعني أيضاً فقدان مشيخة قطر الصغيرة مكانتها كأكبر مورد للغاز المسال في العالم، لأن الغاز الإيراني كان سيُصبِح أقرب لأوروبا وبالتالي أقل كلفة وأعلى قيمة إقتصادية وأجدر بالاستيراد.
هنا، دعونا نتوقف لدقيقة واحدة لنُطالع خريطة الغار في العالم، حيث تتمحور أهمية الغاز، بعد وقوع كارثة مفاعل فوكوشيما، التي أسهمت في إرباك خطط الاعتماد على الطاقة النووية، وتخفيضها إلى الحد الأدنى.
وبسبب الإحتباس الحراري، أصبح الإتجاه العام لدى الدول العظمى الاعتماد على الغاز النظيف الأقل تلويثاً للبيئة، وتقليل الإعتماد على البترول والفحم، ناهيك عن رخص أسعاره اذا ما تم تأمين طرق نقل اقتصادية. والتي لا تخرج عن طريقتين:
أولا: الأنابيب (وتلك هي الوسيلة الأرخص على المدى الطويل) لكنها تحتاج الى تأمين الإستقرار لخط سير الأنبوب.
ثانيا: الإسالة، ثم التعبئة في حاويات ضخمة تُنقل بناقلات عملاقة في البحر. ما يرفع من الكلفة الاقتصادية، على نحو يجعل من مَد الأنابيب هو "الخيار الأفضل" بالنسبة للدول الأكبر انتاجاً للغاز وهي روسيا - قطر - إيران - ومؤخرا سورية، وسنعرف أثر ذلك على الأزمة في الفترة السابقة والراهنة.
فغرب أوروبا من أكبر المستوردين للغاز، الذي يُشكّل تقريباً ثلث استهلاك تلك الدول من الطاقة، وكذلك الدول الصناعية في جنوب شرق أسيا.
هناك غاز روسي يأتي عبر البحر الأسود ليصل أسيا وكذلك لأوروبا. كما أن هناك غاز قطري يملك طموحاً جامحاً في الوصول، عبر الأنابيب، لأوروبا. بالمثل لدينا غاز إيراني يصل الى الصين. لكنه لا يصل لأوروبا لأسباب عدة.
أضف الى ذلك حقول الطاقة المكتشفة حديثاً (وخصوصا الغاز) في البحر المتوسط، وأميركا التي تختزن أرضها ثروات نفطية هائلة، في طبقات صخرية، أمكن إيجاد طرق لاستخراج الخام منها.. لتصبح الولايات المتحدة بغنى عن استيراد نفط من الخارج، على نحو جعلها تِفكر في أسواق تصريف إنتاجها النفطي الفائض عن حاجاتها.
ولا ننسى في هذا السياق الإعلان عن اكتشاف "الكيان الصهيوني" لحقول كبرى للغاز بالمتوسط، بشكل يُمكنها من التحول من مستورد إلى مُصدّر ولأول مرة ، للطاقة. ويشاع أن مصر وقعت معها عقود استيراد بعد ان استنفدت حكوماتها البائسة، مخزونها من الغاز ببيعه لـ"إسرائيل" والاردن وأسبانيا، بثمن بخس.
مهما يكن من أمر، فإذا وضعنا كل ما سبق إلى جوار بعضه بعضاً، لأمكننا اكتشاف أن هذا السيل العرم من الغاز خلق أزمة كبرى تسمى "ممرات الطاقة". فالغاز أو النفط، حتى ينتقل من الشرق للغرب أو العكس يحتاج الى ممر/أنبوب. ومن أجل أن يمر الانبوب في أرضك، تصبح أنت الخيار الانسب بل يمكننا القول انه الوحيد لمسار الأنبوب. فوجود ممر طاقة في أرضك، بغض النظر عن العائد المادي لذلك، يعني إن كل الدول الشريكة والمستفيدة من ذلك الممر، سواء مصدرة أو مستوردة ستدعم إستقرار نظامك، لأن استقرار نظامك يعني إستقرار مسار الطاقة.
وهنا نأتي الى دور تركيا وسيناء وسوريا وداعش وكل ما يدور في المنطقة الحيوية للطاقة ومساراتها.
كان التركي يواجه مشكلة بدت بلا حل: موارده من الطاقة ضعيفة، على نحو جعل سعر الغاز لديه هو الأعلى في العالم بأسره. وترتب على ذلك عدم قدرة على اعتماد الغاز كمصدر طاقة، لتأسيس صناعة، تمنحه منتَج رخيص ينافس في الاسواق العالمية. من أجل ذلك سعى المخطط التركي لرسم مسار مختلف: حيث يكون كل الغاز الآتي من وسط أسيا ومن الخليج مارا باراضيه. ثم تكون تركيا هي الموزع لدول أوروبا، بما يعنيه ذلك من تأثير تركي هائل في الاقتصاد الاوروبي، بشكل يُقرّب التركي من حلم قبوله عضواً بالاتحاد الاوروبي، كما لا يمكن اغفال تأثيره أيضا على علاقة تركيا بممالك الخليج.
وَمِمَّا زاد حجم الأزمة الكارثية التي عاناها التركي، الكشف عن حقول غاز ونفط داخل المياه الإقليمية السورية "انظر الخريطة"، تضع سورية موضع الكويت على خريطه النفط العالمية.
وهكذا كان ما يمكن وصفه بأنه "الهدف الاستراتيجي" للحلف الذي ربط مصالح الاخوان وتركيا وقطر. هو تدمير كل الخطط البديلة لأن تنفيذ خط أنابيب الغاز (إيران العراق سوريا) يعني بالضرورة تصدير الغاز لجنوب أوروبا عن طريق مد نفس خط الأنابيب الى قبرص (التي لديها مشاكل جمة مع تركيا) وتحاشي المرور بالاراضي التركية.
كان لزامًا على تركيا التعاون مع قطر على وضع لائحة أهداف أهمها تدمير أي فرصة لإنشاء ذلك الخط، عن طريق تنظيم "داعش" الارهابي. ويمكننا بالعين المجردة ملاحظة أن كل مواضع تمركز "داعش" في سورية والعراق، هي أهم محطات تجميع وتوزيع الغاز في سورية والعراق، فقد كان مستحيلاً أن يسمح الغرب لسورية (الممانعة) بحصد كل تلك الموارد الآتية من مصادرها الطاقوية المُكتشفة حديثاً، أو تلك التي ستحصلها من مرور النفط الايراني باراضيها، وهي حليف الروس وإيران ضمن "محور الشر" بالتعبير الساذج لجورج بوش.
عمّق من أزمة تركيا ومن جنون رئيسها "اردوغان"، قيام موسكو بإنشاء خط غاز إسمه "نورث ستريم" أو "السيل الشمالي" يصل من شمال روسيا الى ألمانيا، كقاعدة لتوزيع الغاز نحو شمال أوروبا، كما بدأت موسكو تخطط لتنفيذ خط غاز آخر "ساوث ستريم" أو "السيل الجنوبي" كان من المفترض أن يصل لجنوب أوروبا.
ولعل الصورة المرفقة، توضح أن "السيل الجنوبي" لم يكن ليمرعبر تركيا، كما توضح أن الغاز الروسي كان سيصل فعليا الى جنوب أوروبا عن طريق أوكرانيا. ولعل ذلك يصلح بدوره، كتفسير لما يجري في أوكرانيا، دون غيرها.
هنا دخلت واشنطن على الخط من زاويتين أولهما: إشعال الأرض تحت أقدام الروس في أوكرانيا، وثانيهما: انشاء خط للغاز إسمه "نابوبكو"، يُفترض به نقل الغاز من إذربيجان، ليمر عبر تركيا ثم الى جنوب أوروبا. وكان ذلك كفيلاً بإسالة لُعاب أردوغان، الذي كان مستعداً لفعل كل ما يطلبه الأميركي. لكن هذا الأخير لم يضع في حسبانه قيام الروس بضربة استباقية بارعة عبر قيامهم بشراء إنتاج الغاز من أذربيجان لعشرة سنوات قادمة.
غير بعيد عن السياق، يأتي دور سيناء، فمن أجل قراءة متعمقة لتفجيرات سيناء وهذا الوجود السرطاني لتنظيم "أنصار بيت المقدس" لا بد من الإلمام بالدور الاسرائيلي الطامع في ان يكون جزءاً من كل ذلك، وخصوصاً ممر الغاز العتيد. ومن اجل ان تكون جزءاً من الممر لا بد ان تكون الممرات البديله غير آمنة، على أقل تقدير. وهو ذات الدور الذي قامت ولا زالت تقوم به داعش في سوريا وما يقوم به أنصار بيت المقدس في سيناء، فلا تستطيع ان تغفل أبدا ان خط الغاز الذي كان يجري تفجيره في شبه جزيرة سيناء مرة كل بضعة أسابيع، ليس هو الانبوب المتجه حاملا غاز للعدو الاسرائيلي، بل هو الانبوب الذي ينقل الغاز للأردن ويمكنك الاطلاع على الخريطة، كمثال لأحد التفجيرات التي دائماً وأبداً ما تستهدف خط غاز العريش/ الأردن.
فقد كانت عين "الكيان الصهيوني" على استخدام ناقلات النفط والغاز لخطوط الأنبابيب بين ميناء إيلات وميناء أشكيلون على البحر المتوسط، وبأسعار أقل من البديل وهو عبور الناقلات لقناة السويس، ترافق مع ذلك ومنذ فترة انتشار فيديوهات لبيت المقدس تضرب السفن العابرة في قناة السويس، وهو ما يدفع شركات التأمين العالمية ليس لرفع قيمة التأمين على الناقلات فحسب، بل وعلى حمولاتها أيضاً، مما يضاعف من خسائر تلك الوسيلة ويدفع باتجاه الاخرى.
هنا يواجهنا سؤال، تمكين الاخوان وحكم مرسي لمصر، هل كان جزءاً من الإتفاق القطري التركي الإسرائيلي؟! وبإزاحة الإخوان من الحكم في القاهرة، وتوسيع وتأمين قناة السويس، لا بد وأن يتأثر موضع "إسرائيل" كممر طاقة. وبالسياق نفسه نستطيع قراءة الخلاف السعودي القطري، فعقب اتفاق الدولتين على قضية واحدة وهي الاطاحة بالنظام السوري، وتعطيل ممر الطاقة إيران – العراق – سوريا، تم اكتشاف حقول غاز عملاقة غرب السعودية، تعيد السعودية مرة أخرى لخريطة تصدير الغاز العالمية.
فقد كانت خطة القطري تتبنى إقامة خطها للأنابيب مارًا بشمال غرب السعودية، ما رفضته الأخيرة، لاعتبارات مرور الخط المزمع اقامته في المنطقة الشرقية، فضلا عن التوتر الناجم عن الغيرة التي تحكم العلاقة بين الأسرتين الحاكمتين في السعودية و قطر. فكان الحل القطري عبر محاولة إذكاء التوجهات الانفصالية لدى سكان شرق السعودية، بما يؤدي في خاتمة المطاف لتقسيم السعودية. والدولة الإنفصالية الجديدة التي كان يسعى القطري لخلقها، ستمتد حدودها بشكل يسمح بإقامة خط الغاز من قطر.. لكوردستان .. لتركيا في المستقبل.
ختاماً، لا يمكننا النظر الى ما يجرى الآن بالمنطقة خارج السياق السابق إجمالا، فدفع السعودية باتجاه مغامرة العدوان على اليمن، على هذا النحو الوقِح، والذي أيدته الولايات المتحدة الامريكية وقطر وتركيا والصهاينة، ربما كان من قبيل دفعة الى الأمام، ما دام هذا "الأمام" هو "الهاوية" التي تنبه إليها بعض أفراد العائلة الحاكمة، فتصاعدت انتقاداتهم، عبر الجدران المغلقة، للعملية العسكرية السعودية على اليمن، والتي يمكن أن تنسج خيوطها المتشابكة حبل مشنقة للسعوديين الذين احتفلوا العام الفائت بثمانين عاماً على تأسيس مملكتهم العتيدة.