الرحالة المغربي محمد المكانسي في رحلته إلى بيت المقدس.
السلطان "سيدي محمد بن عبد اللّه"، وهو السلطان الذي حكم المغرب ما بين 1757/1790م. وقد أولى اهتماماً كبيراً للحال الاقتصاديّ في المغرب في تلك الفترة، وقام بإصلاحات في هذا المجال، واستطاع أنْ يقيم علاقات طيبة مع الدول الأوروبية بعد قطيعةٍ طويلة، وقد أوفد في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، وتحديداً في أول شهر محرم من عام 1200هـ، وفداً إلى السلطان العثماني في إسطنبول، برئاسة وزيره الثقة وسفيره "محمد بن عبد الوهاب المكناسي" الذي قام برحلاتٍ متعددة إلى بلاد كثيرة، ولكن المشهور رحلته إلى البلاط العثماني المدوّنة تفاصيلها وزيارته إلى فلسطين وبيت المقدس في كتاب عنوانه: (إحراز المعلى والرقيب في حج بيت اللّه الحرام، وزيارة القدس الشريف، والخليل، وقبر الحبيب).
وقد قرّر الباحث "محمد بوكبوط" تلك الرحلة وقال: "إنّ رحلة المكناسي وسفارته إلى السلطان العثماني ساهمت في تصحيح كثيرٍ من المقولات التي علقت بتاريخ العثمانيين، من جراء اعتماد شبه مطلق في تناول تاريخهم على كتابات وتقارير الأوروبيين".
وقد زار المكانسي مدينة دمشق، وتوجّه منها لزيارة عكا يوم 9 ربيع الأول عام 1202هـ وكتب في ذلك يقول: (ولما قربنا منها أرسلنا من يكتري لنا داراً ننزل بها، فطاف البلاد كلّها فلم يجد منزلاً، فسمع بذلك الوزير صاحب البلد "أحمد باشا الجزار" فعيّن لنا منزلاً مشرِفاً على البحر في أحسن حال، ولهذا الوزير أثر كبير بهذه المدينة، وهو الذي شهرها وبه اشتهرت، وأهل البلد يثنون عليه كثيراً، وله جرايات على الضعفاء والفقراء ورواتب للذين لا يسألون الناس إلحافاً).
وقد قضى الرحالة المكانسي تسعة أيام في عكا، زار معالمها، وتعرّف على عادات أهلها، ومن الطريف أنّه سعى لترتيب رحلة عودته إلى المغرب عن طريق البحر على متن سفينة، وكانت السفينة ترتّب أمور السفر الذي يستغرق وقتاً وتحضيرات طويلة، فلم يشأ الرحالة المكانسي أنْ يضيع الوقت بالانتظار من غير فائدة فقرّر القيام برحلة سريعة لزيارة بعض مدن فلسطين، وأهمّها زيارة بيت المقدس، وقد كان له ذلك، فزار مدينة نابلس، وقال عنها: (هي متوسطة بين جبال مرآها حسن، وبناؤها كله بالحجارة المنحوتة وماؤها كثير وذات بساتين، إلا أنّ أزقتها كثيرة العفونات والطريق إليها من قلعتها في صعود وهبوط وحجارة).
أمّا خلال زيارته للقدس فقد كان مبهوراً بمعالمها وآثارها والمقدسات الكثيرة فيها، وقد قال في كتابه عن بيت المقدس: (لها سور حصين، مبنيّ بالحجارة في غاية الإتقان، وأبوابه حصينة الإغلاق ستة هي (باب العمود، باب الزاهرة، باب الأسباط، باب المغاربة، باب النبي داود والخليل) وكان أول ما فعلناه أنْ توجّهنا للمسجد الأقصى، فدخلنا أولاً إلى قبة الصخرة).
وهنا يقدّم الرحالة المكانسي انطباعه عن المدينة وعن المسجد الأقصى المبارك في وصف بنائه والقبة والأعمدة وصفاً غاية في الجمال فيقول في وصفه للمكان تحت الصخرة: (والمكان تحت الصخرة كثير الأنس، يجد الإنسان فيه نشاطاً وخفة، وانشراحاً لعبادة اللّه).
لم يسلكْ الرحالة المكانسي في وصفه لمدينة القدس والمسجد سلوكاً سياسياً فلم يتحدث عن ذلك، ولم يتحدّث أيضاً عن الظروف التي كانت في ذلك الوقت ومدى تأثيرها وتأثّرها بالمقدسات الدينية في المدينة، لكنّه اعتنى بخاصة في الوصف وقد يكون هذا بسبب انبهاره بما شاهد فيقول مشيداً في وصف المسجد: (محرابه، بناؤه، وهو مكسو من داخله بألواح من الرخام عددها سبعة عشر، ثمانية بيض وحمر ترمز إلى صلاتيّ الظهر والعصر، وثلاثة سود ترمز إلى صلاة المغرب، واثنتان خضراوان ترمزان لصلاة الصبح، وأبوابه أحد عشر باباً، والمسجد مسوّر). وفي إشارة خاطفة للسكان في رحاب وأكناف بيت المقدس يقول: (ولأهل بيت المقدس بشاشة وطلاقة وأخلاق حسنة، وميل إلى مؤانسة الغريب، ومسامرته والمحادثة معه).
وامتدّت زيارته إلى الطور ، يقول: (ومن جبل الطور يظهر بيت المقدس في غاية البهاء والابتهاج وحسن المنظر، وكذا من جهة القبلة).
وقد عاد لزيارة مدينة الخليل، وقال: (هي في قبلة القدس، أشبه شيء بمكة عند أول نظرة، مبنية على جبال، فزرنا خليل الرحمن عليه السلام وزوجته أم الأنبياء سارة).
إنّ زيارة الرحالة المكانسي إلى مدينة القدس وبلاد الشام وإلى الدولة العثمانية وبتكليفٍ من سلطان المغرب في ذلك الوقت سيدي محمد بن عبد اللّه دليلٌ جديد على تعلّق العرب والمسلمين عبر مراحل التاريخ بمدينة القدس والمسجد الأقصى كمعلم مقدس، وقد كتب الرحالة المكانسي انطباعاته ومشاهداته في البلاد التي زارها فكانت صورة مشرقة وأمينة ما زال الرحالة العرب يتمسكون بقيمها ومعانيها الشريفة لإعطاء صورة صادقة غير مشبوهة عن بلادنا ومقدساتنا.
المصدر: بقلم/ عدنان كنفاني- خاص بموقع مدينة القدس.
السلطان "سيدي محمد بن عبد اللّه"، وهو السلطان الذي حكم المغرب ما بين 1757/1790م. وقد أولى اهتماماً كبيراً للحال الاقتصاديّ في المغرب في تلك الفترة، وقام بإصلاحات في هذا المجال، واستطاع أنْ يقيم علاقات طيبة مع الدول الأوروبية بعد قطيعةٍ طويلة، وقد أوفد في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، وتحديداً في أول شهر محرم من عام 1200هـ، وفداً إلى السلطان العثماني في إسطنبول، برئاسة وزيره الثقة وسفيره "محمد بن عبد الوهاب المكناسي" الذي قام برحلاتٍ متعددة إلى بلاد كثيرة، ولكن المشهور رحلته إلى البلاط العثماني المدوّنة تفاصيلها وزيارته إلى فلسطين وبيت المقدس في كتاب عنوانه: (إحراز المعلى والرقيب في حج بيت اللّه الحرام، وزيارة القدس الشريف، والخليل، وقبر الحبيب).
وقد قرّر الباحث "محمد بوكبوط" تلك الرحلة وقال: "إنّ رحلة المكناسي وسفارته إلى السلطان العثماني ساهمت في تصحيح كثيرٍ من المقولات التي علقت بتاريخ العثمانيين، من جراء اعتماد شبه مطلق في تناول تاريخهم على كتابات وتقارير الأوروبيين".
وقد زار المكانسي مدينة دمشق، وتوجّه منها لزيارة عكا يوم 9 ربيع الأول عام 1202هـ وكتب في ذلك يقول: (ولما قربنا منها أرسلنا من يكتري لنا داراً ننزل بها، فطاف البلاد كلّها فلم يجد منزلاً، فسمع بذلك الوزير صاحب البلد "أحمد باشا الجزار" فعيّن لنا منزلاً مشرِفاً على البحر في أحسن حال، ولهذا الوزير أثر كبير بهذه المدينة، وهو الذي شهرها وبه اشتهرت، وأهل البلد يثنون عليه كثيراً، وله جرايات على الضعفاء والفقراء ورواتب للذين لا يسألون الناس إلحافاً).
وقد قضى الرحالة المكانسي تسعة أيام في عكا، زار معالمها، وتعرّف على عادات أهلها، ومن الطريف أنّه سعى لترتيب رحلة عودته إلى المغرب عن طريق البحر على متن سفينة، وكانت السفينة ترتّب أمور السفر الذي يستغرق وقتاً وتحضيرات طويلة، فلم يشأ الرحالة المكانسي أنْ يضيع الوقت بالانتظار من غير فائدة فقرّر القيام برحلة سريعة لزيارة بعض مدن فلسطين، وأهمّها زيارة بيت المقدس، وقد كان له ذلك، فزار مدينة نابلس، وقال عنها: (هي متوسطة بين جبال مرآها حسن، وبناؤها كله بالحجارة المنحوتة وماؤها كثير وذات بساتين، إلا أنّ أزقتها كثيرة العفونات والطريق إليها من قلعتها في صعود وهبوط وحجارة).
أمّا خلال زيارته للقدس فقد كان مبهوراً بمعالمها وآثارها والمقدسات الكثيرة فيها، وقد قال في كتابه عن بيت المقدس: (لها سور حصين، مبنيّ بالحجارة في غاية الإتقان، وأبوابه حصينة الإغلاق ستة هي (باب العمود، باب الزاهرة، باب الأسباط، باب المغاربة، باب النبي داود والخليل) وكان أول ما فعلناه أنْ توجّهنا للمسجد الأقصى، فدخلنا أولاً إلى قبة الصخرة).
وهنا يقدّم الرحالة المكانسي انطباعه عن المدينة وعن المسجد الأقصى المبارك في وصف بنائه والقبة والأعمدة وصفاً غاية في الجمال فيقول في وصفه للمكان تحت الصخرة: (والمكان تحت الصخرة كثير الأنس، يجد الإنسان فيه نشاطاً وخفة، وانشراحاً لعبادة اللّه).
لم يسلكْ الرحالة المكانسي في وصفه لمدينة القدس والمسجد سلوكاً سياسياً فلم يتحدث عن ذلك، ولم يتحدّث أيضاً عن الظروف التي كانت في ذلك الوقت ومدى تأثيرها وتأثّرها بالمقدسات الدينية في المدينة، لكنّه اعتنى بخاصة في الوصف وقد يكون هذا بسبب انبهاره بما شاهد فيقول مشيداً في وصف المسجد: (محرابه، بناؤه، وهو مكسو من داخله بألواح من الرخام عددها سبعة عشر، ثمانية بيض وحمر ترمز إلى صلاتيّ الظهر والعصر، وثلاثة سود ترمز إلى صلاة المغرب، واثنتان خضراوان ترمزان لصلاة الصبح، وأبوابه أحد عشر باباً، والمسجد مسوّر). وفي إشارة خاطفة للسكان في رحاب وأكناف بيت المقدس يقول: (ولأهل بيت المقدس بشاشة وطلاقة وأخلاق حسنة، وميل إلى مؤانسة الغريب، ومسامرته والمحادثة معه).
وامتدّت زيارته إلى الطور ، يقول: (ومن جبل الطور يظهر بيت المقدس في غاية البهاء والابتهاج وحسن المنظر، وكذا من جهة القبلة).
وقد عاد لزيارة مدينة الخليل، وقال: (هي في قبلة القدس، أشبه شيء بمكة عند أول نظرة، مبنية على جبال، فزرنا خليل الرحمن عليه السلام وزوجته أم الأنبياء سارة).
إنّ زيارة الرحالة المكانسي إلى مدينة القدس وبلاد الشام وإلى الدولة العثمانية وبتكليفٍ من سلطان المغرب في ذلك الوقت سيدي محمد بن عبد اللّه دليلٌ جديد على تعلّق العرب والمسلمين عبر مراحل التاريخ بمدينة القدس والمسجد الأقصى كمعلم مقدس، وقد كتب الرحالة المكانسي انطباعاته ومشاهداته في البلاد التي زارها فكانت صورة مشرقة وأمينة ما زال الرحالة العرب يتمسكون بقيمها ومعانيها الشريفة لإعطاء صورة صادقة غير مشبوهة عن بلادنا ومقدساتنا.
المصدر: بقلم/ عدنان كنفاني- خاص بموقع مدينة القدس.