حول مقولة بيع الفلسطينيين أرضهم لليهود
يُعد هذا الموضوع من الموضوعات المهمة التي يجب علي الفلسطينيين وخصوصاً المتعلمين والمثقفين منهم أن يفهموه جيداً، وأن يحفظوا حقائقه وأرقامه، وذلك للأسباب الآتية:
1ـ أَنَّ كثيراً من أبناء الشعوب العربية قد صدَّقوا الإشاعات التي نشرها الصهاينة، وروج لها أعوانهم، وأَهمها:
أن الشعب الفلسطيني باع أَرضه لليهود، فلماذا يطالبنا بتحرير أرض قبض ثمنها ؟!. وقد تعرضت أنا شخصياً لهذا السؤال مرات عدة، وفي بلدان عربية مختلفة، ووجدته أكثر انتشاراً في البلدان التي يرجي منها أن تفعل شيئاً من أجل تحرير فلسطين.
2ـ أنَّ مصدر هذه الإشاعة كتاب كتبوا في أَكثر الصحف العربية انتشاراً، ونشروا أكاذيب كثيرة، شوهوا فيها صورة الفلسطيني بهدف أن يُفقِدوا شعوبهم الحماس لفلسطين، وبلغ بهم الكذب حداً امتهنوا فيه جيوشهم، فقالوا :
إن الفلسطينيين يبيعون الضابط العربي للصهاينة بخمسة جنيهات، والجندي بجنيه واحد .
3ـ أنَّ العديد من الصحف العربية الرسمية ما زالت إلي اليوم منبراً لكتاب وضعوا أنفسهم في صف أعداء الأمة، وهم لا يملون من مهاجمة الفلسطينيين وتشويههم. وقد قرأت مقالاً لكاتب معروف في صحيفة عربية مشهورة يُهاجم فيه الفلسطينيين الذين تعاطفوا مع العراق أثناء تعرضه للهجوم الأمريكي، يقول فيه بالحرف الواحد: هذا الشعب الوضيع الذي باع أرضه لليهود .
4ـ أنَّ هذه التهمة تتردد حتي في أوساط المثقفين، وكنَّا نسمع ذلك أثناء مناقشات مع مثقفين عرب يعملون في السعودية ودول الخليج، ومن ذلك قول أحدهم:
نعمل لكم إيه كل ما نحررها تبيعوها... كل ما نحررها تبيعوها .
5ـ أنَّ مروجي هذه الإشاعة ينشطون عندما تشتد مقاومة الشعب الفلسطيني للصهاينة، بهدف قتل أي تعاطف شعبي عربي مع الفلسطينيين.
6ـ أنَّ الشعب الفلسطيني الذي يحمل لواء الجهاد والمقاومة منذ أكثر من ثمانين عاماً، وقدم مئات الألوف من الشهداء، وما زال يقدم، ويقف وحده في الميدان، صامداً صابراً مجاهداً بالرغم من اجتماع الأعداء عليه، وتخلي ذوي القربي عنه، بل تآمرهم عليه، هذا الشعب يستحق أن ينصف ويدافع عنه، وقد شهد له كل منصف عرفه أو سمع عنه ونذكر فقط من هذه الشهادات قول هتلر في رسالة إلي ألمان السوديت:
اتخذوا يا ألمان السوديت من عرب فلسطين قدوة لكم، إنهم يكافحون انجلترا أكبر امبراطورية في العالم، والصهيونية العالمية معاً، ببسالة خارقة، وليس لهم في الدنيا نصير أو مساعد، أما أنتم فإنَّ ألمانيا كلها من ورائكم .7ـ أنه لا يليق بمتعلم أو مثقف فلسطيني، أن يتهم شعبه، ويقف عاجراً غير قادر علي تقديم المعلومات والحقائق التي تدحض هذا الاتهام.
وسوف أتناول هذا الموضوع بحياد ونزاهة وعلمية، مدافعاً عن الفلسطينيين بما يستحقون، ومحملاً إياهم ما وقعوا فيه من أخطاء. وقد استقيت معلوماتي من كتب ووثائق موثوقة.
بلغت مساحة الأراضي التي وقعت تحت أيدي اليهود الصهاينة حتي عام 1948م من غير قتال أو حرب، حوالي (2) مليون دونم. أي ما يعادل 8.8% من مساحة فلسطين التي تبلغ 27 مليون دونم.
حصل الصهاينة علي تلك الأرض (2 مليون دونم) بأربع طرق هي:
الطريق الأول:
>650.000 دونماً (ستمائة وخمسين ألف دونم) حصلوا علي جزء منها كأي أقلية تعيش في فلسطين منذ مئات السنين، وتملك أرضاً تعيش عليها، وحصلوا علي الجزء الآخر بمساعدة الولاة الأتراك الماسونيين، الذين عيَّنتهم علي فلسطين حكومة الاتحاد والترقي. وقد تآمرت جمعية الاتحاد والترقي علي السلطان عبد الحميد وأسقطته، لأنه رفض كلَّ عروض الصهاينة عليه مقابل تمكينهم من أرض فلسطين. ومن هذه العروض إعطاؤه مبلغ خمسة ملايين ليرة انجليزية ذهباً لجيبه الخاص، وتسديد جميع ديون الدولة العثمانية البالغة 33 مليون ليرة ذهباً، وبناء أسطول لحماية الامبراطورية بتكاليف قدرها مائة وعشرون مليون فرنك ذهبي، وتقديم قروض بخمسة وثلاثين مليون ليرة ذهبية دون فوائد لإنعاش مالية الدولة العثمانية، وبناء جامعة عثمانية في القدس.
الطريق الثاني :
665.000 دونماً (ستمائة وخمسة وستين ألف دونم) حصل عليها الصهاينة، بمساعدة حكومةِ الانتداب البريطاني المباشرة، وقد قُدمت إلي الصهاينة علي النحو الآتي:ـ
1ـ أعطي المندوب السامي البريطاني منحة للوكالة اليهودية ثلاثمائة الف دونم.
2ـ باع المندوب السامي البريطاني الوكالة اليهودية وبأسعار رمزية مائتي ألف دونم.
3ـ أهدت حكومة الانتداب للوكالة اليهودية أرض السلطان عبد الحميد في منطقتي الحولة وبيسان ـ امتياز الحولة وبيسان ـ ومساحتها 165.000 دونماً (مائة وخمسة وستين ألف دونم(.
الطريق الثالث :
>606.000 دونماً (ستمائة وستة آلاف دونم)، اشتراها الصهاينة من إقطاعيين لبنانيين وسوريين، وكان هؤلاء الاقطاعيون يملكون هذه الأراضي الفلسطينية عندما كانت سوريا ولبنان والأردن وفلسطين بلداً واحداً تحت الحكم العثماني يُسمي بلاد الشام أو سوريا الكبري، وعندما هزمت تركيا واحتل الحلفاء بلاد الشام، قسمت هذه البلاد إلي أربعة دول أو مستعمرات، حيث خضعت سوريا ولبنان للاحتلال الفرنسي، وشرق الأردن للاحتلال البريطاني، وفلسطين للانتداب البريطاني توطئة لجعلها وطناً قومياً لليهود. وهكذا أصبح كثير من الملاك السوريين واللبنانيين يعيشون في بلد وأملاكهم في بلد آخر، فانتهز كثير منهم الفرصة وباعوا أرضهم في فلسطين للصهاينة الذين دفعوا لهم فيها أسعاراً خيالية، وبنوا بثمنها العمارات الشاهقة في بيروت ودمشق وغيرها. وكانت كمية الأراضي التي بيعت، والعــائلات التي باعت كما يلي:
1ـ باعت عائلة سرسق البيروتية ـ ميشل سرسق وإخوانه مساحة 400.000 دونماً (أربعمائة ألف دونم) ، في سهل مرج ابن عامر، وهي من أخصب الأراضي الفلسطينية، وكانت تسكنها 2546 أسرة فلسطينية، طُردت من قراها لتحل محلها أسر يهودية أحضرت من أوروبا وغيرها.
2ـ باعت عائلة سلام البيروتية 165.000 دونماً (مائة وخمسة وستين ألف دونم) للصهاينة وكانت الحكومة العثمانية قد أعطتهم امتياز استصلاح هذه الأراضي حول بحيرة الحولة لاستصلاحها ثم تمليكها للفلاحين الفلسطينيين بأثمان رمزية، إلا أنهم باعوها للصهاينة.
3ـ باعت عائلتا بيهم وسرسق (محمد بيهم وميشيل سرسق) امتيازا آخر في أراضي منطقة الحولة، وكان قــــد أُعطي لهم لاستصــلاحه وتمليكه للفلاحين الفلســــطينيين، ولكنهم باعوه للصهاينة.
4ـ باع أنطون تيان وأخوه ميشيل تيان للصهاينة أرضاً لهم في وادي الحوارث مساحتها خمسة آلاف وثلاثمائة وخمسين دونماً، واستولي الصهاينة علي جميع أراضي وادي الحوارث البالغة مساحتها 32.000 دونماً (اثنان وثلاثون ألف دونم) ، وطردوا أهله منه بمساعدة الإنجليز، بدعوي أنهم لم يستطيعوا تقديم وئاثق تُثبت
ملكيتهم للأراضي التي كانوا يزرعونها منذ مئات السنين.
5ـ باع آل قباني البيروتيون للصهاينة مساحة 4000 دونماً (أربعة آلاف دونم) بوادي القباني، واستولي الصهاينة علي أراضي الوادي كله.
6ـ باع آل صباغ وآل تويني البيروتيون للصهاينة قري (الهريج والدار البيضاء والانشراح ـنهارياـ(
7ـ باعت عائلات القوتلي والجزائري وآل مرديني السورية للصهاينة قسماً كبيراً من أراضي صفد.
8ـ باع آل يوسف السوريون للصهاينة قطعة أرض كبيرة لشركة The Palestinian Land Development Company
9ـ باع كل من خير الدين الأحدب، وصفي قدورة، وجوزيف خديج، وميشال سرجي، ومراد دانا وإلياس الحاج اللبنانيون للصهاينة مساحة كبيرة من الأراضي الفلسطينية المجاورة للبنان.
الطريق الرابع :
بالرغم من جميع الظروف التي وضع فيها الشعب الفلسطيني والقوانين المجحفة التي سنها المندوب السامي الذي كان يهودياً في الغالب، إلا أنَّ مجموع الأراضي التي بيعت من قبل فلسطينيين خلال ثلاثين عاماً بلغت ثلاثمائة ألف دونم، وقد اعتبر كل من باع أرضه للصهاينة خائناً، وتمت تصفية الكثير منهم علي أيدي الفلسطينيين.
ومن العوامل التي أدت إلي ضعف بعض الفلسطينيين وسقوطهم في هذه الخطيئة.
1ـ لم يكن الفلسطينيون في السنوات الأولي للاحتلال البريطاني علي معرفة بنوايا الصهاينة، وكانوا يتعاملون معهم كأقلية انطلاقاً من حرص الإسلام علي معاملة الأقليات غير المسلمة معاملة طيبة.
2ـ القوانين الإنجليزية التي سنتها حكومةُ الانتداب، والتي وُضعت بهدف تهيئة كل الظروف الممكنة لتصل الأراضي إلي أيدي الصهاينة. ومن هذه القوانين، قانون صك الانتداب الذي تضمنت المادة الثانية منه النص الآتي: تكون الدولة المنتدبة مسئولة عن جعل فلسطين في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي لليهود .
وجاء في إحدي مواد الدستور الذي تحكم بمقتضاه فلسطين النص الآتي: يشترط أن لا يطبق التشريع العام ومبادئ العدل والإنصاف في فلسطين إلاَّ بقدر ما تسمح به الظروف، وأن تراعي عند تطبيقها التعديلات التي تستدعيها الأحوال العامة . إضافة إلي مادة أخري تقول: بما أنَّ الشرع الإسلامي خوَّل للسلطـــــان صلاحية تحويل الأراضي الميري (الحكومية) إلي أراضي الملك فإنه من المناسب تخويل المندوب السامي هذه الصلاحية .
3ـ الإغراءات الشديدة التي قدمها الصهاينة للذين يبيعون الأرض، فقد بلغ ما يدفعه الصهيوني ثمناً للدونم الواحد عشرة أضعاف ما يدفعه العربي ثمناً له. وقد تسبب ذلك في سقوط بعض أصحاب النفوس المريضة، ومثل هذه النوعية لا تخلو منها أمة من الأمم.
4ـ الفساد الذي نشره الصهاينة، وحمته القوانين البريطانية التي تبيح الخمر والزنا.
ويُسجَّل للشعب الفلسطيني أنه أَجمع علي تجريم القلائل الذين ارتكبوا هذه الخطيئة، ونبذهم واحتقرهم وخوَّنهم ونفذ حكم الإعدام في كثير منهم.
وقد نشرت الصحف أخباراً عن تصفيات تمت في فلسطين لأشخاص باعوا أرضهم للصهاينة أو سمسروا لبيع أراض للصهاينة نذكر منها فقط ما نشرته جريده الأهرام في العدد 28 و 29 يوليو 1937م اغتيل بالرصاص فلان بينما كان في طريقه إلي منزله ليلاً، وهو مشهور بالسمسرة علي الأراضي للصهاينة، وترأس بعض المحافل الماسونية العاملة لمصلحة الصهيونية، وقيل إنَّ سبب اغتياله هو تسببه في نقل ملكية مساحات واسعة من أخصب أراضي فلسطين للصهاينة، وقد أغلق المسلمون جامع حسن بيك في المنشية لمنع الصلاة عليه فيه، ولم يحضر لتشييعه سوي بعض أقاربه، وليس كلهم، وبعض الماسونيين، وقد توقع أهله أن يمنع الناس دفنه في مقابر المسلمين، فنقلوا جثته إلي قرية قلقيلية بلدته الأصلية، وحصلت ممانعة لدفنه في مقابر المسلمين. وقيل إنه دُفن في مستعمرة يهودية اسمها بنيامينا لأنه متزوج من يهودية، وأن قبره قد نبش في الليل وأُلقيت جثته علي بعد 20 متراً.
يتبين مما سبق أن الـ 8.8% من مساحة فلسطين أو الـ 2 مليون دونم التي وقعت في أيدي الصهاينة حتي سنة 1948م، لم يحصل عليها الصهاينة عن طريق شرائها من فلسطينيين كما يتصور حتي الكثير من مثقفينا، بل وصل معظمها إلي الصهاينة عن طريق الولاة الأتراك الماسونيين والمنح والهدايا من الحكومة البريطانية، الشراء من عائلات سورية ولبنانية، وأنَّ 300.000 دونماً فقط اشتريت من فلسطينيين خلال ثلاثين عاماً من السياسات الاقتصادية الظالمة والضغوط والمحاولات والإغراءات، أي أنَّ 1/8 (ثُمن) الأراضي التي حازها الصهاينة حتي سنة 1948م، كان مصدرها فلسطينيون، وقد رأينا كيف باعت عائلة لبنانية واحدة 400.000 دونماً في لحظة واحدة، وهو أكبر مما باعه فلسطينيون خلال ثلاثين عاماً. وأنَّ هؤلاء قلة شاذة عوقبوا بالنبذ والقتل.
ولا يخلو مجتمع حتي في عهد النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ من ضعاف ومنافقين، وليس من الإنصاف، أن يتحمل الشعب الفلسطيني كله جريمةً ارتكبها بعض شواذه. لا سيما أن هذا الشعب حاسب هؤلاء الشواذ وعاقبهم.
وإنَّ ما يقدمه الشعب الفلسطيني اليوم من تضحيات وبطولات بعد مضي أكثر من نصف قرن علي احتلال أرضه، وإصراره علي المقاومة والجهاد والاستشهاد بالرغم من ضخامة المؤامرة ضده لخير دليل علي تمسكه وعدم تفريطه بأرضه المقدسة المباركة.
بقلم : د. خالد الخالدي رئيس قسم التاريخ والآثار بالجامعة الاسلامية في غزة
يُعد هذا الموضوع من الموضوعات المهمة التي يجب علي الفلسطينيين وخصوصاً المتعلمين والمثقفين منهم أن يفهموه جيداً، وأن يحفظوا حقائقه وأرقامه، وذلك للأسباب الآتية:
1ـ أَنَّ كثيراً من أبناء الشعوب العربية قد صدَّقوا الإشاعات التي نشرها الصهاينة، وروج لها أعوانهم، وأَهمها:
أن الشعب الفلسطيني باع أَرضه لليهود، فلماذا يطالبنا بتحرير أرض قبض ثمنها ؟!. وقد تعرضت أنا شخصياً لهذا السؤال مرات عدة، وفي بلدان عربية مختلفة، ووجدته أكثر انتشاراً في البلدان التي يرجي منها أن تفعل شيئاً من أجل تحرير فلسطين.
2ـ أنَّ مصدر هذه الإشاعة كتاب كتبوا في أَكثر الصحف العربية انتشاراً، ونشروا أكاذيب كثيرة، شوهوا فيها صورة الفلسطيني بهدف أن يُفقِدوا شعوبهم الحماس لفلسطين، وبلغ بهم الكذب حداً امتهنوا فيه جيوشهم، فقالوا :
إن الفلسطينيين يبيعون الضابط العربي للصهاينة بخمسة جنيهات، والجندي بجنيه واحد .
3ـ أنَّ العديد من الصحف العربية الرسمية ما زالت إلي اليوم منبراً لكتاب وضعوا أنفسهم في صف أعداء الأمة، وهم لا يملون من مهاجمة الفلسطينيين وتشويههم. وقد قرأت مقالاً لكاتب معروف في صحيفة عربية مشهورة يُهاجم فيه الفلسطينيين الذين تعاطفوا مع العراق أثناء تعرضه للهجوم الأمريكي، يقول فيه بالحرف الواحد: هذا الشعب الوضيع الذي باع أرضه لليهود .
4ـ أنَّ هذه التهمة تتردد حتي في أوساط المثقفين، وكنَّا نسمع ذلك أثناء مناقشات مع مثقفين عرب يعملون في السعودية ودول الخليج، ومن ذلك قول أحدهم:
نعمل لكم إيه كل ما نحررها تبيعوها... كل ما نحررها تبيعوها .
5ـ أنَّ مروجي هذه الإشاعة ينشطون عندما تشتد مقاومة الشعب الفلسطيني للصهاينة، بهدف قتل أي تعاطف شعبي عربي مع الفلسطينيين.
6ـ أنَّ الشعب الفلسطيني الذي يحمل لواء الجهاد والمقاومة منذ أكثر من ثمانين عاماً، وقدم مئات الألوف من الشهداء، وما زال يقدم، ويقف وحده في الميدان، صامداً صابراً مجاهداً بالرغم من اجتماع الأعداء عليه، وتخلي ذوي القربي عنه، بل تآمرهم عليه، هذا الشعب يستحق أن ينصف ويدافع عنه، وقد شهد له كل منصف عرفه أو سمع عنه ونذكر فقط من هذه الشهادات قول هتلر في رسالة إلي ألمان السوديت:
اتخذوا يا ألمان السوديت من عرب فلسطين قدوة لكم، إنهم يكافحون انجلترا أكبر امبراطورية في العالم، والصهيونية العالمية معاً، ببسالة خارقة، وليس لهم في الدنيا نصير أو مساعد، أما أنتم فإنَّ ألمانيا كلها من ورائكم .7ـ أنه لا يليق بمتعلم أو مثقف فلسطيني، أن يتهم شعبه، ويقف عاجراً غير قادر علي تقديم المعلومات والحقائق التي تدحض هذا الاتهام.
وسوف أتناول هذا الموضوع بحياد ونزاهة وعلمية، مدافعاً عن الفلسطينيين بما يستحقون، ومحملاً إياهم ما وقعوا فيه من أخطاء. وقد استقيت معلوماتي من كتب ووثائق موثوقة.
بلغت مساحة الأراضي التي وقعت تحت أيدي اليهود الصهاينة حتي عام 1948م من غير قتال أو حرب، حوالي (2) مليون دونم. أي ما يعادل 8.8% من مساحة فلسطين التي تبلغ 27 مليون دونم.
حصل الصهاينة علي تلك الأرض (2 مليون دونم) بأربع طرق هي:
الطريق الأول:
>650.000 دونماً (ستمائة وخمسين ألف دونم) حصلوا علي جزء منها كأي أقلية تعيش في فلسطين منذ مئات السنين، وتملك أرضاً تعيش عليها، وحصلوا علي الجزء الآخر بمساعدة الولاة الأتراك الماسونيين، الذين عيَّنتهم علي فلسطين حكومة الاتحاد والترقي. وقد تآمرت جمعية الاتحاد والترقي علي السلطان عبد الحميد وأسقطته، لأنه رفض كلَّ عروض الصهاينة عليه مقابل تمكينهم من أرض فلسطين. ومن هذه العروض إعطاؤه مبلغ خمسة ملايين ليرة انجليزية ذهباً لجيبه الخاص، وتسديد جميع ديون الدولة العثمانية البالغة 33 مليون ليرة ذهباً، وبناء أسطول لحماية الامبراطورية بتكاليف قدرها مائة وعشرون مليون فرنك ذهبي، وتقديم قروض بخمسة وثلاثين مليون ليرة ذهبية دون فوائد لإنعاش مالية الدولة العثمانية، وبناء جامعة عثمانية في القدس.
الطريق الثاني :
665.000 دونماً (ستمائة وخمسة وستين ألف دونم) حصل عليها الصهاينة، بمساعدة حكومةِ الانتداب البريطاني المباشرة، وقد قُدمت إلي الصهاينة علي النحو الآتي:ـ
1ـ أعطي المندوب السامي البريطاني منحة للوكالة اليهودية ثلاثمائة الف دونم.
2ـ باع المندوب السامي البريطاني الوكالة اليهودية وبأسعار رمزية مائتي ألف دونم.
3ـ أهدت حكومة الانتداب للوكالة اليهودية أرض السلطان عبد الحميد في منطقتي الحولة وبيسان ـ امتياز الحولة وبيسان ـ ومساحتها 165.000 دونماً (مائة وخمسة وستين ألف دونم(.
الطريق الثالث :
>606.000 دونماً (ستمائة وستة آلاف دونم)، اشتراها الصهاينة من إقطاعيين لبنانيين وسوريين، وكان هؤلاء الاقطاعيون يملكون هذه الأراضي الفلسطينية عندما كانت سوريا ولبنان والأردن وفلسطين بلداً واحداً تحت الحكم العثماني يُسمي بلاد الشام أو سوريا الكبري، وعندما هزمت تركيا واحتل الحلفاء بلاد الشام، قسمت هذه البلاد إلي أربعة دول أو مستعمرات، حيث خضعت سوريا ولبنان للاحتلال الفرنسي، وشرق الأردن للاحتلال البريطاني، وفلسطين للانتداب البريطاني توطئة لجعلها وطناً قومياً لليهود. وهكذا أصبح كثير من الملاك السوريين واللبنانيين يعيشون في بلد وأملاكهم في بلد آخر، فانتهز كثير منهم الفرصة وباعوا أرضهم في فلسطين للصهاينة الذين دفعوا لهم فيها أسعاراً خيالية، وبنوا بثمنها العمارات الشاهقة في بيروت ودمشق وغيرها. وكانت كمية الأراضي التي بيعت، والعــائلات التي باعت كما يلي:
1ـ باعت عائلة سرسق البيروتية ـ ميشل سرسق وإخوانه مساحة 400.000 دونماً (أربعمائة ألف دونم) ، في سهل مرج ابن عامر، وهي من أخصب الأراضي الفلسطينية، وكانت تسكنها 2546 أسرة فلسطينية، طُردت من قراها لتحل محلها أسر يهودية أحضرت من أوروبا وغيرها.
2ـ باعت عائلة سلام البيروتية 165.000 دونماً (مائة وخمسة وستين ألف دونم) للصهاينة وكانت الحكومة العثمانية قد أعطتهم امتياز استصلاح هذه الأراضي حول بحيرة الحولة لاستصلاحها ثم تمليكها للفلاحين الفلسطينيين بأثمان رمزية، إلا أنهم باعوها للصهاينة.
3ـ باعت عائلتا بيهم وسرسق (محمد بيهم وميشيل سرسق) امتيازا آخر في أراضي منطقة الحولة، وكان قــــد أُعطي لهم لاستصــلاحه وتمليكه للفلاحين الفلســــطينيين، ولكنهم باعوه للصهاينة.
4ـ باع أنطون تيان وأخوه ميشيل تيان للصهاينة أرضاً لهم في وادي الحوارث مساحتها خمسة آلاف وثلاثمائة وخمسين دونماً، واستولي الصهاينة علي جميع أراضي وادي الحوارث البالغة مساحتها 32.000 دونماً (اثنان وثلاثون ألف دونم) ، وطردوا أهله منه بمساعدة الإنجليز، بدعوي أنهم لم يستطيعوا تقديم وئاثق تُثبت
ملكيتهم للأراضي التي كانوا يزرعونها منذ مئات السنين.
5ـ باع آل قباني البيروتيون للصهاينة مساحة 4000 دونماً (أربعة آلاف دونم) بوادي القباني، واستولي الصهاينة علي أراضي الوادي كله.
6ـ باع آل صباغ وآل تويني البيروتيون للصهاينة قري (الهريج والدار البيضاء والانشراح ـنهارياـ(
7ـ باعت عائلات القوتلي والجزائري وآل مرديني السورية للصهاينة قسماً كبيراً من أراضي صفد.
8ـ باع آل يوسف السوريون للصهاينة قطعة أرض كبيرة لشركة The Palestinian Land Development Company
9ـ باع كل من خير الدين الأحدب، وصفي قدورة، وجوزيف خديج، وميشال سرجي، ومراد دانا وإلياس الحاج اللبنانيون للصهاينة مساحة كبيرة من الأراضي الفلسطينية المجاورة للبنان.
الطريق الرابع :
بالرغم من جميع الظروف التي وضع فيها الشعب الفلسطيني والقوانين المجحفة التي سنها المندوب السامي الذي كان يهودياً في الغالب، إلا أنَّ مجموع الأراضي التي بيعت من قبل فلسطينيين خلال ثلاثين عاماً بلغت ثلاثمائة ألف دونم، وقد اعتبر كل من باع أرضه للصهاينة خائناً، وتمت تصفية الكثير منهم علي أيدي الفلسطينيين.
ومن العوامل التي أدت إلي ضعف بعض الفلسطينيين وسقوطهم في هذه الخطيئة.
1ـ لم يكن الفلسطينيون في السنوات الأولي للاحتلال البريطاني علي معرفة بنوايا الصهاينة، وكانوا يتعاملون معهم كأقلية انطلاقاً من حرص الإسلام علي معاملة الأقليات غير المسلمة معاملة طيبة.
2ـ القوانين الإنجليزية التي سنتها حكومةُ الانتداب، والتي وُضعت بهدف تهيئة كل الظروف الممكنة لتصل الأراضي إلي أيدي الصهاينة. ومن هذه القوانين، قانون صك الانتداب الذي تضمنت المادة الثانية منه النص الآتي: تكون الدولة المنتدبة مسئولة عن جعل فلسطين في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي لليهود .
وجاء في إحدي مواد الدستور الذي تحكم بمقتضاه فلسطين النص الآتي: يشترط أن لا يطبق التشريع العام ومبادئ العدل والإنصاف في فلسطين إلاَّ بقدر ما تسمح به الظروف، وأن تراعي عند تطبيقها التعديلات التي تستدعيها الأحوال العامة . إضافة إلي مادة أخري تقول: بما أنَّ الشرع الإسلامي خوَّل للسلطـــــان صلاحية تحويل الأراضي الميري (الحكومية) إلي أراضي الملك فإنه من المناسب تخويل المندوب السامي هذه الصلاحية .
3ـ الإغراءات الشديدة التي قدمها الصهاينة للذين يبيعون الأرض، فقد بلغ ما يدفعه الصهيوني ثمناً للدونم الواحد عشرة أضعاف ما يدفعه العربي ثمناً له. وقد تسبب ذلك في سقوط بعض أصحاب النفوس المريضة، ومثل هذه النوعية لا تخلو منها أمة من الأمم.
4ـ الفساد الذي نشره الصهاينة، وحمته القوانين البريطانية التي تبيح الخمر والزنا.
ويُسجَّل للشعب الفلسطيني أنه أَجمع علي تجريم القلائل الذين ارتكبوا هذه الخطيئة، ونبذهم واحتقرهم وخوَّنهم ونفذ حكم الإعدام في كثير منهم.
وقد نشرت الصحف أخباراً عن تصفيات تمت في فلسطين لأشخاص باعوا أرضهم للصهاينة أو سمسروا لبيع أراض للصهاينة نذكر منها فقط ما نشرته جريده الأهرام في العدد 28 و 29 يوليو 1937م اغتيل بالرصاص فلان بينما كان في طريقه إلي منزله ليلاً، وهو مشهور بالسمسرة علي الأراضي للصهاينة، وترأس بعض المحافل الماسونية العاملة لمصلحة الصهيونية، وقيل إنَّ سبب اغتياله هو تسببه في نقل ملكية مساحات واسعة من أخصب أراضي فلسطين للصهاينة، وقد أغلق المسلمون جامع حسن بيك في المنشية لمنع الصلاة عليه فيه، ولم يحضر لتشييعه سوي بعض أقاربه، وليس كلهم، وبعض الماسونيين، وقد توقع أهله أن يمنع الناس دفنه في مقابر المسلمين، فنقلوا جثته إلي قرية قلقيلية بلدته الأصلية، وحصلت ممانعة لدفنه في مقابر المسلمين. وقيل إنه دُفن في مستعمرة يهودية اسمها بنيامينا لأنه متزوج من يهودية، وأن قبره قد نبش في الليل وأُلقيت جثته علي بعد 20 متراً.
يتبين مما سبق أن الـ 8.8% من مساحة فلسطين أو الـ 2 مليون دونم التي وقعت في أيدي الصهاينة حتي سنة 1948م، لم يحصل عليها الصهاينة عن طريق شرائها من فلسطينيين كما يتصور حتي الكثير من مثقفينا، بل وصل معظمها إلي الصهاينة عن طريق الولاة الأتراك الماسونيين والمنح والهدايا من الحكومة البريطانية، الشراء من عائلات سورية ولبنانية، وأنَّ 300.000 دونماً فقط اشتريت من فلسطينيين خلال ثلاثين عاماً من السياسات الاقتصادية الظالمة والضغوط والمحاولات والإغراءات، أي أنَّ 1/8 (ثُمن) الأراضي التي حازها الصهاينة حتي سنة 1948م، كان مصدرها فلسطينيون، وقد رأينا كيف باعت عائلة لبنانية واحدة 400.000 دونماً في لحظة واحدة، وهو أكبر مما باعه فلسطينيون خلال ثلاثين عاماً. وأنَّ هؤلاء قلة شاذة عوقبوا بالنبذ والقتل.
ولا يخلو مجتمع حتي في عهد النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ من ضعاف ومنافقين، وليس من الإنصاف، أن يتحمل الشعب الفلسطيني كله جريمةً ارتكبها بعض شواذه. لا سيما أن هذا الشعب حاسب هؤلاء الشواذ وعاقبهم.
وإنَّ ما يقدمه الشعب الفلسطيني اليوم من تضحيات وبطولات بعد مضي أكثر من نصف قرن علي احتلال أرضه، وإصراره علي المقاومة والجهاد والاستشهاد بالرغم من ضخامة المؤامرة ضده لخير دليل علي تمسكه وعدم تفريطه بأرضه المقدسة المباركة.
بقلم : د. خالد الخالدي رئيس قسم التاريخ والآثار بالجامعة الاسلامية في غزة