نتابع: الأزمة البنيوية في الفكر الصهيوني العنصري -5-
الكيان الصهيوني: أزمة شرعيّة ووجود
من المعروف أن آلة الدعاية ووسائل الإعلام الخاضعة لنفوذ الحركة الصهيونية كانت قد نجحت على مدى عقودٍ طويلةٍ في أن تصنع حول "إسرائيل" هالة مزيّفة، أبرزتها كدولةٍ صغيرةٍ مهدّدة باستمرار، ويحقّ لها أن تدافع عن نفسها في مواجهة أعداء يحيطون بها من كلّ جانب؛ وهي "واحةٌ للديموقراطية" في منطقةٍ لا تعرف سوى الاستبداد، و"دولة قانونٍ ومؤسسات" وسط عالمٍ تحرّكه الغرائز. لكن، ما كان بوسع هذا القناع الزّائف أن يصمد بعد انفضاح العنصرية الصهيونية وصلفها الموصوف في التعامل مع الأمم المتحدة وقراراتها، والذي تأسّس على مقولةٍ أرساها ديفيد بن غوريون بعد إعلان قيام الكيان مباشرة، عندما قال: "بلا أمم متحدة بلا بطيخ"، مضيفاً: "ليس مهمّاً ما يقوله الأغيار. المهمّ ما يفعله اليهود على الأرض". وهذه المقولة كانت ولا زالت الموجّه الأساسي للحكومات "الإسرائيلية" في توجّهاتها وممارساتها كافّة، وباختلاف أحزابها، الدينية منها والعلمانية.
لكن، ما زاد الطّين بلّة لناحية أزمة شرعية الكيان الصهيوني وبقائه، الفشل الذريع الذي مُنِي به المشروع الصهيوني في سعيه المحموم لاستكمال تهويد فلسطين وتزييف وعي الشعب الفلسطيني لطبيعة الصراع وتصفية مقاومته، وفرض السيطرة على الشعوب العربية والإسلامية. وهذا ما وضع الحركة الصهيونية العلمانية (بتيّاريها الرئيسيّين العمّالي والليكودي؛ وهي التي كانت قادرة على حشد طاقات جُلّ أتباع الديانة اليهودية، مع حشد التأييد الأوروبي والغربي لدولة "إسرائيل") في مأزقٍ خطير، بدأ يؤثّر على دور الصهيونية العلمانية لمصلحة الصهيونية الدينية. وخطورة المسألة لا تكمن في خشية الصهاينة العلمانيين على دورهم فحسب، بل خشيتهم على مستقبل الكيان ككلّ. فالصهيونية الدينية عاجزةٌ اليوم عن حشد طاقات أتباع الديانة اليهودية، كما عن كسب تأييد الرأي العام الغربي لمشروعها العنصري المختلّف. وفوق هذا، ستدفع النزعة العنصرية المتحجّرة -التي تتلبّس هذا التيّار دون أيّ تزييف أو تمويه- قطاعاتٍ متزايدة من الرأي العامّ العالمي للتراجع عن تأييدها للكيان الصهيوني؛ الأمر الذي سيؤثّر -ولو بعد حين- في موقف الدول الغربية، من الكيان نفسه.
إن كلّ الإنجازات أو المكاسب التي حققها الكيان العنصري منذ تأسيسه عام 1948، كانت بسبب نجاح الحركة الصهيونية في تضليل الرأي العام العالمي. وهو ما بدأ ينهار مع صور الجنود المدجّجين بالسلاح وهم يلاحقون أطفال فلسطين في شوارع القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، ويقومون بتكسير عظامهم أمام شاشات التلفاز؛ إلى الحصار الظالم لقطاع غزة، وبناء جدار العزل والضمّ في الضفة الغربية، مع رفض توصية محكمة العدل الدولية بشأنه؛ وصولاً إلى جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل خلال عدوان 2008/2009على قطاع غزة، و تقرير "غولدستون" الذي جرّم مؤسسات الكيان الصهيوني وقادته، والذي علّق على إثره الجنرال "أمير إيشل"، رئيس قسم التخطيط في جيش الاحتلال، بالقول: "لا تجوز الاستهانة بتقرير غولدستون. فالمعركة على الرأي العام العالمي لا تقلّ ضراوة عن المواجهة العسكرية"؛ مقرّاً في ذلك بأن "إسرائيل تواجه أزمة شرعيّة بعد عدوانها على غزة"، ومضيفاً: "إن مسألة شرعية إسرائيل مهمّة جداً، لأننا لا نعيش في فراغ" .
بتاريخ 12-2-2010، وزّعت وكالة (أ. ف. ب) تقريراً من فلسطين المحتلة تحت عنوان "حملة عالمية لنزع الشرعية عن إسرائيل"، جاء فيه: حذّر تقريرٌ صادرٌ عن معهد أبحاث "ريئوت" في تل أبيب (أوّل من أمس) حكومة بنيامين نتنياهو من أن إسرائيل تواجه حملة عالمية لنزع الشرعية عنها، داعياً إلى عدم تجاهل "الانتقادات المشروعة". وأضاف التقرير "إن تصوير إسرائيل على أنها شيطان (..) يرمي إلى إنكار شرعيّتها، وتقديمها على أنها كيانٌ استعماريٌ مرتبطٌ بممارساتٍ نازيةٍ وتمييزٍ عنصري". وندّد التقرير خصوصاً "بتظاهراتٍ مناهضةٍ لممثّلي إسرائيل في جامعاتٍ أجنبية، أو في الملاعب، وبدعواتٍ إلى مقاطعة منتجاتٍ مصنّعةٍ في إسرائيل، أو بمحاولاتٍ ترمي إلى اعتقال مسؤولين" في الدولة العبرية "وملاحقتهم أمام القضاء في الخارج". ويتّهم التقرير شبكة عالمية من أفرادٍ وجمعيّاتٍ ومنظّماتٍ غير حكوميةٍ موالية للفلسطينيين، عربية أو مسلمة، على علاقةٍ في غالب الأحيان مع اليسار "وقاسمها المشترك هو تقديم إسرائيل على أنها دولةٌ منبوذة وإنكار حقّها في الوجود"...
طبعاً، هناك من يحاول التهوين من الأسباب العميقة لتزايد الإتجاه العالمي لنزع الشرعية عن الكيان الصهيوني، وتصوير الأسباب وكأنها تتعلّق فقط بحكومةٍ متطرّفةٍ أو وزيرٍ عنصري، متغافلين عن الأسباب الحقيقية والمرتبطة بجوهر المشروع الصهيوني برمّته.
يقول "آري شافيت" في مقالٍ بعنوان "وزير نزع الشرعية"، إنه قد تشكّل في السنة الأخيرة "تحالفٌ واسعٌ من القوى الراديكالية استخدم حملة الرصاص المسكوب (أي العدوان على غزة) كي يُسوّد وجه إسرائيل. كما استغلّ الاحتلال كي ينزع الشرعية حتى عن إسرائيل السيادية. وقد حشر (إسرائيل) في الزاوية وجعلها دولة شبه منبوذة.
وجرّاء ذلك، فقد تضرّرت أعمال وأنشطة إسرائيلية (كثيرة)، وتآكلت قدرة "إسرائيل" على استخدام القوّة للدفاع عن نفسها، ووصلت فكرة الدولتين القوميّتين إلى شفا الانهيار". ويضيف الكاتب: "تحدّي نزع الشرعية كان التحدّي الوجودي الذي يستدعي تغييراً شاملاً في إسرائيل. وبعد نصف قرنٍ كان فيه التشديد الاستراتيجي عسكرياً، فإن عليه أن يعود لأن يكون سياسياً. على وزارة الخارجية أن تتبنّى فكرة عمل الموساد والشاباك، وتقود معركة سياسية إعلامية مركّبة وذكية لم نشهد لها مثيلاً منذ 1947.
ولكن، هنا ثمّة مشكلة: في قيادة "الخارجية" يقف اليوم وزيرٌ يشدّد أزمة الشرعية لإسرائيل. وزيرٌ لا يمكنه أن يعطي حلاً لمشكلةٍ هو جزءٌ منها. ليبرمان يخدم أولئك الذين يسعون إلى تصوير إسرائيل كدولةٍ عنصريةٍ ومجنونة" .
إلاّ أن الواقع يشير أن نزع الشرعية عن الكيان، وتحديداً أزمته الوجودية، هي أزمةٌ بنيويةٌ رافقت الكيان منذ تأسيسه. فقد ظلّ الكيان الصهيوني يخشى هاجس التهديد الوجودي، الأمر الذي انعكس في عقيدته العسكرية التي كانت تقضي بشنّ الحروب الدورية؛ لذا، هو سعى بإستمرار لامتلاك قوّة ردعٍ "مطلقة"، لكن سقوط هذه القدرة، جعل إسرائيل تواجه "تهديداً" خاصّاً، ألا وهو نزع الشرعية عنها. وهو تهديدٌ لا يمكن مواجهته بالسلاح، ولم يأت من دولٍ عدوّة، بل من عالمٍ غربيٍ طالما وقف إلى جانبها في كلّ الظروف.
ذاك الخطر الوجوديّ المحدِق بمستقبل الكيان الصهيوني، جرّاء استمرار المقاومة ورفض الاستسلام، بدأ بتلمّسه منذ عدّة عقود القائد المخضرم "ناحوم غولدمان" (والذي شغل أهمّ منصبين في الحركة الصهيونية العالمية: رئاسة منظمة الصهيونية العالمية ورئاسة "الوكالة اليهودية") في كتابه: "إسرائيل" إلى أين؟ الصادر في نهاية سبعينيات القرن الماضي.
ويجب ألاّ يغيب عن أذهاننا أن الكيان الصهيوني، ورغم مرور أكثر من 62 عاماً على تأسيسه، كان ولا زال معتمداً على الدّعم اللامحدود من الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعاني هي نفسها من إخفاقاتٍ عسكرية، ومن أزماتٍ اقتصاديةٍ وماليةٍ حادّة.
فأمريكا التي كانت تنظر فيما مضى إلى الكيان الصهيوني كذخرٍ إستراتيجي، يمكنها استخدامه في "تأديب" شعوب المنطقة، وإخضاعها لسيطرتها، أصبحت ترى في هذا الكيان عبءً ثقيلاً يعيق خططها في المنطقة، كما صرّح مراراً الجنرال الأمريكي "بترايوس". كذلك، فإن الكيان الصهيوني الذي كان يرى في الولايات المتحدة "نبع" المساعدات الذي لا ينضب، وجد نفسه أمام أمريكا التي تعيش أزمة عميقة، لا أمريكا الواهبة كما كان في مشروع "مارشال" عقب الحرب العالمية الثانية. فأمريكا تحوّلت، ومنذ سنوات، إلى دولة "ناهبة" تقع تحت عجز يقدّر بآلاف مليارات الدولارات؛ الأمر الذي يعني أنها لم تعد قادرة على استمرار تحمّل الأعباء المالية الهائلة للكيان الصهيوني، بما يعني أن الكيان قد دخل فعلاً في دوّامة أزمةٍ بنيويةٍ حادّة تهدّد المشروع الصهيوني الاستيطاني التوسّعي العنصري. وعلى الأطراف والقوى والدول المعادية لهذا المشروع بناء خططها واستراتيجيتها على هذا الأساس.
يتبع
الكيان الصهيوني: أزمة شرعيّة ووجود
من المعروف أن آلة الدعاية ووسائل الإعلام الخاضعة لنفوذ الحركة الصهيونية كانت قد نجحت على مدى عقودٍ طويلةٍ في أن تصنع حول "إسرائيل" هالة مزيّفة، أبرزتها كدولةٍ صغيرةٍ مهدّدة باستمرار، ويحقّ لها أن تدافع عن نفسها في مواجهة أعداء يحيطون بها من كلّ جانب؛ وهي "واحةٌ للديموقراطية" في منطقةٍ لا تعرف سوى الاستبداد، و"دولة قانونٍ ومؤسسات" وسط عالمٍ تحرّكه الغرائز. لكن، ما كان بوسع هذا القناع الزّائف أن يصمد بعد انفضاح العنصرية الصهيونية وصلفها الموصوف في التعامل مع الأمم المتحدة وقراراتها، والذي تأسّس على مقولةٍ أرساها ديفيد بن غوريون بعد إعلان قيام الكيان مباشرة، عندما قال: "بلا أمم متحدة بلا بطيخ"، مضيفاً: "ليس مهمّاً ما يقوله الأغيار. المهمّ ما يفعله اليهود على الأرض". وهذه المقولة كانت ولا زالت الموجّه الأساسي للحكومات "الإسرائيلية" في توجّهاتها وممارساتها كافّة، وباختلاف أحزابها، الدينية منها والعلمانية.
لكن، ما زاد الطّين بلّة لناحية أزمة شرعية الكيان الصهيوني وبقائه، الفشل الذريع الذي مُنِي به المشروع الصهيوني في سعيه المحموم لاستكمال تهويد فلسطين وتزييف وعي الشعب الفلسطيني لطبيعة الصراع وتصفية مقاومته، وفرض السيطرة على الشعوب العربية والإسلامية. وهذا ما وضع الحركة الصهيونية العلمانية (بتيّاريها الرئيسيّين العمّالي والليكودي؛ وهي التي كانت قادرة على حشد طاقات جُلّ أتباع الديانة اليهودية، مع حشد التأييد الأوروبي والغربي لدولة "إسرائيل") في مأزقٍ خطير، بدأ يؤثّر على دور الصهيونية العلمانية لمصلحة الصهيونية الدينية. وخطورة المسألة لا تكمن في خشية الصهاينة العلمانيين على دورهم فحسب، بل خشيتهم على مستقبل الكيان ككلّ. فالصهيونية الدينية عاجزةٌ اليوم عن حشد طاقات أتباع الديانة اليهودية، كما عن كسب تأييد الرأي العام الغربي لمشروعها العنصري المختلّف. وفوق هذا، ستدفع النزعة العنصرية المتحجّرة -التي تتلبّس هذا التيّار دون أيّ تزييف أو تمويه- قطاعاتٍ متزايدة من الرأي العامّ العالمي للتراجع عن تأييدها للكيان الصهيوني؛ الأمر الذي سيؤثّر -ولو بعد حين- في موقف الدول الغربية، من الكيان نفسه.
إن كلّ الإنجازات أو المكاسب التي حققها الكيان العنصري منذ تأسيسه عام 1948، كانت بسبب نجاح الحركة الصهيونية في تضليل الرأي العام العالمي. وهو ما بدأ ينهار مع صور الجنود المدجّجين بالسلاح وهم يلاحقون أطفال فلسطين في شوارع القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، ويقومون بتكسير عظامهم أمام شاشات التلفاز؛ إلى الحصار الظالم لقطاع غزة، وبناء جدار العزل والضمّ في الضفة الغربية، مع رفض توصية محكمة العدل الدولية بشأنه؛ وصولاً إلى جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل خلال عدوان 2008/2009على قطاع غزة، و تقرير "غولدستون" الذي جرّم مؤسسات الكيان الصهيوني وقادته، والذي علّق على إثره الجنرال "أمير إيشل"، رئيس قسم التخطيط في جيش الاحتلال، بالقول: "لا تجوز الاستهانة بتقرير غولدستون. فالمعركة على الرأي العام العالمي لا تقلّ ضراوة عن المواجهة العسكرية"؛ مقرّاً في ذلك بأن "إسرائيل تواجه أزمة شرعيّة بعد عدوانها على غزة"، ومضيفاً: "إن مسألة شرعية إسرائيل مهمّة جداً، لأننا لا نعيش في فراغ" .
بتاريخ 12-2-2010، وزّعت وكالة (أ. ف. ب) تقريراً من فلسطين المحتلة تحت عنوان "حملة عالمية لنزع الشرعية عن إسرائيل"، جاء فيه: حذّر تقريرٌ صادرٌ عن معهد أبحاث "ريئوت" في تل أبيب (أوّل من أمس) حكومة بنيامين نتنياهو من أن إسرائيل تواجه حملة عالمية لنزع الشرعية عنها، داعياً إلى عدم تجاهل "الانتقادات المشروعة". وأضاف التقرير "إن تصوير إسرائيل على أنها شيطان (..) يرمي إلى إنكار شرعيّتها، وتقديمها على أنها كيانٌ استعماريٌ مرتبطٌ بممارساتٍ نازيةٍ وتمييزٍ عنصري". وندّد التقرير خصوصاً "بتظاهراتٍ مناهضةٍ لممثّلي إسرائيل في جامعاتٍ أجنبية، أو في الملاعب، وبدعواتٍ إلى مقاطعة منتجاتٍ مصنّعةٍ في إسرائيل، أو بمحاولاتٍ ترمي إلى اعتقال مسؤولين" في الدولة العبرية "وملاحقتهم أمام القضاء في الخارج". ويتّهم التقرير شبكة عالمية من أفرادٍ وجمعيّاتٍ ومنظّماتٍ غير حكوميةٍ موالية للفلسطينيين، عربية أو مسلمة، على علاقةٍ في غالب الأحيان مع اليسار "وقاسمها المشترك هو تقديم إسرائيل على أنها دولةٌ منبوذة وإنكار حقّها في الوجود"...
طبعاً، هناك من يحاول التهوين من الأسباب العميقة لتزايد الإتجاه العالمي لنزع الشرعية عن الكيان الصهيوني، وتصوير الأسباب وكأنها تتعلّق فقط بحكومةٍ متطرّفةٍ أو وزيرٍ عنصري، متغافلين عن الأسباب الحقيقية والمرتبطة بجوهر المشروع الصهيوني برمّته.
يقول "آري شافيت" في مقالٍ بعنوان "وزير نزع الشرعية"، إنه قد تشكّل في السنة الأخيرة "تحالفٌ واسعٌ من القوى الراديكالية استخدم حملة الرصاص المسكوب (أي العدوان على غزة) كي يُسوّد وجه إسرائيل. كما استغلّ الاحتلال كي ينزع الشرعية حتى عن إسرائيل السيادية. وقد حشر (إسرائيل) في الزاوية وجعلها دولة شبه منبوذة.
وجرّاء ذلك، فقد تضرّرت أعمال وأنشطة إسرائيلية (كثيرة)، وتآكلت قدرة "إسرائيل" على استخدام القوّة للدفاع عن نفسها، ووصلت فكرة الدولتين القوميّتين إلى شفا الانهيار". ويضيف الكاتب: "تحدّي نزع الشرعية كان التحدّي الوجودي الذي يستدعي تغييراً شاملاً في إسرائيل. وبعد نصف قرنٍ كان فيه التشديد الاستراتيجي عسكرياً، فإن عليه أن يعود لأن يكون سياسياً. على وزارة الخارجية أن تتبنّى فكرة عمل الموساد والشاباك، وتقود معركة سياسية إعلامية مركّبة وذكية لم نشهد لها مثيلاً منذ 1947.
ولكن، هنا ثمّة مشكلة: في قيادة "الخارجية" يقف اليوم وزيرٌ يشدّد أزمة الشرعية لإسرائيل. وزيرٌ لا يمكنه أن يعطي حلاً لمشكلةٍ هو جزءٌ منها. ليبرمان يخدم أولئك الذين يسعون إلى تصوير إسرائيل كدولةٍ عنصريةٍ ومجنونة" .
إلاّ أن الواقع يشير أن نزع الشرعية عن الكيان، وتحديداً أزمته الوجودية، هي أزمةٌ بنيويةٌ رافقت الكيان منذ تأسيسه. فقد ظلّ الكيان الصهيوني يخشى هاجس التهديد الوجودي، الأمر الذي انعكس في عقيدته العسكرية التي كانت تقضي بشنّ الحروب الدورية؛ لذا، هو سعى بإستمرار لامتلاك قوّة ردعٍ "مطلقة"، لكن سقوط هذه القدرة، جعل إسرائيل تواجه "تهديداً" خاصّاً، ألا وهو نزع الشرعية عنها. وهو تهديدٌ لا يمكن مواجهته بالسلاح، ولم يأت من دولٍ عدوّة، بل من عالمٍ غربيٍ طالما وقف إلى جانبها في كلّ الظروف.
ذاك الخطر الوجوديّ المحدِق بمستقبل الكيان الصهيوني، جرّاء استمرار المقاومة ورفض الاستسلام، بدأ بتلمّسه منذ عدّة عقود القائد المخضرم "ناحوم غولدمان" (والذي شغل أهمّ منصبين في الحركة الصهيونية العالمية: رئاسة منظمة الصهيونية العالمية ورئاسة "الوكالة اليهودية") في كتابه: "إسرائيل" إلى أين؟ الصادر في نهاية سبعينيات القرن الماضي.
ويجب ألاّ يغيب عن أذهاننا أن الكيان الصهيوني، ورغم مرور أكثر من 62 عاماً على تأسيسه، كان ولا زال معتمداً على الدّعم اللامحدود من الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعاني هي نفسها من إخفاقاتٍ عسكرية، ومن أزماتٍ اقتصاديةٍ وماليةٍ حادّة.
فأمريكا التي كانت تنظر فيما مضى إلى الكيان الصهيوني كذخرٍ إستراتيجي، يمكنها استخدامه في "تأديب" شعوب المنطقة، وإخضاعها لسيطرتها، أصبحت ترى في هذا الكيان عبءً ثقيلاً يعيق خططها في المنطقة، كما صرّح مراراً الجنرال الأمريكي "بترايوس". كذلك، فإن الكيان الصهيوني الذي كان يرى في الولايات المتحدة "نبع" المساعدات الذي لا ينضب، وجد نفسه أمام أمريكا التي تعيش أزمة عميقة، لا أمريكا الواهبة كما كان في مشروع "مارشال" عقب الحرب العالمية الثانية. فأمريكا تحوّلت، ومنذ سنوات، إلى دولة "ناهبة" تقع تحت عجز يقدّر بآلاف مليارات الدولارات؛ الأمر الذي يعني أنها لم تعد قادرة على استمرار تحمّل الأعباء المالية الهائلة للكيان الصهيوني، بما يعني أن الكيان قد دخل فعلاً في دوّامة أزمةٍ بنيويةٍ حادّة تهدّد المشروع الصهيوني الاستيطاني التوسّعي العنصري. وعلى الأطراف والقوى والدول المعادية لهذا المشروع بناء خططها واستراتيجيتها على هذا الأساس.
يتبع