بحث هذه المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة. إظهار كافة الرسائل

2014-04-13

المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة - 3 -


                  المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة
نتابع: المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة - 3 - 
 المبحث الثالث
دولة فلسطينية في إطار قرارات الشرعية الدولية
المطلب الأول: الطريق الصعب نحو شرعية دولية غير واضحة المعالم

إذا كان القبول بالمرحلية كمبدأ أقرته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن الخلاف استمر حول علاقة المرحلي بالاستراتيجي وآلية المفاوضات وكيفية الوصول لهذا لهدف المرحلي والصيغة التي يتم بها، وهو الأمر الذي احتدم في الساحة الفلسطينية وما زال إلى اليوم بعد توقيع اتفاقية اوسلو وما تلاها، إلا أن الاتجاه الذي غلب في بداية الأمر هو الذي فصل بين مفهوم مرحلية النضال وبين التسوية السياسية، وفي الواقع فأن كثيراً من الالتباس والغموض اكتنف تحديد الحد الفاصل بين مرحلية النضال باعتبارها سياسة تكتيكية تهدف إلى تعزيز المواقف النضالية من أجل استمرارية النضال لتحقيق الهدف الاستراتيجي وبين التسوية السياسية، بمعنى إنهاء النزاع ووضع حد له باتفاقات ومعاهدات تؤدي إلى اعتراف متبادل بين الأطراف، وإلغاء الكفاح المسلح كأسلوب لحل النزاع.
يرجع جزء من هذا الغموض إلى إحساس قادة حركة المقاومة الفلسطينية بأنه في الوقت الذي لا يمكن فيه أن يؤدي التوازن الحالي للقوى إلى تحقيق أي هدف مقبول فلسطينيا وغير متناقض مع الميثاق الوطني الفلسطيني ومقررات المجلس الوطنية وأنه إذا ما حدث أن أُجبرت دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) لتقديم تنازلات ترابية فإن هذا سيكون مقابل الاعتراف بها ووضع حد للكفاح المسلح، مع توفر هذا الإحساس فإن لا أحد من قادة المقاومة الفلسطينية كان يجرؤ آنذاك على الإعلان صراحة عن الاستعداد للاعتراف بإسرائيل نظرا للرفض الشعبي العارم لمثل هذه الخطوة، ونظرا لان مبرر وجود الثورة الفلسطينية وديمومتها قام على كونها النقيض للوجود الصهيوني. ومن هنا كَثُر الغموض في التصريحات التي تحاول أن تبلغ رسالة لإسرائيل وأمريكا تعبر عن الاستعداد للاعتراف بدولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) إذا ما قدمت تنازلات للفلسطينيين، وفي نفس الوقت تخفي هذه الرغبة عن الجماهير الفلسطينية لحين التأكد من حصول التنازل الإسرائيلي أو وجود رغبة حقيقية في تقديم هذا التنازل وهو الأمر الذي لم يحدث إلا بشكل غامض من خلال تصريحات أوروبية وأمريكية -كورقة التطمينات الأمريكية- أو من خلال تصريحات لإسرائيليين من معسكر السلام الذين ليس لهم وزن في الحياة السياسية الإسرائيلية.
ومن هذا المنطلق توالت التصريحات المطاطة والمبهمة والتي تتضمن استعدادا للاعتراف بإسرائيل مقابل دولة فلسطينية على جزء من التراب الفلسطيني كهدف نهائي للنضال الفلسطيني، وهو الأمر الذي يستشف من قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في عمان والذي تحفظت عليه فصائل فلسطينية متعددة الذي اعتبر حقوق الشعب الفلسطيني منحصرة في حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، واعتبر "أن الإطار المناسب للوصول إلى هذا الحل هو عقد مؤتمر دولي تحت راية الأمم المتحدة وعبر مجلس الأمن بمشاركة كافة الأطراف المعنية".
مع أن مرحلية النضال مبررة ومقبولة نضاليا فإنه يجب التأكيد بأن هذه المرحلية والقبول بأهداف اقل من الهدف الاستراتيجي، يفترض أن تأتي كتتويج لانتصارات جزئية تحققها قوى الثورة الذاتية أو المعسكر التقدمي العالمي، وهي في هذا تختلف عن الحلول التي تطرح لتسوية النزاع من قبل أطراف خارج قوى الثورة أو من طرف الخصم نفسه وهو الأمر الذي اتسمت به سياسة المرحلية في الساحة الفلسطينية، وأوجد الخلط والالتباس في المسيرة الفلسطينية و تباينت الاجتهادات حول تطبيق سياسة المرحلية، ذلك أن الطرف العربي الذي انضج وأوجد الخلل النسبي في ميزان القوى في حرب أكتوبر 1973 لم ينظر للمبادرات السياسية باعتبارها خطوة مرحلية نحو الهدف الاستراتيجي، بل أرادها تسوية نهائية للصراع تريحه من عبء التزامه بالقضية الفلسطينية، أو تسوية تعبر عن نظرة إقليمية واقعية وهو الأمر الذي تكشف من خلال كامب ديفيد والمشاريع التي طرحت في المنطقة والتي توجت بمؤتمر مدريد وما تلاه.
ولان الثورة الفلسطينية أرادت أن تستفيد من انتصار ليس انتصارها بالأساس، فإنها وقعت في مأزق الحلول السياسية وحاولت أطراف عربية ودولية الاستفادة من رغبة م.ت.ف. في القبول بأهداف أقل من هدفها الاستراتيجي، فمارست عليها أقسى الضغوط لانتزاع تنازلات تحرف ت.م.ف عن مسيرتها النضالية، ولتدفعها للاعتراف بالأمر الواقع تحت شعار الواقعية.
لقد منح تواجد الثورة الفلسطينية في لبنان هامشا واسعا من المناورة أو التكتيك السياسي، بحيث كانت تتحدث في الوقت نفسه عن الكفاح المسلح وتحرير فلسطين وعن المرحلية والقبول بسلطة على جزء من أرض فلسطين،إلا أن هذه السياسة إن كانت تحافظ على صورة المنظمة عند الجماهير كحركة تحرير ترفض التنازل والتفريط بالحقوق، إلا أنها لم تكن مقنعة أو مقبولة تماما من كل الأنظمة العربية ولا من الأطراف الأجنبية وخصوصا دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) والولايات المتحدة الأمريكية. وفي ظل هذا الموقف الغامض عملت حرب أكتوبر على نقل مركز ثقل الفعل إلى الأنظمة العربية التي وظفت نتائج أكتوبر لتثميرها سياسيا، ونشطت الدبلوماسية الأمريكية لفك الارتباط ما بين القوات الإسرائيلية من جهة والقوات المصرية والسورية من جهة أخرى، ففي يناير 1974 وبفضل جولات كسنجر المكوكية تم توقيع الاتفاق الأول على فك الارتباط على الجبهة المصرية، وفي مايو 1974 تم توقيع اتفاقية فصل القوات على الجبهة السورية، وفي سبتمبر1975 حدث اتفاق فصل القوات الثاني على الجبهة في سيناء.
كانت الاتفاقيات المشار إليها خطوة أخرى في طريق فك الارتباط ما بين القضية الفلسطينية وبعدها القومي الرسمي العربي، حيث نصت المادة الثانية من اتفاقية سيناء الثانية على تعهد الطرفين "بعدم استخدام القوة والتهديد بها أو الحصار العسكري في مواجهة الطرف الأخر "، وقد أدركت الثورة الفلسطينية الأبعاد السياسية والخطيرة لهذه الاتفاقات، ففي بيان صادر عن اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي للمنظمة حول اتفاق سيناء لفك الارتباط جاء إن هذا الاتفاق "لم يكن على الإطلاق مجرد خطوة عسكرية في إطار ما يسمى بفصل القوات بل يعد في الحقيقة اتفاق سياسي يجمد حالة الحرب مع العدو الصهيوني على جبهة واحدة. ..كما ينطوي على أخطار حقيقية تهدد السيادة القومية ومستقبل النضال القومي".
وتوالت الخطوات الدافعة بالصراع العربي-لصهيوني نحو تسوية ضمن شروط أمريكية وإسرائيلية لا تلبي حتى الشروط الدنيا للسلام العادل بالمفهوم الفلسطيني والعربي، تسوية تهدف إلى حصار الثورة الفلسطينية ولملمة الحالة الثورية الفلسطينية والعربية وتدفع بالثورة الفلسطينية إما لإعادة النظر بسياسة الرفض والتحدي التي تنتهجها وإما أن تتعرض للحصار والتصفية. وكانت اتفاقية كامب ديفيد الضربة القاصمة في البعد القومي للقضية الفلسطينية حيث وضعت الاتفاقية الثورة الفلسطينية أمام حقيقة لم يعد مجال لإخفائها وهي أن العامود الفقري للأمة العربية وقائدة نضاله التحرري القومي واكبر قوة عسكرية عربية. ...اعترفت بإسرائيل وخرجت من ساحة المواجهة العسكرية، فلم تكن الاتفاقية تعني فقط خروج مصر من ساحة المواجهة بل استغلت دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) الاتفاقية لتنفرد بالثورة الفلسطينية وخصوصا أن الاتفاقية جاءت في وقت كانت العلاقات متوترة ما بين المنظمة وسوريا بسبب الملف اللبناني، لقد كان لاتفاقية كامب ديفيد مفاعلها القوية والسلبية على مسارين: الأول سياسي حيث سارعت الأنظمة العربية بمباركة وضغط أمريكي إلى بلورة مبادرة سياسية تعترف بإسرائيل وبقرارات الشرعية الدولية، والثاني عسكري حيث أخذت دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) تخطط لتصفية الوجود العسكري، لـ م.ت.ف وقد تزامن الحدثان تقريبا، الأول مؤتمر فاس81 والثاني غزو لبنان 82 وهو تزامن ليس مصادفة بطبيعة الحال.
فبتنسيق أمريكي عربي مع تيار التسوية داخل الساحة الفلسطينية والعربية عقد مؤتمر فاس أو ما سمي مبادرة السلام العربية وفيها اعترفت الأنظمة العربية بوضوح بقرارات الشرعية الدولية وما استتبع ذلك من اعتراف بإسرائيل واستعداد هذه الدول بحل الصراع بالطرق السلمية. لقد شرع مؤتمر فاس الأبواب أمام نهج التسوية السلمية وكشف عما كانت الأنظمة تريده ولا تجرؤ على التصريح به أو فعله، ذلك أن غالبية الأنظمة العربية ومنذ أن وقع السادات اتفاقية كامب ديفيد وهي تريد أن تنهج نهجه وتتخلص من عبء المسؤولية تجاه شعارات ومواقف وأهداف ألزمت نفسها بها في المرحلة السابقة،ومن عبء المسؤولية تجاه الشعب الفلسطيني، إلا أن التواجد المسلح للفلسطينيين في لبنان والعمليات البطولة على الحدود وداخل الوطن كانت هي الحائل أمام السير على درب السادات وخصوصا بعد اغتياله، وكان مطلبا إسرائيليا وأمريكيا ورسميا عربيا إزالة هذا العائق. وهذا ما حدث، فما أن ضُربت الثورة في لبنان وتشتت مقاتلوها حتى فُتح الباب على مصراعيه للتسوية السياسية، وتغلغل فكر التسوية في الساحة الفلسطينية دون مواربة ولم يعد من المحرمات، ولم يعد الحديث يدور عن المفاضلة بين خيار التحرير والحرب وخيار التسوية بل ما بين التسوية السلمية العادلة والتسوية غير العادلة، ولكن هل للضعيف في معادلة الصراع أن يفرض مفهومه للعدل وللسلام؟.

المطلب الثاني: الدولة: من متاهات الشرعية الدولية إلى متاهات الشرعية التفاوضية
بعد عشرات اللقاءات والمؤتمرات والاتفاقات العلنية والسرية حول السلام، وما صاحبها من أحداث جسام كالانتفاضة الأولى وحرب الخليج الثانية وانهيار النظام الإقليمي العربي والاتحاد السوفييتي...، أجبرت أمريكا الخصوم على الجلوس علنا على طاولة المفاوضات في مدريد أولا ثم في أوسلو وتم توقيع اتفاق إعلان المبادئ بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو الاتفاق الذي قامت على أساسه منذ 1994 سلطة الحكم الذاتي في مناطق من الضفة والقطاع. وكان حديث الساعة فلسطينيا قبل مايو 1999- تاريخ نهاية المدة المحددة لاتفاق إعلان المبادئ وبداية التفاوض على قضايا الوضع النهائي -هو موضوع الدولة الفلسطينية، هل ستقوم يوم الخامس من مايو أم ستؤجل ؟وإذا قامت فكيف ستتصرف إسرائيل، وان لم تقم فكيف ستواجه السلطة الفلسطينية شعبها من يساندها منه ومن يعارضها؟ وما هي الأسانيد القانونية والإمكانات الموضوعية لقيامها ؟ وهل في بنود اتفاق أوسلو ما يدعم موقف السلطة الفلسطينية في قيام الدولة بحلول الرابع من مايو ؟ وهل هذه الدولة ستحقق السلام المنشود ؟. وحيث انه لا مواعيد مقدسة عند الإسرائيليين، وخصوصا إذا كانت هذه المواعيد تفرض عليهم التزامات تتعلق بالأرض المحتلة، فقد مر الرابع من مايو وبالتالي المدة المتفق عليها للحكم الذاتي وفشلت مفاوضات كامب ديفيد وما تلاها من اتفاقات، واندلعت الانتفاضة لتؤكد فشل المراهنة على السلام الأمريكي الإسرائيلي، ثم جاءت وثيقة تنت وتقرير ميتشل وخارطة الطريق وأخيرا خطة شارون وما زالت أسئلة كثيرة وعميقة ومعقدة تضغط على الإنسان الفلسطيني وتجعله في موقف الانتظار والترقب دون أن يستطيع لملمة أفكاره وشحذ قدراته العقلية لاتخاذ موقف وهو على يقين من سلامة هذا الموقف، والأمر لا يتعلق بالإنسان الفلسطيني أو العربي العادي بل نلمس حالة الإرباك عند القياديين الفلسطينيين الذين تتباين مواقفهم وتلتبس تصريحاتهم من كان منهم في المعارضة أو في السلطة.
إن أي نقاش وطني عقلاني حول السلطة والحكم الذاتي في هذه المرحلة يفترض أن لا يتمحور حول، مع السلطة أو ضد السلطة، بل يجب أن يكون حول عمل السلطة وكيفية تطويرها، أو بمعنى آخر التمييز ما بين السلطة الوطنية كجهاز وركن أساس لا يمكن تصور قيام دولة أو كيان سياسي بدونها من جهة وكيفية أداء السلطة لعملها ونزاهة الأشخاص القائمين بأمرها من جهة أخري.وفي هذه الحالة يفترض أن يكون إجماع وطني فلسطيني -بل وقومي عربي وإسلامي- حول مبدأ وجود سلطة وطنية فلسطينية داخل فلسطين -بغض النظر عن ممارسيها-، وحق الاختلاف حول كيفية عملها وبرامجها وأشخاصها الخ، وقد أبانت السياسة الصهيونية في عهدي باراك وشارون أنها ضد وجود سلطة وطنية فلسطينية ذات مصداقية حتى وإن كانت منبثقة عن اتفاقات أوسلو.
من الواضح أن وضع السلطة وضع لا تحسد عليه وخصوصا بعد الاجتياح الإسرائيلي للضفة في نهاية فبراير 2002، فهي ليست سلطة سياسية كاملة الصلاحيات بل سلطة مقيدة بشروط والتزامات تعرقل قيامها بمهامها كسلطة سياسية بمعنى الكلمة. ومن جهة أخرى فإن الدولة عادة ما تأتي بعد تحقق الركنيين الآخرين للدولة وهما الأرض والشعب، فهي تأتي لتمارس السيادة على الأرض والشعب، أما في الحالة الفلسطينية فقد وجدت السلطة أولا في ظروف معقدة وبصلاحيات محدودة، وينتظر منها استكمال عناصر الدولة، أي استكمال تحرير الأرض ولملمة شتات الشعب.
هذه خصوصية لا تخلو من تناقض وتعقيد ذلك أن السلطة الفلسطينية وجدت في إطار تسوية وضمن اتفاقية تكبل تحركها وتجعل كل خطوة من خطواتها وخصوصا ذات الطابع السيادي مرهونة بالموافقة الإسرائيلية والأمريكية، فيما الشعب الفلسطيني يريدها أن تقوم بمهمة مزدوجة مهمة سلطة وطنية تحريرية وسلطة سياسية تأسيسية، وهي مهمة جد صعبة إذ أخذنا بعين الاعتبار التحديات الداخلية والخارجية التي تعترض عمل السلطة. وانطلاقا من هذه الصعوبة حدث شطط في التحليل عند من تعامل مع موضوع السلطة والحكم الذاتي، بحيث أن هيمنة الأيديولوجيا والمواقف المسبقة والصراعات الحزبية جعلت مقاربات الموضوع تقع في السببية الفجة وتصدر أحكاما كلية اعتمادا على مقاربات جزئية.
إن الفهم العميق للتحولات الدولية والإقليمية يدفعنا إلى القول إن التحدي الذي يواجه الشعب الفلسطيني وهو يخوض نضالا سياسيا - وعسكريا ضمن ما هو متاح وكإمكانية يجب عدم إسقاطها - لتأسيس دولته الوطنية المستقلة لا يقل عن التحدي الذي واجهه عندما كان يتبنى استراتيجية الكفاح المسلح ضد الصهيونية والإمبريالية لتحرير وطنه، وسنكون واهمين إذ اعتقدنا أن القوى التي حالت بين الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته في مرحلة الكفاح المسلح ستساند هذا الشعب في تأسيس وطنه بالطرق السلمية، ذلك أن معارضتها لم تكن لان الشعب الفلسطيني يريد أن يُقيم دولته عن طريق الكفاح المسلح بل كانت معارضة لمبدأ قيام الدولة الفلسطينية، سواء كانت هذه القوى تتجسد بإسرائيل أو بالولايات المتحدة الأمريكية أو بدول غيرها من داخل المنطقة، وقد أثبتت الأحداث ذلك مع كامب ديفيد الثانية وقبلها، حيث رفضت دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) وأمريكا الاعتراف بدولة فلسطينية يعلنها الفلسطينيون على مناطق الحكم الذاتي، كما ترددت الدول العربية في دعم الموقف الفلسطيني بخصوص إعلان الدولة من طرف واحد حتى لا يثيروا غضب أمريكا، ولولا صمود الشعب الفلسطيني وعدم تنازله عن حقوقه لتبخر حلم الدولة.
لا شك أن حق الشعب الفلسطيني في كامل فلسطين حق لا يمارى فيه، ولكن علينا أن نعترف وأن نتعلم من التاريخ أن الشعوب لا تحيى فقط على الأهداف والشعارات كما أن الأهداف لا تتحقق بمجرد ترديد المطالبة بها ودبج الأشعار والتنظيرات حولها، ولكنها-الشعوب- تعيش في واقع وتتعامل مع واقع، ليست الإرادة الذاتية الفاعل الوحيد فيه مع أنه الفاعل الأساس أحيانا، والأهداف المشروعة إن لم تُصاحَب بممارسة عقلانية وأدوات تنفيذية ومراكمة إنجازات، فأنها ستتحول إلى أضغاث أحلام وستتآكل مشروعيتها عبر الزمن. وعليه فإن أي إنجاز على ارض الواقع مهما كان صغيرا فانه سيُبقي الأمل في النفوس متقدا وستبقى الصلة قائمة ما بين الأهداف الوطنية المشروعة من جهة وواقع الحياة اليومية والتعامل اليومي من جهة أخرى.
إن ما بين التحرير الكامل من جهة والاستسلام لمشيئة الخصم من جهة أخرى، كثير مما يمكن عمله من أجل فلسطين، سواء في إطار الواقع الجديد داخل مناطق الحكم الذاتي أو في إطار قرارات الشرعية الدولية، وفي جميع الحالات على الفلسطينيين أن يعتمدوا على أنفسهم بالدرجة الأولى، وان يضعوا حدا لحالة انتظار المنقذ القومي العربي أو الفاتح الإسلامي أو المحرر الأممي، أو انتظار تدخل العناية الإلهية لتقذف اليهود بحجارة من سيجيل تجعلهم كعصف مأكول !.ومن هنا على الفلسطينيين أن يُحسنوا إدارة معركة الحفاظ على الهوية والوطن، هذا الأخير الذي ليس هو الأرض فقط، فهذه قد تتعرض للاحتلال أو يفارقها المواطن قسرا، بل هو بالإضافة إليها، إحساس بالانتماء، وشعور بهوية، واستعداد للعطاء في كل الظروف والأحوال،والفلسطينيون اليوم في ظل استحقاقات أوسلو المؤلمة عليهم أن يؤكدوا كما كانوا دائما أنهم كالعنقاء التي تنهض من تحت الرماد فيما الاعتقاد أنها ماتت.
بناء الدولة، مسؤولية مزدوجة، مسؤولية السلطة ومسؤولية المواطن، فالمواطن الفلسطيني سواء كان مواطنا عاديا أو منتميا إلى حزب أو تنظيم، عليه أن يدرك أن تأسيس دولة أو كيان سياسي لا يكون إلا بوجود سلطة وطنية، وان أي سلطة في العالم لا بد لها من صلاحيات للقيام بمهامها بما في ذلك ممارسة القسر والإكراه، فالسلطة تقترن دائما بالقوة وتحيل إليها (لا سلطة دون تسلط)، ولكن في إطار القانون والمؤسسات وبما يخدم المصلحة الوطنية، وعلى المواطن الفلسطيني أن يعرف أيضا أن السلطة لا يمكنها أن تقوم بعملها بدون قوانين يجب أن تحُترم وبدون مؤسسات يجب أن تُصان.
وإذ كان يجوز الاختلاف حول الشأن السياسي، فلا يجوز الاختلاف حول ضرورة بناء وتأسيس الدولة، وقوى المعارضة الفلسطينية التي تتوفر على الوعي والحس الوطني مما يجعلها تميز ما بين هذين النوعين من المعارضة: معارضة ممارسات السلطة ومعارضة بناء الوطن، إن كل جهد في اتجاه بناء الإنسان الفلسطيني والمؤسسات الفلسطينية والدولة الفلسطينية هو عمل وطني وللوطن ومن الخطأ الإحجام عنه بحجة أن يجير لمصلحة تنظيم محدد أو توجه سياسي محدد، وعلى قوى المعارضة أن تربي أعضاءها على احترام مؤسسات ورموز السلطة الوطنية، وإن شاءوا يعارضوا سياساتها وبرامجها وممارسات مسئوليها، فحيث أن الشعب الفلسطيني يرفض الخضوع لسلطة الاحتلال فعليه أن يقبل بسلطة وطنية لأن ما بينهما هو الفوضى والخراب والحرب الأهلية لا سمح الله.
لم يعد خافيا على أحد أن قبول إسرائيل بحكم ذاتي فلسطيني وبسلطة فلسطينية لا يعني أنها تهيئ الوضع للاستقلال الفلسطيني، أو أنها تدرب الفلسطينيين على كيفية حكم أنفسهم بأنفسهم، بل قبلت بذلك مناورة وخوفا من أن تضطر لتقديم تنازلات أكثر، ولذا فهي وكما رأينا لن تدخر جهدا لإفشال تجربة الحكم الذاتي وستمارس سياسة الأرض المحروقة بتضييق سبل العيش أمام غالبية الشعب داخل مناطق الحكم الذاتي وإطلاق يد المستوطنين لينهبوا الأرض ويمارسوا الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني حتى يتمرد الشعب على السلطة الوطنية أو يضطر لمغادرة الوطن ومن يتبق منهم يتحولوا إلى "عرب إسرائيل" ولكن دون حقوق المواطنة. وعليه فإن الطريق أمام الفلسطينيين ما زال صعب وشاق ومهمتهم لإعادة بناء الدولة على جزء من أرض الوطن تحتاج إلى تضافر كل الجهود، جهود فلسطينيي الداخل وجهود فلسطينيي الشتات، تحتاج إلى جهود السلطة وجهود المعارضة، تحتاج إلى جهود السياسيين والمثقفين والمبدعين وكل الكفاءات التي شتتها الاحتلال أو أبعدتها الممارسات السيئة لبعض المتنفذين في السلطة الفلسطينية.
لا شك أن السلطة الفلسطينية في وضع لا تحسد عليه ذلك انه بالرغم من أن عناصر الدولة الأساسية شبه متوفرة: الأرض والشعب والسلطة – دون سيادة- بالإضافة إلى قرار التقسيم وتأييد دولي يتزايد كل يوم، إلا أن خصوصية القضية وبنود اتفاق أوسلو يجعل اعتراف إسرائيل والاعتراف الدولي المسبق -وخصوصا الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة - شرطا أساسيا لقيام الدولة الفلسطينية، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى القول إن الدولة الفلسطينية لن تقوم بمجرد الإعلان عن قيامها -حيث أُعلن عن قيامها قبل ذلك عدة مرات كان أخرها إعلان الجزائر1988، بل أن قيامها فعلا وممارستها لسيادة حقيقية على الأرض والشعب ما زال يحتاج إلى إرادة فلسطينية جماعية والى برنامج وحدة وطنية مرحلي يكثف العمل فلسطينيا وعربيا ودوليا في هذه المرحلة الدقيقة للقضية الفلسطينية،بل لا نبالغ إن قلنا إن قيامها يحتاج إلى نضال لا يقل عن النضال الذي خاضه الفلسطينيون منذ قيام الثورة إلى اليوم، ويبدو أن كثيرين من العرب والفلسطينيين لا يدركون خطورة المرحلة وأهمية قيام دولة فلسطينية مستقلة على ارض فلسطين ولو على شبر من ارض فلسطين، إن الدولة الفلسطينية اليوم وفي ظل انهيار البعد القومي للقضية وفي ظل انشغال العالم بقضايا أخرى غير القضية الفلسطينية وفي ظل التحالف الإستراتيجي المتين ما بين إسرائيل وأمريكا لم تعرفه العلاقات بين الدولتين من قبل، في ظل هذه الظروف يمكن أن تكون -بل يجب أن تكون- الدولة الفلسطينية مهمة نضالية وواجب قومي وإسلامي وإنساني.

بفعل انتفاضة الأقصى تحرك المنتظم الدولي مجددا وأصدر عديدا من القرارات التي وإن كانت لا ترق إلى طموحات الشعب الفلسطيني فإنها في ميزان القوى الراهن تعتبر إنجازا يمكن للفلسطينيين التمسك به ليقيموا عليه دولتهم المستقلة ومن أهم هذه القرارات القرار رقم 1397 بتاريخ 13/3/2002 الذي صدر عقب اجتياح إسرائيل لمناطق السلطة الفلسطينية، فلأول مرة يشير قرار صادر عن مجلس الأمن إلى أن حل النزاع في المنطقة لن يكون إلا بقيام دولتين، فلسطينية وإسرائيلية، تتعايشان بسلام جنبا إلى جنب، وقد تبع هذا القرار مواقف أوروبية وأمريكية تنطلق من نفس الرؤية.
ولكن في نفس الوقت هناك مؤشرات مقلقة تشير إلى توجه أمريكي وإسرائيلي لتغيير مفهوم المناطق المحتلة وبالتالي المناطق التي من الممكن أن تقام عليها دولة فلسطينية، وبانت هذه المؤشرات عقب الاجتياح الإسرائيلي لمنطق السلطة في الضفة وغزة نهاية فبراير 2002، حيث صدر قرار مجلس الأمن رقم 1402 الذي يدعو دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) إلى الانسحاب من مناطق السلطة، وما زالت إسرائيل تماطل في الانسحاب، إن الخوف يتأتى من أن يحل القرار الأخير محل القرار 242 وتحل (مناطق السلطة) محل (الأراضي المحتلة عام 67) أي كل الضفة الغربية بما فيها القدس، وتأكدت التخوفات مع شروع دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) بإقامة الجدار العازل مع بداية 2003، وهذا الجدار لن يترك بيد الفلسطينيين إلا حوالي 42% من مناطق الضفة مقسمة إلى ثلاثة كانتونات منعزلة عن بعضها، تتحكم إسرائيل بالطرق الرابطة بينها، ثم طرح خطة شارون للانسحاب من غزة.
لا شك أن الحديث الأمريكي والإسرائيلي عن دولة سواء ضمن خارطة الطريق أو ما ورد في وثيقة جنيف التي وقعها وفد فلسطيني ووفد إسرائيلي غير رسمي في أكتوبر 2003، يعد خطوة متقدمة للمواقف السابقة، إلا انه يجب الحذر من فهم وتفسير مفهوم الدولة، ففي الوثيقتين هناك حديث عن دولة دون سيادة ومنزوعة السلاح، وإن كانت دولة منزوعة السلاح أمراً مفهوماً ومقبولاً لمرحلة انتقالية، إلا أن ما لا يفهم وما يعد خطيرا الحديث عن دولة دون سيادة، فعدم ممارسة الحكومة –السلطة- الفلسطينية سيادة على أرض الدولة يدفع للتساؤل ولمن السيادة على الأرض؟ وهنا تبرز الخطورة، فقد يفسر الأمر بان الأرض هي ارض دولة إسرائيل والسيادة بالتالي لإسرائيل، وعليه تصبح الدولة مجرد نعت غير دقيق لحكم ذاتي ثقافي.

وبعد تنفيذ شارون لخطته بسحب الجيش من قطاع غزة في سبتمبر 2005 ،تجدد الحديث عن الدولة الفلسطينية ،ولكن هذه المرة بإيحاء أمريكي وإسرائيلي ،والمقصود بالفكرة دفع الفلسطينين بالقبول بدولة في قطاع غزة وتناسي الضفة الغربية والقدس ،ويزعم المتحمسون لهذه الفكرة بأن دولة غزة قد تكون تطبيقا لفكرة الدولة المؤقتة المنصوص عليها في خطة خارطة الطريق ،ويمكن للفلسطينيين القبول بها ثم مواصلة المفاوضات لإستعادة بقية الأراضي المحتلة.

الخلاصة
بعد ثلاث وأربعين سنة من قيام الثورة الفلسطينية المعاصرة، وبعد أربع عشرة سنوات من بداية تطبيق مسلسل التسوية في إطار اتفاقية اوسلو، وبعد ثلاث انتفاضات -انتفاضة 1987 وانتفاضة النفق ثم انتفاضة الأقصى- ، وبعد مأزق خارطة الطريق..، تأكدت حقيقة ان الصراع يدور حول الدولة الفلسطينية، تكون أو لا تكون، وموضوع الدولة مرتبط عند الفلسطينيين بالهوية والوجود، وبالتالي الصراع بالنسبة للفلسطينيين هو أن يكونوا أو لا يكونوا، اليوم هناك ما يزيد عن ثلاثة ملايين ونصف فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة – بالإضافة إلى أكثر من مليون ونصف في دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل)- وهؤلاء شعب كامل الهوية، وقد أثبت التاريخ، والتاريخ شهادة حق تبدد الزيف وأوهام الايدولوجيا، أن لا الهزائم العسكرية ولا تعاقب الزمن، يلغي هوية الشعوب أو يضعف انتمائها لأوطانها.

انتهى

المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة - 2 -

                        المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة
نتابع: المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة - 2 -
المبحث الثاني
من الدولة الديمقراطية على كامل فلسطين إلى السلطة الوطنية على أي جزء من ارض فلسطين.
المطلب الأول:
الأسباب الموضوعية والذاتية لسياسة المرحلية
إذ كانت هزيمة العرب عام 1967 قد أعطت دفعة لاستراتيجية الكفاح المسلح ومنحت الثورة الفلسطينية الصاعدة الثقة بالنفس وباستراتيجيتها الكفاحية، فإن حرب أكتوبر 1973 عملت على إفقاد الثورة الفلسطينية شيئا من الثقة بقدرتها أو بقدرة النظام العربي الرسمي والشعبي على تحرير كامل فلسطين من خلال إستراتيجية الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية، فحرب أكتوبر وبالرغم من الانتصار العسكري النسبي الذي حققته إلا أنها أثبتت عدم القدرة ليس فقط على القضاء على إسرائيل بل عدم القدرة على استعادة الأراضي العربية المحتلة عام 1967عن طريق الحرب، ليس ذلك بسب منعة دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) وقوتها بل أيضا لاعتبارات دولية وطبيعة وعمق علاقة دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) بالولايات المتحدة، ومحدودية الالتزام السوفيتي بدعم العرب في حربهم ضد إسرائيل.
وهكذا استبقت الثورة الفلسطينية ما كانت تعتقد انه آت ويُخطط له، وتحركت مباشرة وقبل أن تبرد فوهات البنادق على مستويين: الأول تجنب محاولات تهميشها ومحاصرتها محليا وعالميا، وذلك بالعمل على تعزيز وجودها في لبنان وربط علاقات متينة مع الحركة الوطنية اللبنانية التي لم تكن علاقاتها طيبة مع سوريا، ومن جهة أخرى تليين مواقفها السياسية أو تغيير خطابها السياسي وذلك بإرسال رسائل علنية وسرية تعبر عن استعدادها لأنصاف الحلول وذلك من خلال ما سمي بسياسة المراحل أو المرحلية التي أعلن عنها في البرنامج المرحلي عام 1974.
وجدت هذه السياسة استحسانا سواء من الأنظمة العربية التي سارعت لعقد قمة عربية اعتبرت فيه م.ت.ف ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني لتعيد بذلك الأنظمة صياغة العلاقة ما بين القومي والوطني وتقديم الثاني على الأول بالزعم أن الفلسطينيين هم الذي طلبوا أن تكون المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني،هذه الخطوة مهدت الطريق أمام الأنظمة العربية لدخول سياسة التسوية السلمية دون حرج، كما أن سياسة المرحلية لقيت مباركة دولية، حيث تم استقبال أبو عمار في الجمعية العامة للأمم المتحدة وقوبِل استعداده للحل السلمي بالترحاب، وكانت عبارته (غصن الزيتون في يد والبندقية في يد) تختزل تحولا استراتيجيا في نهج الثورة الفلسطينية، واستعدادها لإعادة النظر في ثوابت سابقة، لو وجدت تجاوبا إسرائيليا أو أمريكيا آنذاك، لأنه لا يعقل أن أبو عمار ذهب إلى الأمم المتحدة لمطالبتها بالقضاء على دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) !.
ولكن هل تمكنت المنظمة من الجمع ما بين غصن الزيتون والبندقية ؟ وهل تطور الأحداث عزز من طرح منظمة التحرير ومراهناتها، أم أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن ؟.
اعتبرت الثورة الفلسطينية أن المرحلية كحلقة وسط في الطريق إلى تحقيق الهدف النهائي لا تتناقض مع استراتيجية الثورة أية ثورة ما دامت لم تتخل عن هدفها النهائي، ذلك أن السياسة الواعية والثورية الملتزمة بقضايا شعبها مطلوب منها في كل مرحلة من المراحل أن تحدد الحلقة المركزية للنضال انطلاقا من تصورها لحجم مختلف أطراف الصراع في كل مرحلة ومدى نمو القوى الذاتية للثورة وقدرتها على تحقيق الهدف الاستراتيجي والاستفادة من كل التناقضات التي يفرزها تطور الصراع،كما أن تحديد هدف مرحلي للثورة يصبح ضروريا للإجابة عن التساؤلات المطروحة في كل مرحلة أو جولة من جولات الصراع، ذلك أن الهدف النهائي مع مشروعيته وضرورة التشبث به فقد لا يمكن الوصول إليه دفعة واحدة، وقد وعت كل الثورات العالمية جدوى المرحلية في النضال والدخول في مساومات تفرضها متطلبات المرحلة دون أن يغيب عن الأنظار الهدف الاستراتيجي.فالرسول الكريم لم يجد غضاضة في توقيع معاهدات صلح والقبول بالمرحلية عندما كان المسلمون ضعفاء، وعندما تقوى المسلمون ونكث الأعداء بالمواثيق عاد المسلمون للثوابت وللأهداف الاستراتيجية، أيضا القوى الثورية التي تعتبر صراعها مع العدو صراعا مصيريا وحالة من التناقض الذي لا حل له إلا بنهاية أحد طرفي الصراع قبلت المرحلية، فقد انتقد لينين نفسه ما يروج من قول بأن المساومة مرفوضة ماركسيا، واعتبر هذا القول تافها ينبع عن ضيق الأفق ولا ينطبق على الواقع.1 ومن المعلوم أن الثورة الفيتنامية دخلت في مساومات، وقبلت بمرحلة أهدافها إلا أنها لم تتخل عن أهدافها الاستراتيجية، ذلك أن المساومة والقبول مرحليا بأهداف أقل تواضعا عن الهدف الاستراتيجي، قد لا يعبر بالضرورة عن ضعف الثورة بل عن ضعف الخصم، ويصبح على الثورة آنذاك أن تستغل هذه المرحلة لتعبئة قواها وتعزيز مواقفها استعدادا للمرحلة القادمة.
بالرغم من أن الحديث عن مرحلة أهداف النضال الفلسطيني، فرض نفسه بصورة جدية إثر حرب أكتوبر وما تمخض عنها من تطورات عسكرية وسياسية ونفسية كما سبقت الإشارة فإن المكون الفلسطيني في نهج المرحلية النضالية كان حاضرا قبل 1973، والمتمثل بالإحساس بالبون الشاسع ما بين الإمكانيات الفلسطينية وبين الأهداف الاستراتيجية للثورة الفلسطينية. وهذا الإحساس بالفرق ما بين الهدف والإمكانيات كان وراء قول عبدالناصر لياسر عرفات "كم تظن أنه يلزمكم من السنين كي تدمروا الدولة الصهيونية، وتبنوا دولة موحدة ديمقراطية على كامل فلسطين المحررة ؟ كما اخذ عبدالناصر على المقاومة الفلسطينية ممارسة سياسة غير واقعية واعتبر أن دويلة في الضفة الغربية وغزة هي أفضل من لا شيء.
ويبدو أن فكرة القبول بإقامة دولة فلسطينية على جزء من فلسطين، كانت تمثل قناعة لدى بعض الفلسطينيين حتى قبل حرب أكتوبر 1973، وما حرب أكتوبر إلا الفرصة التي اهتُبلت لتظهر هذه القناعة، فالمكون العربي في القبول بالمرحلية كان الحافز للمكون الفلسطيني ليعبر عن نفسه مكرها للحفاظ على الهوية . فقد انتقد أبو أياد، قادة الحركة الوطنية الفلسطينية السابقين لعدم قبولهم بإقامة دولة فلسطينية كما نص على ذلك قرار التقسيم لعام 1947، معتبرا أن الرفض العربي السابق للحلول الوسط نوع من السلبية والمزايدة، وان الرفض قد يكون طريقة للهروب من المشاكل والتزيي بزي النقاء العقائدي، كما يعترف أن فاروق قدومي قدم للجنة المركزية لحركة فتح بعد حرب يونيو 1967 مباشرة تقريرا يقترح فيه القبول بتأييد قيام دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة إذا أعادتهما دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) للعرب، إلا أنه لم يبث في الموضوع آنذاك.
دافع أبو أياد عن المرحلية باعتبارها سياسة واقعية تنطلق من الأخذ بعين الاعتبار موازين القوى، وتطور الأحداث والابتعاد عن الرومانسية وإن كانت رومانسية ثورية، ويعطي أبو إياد أهمية لمحدودية العمل الفدائي، ومقدرته على تحقيق الأهداف الاستراتيجية ورأى "أنه كائنا ما كانت انطلاقة وبأس حر ب العصابات ضد الدولة الصهيونية، فإنها تظل في المستقبل المنظور دولة لا تُقهر، ولهذا فإن عدم توقع المرور بمراحل مؤدية إلى الهدف الاستراتيجي الذي هو إقامة دولة ديمقراطية على كامل فلسطين أمر من قبيل الوهم والخيال"، وفي نفس سياق تبرير أبو اياد للمرحلية ودفاعه عنها، فإنه يرى أن إقامة سلطة وطنية فلسطينية تشكل ضربة قاسمة للأيدلوجية الصهيونية القائمة على رفض وجود الشعب الفلسطيني، لأن الإقرار بهذه السلطة الوطنية الفلسطينية معناه الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، ووجود شعب فلسطيني يشكك في مصداقية مجمل الأيديولوجية الصهيونية، بالإضافة إلى هذا فإن امتلاك الفلسطينيين لأية بقعة محررة سيتيح لهم مجالات ومتنفسا لتنشق نسمة الحرية والابتعاد عن أدوات القمع والوصاية العربية، ذلك أن خطورة العيش في الغربة والشتات على الشعب الفلسطيني لا تقل خطورة عن فقدان الأرض، ويعبر أبو إياد عن دهشته لرفض أطراف فلسطينية لمرحلية النضال، ففي خطاب وجهه لسكان مخيم تل الزعتر في لبنان، عندما كانت قضية السلطة المرحلية موضع بحث، وكان سكان المخيم يرفضونها قال "منذ خمسة وعشرين سنة وانتم تعيشون في المنفى، إنها خمسة وعشرون سنة من الإحباطات والمذلات والحرمان، ولكنكم تواصلون رفضكم لكل حل بالتسوية حتى ولو كان مؤقتا، أليس انه من العجيب الخارق أنكم تفضلون العيش في أرض غريبة على الإقامة في منطقة محررة من وطنكم الأصلي ؟".
وانطلاقا من نفس المكون الفلسطيني وراء القبول بالمرحلية، والمتمثل بغياب الانتصار في معركة التحرير الكامل على المدى المنظور، كانت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين سباقة في استشعار هذا الخلل الكامن بين الإمكانيات والهدف الاستراتيجي، فمنذ 1971 طالبت الجبهة الديمقراطية بأسلوب غير مباشر بضرورة المرور بالمرحلية وتحديد موقف فلسطيني يملأ الفراغ الكامن بين الإمكانيات والهدف وتجيب عن متطلبات المرحلة وتفوت الفرصة على قوى عربية تطمح للحلول محل الدور الفلسطيني، حيث رأت الجبهة الديمقراطية بأن شعار التحرير الكامل لفلسطين "بات مهددا بالتحول إلى مجرد موقف لفظي طالما بقيت الثغرة الاستراتيجية في تصور المقاومة لحربها الوطنية بمثل هذا الاتساع، فبين شعار التحرير الكامل ومعطيات الوضع الراهن للنضال الفلسطيني مرحلة وسيطة ترد الأنظمة العربية عليها بمطلب إزالة آثار العدوان على قاعدة الحل السلمي بينما تقفز المقاومة عليها بكلام يتحدث عن متابعة النضال حتى النهاية ورفض كل الحلول التصفوية والتسويات".
كانت فترة ما بعد أكتوبر 1973هي مرحلة إعطاء الأولوية للعمل السياسي على حساب العمل العسكري، وأصبح الحديث عن انسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية محتلة هو حديث الساعة ومحور النقاش السياسي والاتصالات الدبلوماسية،إلا أنه من المفيد أن نشير أن جل الحديث عن الحل السلمي والانسحاب الإسرائيلي كان مصدره الدول الأوروبية أو قرارات الأمم المتحدة أو الدول العربية أما دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) فكانت السلبية المطلقة هي التي تحكم مواقفها. ومع ذلك فإن مسألة الانسحاب أصبحت مطروحة والمراهنة على الضغط على الولايات المتحدة لتجبر إسرائيل على الانسحاب كان قاعدة أي تفاؤل بالتسوية، وكان المطلوب من الثورة الفلسطينية أن تعبر عن موقفها من هذا الموضوع، ذلك أن أي انسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة سيضع هذه الأرض أمام خيارات ثلاثة:
الأول: أن تعود الأرض المسترجعة إلى طرف عربي ويضمها إليه وخصوصا أن الأردن لم يكن يخفي مطامعه في ذلك بل كان يعتبر الضفة الغربية جزءا من المملكة الأردنية.
الثاني: أن يتقدم طرف فلسطيني من خارج م.ت.ف. لينصب نفسه ناطقا باسم الشعب الفلسطيني أو تنصبه إسرائيل أو أحد الدول العربية، وهذا أيضا مرفوض فلسطينياً.
الثالث: أن تتقدم الثورة الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني لتقيم سلطتها على أية أرض يتم تحريرها.
فضلت م.ت.ف الخيار الثالث باعتباره يرد على متطلبات المرحلة، ويقطع الطريق على المتربصين بالثورة الفلسطينية والطامعين في سلب شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني حيث أكد أبو عمار "إن قيام السلطة الوطنية لشعبنا فوق أرضه أمر حتمي ولن يفرض على شعبنا مهما كانت التحديات مشروع المملكة المتحدة تحت حكم أو وصاية أو فيدرالية أو كونفدرالية مع النظام الهاشمي. سوف تقوم السلطة الوطنية فورا فوق كل شبر فلسطيني يتم جلاء العدو عنه باتجاه تحرير بقية الأرض الفلسطينية".

المطلب الثاني: السلطة الوطنية ضرورة لتجسيد الكيانية السياسية
ولأن الثورة الفلسطينية لم تكن تملك قوة الرفض الفاعل فإن "هذا يفترض بالضرورة أن نطرح موقفا ملموسا وطنيا وثوريا كفيلا بإحباط كافة الحلول الاستسلامية التصفوية "وفي نفس الوقت الإجابة على متطلبات المرحلة الذي يتحدد بـ "أننا نناضل من أجل دحر الاحتلال الصهيوني وتصفيته عن الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967، وفي الوقت ذاته تمكين شعبنا الفلسطيني في جميع الأراضي التي يتم تحريرها وانسحاب العدو منها ومن تقرير مصيره بنفسه على هذه الأراضي وإقامة سلطته الوطنية الفلسطينية المستقلة عليها".
وفي هذا السياق انتقدت الجبهة الديمقراطية الذين يطرحون شعارات لا تتناسب مع واقع المرحلة والإمكانيات الذاتية والذين يسترون عجزهم وراء شعار التحرير الكامل ولا يقبلون بمرحلية النضال، ذلك أن مهمة التحرير مهمة عربية ولا تقتصر على الشعب الفلسطيني وحده. وفي ظل عدم القدرة العربية على التحرير أو غياب الإرادة، يجب أن لا يختزل النضال الفلسطيني بحيث يصبح فقط "عامل تثوير وتأجيج لنضال الجماهير العربية" أو يفرض على الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني الانتظار حتى تتبدل موازين القوى، بل يتحتم أن يبرز الشرط الفلسطيني لتحقيق الانتصار والشرط الفلسطيني في ظل الظروف الحالية كما ترى الديمقراطية يتحدد بـ "تعبئة كامل الطاقات الثورية للشعب الفلسطيني بتوفير قاعدة ارتكاز ثابتة ومحررة في المناطق التي تقيم فيها غالبية الشعب على أرض وطنه".
انطلاقاً من كل هذه المستجدات وعلى قاعدة هذه المكونات /المتغيرات الفلسطينية والعربية والدولية، انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشر في يونيو 1974، لينظر في الموضوع وليحدد موقفا يجيب على التساؤلات المطروحة. نظرا لأن صيغة التسوية المطروحة دوليا آنذاك وهي قرار مجلس الأمم 242، كانت مرفوضة فلسطينيا وحتى لا يلتبس الأمر ويُقرن الإقرار بالمرحلية بقرار242 المرفوض لكونه يتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين، فقد جاء قرار المجلس الوطني الفلسطيني بالقبول بالهدف المرحلي مقترنا بتأكيد رفض قرار 242 مع توضيح أسباب هذا الرفض حيث جاء في قرارات المجلس الوطني المذكور:

1- تأكيد موقف منظمة التحرير السابق من قرار 242 الذي يطمس الحقوق الوطنية والقومية لشعبنا ويتعامل مع قضية شعبنا كمشكلة لاجئين، ولذا يرفض المجلس التعامل مع هذا القرار على هذا الأساس في أي مستوى من مستويات التعامل العربية والدولية بما في ذلك مؤتمر جنيف.
2- تناضل م.ت.ف. بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها، وهذا يستدعي إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله.
3- تناضل منظمة التحرير ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة والتنازل عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وحقه في تقرير مصيره فوق ترابه الوطني.
4- إن أية خطوة تحريرية تتم هي لمتابعة تحقيق استراتيجية م.ت.ف. في إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المنصوص عليها في قرارات المجالس الوطنية السابقة.
يلاحظ أن قرارات المجلس الوطني أعلاه، شددت على إضفاء صفات ثورية على السلطة الوطنية التي ستقام، من منطلق أنها ستأتي تتويجا للنضال بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح، أي أنها لن تكون منحة من أحد، بالرغم من أن حرب أكتوبر لم تحرر أرضا ليقام عليها سلطة وطنية بل أنها مهدت الطريق لتسوية سياسية، والثورة الفلسطينية لم تكن في وضع يسمح لها بتحرير الأرض بل إن العدو أصبح يتحرك بيسر خارج فلسطين ليغتال القيادات ويدمر المؤسسات الفلسطينية، أيضا فأن نفس المادة لا تتحدث عن دولة بل عن (سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة)، كما إنها لا تحدد حدودا واضحة لهذه الدولة –السلطة- فهي ستقام "على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها"!، وهذه السلطة أيضا لن تقام حالا بل تتطلب "إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله"، ويرفض المجلس الوطني أن تكون السلطة الوطنية نتيجة تسوية أو قبول بالأمر الواقع، فهي لن تكن نتيجة تفاوض مع العدو أو الصلح معه أو الاعتراف به، وأخيرا فإن هذه السلطة المقاتلة هي مرتكز للاستمرار في النضال من أجل إقامة الدولة الديمقراطية العلمانية.
ويبدو أن تشدد المجلس الوطني الفلسطيني في تحديد مواصفات الهدف المرحلي، كان متأثرا بحدة المعارضة التي كانت تواجه به سياسة المرحلية، وخصوصا من قبل التنظيمات التي شكلت لاحقا "جبهة الرفض"1 والمدعومة من أطراف عربية -وخصوصاً العراق- الذي اعتبر القبول بالسلطة الوطنية كهدف مرحلي في ظل موازين القوى المتواجدة هو بمثابة القبول بالحل السلمي وتخليا عن أهداف التحرير الكامل، وقد تزعم معسكر الرفض الفلسطيني الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
انطلقت الجبهة الشعبية في رفضها لمشروع السلطة الوطنية من تحليل علمي لنتائج حرب أكتوبر وطبيعة القوى الفاعلة وتصوراتها للتسوية، فترى أن موضوع التسوية بعد أكتوبر ليس حتميا، وحتى لو كان هناك تسوية، تتساءل الجبهة ألا يمكن للعامل الذاتي المحلي الفلسطيني العربي أن يوقف قطار التسوية المتناقضة مع مصالح الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة؟ وهي ترى أن هذا ممكن والحل الثوري في ظل وجود تسوية هو محاربة وإجهاض هذا التسوية.كما فندت الجبهة الشعبية الزعم الشائع بأن التسوية بعد حرب أكتوبر أصبحت على الأبواب، معتمدة في ذلك على التناقضات الواسعة بين وجهة النظر الإسرائيلية ووجهة النظر العربية حتى لو كانت متمثلة بوجهة نظر السادات، وترى أن هذا التناقض بين وجهتي النظر يشكل عقبة حقيقية في وجه التسوية، وتضيف إلى هذا وجود تباعد ما بين الصيغة السوفيتية للحل والصيغة الأمريكية، وهي ترى انه حتى في حالة افتراض أن السوفيت اخضعوا وجهات النظر الأمريكية والإسرائيلية لتصوراتهم للحل، فما هو سقف الموقف السوفيتي؟.
انتقدت الجبهة الشعبية سذاجة الذين يرون أن الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة مؤكد وقريب المنال بحيث أن المطروح أمام الثورة أحد خيارين: إما أن تترك هذه الأراضي ليحكمها الملك حسين وإما أن تقيم عليها الثورة سلطة وطنية! وترى لو أن الموضوع بهذه البساطة فإنه من الطبيعي اختيار الحل الثاني، إلا أن الجبهة الشعبية ترى أن الخطأ يكمن في القول بأن الحل السلمي سيتمخض عنه انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة، ذلك أن إسرائيل إن قررت الانسحاب فإنه "لا يمكن أن يتم إلا لسلطة رجعية أو سلطة مستسلمة.
"ومن نفس المنطلق طرحت الجبهة الشعبية - القيادة العامة موقفها من نهج المرحلية، فترى أن الرفض لا يوجه أساسا للسلطة الوطنية أو لمرحلية النضال، ولكن الانتقاد منصب أساسا على الشروط والصيغة التي عليها ستقام هذه الدولة، ذلك أن المرفوض هو السلطة الوطنية التي تتمخض عن تسوية سياسية وكبديل عن حرب التحرير، ويؤكد أحمد جبريل - الأمين العام للمنظمة -"إن طرح شعار السلطة الوطنية خاصة بعد حرب أكتوبر هو طرح مرتبط بالتسوية الأمريكية التي تهدف إلى إنهاء الصراع العربي- الصهيوني لصالح تثبيت الوجود الصهيوني في الأراضي العربية، وهنا تكمن الخطورة لان طرح الشعار بعد حرب تشرين جعله مرتبطا بشكل مباشر بنقطتين مركزيتين نحن نرفضهما تماما وهما: المشاركة في مؤتمر جنيف وتمرير التسوية الأمريكية ونجاحها" .
ويبدو أن الأحداث عززت من طرح الجبهة الشعبية وجبهة الرفض عموما، حول نقطة واحدة هي أن الوضع الدولي والعربي بعد حرب أكتوبر لم يؤد إلى انسحاب إسرائيلي من جميع الأراضي العربية المحتلة، حيث أن الواقع أظهر محدودية التسوية المطروحة ووهم المراهنة على الضغوط الدولية أو على إنسانية أمريكا، أو قوة الضغط الاقتصادي العربي، ومع ذلك تبقى إيجابية تحديد سياسة مرحلية آنذاك لتقوم بوظيفة المناورة السياسية والتكتيك الضروري لحشد أكبر عدد من الأصدقاء وتجنب ما يحاك ضد الثورة، وليس باعتبارها استراتيجية تدفع المقاومة الفلسطينية للانجرار إلى المناورات الأمريكية التي تلوح للعرب ما بين الفينة والأخرى بمشاريع وهمية لتنتزع منهم التنازل تلو التنازل دون تحقيق أي إنجاز فعلي، إلا أن ما يؤخذ على قوى المعارضة إنها لم تشق طريقا بديلا واعتبرت أن التمسك بالمبادئ والثوابت الأساسية أهم من أي إنجاز صغير يعيد بعض الحقوق وتتجاهل هذه المنظمات ان من لا ستطيع تحقيق القليل لا يمكنه تحقيق الكثير.
ويبدو أن الجبهة الشعبية نفسها اعترفت بجدوى تبني الهدف المرحلي وهذا ما أكده جورج حبش في كلمته أمام المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السادسة عشر في الجزائر حيث جاء فيها "نحن نقول نعم لبرنامجنا الوطني المرحلي، الذي اقر في الدورة الرابعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني ونقول نعم كذلك لميثاقنا الفلسطيني الذي آمل من مجلسنا هذا أن يعلن تشبثا به وببرنامجنا المرحلي".
لقد تأكد فيما بعد أن الأخذ بسياسة المرحلية لم يكن مجرد مناورة أو تكتيك كما حاول البعض تصويرها، بل كانت تعبر عن استعداد حقيقي للتعامل مع نهج التسوية السياسية، ذلك أن مقررات المجلس الوطني الفلسطيني اللاحقة تخلت عن كثير من الشروط التي وضعتها للهدف المرحلي -السلطة الوطنية المقاتلة- بل إنها لم تعد تَقرن الهدف المرحلي بالهدف الاستراتيجي باعتبار الأول قاعدة ارتكاز نحو الوصول للثاني، وفيما بعد حذفت كلمة مرحلية عند الحديث عن الهدف الفلسطيني الذي أصبح "إقامة دولة فلسطينية مستقلة" وهذا ما ظهر جليا في مقررات المجالس الوطنية ابتداء من الدورة الثالثة عشر، فالفقرة الحادية عشر من البيان السياسي لتلك الدورة دعت لمواصلة النضال الفلسطيني "من أجل استعادة الحقوق الوطنية لشعبنا وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة فوق ترابه الوطني"، وفي تحديد مجال الحقوق الفلسطينية التي على المنظمة السعي لتحقيقها، عرفتها بأنها الحقوق التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ سنة 1974 وخاصة القرار 3236 وقد اعتبرت قرارات هذه الدورة أول تحول واضح في مفهوم الحقوق الفلسطينية من حقوق تاريخية إلى حقوق مستمدة من الشرعية الدولية أو تجمع بينهم.
تكررت نفس الصياغات لهدف النضال الفلسطيني باعتباره إقامة دولة فلسطينية مستقلة دون تحديد كون هذه الدولة هي مجرد هدف مرحلي ودون ذكر الهدف الاستراتيجي - الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل التراب الفلسطيني، ويبدو أنه كلما تدهور الوضع العربي وضعفت قوة الفعل العربية وتأزمت علاقات الثورة الفلسطينية بالأنظمة العربية، كلما كانت م.ت.ف أكثر استعدادا لتليين مواقفها وتخفيف شروطها لتصبح أكثر قبولا عند الرأي العام العالمي ولتبقى في واجهة الأحداث وتبقي الكرة دائما في شباك الخصم، وخصوصا بعد معركة بيروت وانتظار الأعداء أن تكتمل الحلقة وأن يؤدي الانحسار العسكري للمنظمة لإنهائها سياسيا، إلا أن المنظمة وبالرغم من الانتقادات الشديدة لسياستها بعد بيروت اثبت قدرتها على الولادة من جديد من خلال تقديمها لتصورات سياسية وأقدامها على خطوات عملية من خلال نسج علاقات جديدة مع أطراف نبذت سابقاً -الأردن ومصر-، مع ما صاحب هذه العلاقات والتحولات من جدل واسع في الساحة الفلسطينية.
ففي الدورة السادسة عشر للمجلس الوطني الفلسطيني يلاحظ أن البيان الختامي للمجلس لم يتطرق إلى قرار 242 أو يندد به وهو ما دأبت قرارات المجلس السابقة على فعله، آما تصور المجلس للحل فهو يتم عن طريق عقد مؤتمر دولي، ونلاحظ هنا أن المجلس يتحدث عن حل للقضية الفلسطينية وليس مجرد مبادرة سياسية وكانت صياغة المجلس لأهداف النضال الفلسطيني في تلك الدورة على الشكل التالي "يرى المجلس أن إيجاد حل عادل لقضية فلسطين والشرق الأوسط لابد وأن يقوم على أساس ضمان حقوقنا الوطنية في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية فوق ترابنا الوطني الفلسطيني، كما يرى أن الإطار المناسب للوصول إلى هذا الحل، هو عقد مؤتمر دولي تحت راية الأمم المتحدة وعبر مجلس الأمن بمشاركة كافة الأطراف المعنية بما فيها م.ت.ف على قدم المساواة، وعلى أساس قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بقضية فلسطين ويؤكد في هذا الصدد رفضه لاتفاقيات كامب ديفيد والحكم الذاتي ومبادرة الرئيس الأمريكي ريغان والمشاريع والقرارات التي لا تضمن حقنا في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة".
إن أهم ما يثير الانتباه في هذا البيان -مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المرحلة والحصار المفروض على الثورة الفلسطينية- أنه إذا كان هدف تحرير كامل فلسطين متضمن في القرارات السابقة للمجالس الوطنية بما فيها دورة الجزائر، من خلال نص التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني بما فيها حق العودة وتقرير المصير والدولة الفلسطينية والذي يعني ضمنيا وجود حقوق أخرى غير الدولة الفلسطينية، فإننا نجد صياغة البيان الأخير حصرت الحقوق الفلسطينية بحق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا التبدل في الصياغة له معناه، وخصوصا إذا ربطناه بما يليه عند الحديث عن "حل" للقضية تشارك فيه كافة الأطراف المعنية.

يتبــــــــع

المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة - 1 -

المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة
المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة - 1 -
أ . د . ابراهيم ابراش*

الدولة الفلسطينية حالة خاصة بين الدول سواء من حيث التأريخ لها ككيان سياسي مستقل ومحدد المعالم، أو من حيث العلاقة ما بين الدولة والمجتمع فتداخل الهويات وتعدد الانتماءات وتعاقب أشكال الهيمنة والاحتلال في فلسطين، بالإضافة إلى واقع الشتات الذي يعانيه الشعب، كل ذلك يجعل مقاربة موضوع الدولة بعيدا عن العواطف والأيديولوجيات، أمرا محفوفا بمخاطر سوء الفهم والتشكيك. ومع ذلك وإنصافا للتاريخ وتحريرا له من الأيدولوجيا فالموضوع يحتاج إلى دراسات معمقة لتأكيد الحق الفلسطيني في دولة مستقلة من جانب، ولتبديد وهم مريح ينتاب البعض بان الدولة على الأبواب من جانب أخر.
مسألة الدولة ككيان قانوني وسياسي، كمؤسسات وسلطات سياسية وحدود وعلاقات دولية الخ، لم تشغل كثيرا المفكرين السياسيين ولم توضع ضمن سلم اهتمامات الفصائل الفلسطينية، حيث أنشغل الجميع بموضوع تحرير الوطن وإقامة الدولة على حساب الانشغال بالدولة بحد ذاتها وبقضايا المجتمع الفلسطيني، وهذا يفسر أيضا ندرة الدراسات السسيولوجية حول الدولة الفلسطينية. هذا وقد مرت فكرة الدولة بعدة مراحل سنشير إليها حسب التطور التاريخي للفكرة.

المبحث الأول
دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية

كثيرة هي المؤشرات الواضحة والدالة على أن الهدف الأساس لحركة المقاومة الفلسطينية عند انطلاقتها الأولى كان استنهاض الوطنية الفلسطينية وتوريط الأنظمة العربية في معركة التحرير، أما فكرة الدولة الفلسطينية فلم تكن حاضرة عند مفجري الثورة، حيث ان بعض الدول العربية لم توافق على تأسيس منظمة التحرير إلا بعد أن أعطتها هذه الأخيرة تأكيدات بأنها لن تمارس سيادة على الضفة وغزة، أضف إلى ذلك أن حالة المد الوطني والقومي كانت تحول ومجرد التفكير بدولة فلسطينية لا تشمل كل فلسطين، وهذا ما أكد عليه الميثاق الوطني الفلسطيني حيث رفض بشكل قاطع كل مشاريع التسوية بما فيها قرار التقسيم وقراري مجلس الأمن 242 و338 .
اصطدام الثورة الفلسطينية بالواقع، وخصوصا بعد أحداث الأردن وسلبية الموقف الرسمي العربي، دفع بحركة فتح -أكبر فصائل الثورة الفلسطينية- إلى تحيين الهدف الوطني الاستراتيجي ووضعه موضوع التداول والممكن ولكن من خلال صياغة جديدة له اعتقدت فتح أنها ستجد استحسانا من أطراف يهودية عالمية وأطراف دولية، وهذه الصياغة أو الهدف هو فلسطين الديمقراطية العلمانية التي تلحظ لليهود المقيمين في فلسطين نفس الحقوق التي هي للعرب الفلسطينيين، مع أن الثورة الفلسطينية بررت تبني هذا الهدف باعتبارات إنسانية، إلا أن الواقع يدل على أن السبب هو بداية تحسس فتح بعدم جدوى المراهنة على البعد القومي العربي الرسمي لوحده وكذا بروز تيار في الساحة الفلسطينية يراهن على ما سماهم اليهود غير الصهاينة ووجود إمكانية بالاعتماد عليهم لخلق نوع من المصالحة التاريخية ما بين اليهود والفلسطينيين.1

المطلب الأول: الجذور التاريخية للفكرة
تعتبر حركة فتح أول جهة فلسطينية تحدد هدف النضال الفلسطيني بإقامة دولة ديمقراطية تتعايش فيها كل الطوائف بتساو، ومع ذلك فان تفحص تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية قبل 1948 يشير إلى وجود مواقف تعبر عن نزعة إنسانية للتعايش بين جميع المواطنين بغض النظر عن الدين أو العرق، ففي الشهادة التي قدمها الفلسطينيون إلى لجنة (بيل) عام 1937، عبر الفلسطينيون عن رغبتهم بإقامة فلسطين موحدة ديمقراطية متعددة الأديان، ونفس الموقف عبرت عنه المذكرة التي قدمها حزب الدفاع الفلسطيني إلى لجنة وودهيد في مايو 1938، حيث طالبت المذكرة بإقامة دولة يتعايش فيها العرب واليهود بسلام وتضمن للجميع حقوقهم الدستورية والقانونية بغض النظر عن الديانة، وتكرر المطلب الفلسطيني بفلسطين الموحدة ألا طائفية عام 1948 خلال وساطة برنادوت لحل النزاع.
إلا أن حرب 1948 والبشاعة الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني، ورفض الإسرائيليين لأية إمكانية للتعايش مع الفلسطينيين في فلسطين واحدة، وما لحق بالشعب الفلسطيني من عذاب وآلام ومحن على يد الدولة الصهيونية، كل هذا خلق تراكمات من الأحقاد وآلا لام النفسية عند الشعب الفلسطيني والعرب عامة، وهو الأمر الذي تمخض عنه بحكم الواقع والمنطق، ظهور مواقف متشنجة تجاه اليهود عُبر عنها بأشكال الرفض المتكررة لأي تفاوض أو تعايش عربي معهم بل ودفع أحيانا ببعض التيارات السياسية لان تضع كل من اليهودية والصهيونية في سلة واحدة وتطالب بالثائر منهم - حركة القوميين العرب في الخمسينات-1 وفي ظل هذه الأجواء النفسية كان ولا بد أن يشوب الموقف الفلسطيني تجاه الإسرائيليين شيئا من الغموض اتسم بعدم التمييز -ولو من ناحية تكتيكية دعائية- بين اليهودية كدين وبين الصهيونية كحركة عنصرية فاشية تسعى لتجسيد نفسها ناطقة باسم اليهودية العالمية وممثلة لليهود في كل مكان، وبقي الفكر السياسي الفلسطيني في نظرته لمصير يهود فلسطين قاصرا عن تحديد موقف واضح، وكثيرا ما كان الحديث عن التحرير وما بعد التحرير يتسم بالغموض وأحيانا يعتبر من القضايا المؤجلة التي لم يحن الوقت لبحثها وتحديد موقف منها، وعليه كان مطلوب توضيح الصورة وتحديد موقف من يهود فلسطين بعد التحرير.
يعود الأساس والمنطلق لطرح مفهوم فلسطين الديمقراطية أذن إلى ضرورة وضع صياغة جديدة للتصور الفلسطيني لليهود، وإعادة تحديد لمعسكر الخصم ومعسكر الأصدقاء، وهذا راجع إلى طبيعة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فخلافا لكل أنواع الاستعمار الأخرى، حيث كانت هزيمة قوات الاحتلال تؤدي إلى خروج القوات المستعمِرة وترك البلاد لأصحابها، فان طبيعة الاحتلال الاستيطاني الاجلائي لفلسطين كان يطرح بإلحاح إشكالية مصير اليهود في فلسطين، هؤلاء الذين لم يكونوا مجرد عدة آلاف من الجنود بل مجموعة بشرية متكاملة أو شعب قيد التكون، أقاموا في فلسطين وولدت أجيال فيها وقطعوا صلتهم ببلدانهم الأصلية وشكلوا أغلبية سكان فلسطين بحيث أصبح السكان الأصليين –الفلسطينيون- يشكلون أقلية، وبالتالي كان من الصعب القول بأن التحرير يعني طرد كل اليهود من فلسطين، ذلك أن حل المشكلة الفلسطينية يجب ألا يكون على حساب خلق مشكلة يهودية جديدة ستوظفها القوى المعادية ضد الثورة وضد حركة التحرر العربية. ولأن الثورة الفلسطينية لا تخاطب فقط الشعب الفلسطيني بل تخاطب اليهود والرأي العام العالمي فكان عليها أن توضح تصورها لمصير اليهود في فلسطين بعد التحرير.
وحيث انه لم يعد من الممكن ومن المقبول أن تماطل الثورة الفلسطينية كثيرا حول طبيعة فلسطين الغد حيث كانت اليهودية العالمية تستغل هذا السكوت لمصلحة دولة الإحتلال "إسرائيل"، فقد طُرح بشكل جدي ومسئول ضرورة تحديد موقف، ومن هنا كلفت حركة التحرر الوطني الفلسطيني "فتح" أحد قادتها -أبو إياد- بطرح فكرة فلسطين الغد، وتم الإعلان لأول مرة عن الفكرة في مؤتمر صحفي عقده أبو اياد يوم العاشر من أكتوبر 1968، أعلن فيه أن الهدف الاستراتيجي للثورة الفلسطينية هو دعم إنشاء دولة ديمقراطية على امتداد فلسطين التاريخية، يعيش فيها العرب واليهود في وفاق دون أي تمييز عنصري1.
وبهذا حددت "فتح" هدفا فلسطينيا خالصا للنضال متجاوزا الغموض والالتباس السابقين، وقد أعادت تأكيد هذا الهدف بصورة أكثر جلاء وتحديدا في بداية عام 1969 معلنة: (نحن نقاتل في سبيل إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها الفلسطينيون بكل طوائفهم. مسلمين ومسيحيين ويهود في مجتمع ديمقراطي تقدمي، ويمارسون عباداتهم وأعمالهم مثلما يتمتعون بحقوق متساوية (وتأكيداً من فتح على إنسانية الهدف استطرد نفس البيان قائلاً): إن ثورتنا الفلسطينية لتفتح قلبها وفكرها لكل بني الإنسان الذين يريدون أن يعيشوا في المجتمع الفلسطيني الحر الديمقراطي وان يناضلوا في سبيله بصرف النظر عن اللون أو الدين أو العرق2.
وقد أشارت كافة التصريحات الصادرة عن "فتح" بخصوص الدولة الديمقراطية على أن المكون الأساس لمفهوم دولة فلسطين الديمقراطية، هو تأكيد الطابع الإنساني للثورة الفلسطينية، وإبطال دعاوى الحركة الصهيونية التي تسعى لوضع كل اليهود في سلة واحدة وبالتالي اعتبار أن المصلحة اليهودية في احتلال فلسطين واحدة، ولا حل للمسألة اليهودية إلا بفلسطين اليهودية الصافية التي تمتد من النيل إلى الفرات لتتمكن من استيعاب أكبر عدد من يهود العالم،كما سعت "فتح" إلى تحطيم الفكرة الخاطئة عن هدف الثورة الفلسطينية بأنها ضد اليهودي بغض النظر عن معتقداته أو أفكاره، ووضحت "فتح" أنها ضد الصهيونية كأفكار عنصرية شوفينية، وليست ضد اليهودية كدين، كما أكد أبو إياد في مقابلة له مع مجلة الطليعة المصرية، بان الثورة الفلسطينية تستنكر اضطهاد الإنسان، والتمييز العرقي والديني، وأبدى استعداد "فتح" لتقديم العون إلى اليهود وتزويدهم بالسلاح والقتال إلى جانبهم ضد مضطهديهم.
يبدو أن فكرة التعايش بين اليهود والعرب في دولة واحدة لم تُستوعب جيدا من أطراف فلسطينية وعربية عديدة إلا بعد مرور بعض الوقت، ذلك أن الإحساس العام الفلسطيني والعربي بقي مشبعا بصور القهر والاضطهاد والوحشية التي أنزلها الإسرائيليون بالعرب، فذكرى دير ياسين وكفر قاسم ومآسي حربي 1956 و1967وفقدان الأرض والوطن ومعاناة التهجير الخ استمرت عالقة بالأذهان، بل إن كل يوم جديد يمر يأتي معه بمزيد من الألم النفسي الدافع للحقد على الإسرائيليين والرافض لأي فكرة للتعايش معهم. وغالبا فإن المواطن العادي لا يعنيه كثيرا أو يحفل بأن يدقق في هوية الإسرائيلي صهيوني هو أم لا. فمن يقيم على ارض فلسطين ويُشرد أصحابها ليحل محلهم هو مستعمِر صهيوني بغض النظر عن معتقداته الفكرية والأيديولوجية، لان هويته الاستعمارية وصهيونيته العملية تكمن في تواجده في فلسطين مختارا، وبناء على هذا، من الصعب إزالة تراكمات سنين طويلة من العداء والتوتر بمجرد رفع شعار إنساني حضاري، وخصوصا أن هذا الموقف الإنساني الفلسطيني لم يعره الطرف الآخر كبير اهتمام أو يتجاوب مع دوافعه الإنسانية بمواقف إنسانية متشابهة.
لا ريب أن طرح شعار الدولة الديمقراطية العلمانية وإن كان يعبر عن مواقف إنسانية وحل حضاري إلا أن تحويله إلى واقع كان بحاجة إلى تغيير جذري في المواقف والعقليات والى حدوث مصالحة تاريخية ودينية، وهو الأمر الذي وضحه ياسر عرفات في كلمته المشهورة في الأمم المتحدة عام 1974، فبعد أن أكد على المكون الإنساني لهدف الثورة الفلسطينية بإقامة دولة ديمقراطية قال "إننا ندين كل الجرائم التي ارتكبت ضد اليهود وكل أنواع التمييز الصريح والمقنع الذي عانى منه معتنقو اليهودية"، ولكنه أوضح في نفس الوقت الصعوبات التي تواجه تحقيق هذا الهدف الذي يبقى كحلم بعيد المنال، حيث استطرد قائلا "فلماذا لا أحلم يا سيدي الرئيس، وآمل والثورة هي صناعة تحقيق الأحلام والآمال. فلنعمل معا على تحقيق الحلم في أن أعود مع شعبي من منفاي لأعيش مع هذا المناضل اليهودي ورفاقه، ومع هذا المناضل الراهب المسيحي وإخوانه، في ظل دولة واحدة ديمقراطية يعيش فيها المسيحي والمسلم في كنف المساواة والعدل والإخاء".
بعد جدل واسعة داخل صفوف الثورة الفلسطينية استطاعت "فتح" وبدعم من القوى الفلسطينية، أن تدمج شعار فلسطين الديمقراطية ضمن قرارات المجالس الوطنية الفلسطينية ويصبح بالتالي هدفا استراتيجيا للثورة الفلسطينية، ولكن إلى حين.

المطلب الثاني: فلسطين الديمقراطية في مقررات المجالس الوطنية الفلسطينية
من المعلوم أن الميثاق الوطني الفلسطيني اهتم بتحديد طبيعة الصراع وأطرافه وباستراتيجية حل الصراع أكثر من اهتمامه بمستقبل فلسطين المحررة سواء فيما يتعلق بطبيعة نظام الحكم أو علاقة فلسطين ببقية الدول العربية، إلا أن بعض مواده تطرقت إلى اليهود الفلسطينيين وأعطت لهؤلاء الحق بالعيش في فلسطين المحررة، فالمادة الخامسة حددت أولا الفلسطينيين بشكل عام بأنهم "المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى عام 1947 سواء من اخرج منها أو بقي فيها، وكل من ولد لأب عربي فلسطيني"، ثم عرفت المادة الموالية اليهود الفلسطينيين انطلاقا من التعريف العام للفلسطينيين بالقول: "اليهود الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى بدء الغزو الصهيوني لها يعتبرون فلسطينيين".
ونظرا لما اعتبر نقصا آو غموضا في نصوص الميثاق فيما يتعلق بفلسطين المحررة وضح المجلس الوطني في دورته الرابعة -يوليو -1968-بأن هدف النضال الفلسطيني هو:
1- تحرير الأرض الفلسطينية بكاملها وممارسة سيادة الشعب العربي الفلسطيني عليها.
2- حق الشعب الفلسطيني العربي في أن يقيم لنفسه على أرضه المجتمع الذي يرتضيه وأن يقرر موقفه الطبيعي من الوحدة العربية.
مع أن فكرة الدولة الفلسطينية الديمقراطية بعد التحرير ظهرت عام 1968، إلا أنه لم يتم تبنيها رسميا إلا في الدورة الثامنة للمجلس الوطني الفلسطيني في مارس 1971، ذلك أن عام 1968 كان عام انتصارات ومد ثوري بالنسبة للثورة الفلسطينية الأمر الذي كان لا يعطي أي مبرر لشعار فلسطين الديمقراطية والذي اعتبر بمثابة تنازل عن مبادئ الثورة، كما أن شدة الصدام مع العدو كان يجعل أية فكرة للتعايش مع اليهود تجد رفضا لدى قطاع واسع من الفلسطينيين والعرب.
وهكذا بدأت القوى التي تتبنى هدف فلسطين الديمقراطية تعزز مواقعها داخل المجلس الوطني الفلسطيني وتؤثر على قراراته باتجاه الاقتراب من تبني الشعار المشار إليه رسميا، ففي الدورة الخامسة للمجلس حُدد هدف النضال الفلسطيني بأنه "إقامة المجتمع الديمقراطي الحر في فلسطين بجميع الفلسطينيين، مسلمين مسيحيين ويهود".، وفي الدورة السادسة للمجلس قدمت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين مذكرة للمجلس حددت فيها أن هدف النضال الفلسطيني "إقامة دولة فلسطين الموحدة بعد إزالة الكيان الإسرائيلي وتقضي على التمييز العرقي والعنصري، وتعتمد على حل ديمقراطي للتناحر القائم يستند إلى تعايش الشعبين العربي واليهودي" وفي تقرير اللجنة السياسية والإعلامية للدورة السادسة للمجلس الوطني في القاهرة 1969 ورد بند حول الدولة الديمقراطية، إلا أنه لم يقَر من قِبل اللجنة الخاصة التي كلفت بدراسته، إلا أن البيان الختامي لهذه الدورة، أكد على إصرار الشعب الفلسطيني على "المضي في ثورته إلى أن يتم تحقيق النصر وإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية البعيدة عن كل أشكال التمييز الديني العنصري".
بسبب اشتداد الأزمة في الأردن وحاجة الثورة الفلسطينية لتكتل كل قواها وعدم إثارة أي طرف فلسطيني أو عربي، أرجأت منظمة التحرير مسألة تبني هدف الدولة الديمقراطية بشكل رسمي، ومع أن البيان الصادر عن القيادة الموحدة لحركة المقاومة في مايو 1970 وازن ما بين ديمقراطية المجتمع الفلسطيني بعد التحرير وإيمان الفلسطينيين بالوحدة العربية، إلا انه حذر بأن المجتمع الصهيوني متعصب ومتشنج ومن الصعب أن تخرج منه قوى تقدمية يمكنها أن تُحدث تغييرا في مواقفه، هذا يعني التأكيد على أن هدف الثورة الفلسطينية هو تصفية الكيان الصهيوني سياسياً وعسكرياً واجتماعياً ونقابياً وثقافياً.
مع تفجر الصراع ما بين الثورة والنظام الأردني بعد سنوات من المحاولات الفاشلة لخلق نوع من التعايش بين الطرفين وهو صراع كان حتميا نظراً للتناقض الحاد بين الطرفين فكراً وممارسة، بدأت الثورة تشعر أن مواقعها التي بنت عليها مجمل استراتيجيتها معرضة للانهيار والتصفية، وأن التحرير أبعد مما كانت تتصوره، هذا الأمر دفع بالإضافة إلى عوامل أخرى إلى تعزيز طرح فلسطين الديمقراطية وإلى البحث عن دعم الرأي العام الدولي وعن أنصار للنضال الفلسطيني داخل صفوف الإسرائيليين، بعد أن ثبت أن بعض الأشقاء العرب أكثر قسوة من الإسرائيليين ! وإن كان من ضمن أسباب تردد الثورة الفلسطينية في تبني هدف فلسطين الديمقراطية أخذها بعين الاعتبار رفض التيارات المحسوبة على الأنظمة العربية لهذا الهدف، فإن سلبية الواقع العربي تجاه المجزرة التي حلت بالفلسطينيين في الأردن 1 لم يترك مبررا لمراعاة مواقف الآخرين، فالثورة انطلاقا من تقييمها الخاص للمرحلة التي تمر بها ولمصالحها، تبنت بثبات هدف فلسطين الديمقراطية ضاربة بعرض الحائط كل الاعتراضات التي انصبت على هذا الهدف الشعار-.
بخروج حركة المقاومة الفلسطينية من الأردن لم يبق مبرر للاستمرار في سياسة الغموض والتردد التي وسمت فكر الثورة قبل ذلك، وأصبحت الثورة مطالبة بتوضيح مواقفها واستراتيجيتها تجاه عدد من القضايا الحيوية ومن بينها شعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية، وكانت الدورة الثامنة للمجلس الوطني فرصة لوضع النقاط على الحروف بالنسبة لعدد من المسائل، وكان أهمها تبني شعار فلسطين الديمقراطية بصورة رسمية، فتحت عنوان مستقل (الدولة الديمقراطية الفلسطينية) أكد المجلس الوطني بأن الكفاح الفلسطيني ليس كفاحا عرقيا أو مذهبيا ضد اليهود ولهذا "فإن دولة المستقبل في فلسطين المحررة من الاستعمار الصهيوني هي الدولة الفلسطينية الديمقراطية التي يتمتع الراغبون في العيش بسلام فيها بنفس الحقوق والواجبات ضمن إطار مطامح الأمة العربية في التحرير القومي والحدة الشاملة". وقد اعتبر أبو عمار تبني الدورة الثامنة للمجلس الوطني الفلسطيني لهدف فلسطين الديمقراطية بأنه حدث حضاري، إلا أن هذا لم يحسم الأمر بين التيارات المتعددة في الساحة الفلسطينية حيث كان هناك أعداء ومعارضون لهذا الشعار، كما تباينت الصورة حول مضمون الدولة الديمقراطية بعد التحرير وعلاقتها العربية وأيديولوجيتها الفكرية.

المطلب الثالث: شكل ومضمون فلسطين الديمقراطية
ولان حركة فتح هي التي طرحت لأول مرة هدف فلسطين الديمقراطية كان عليها أن توضح مفهومها للدولة المنشودة وأن تجيب على العديد من التساؤلات والاستفسارات التي أثارها هذا الهدف الجديد. في مقالات ثلاث نشرتها مجلة فتح نصف الشهرية في مطلع عام 1970 1 حاولت أن توضح مفهومها لفلسطين الديمقراطية إلا أنها في نفس الوقت أشارت إلى الصعوبات التي تكتنف هذا التحديد، والمجازفة التي تصاحب إعطاء تعريف واضح ومحدد في هذا الوقت لفلسطين الجديدة والمحررة وهي بهذا تُقر بالصعوبات التي تكتنف الوصول إلى هذا الهدف في ظل الواقع الصهيوني لدولة العدو، فقبول الصهاينة بالتعايش مع الفلسطينيين في دولة واحدة هو أمر يبقى غير معول عليه وفي عالم الغيب، ذلك أنه خلال سنوات الكفاح المسلح للوصول لهذا الهدف "هل سيزداد موقف اليهود الفلسطيني تصلبا أم أنه سيصبح أكثر مرونة وتقبلا للتغير؟".
وحتى لا تثير حركة فتح الأنظمة والحركات القومية والثورية العربية،وحتى لا يعتبر موقفها الجديد توددا لليهود وللغرب، رسمت فتح معالم فلسطين الغد التي سيتم تحريرها وإقامة المجتمع الديمقراطي فيها،فهي فلسطين المعروفة خلال الانتداب البريطاني، وهي لن تكون جزيرة منعزلة في بحر العالم العربي، بل أنها ستؤلف جزءا من العالم العربي وستتوحد في نهاية المطاف مع غيرها من البلاد العربية، كما أنها ستناهض الإمبريالية في المنطقة وستنضم إلى صفوف البلدان الثورية التقدمية، كما نفت فتح بشدة أن تكون الدولة المنشودة بديل عن تحرير كامل التراب الفلسطيني، فهي ستقام على كل فلسطين وهي بهذا ليست الضفة الغربية أو قطاع غزة المحتلتين أو الاثنين معا، ذلك أن فلسطين المحتلة سنة 1948 لا تقل أهمية عن الأجزاء المحتلة سنة 1967، كما أن فتح ترفض أي تفسير يمكن الاستشفاف منه القبول بدولة فلسطينية بجانب دولة الصهاينة وذلك "أن كل ترتيب يؤدي إلى تكييف مع دولة المستوطنين المعتدية هو ترتيب غير مقبول ومؤقت".
وبالنسبة لحق المواطنة في الدولة الديمقراطية، حددت فتح بوضوح "إن جميع اليهود والمسلمين والمسيحيين من المقيمين في فلسطين أو المشردين عنها بالقوة سوف يكون لهم الحق بالمواطنة الفلسطينية"، وهذا التحديد كما هو واضح يعطي الحق لجميع الفلسطينيين المغتربين بالعودة إلى فلسطين كمواطنين كاملي المواطنة، كما أنه يعطي هذا الحق لجميع الإسرائيليين المقيمين حاليا في فلسطين، أو يكونوا مقيمين عند التحرير. -وهم أغلبية سكان فلسطين- إلا أنه يشترط فيهم التخلي عن العقيدة الصهيونية الشوفينية. وقد أكد أبو اياد أن المواطنة الفلسطينية " لن تكون وقفا على اليهود التقدميين والمعادين للصهيونية فحسب، بل سوف تشمل الصهيونيين الحاليين من الذين يعربون عن استعدادهم للتخلي عن أيديولوجيتهم العنصرية. "هذا التفاؤل المبالغ فيه يدخل ضمن مراهنة الثورة الفلسطينية وتحديدا فتح على أن الكثير من اليهود الإسرائيليين سوف يغيرون مواقفهم ويؤيدون فلسطين الجديدة في نهاية المطاف.
وتوافقا مع فكر فتح وتصورها الأيديولوجي، فقد تجنبت تحديد نظام الحكم وأيديولوجية المجتمع الفلسطيني في فلسطين الديمقراطية ذلك أن الفلسطينيين أثناء مسيرة التحرير وبعد إنجاز النصر "سوف يقررون نظام الحكم وطبيعة التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي في وطنهم المحرر"، إلا أنها أوضحت بأن فلسطين الديمقراطية والتقدمية لن تكن تيوقراطية أو إقطاعية أو أرستقراطية، كما أنها ستنبذ العنصرية والشوفينية، والاضطهاد أي كان نوعه، وتعتقد فتح بأن عملية التحرير هي التي ستفرز من تلقائها المناخ المطلوب لنظام حكمها المستقبلي "أن حرب التحرير الشعبية تولد القيم والمواقف الجديدة"1.
إلى جانب "فتح" حظي شعار فلسطين الديمقراطية كما أسلفنا بتأييد منظمات فلسطينية متعددة، أهمها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية، كما تعرض لانتقادات خصوصا من قِبل المنظمات القومية في الساحة الفلسطينية. بالنسبة للقوى المؤيدة ترى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أن الدولة الفلسطينية الديمقراطية بعد التحرير تعني حرية العيش للمواطنين فيها بغض النظر عن الدين أو العرق، وهذا شيء محتم، لان كل يهودي يعيش في فلسطين مع وصول المعركة إلى نهايتها له حقوقه المتساوية والكاملة مع بقية سكان فلسطين من الأديان الأخرى، إلا أن الجبهة الشعبية في نفس الوقت تؤكد على ضرورة أن يأخذ شعار فلسطين كجزء من الوطن العربي ووحدته وحياته الاشتراكية مداه، وحذرت من إظهار فلسطين الديمقراطية وكأنها انتزاع لفلسطين من الوطن العربي، أو بناء كيان خاص ومنفصل ومزدوج القومية دون هوية عربية وذلك باسم الديمقراطية.1
وتولى الجبهة الشعبية اهتماما بالمكون الإنساني لشعار فلسطين الديمقراطية حيث ترى أن مضمون هذا الشعار وترجمته العملية هي في توفير حل ديمقراطي للمسألة اليهودية في فلسطين" وهذا يؤكد إنسانية ولا عنصرية حركة التحرر الفلسطينية، فهي غير معادية لليهود كيهود، ولا تستهدف أبادتهم أو رميهم في البحر كما تروج الدعاية الصهيونية، وإنما هدفها تحرير فلسطين من الصهيونية وإقامة مجتمع تقدمي ديمقراطي يوفر التحرر الاقتصادي والاجتماعي الكامل لكافة مواطنيه وهو بهذا يكون قد قدم الحل العلمي والحل الإنساني الديمقراطي التقدمي للمشكلة اليهودية"2.
كما أكدت الجبهة الشعبية على المضمون الأيديولوجي لفلسطين الغد التي ستحكمها المبادئ الماركسية اللينينية التي لا خيار عنها في مرحلة التحرير والنضال وفي مرحلة ما بعد التحرير، "فلسطين المحررة ستكون جزءا من مجتمع عربي ثوري جديد... إن المجتمع العربي الجديد الديمقراطي الاشتراكي سيكون قادرا بالاستناد إلى مبادئ الماركسية اللينينية على توفير الحل لكل مشكلات الفقر والتخلف والاضطهاد والاستغلال التي يعاني منها إنسان هذا الوطن... وأن اليهود في فلسطين بعد التحرر سيمارسون شأنهم شأن غيرهم كافة حقوقهم الديمقراطية كمواطنين في مجتمع ديمقراطي اشتراكي".
ومن نفس المنطلق تبنت الجبهة الديمقراطية شعار فلسطين الديمقراطية، بل كانت اسبق من الجبهة الشعبية في ذلك، ولعبت دورا مهما من أجل تثبيت هذا الشعار في مقررات المجالس الوطنية الفلسطينية، فقبيل انعقاد الدورة السادسة للمجلس الوطني في القاهرة قدمت الجبهة مشروع قرار للمجلس تحت عنوان (حل ديمقراطي للقضية الفلسطينية) دعت فيه إلى إقامة دولة فلسطينية الموحدة بعد القضاء بالكفاح المسلح على الكيان الصهيوني، واعتبر المشروع أن هذه الدولة تمثل حلا ديمقراطيا للتناحر القائم (بين الشعبين العربي واليهودي) كما تطرق المشروع إلى إعطاء الحق لليهود والعرب بتطوير ثقافتهم القومية، والجبهة الديمقراطية بذلك اختلف طرحها عن طرح فتح الذي يجعل التعاون بين اليهود والعرب على أساس المواطنة دون الإقرار بأي حقوق قومية لليهود.
وفي يناير 1970، أعادت الجبهة الديمقراطية، تحديد مفهومها للحل الديمقراطي وأكدت على أن الحل الديمقراطي "يرفض كل الحلول الشوفينية سواء تعلق الأمر بالتوسع الإسرائيلي أو بذبح اليهود ورميهم في البحر، كما يرفض أيضا الحل الرجعي الذي قدمه قرار مجلس الأمن"، ويوضح نايف حواتمة طبيعة الحقوق المتساوية التي ستعطي لليهود والعرب حيث سيكون "لكل منهم حرية تطوير ثقافته القومية بروح ديمقراطية وتقدمية"، وانطلاقا من هذا التصور دعا نايف حواتمة إلى الحوار مع المنظمات الإسرائيلية المعادية للصهيونية كحزب راكاح -الحزب الشيوعي الإسرائيلي- وجماعة ماتزين.1
أثار طرح الجبهة الديمقراطية للعلاقة بين مواطني فلسطين بعد التحرير والقائمة على الإقرار بوجود قومية يهودية كثيرا من اللغط والمعارضة داخل صفوف حركة المقاومة الفلسطينية، ذلك أن الإقرار بوجود قومية يهودية يعطي الحق لليهود للمطالبة بأن يكون لهم وطن مستقل ويتجاوز كون أن اليهودية هي دين وليست قومية كما تدعي الحركة الصهيونية، وكان أشد المعارضين لشعار فلسطين الديمقراطية في الساحة الفلسطينية، هم القوميون، من منطلق أن فلسطين الديمقراطية وبالتعريفات التي أعطيت لها يتناقض مع عروبة فلسطين ومع القومية العربية والوحدة العربية.
فطلائع حرب التحرير الشعبية –الصاعقة- رأت أنه بالرغم من أن البحث في هذا الموضوع سابق لأوانه، إلا أنها تبدي تحفظها تجاه الدولة الفلسطينية الديمقراطية لان "مثل هذه الدولة تتنافى مع الوحدة العربية التي تؤمن بها، فهي تسعى إلى إقامة دولة عربية واحدة لا حواجز فيها ولا حدود تفصل بين أقطارها، وكل حل للقضية الفلسطينية لا يتفق مع هذا المنطق يبقى حلا مرفوضا من الناحية الفكرية بالنسبة للطلائع"، وبينت الصاعقة أنها "ليست ضد اليهود في فلسطين كشعب ولكنها ضد الصهيونية"، والحل الذي تراه مناسبا هو الحل الاشتراكي باعتباره الحل الإنساني الذي يكفل لليهود العيش بسلام وضمن حقوق متساوية مع العرب في إطار المجتمع العربي الاشتراكي.
أما موقف جبهة التحرير العربية فقد اتسم برفض صارم لشعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية، وقام هذا الرفض على خلفية قومية وانطلاقا من تحليل موضوعي لطبيعة المجتمع الصهيوني، واستحالة نجاح أي مراهنة على نبذ اليهود لصهيونيتهم وهو الشرط اللازم للعيش في فلسطين المحررة معهم، وهي من منطلق رؤيتها للصهيونية كنفي لوجود الشعب الفلسطيني، ومن منطلق أن المجتمع الصهيوني القائم على الاغتصاب والعدوان هو مجتمع مضطهِد وظالم بمجموعة، تؤكد استحالة العيش مع هذا المجتمع، فالنقيضان لا يمكن أن تجمعهم أرضية مشتركة أو قيم واحدة.
ولم تنظر جبهة التحرير العربية نظرة جادة للمكون الإنساني وراء رفع هذا الشعارـ ولكنها أولت اهتماما بمشاريع التسوية المطروحة في الساحة العربية وربطت بين هذا الشعار وتلك المشاريع المشبوهة وخصوصا قرار مجلس الأمن رقم 242، باعتبار أن الحل الخارجي للقضية الفلسطينية من خلال هذا القرار بحاجة إلى حل داخلي و"فلسطين الديمقراطية" توفر هذا الحل الداخلي.1
ورأت الجبهة أن فصائل المقاومة الفلسطينية التي رفعت هذا الشعار، خضعت لضغوطات خارجية، لتطرح "بديلا واقعيا "بدلا من " "لا واقعية وخيالية" شعاراتها السابقة حول تحرير كامل التراب الفلسطيني، وفي هذا ترى الجبهة أن الإلحاح على طرح (البديل الواقعي) -وكأن هدف تحرير فلسطين هدف غير واقعي- "محاولة مشبوهة لاستباق الصيغ السلمية والصور المسبقة للمستقبل ودفع الثورة لتحديد مستقبلها وفق معطيات وإمكانيات لا تشكل شيئا بالنسبة للمعطيات والإمكانيات الهائلة التي ستوفرها استمرارية الثورة وديمومتها".
وتنهي جبهة التحرير العربية تحليلها الرافض لشعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية بالقول أن هذا المشروع -الدولة الديمقراطية- يمثل احتياطيا للحركة الصهيونية تلجا إليه فيما لو أعدمت الوسائل الكفيلة بوقف الكفاح المسلح والمقاومة العربية وهو لن يكون في أحسن الأحوال أكثر من تسوية تراعي فيها المصالح الاستعمارية والصهيونية، على حساب حركة الثورة العربية.
مع عدم تجاهلنا لأهمية العامل الإنساني في تبني هدف "فلسطين الديمقراطية"" وعقلانية هذا العامل في إطار التعامل مع القضية دوليا، إلا أننا نعتقد وكما بينا أن الدافع الرئيسي وراء تبني هذا الشعار والهدف هو تلمس بعض العناصر القيادية في م.ت.ف. وفي فتح تحديدا التي كان لها نصيب الأسد في ممارسة الكفاح المسلح وفي التعامل مع الأنظمة العربية والتصادم معها، تلمسهم الفجوة الكبيرة ما بين إمكانيات الثورة والشعب الفلسطيني من جهة وتحرير فلسطين عسكريا وإرجاع اليهود من حيث أتوا من جهة أخري، كان تبني هذا الهدف الجديد بداية مسلسل التسوية، أو بداية التنازلات وهي إن كانت تنازلات مغلفة بالاعتبارات الإنسانية والدولية، ومصاحَبة بضجيج شعارات الكفاح المسلح وحرب الشعب، إلا أن المراقب الحصيف لا يمكنه إلا أن يربط ما بين تبني هذا الشعار وأحداث الأردن وسلبية الموقف العربي من هذه الأحداث، حيث كانت مجازر أيلول 1970 أبلغ رسالة للثورة الفلسطينية بأن تعيد النظر فيمن تعتبرهم حلفاء وأن تعيد النظر بالمراهنة على الجماهير الشعبية العربية التي ستخوض حرب التحرير الشعبية!.
بالرغم من التنازل المتضمن في هدف فلسطين الديمقراطية، وبالرغم من كونه حلا حضاريا، فإنه لم يجد إلا كل رد ورفض من الكيان الصهيوني، الذي قام على عقيدة شعب الله المختار، وعمل ويعمل على إقامة دولة يهودية نقية خالصة، وكان لا بد من التفكير في اتجاه جديد للتسوية يأخذ بعين الاعتبار ضرورة الفصل ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن كيف يمكن الفصل بين شعبين يعيشان على ارض واحدة هذا لا يكون إلا بدولتين، والقول بدولتين يعني التنازل عن جزر من ارض فلسطين لتقوم عليها الدولة الصهيونية.
ولم يكن من اليسير تمرير هذا التنازل الجديد وأن يقبل به الفلسطينيون والجماهير العربية، إلا أن حرب أكتوبر 1973 هيئت المناخ لتمرير هذا التنازل تحت شعار مرحلية النضال، والمزاوجة ما بين الهدف الاستراتيجي والهدف المرحلي، فكيف ذلك؟

يتبــــــــع

* أ . د . ابراهيم ابراش
Ibrahem_ibrach@hotmail.com
- من مواليد قطاع غزة بفلسطين 1952
- دكتوراه في القانون العام- العلوم السياسية -من جامعة محمد الخامس بالرباط 1985.
- ممارسة التدريس الجامعي منذ 1978 حتى 2000 في الجامعات المغربية .
- أستاذ في جامعة الأزهر بغزة منذ أكتوبر2000 .
- رئيس قسم الاجتماع و العلوم السياسية بكلية الآداب بجامعة الأزهر.- سابقا -
- عميد كلية الآداب بجامعة الأزهر بغزة.- سابقا -
- الإشراف على عشرات رسائل الماجستير والدكتوراه .
- مؤسس ومشارك في العديد من مراكز البحوث والمؤتمرات والندوات العلمية.
- وزير الثقافة المستقيل في الحكومة الفلسطينية الثالثة عشر :من يوليو 2007 إلى مارس 2008 .