سكان المخيمات بعد نكبة فلسطين 1948:
تشتت أغلبية السكان الفلسطينيين في أربع دول عربية مجاورة، هي الأردن، وسوريا، ولبنان، ومصر نتيجة للحرب العربية الإسرائيلية في 1948م. ونتيجة لهذا التفرق، حدث تصدع للمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والأكاديمية...الخ المختلفة في المجتمع. واستغرق الأمر بعض الوقت حتى استطاع الناس إعادة تنظيم صفوفهم وحياتهم، في محاولة لاستعادة بعض الاتصالات الاجتماعية على الأقل، للمحافظة على القيم الثقافية، والتقاليد اللازمة، للإبقاء على مجتمعهم، برغم فقدان القاعدة الاقتصادية التي كانت تحافظ على تلك التقاليد.
وتمثل التغير الرئيس في الهيكل الاجتماعي الفلسطيني، خلال تلك الفترة، في نشوء فئة اجتماعية جديدة هي سكان مخيمات اللاجئين. وانفصل سكان القرى الفلسطينية، الذين لم تكن لديهم حرفة سوى زراعة الأرض لكسب قوتهم عن قراهم، وهربوا إلى اتجاهات مختلفة. وأعاد هؤلاء القرويون تنظيم صفوفهم وفقاً للعلاقات العشائرية، واستقروا في مخيمات مختلفة للاجئين تنتشر في كل الدول المحيطة بإسرائيل. وبسبب ضياع الأرض التي كانت تمثل المصدر التقليدي للثروة، اضطرّ الفلسطينيون إلى التحول إلى التعليم لتحسين فرص العمالة المتاحة لهم. وتمّ إدراج الأبناء والبنات في المداس، كما أنهى عدد متزايد من الطلبة المرحلة الثانوية، واتجهوا إلى دراسات أكاديمية عليا. وبالإضافة إلى ذلك كان الرجال في أحيان كثيرة يغادرون ديارهم سعياً إلى العمل في دول الخليج، ويخلفون النساء والأطفال وراءهم.
وكان لزاماً على المرأة أن تقوم بدور أكثر نشاطاً في اتخاذ القرارات بشأن الأمور المنزلية، كما اضطرّ عدد كبير آخر إلى البحث عن العمل لتحسين اقتصاديات الأسرة. وساهمت هذه العوامل كلها في التغير التدريجي لأدوار المرأة في المجتمع. ومع ذلك لم يصحب هذا التغير في دور المرأة أي تغير في الموقف الاجتماعي منها. وكانت المرأة لا تزال تعتبر أساساً منتجة للورثة الذكور، كما كانت السلطة النهائية في اتخاذ القرارات المتعلقة بمصير المرأة، لا تزال في يدي الأب أو الزوج. ولم يتغير وضع المرأة من الناحية القانونية. واستمرت قوانين الأحوال الشخصية نفسها التي كانت سائدة في العهد العثماني، مطبقة على المرأة في تلك الفترة أيضاً. وبرغم التحسن في توفير الخدمات الصحية والتعليمية من خلال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، التي تولّت مسؤولية مخيمات اللاجئين، فإن حياة المرأة كانت مثقلة بفعل الظروف السيئة للحياة في المخيمات، والفقر المدقع، وتصدع الأسرة لأسباب اقتصادية.
وباختصار، برغم التحسن في الخدمات التعليمية والصحية، التي تلبي حاجات الإناث، وبرغم ظهور ومشاركة المرأة في الحياة العامة، فإن البرنامج العام لنشاط المرأة، كان لا يزال يتركز على القضية الوطنية على حساب تحسين وضع المرأة من خلال التغيرات في التشريع. ولم تأخذ الخطط الوطنية المختلفة في الاعتبار، الحاجات الاجتماعية المختلفة للسكان الفلسطينيين من ناحية مواقعها المختلفة، ولم تعمد إلى معالجة تلك الحاجات في مخيمات اللاجئين، أو المدن، أو القرى، وذلك لتضييق الهوة بين الهياكل الاجتماعية الفلسطينية المختلفة، وعلاوة على ذلك فلم تتضمن تلك الخطط الوطنية برنامجاً اجتماعياً تقدمياً، يؤدي إلى تحسين الوضع الاجتماعي والقانوني للمرأة بشكل عام. وكان المجتمع في معظمه لا يزال يعتبر الدور الرئيس للمرأة في الحياة، هو إنجاب الأطفال الذكور للأسرة. واستمرّت العادات والتقاليد في ذلك أيضاً، إلى موقف عانت منه المرأة في هذا الجيل مثلما عانت المرأة خلال فترة الانتداب، حيث تمت تعبئتها، ولم تصبح نشطة من الناحيتين السياسية والاجتماعية، إلا في فترة الأزمة الوطنية.
وعندما انحسرت الأزمة، انحسرت معها مشاركة المرأة في كل نواحي الحياة العامة. لقد مزّقت حرب 1948م جسم المجتمع الفلسطيني وبعثرت أجزاءه في جميع أجزاء العالم وأصبحت الأكثرية الساحقة منه، المليون نسمة، لاجئين. وقد أدّى هذا إلى بداية تيارين متناقضين في العائلة الفلسطينية اللاجئة: من الجهة الأولى، أدّت الحرب إلى تمزيق المجتمع الفلسطيني على جميع المستويات ومنها مستوى العائلة، ومن جهة أخرى، فإن هذا التمزق في المجتمع وغياب أي نوع من البناء الاجتماعي فوق مستوى العائلة لمدة طويلة، أدّى إلى زيادة اعتماد الفرع على العائلة، وكانت قوة وتماسك العائلة والحمولة والعشيرة والقرية لمجتمع ما قبل 1948م هي التي أنقذت الشعب الفلسطيني، وحافظت على بقائه واستمراريتها في مرحلة ما بعد 1948م. ويمكن أن نقسم الشعب الفلسطيني الذي رُحّل سنة 1948م إلى قسمين، قسم بقي على أرض الوطن فيما أصبح يعرف بالضفة الغربية وقطاع غزة، وقسم ذهب إلى البلاد العربية المجاورة ومنها انتقل قسم فيما بعد إلى باقي أجزاء العالم. وقد أصبح هذا التقسيم ذا معنى أكبر بعد سنة 1967م حين وقعت الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي الذي ما زال مستمراً حتى اليوم، وتعرّض المهجرون كما تعرض باقي السكان في الضفة والقطاع إلى ممارسات الاحتلال التي سنتحدث عنها فيما بعد. ونجد أن العائلة الفلسطينية المهجرة لجأت/ من أجل البقاء، إلى استراتيجيات متشابهة إلى حد كبير بغض النظر عن مكان وجودها. فنحن نجد أن الحرب والتهجير قد قضت على القاعدة الإنتاجية الاقتصادية للعائلة الممتدة بحرمانها من أراضيها وممتلكاتها، وعدم إمكانية الحفاظ على تماسكها سواء في مخيمات اللاجئين أو بين العائلات التي انتقلت للعيش في المدن والقرى المجاورة للمخيمات، وإلى درجة تفوق تماسك العائلة الممتدة في باقي أجزاء المجتمع. وقد تمكنت من ذلك بعدة طرق بعضها مقصودة وواعية وبعضها جاءت نتيجة الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي واجهتها. وقد تأثّرت علاقات الزواج بين الفلسطينيين المهجّرين بمحاولات البقاء والحفاظ على تماسك الوحدات الاجتماعية.
قبل 1948م كانت العلاقات الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني بشكل عام فلاحية، فكانت الحاجة إلى تنظيم إنتاج الأرض ضمن العائلات الممتدة وبينها، وتضامن أفراد العائلة الممتدة والحفاظ على أموالها وممتلكاتها وعلى عمل العائلة وتنظيم وراثة الأرض هي المحدد الأول لعلاقات الزواج. ومع أن معظم هذه المحددات، والقاعدة الإنتاجية والمادية لوجود العائلة الممتدة ككل، قد اختفت مع الترحيل سنة 1948م إلا أننا نجد أن زواج الأقارب في المخيمات قد ازداد بدلاً من أن ينقص، ولكن الدوافع وراء ترتيبات الزواج المستند إلى القربى قد تغيرت.
فبدلاً عن دوافع الملكية والسلطة والإنتاج ظهرت دوافع بقاء واستمرارية هوية المجتمعات الصغرى التي تشتت. وقد حاولت العائلات الفلسطينية المهجّرة أينما وجدت إيجاد وسائل للتعويض عما خسرته من أموال وممتلكات بطرق مختلفة، ومن أهم هذه الوسائل، التعليم. يقول سليم تماري مثلاً: "ولقد عزز فقدان الأرض والممتلكات نتيجة للحرب قيمة التعليم والهجرة كمصدرين للحراك الاجتماعي (شريف كناعنة/ التغير والاستمرارية، تأثير الاحتلال على المجتمع العربي الفلسطيني ص 88). وكانت وسيلة هذا الحراك هي العائلة الممتدة، التي استثمرت الكثير (قياساً بالدخل) في تعليم أفرادها الأكثر شباباً، وخصوصاً الأولاد الذكور. (تماري 1994م ص 22). أساليب التوافق التي نتجت عن التهجير وانعكاساتها على العائلة الفلسطينية ظهرت بوضوح في مخيمات اللاجئين في الدول العربية وبين الجاليات الفلسطينية في كل مكان، أما بين الفلسطينيين الذين بقوا على أرض فلسطين فقد انعكس تأثير التهجير بشدة ووضوح على قطاع غزة أكثر من غيرها، حيث تدفقت إليها أثناء حرب عام 1948م أعداد كبيرة من المهجرين آتين من المناطق الساحلية الواقعة جنوب يافا ومن منطقة بئر السبع حتى أصبحت الكثافة السكانية فيها خانقة. وقد بلغت نسبة اللاجئين في قطاع غزة حوالي ثلثي السكان، يعيش قسم كبير منهم في المدن، ويقول تماري (1994 ص 21): "ويظهر من تحليلنا للأسرة أن الأكثر حرماناً بين الفئات الاجتماعية هم فقراء المدن، في الضفة الغربية وغزة على حد سواء، والذين يشكلون قطاعاً مهماً من سكان المدن الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين".
كان لاحتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967م، وما تلا تلك من سياسات وممارسات إسرائيلية تأثير كبير على العائلة الفلسطينية في هذه الأراضي. حاولت إسرائيل منذ اليوم الأول السيطرة سياسياً وقانونياً عل الضفة الغربية وغزة. وكانت إستراتيجيتها الأساسية في تنفيذ خططها هي جعل الأراضي الفلسطينية المحتلة تعتمد كلياً على اقتصاد إسرائيل. وقد توصلت إلى ذلك بعدة طرق منها مصادرة الأراضي، وتحطيم الصناعات المحلية، وضرب المنتجات الزراعية الفلسطينية، وفتح باب العمل في إسرائيل أمام الفلسطينيين. هذه الترتيبات حطمت القاعدة الإنتاجية للعائلة الممتدة، ولم تعطها حوافز بديلة للمحافظة على وحدتها وتماسكها مثل تلك الحوافز والآليات التي ظهرت بين العائلات المهجّرة في مخيمات اللاجئين لحرب 1948م.
وأدّى العمل الفردي المأجور إلى تفسّخ العائلة الممتدة إلى عائلات أولية صغيرة. وفي كثير من الحالات كان الأب في هذه الأسر غائباً معظم الوقت. فقد كان العامل الفلسطيني عادة يقضي أسبوعاً أو شهراً كاملاً في مكان العمل في المدن اليهودية، وفي أحسن الحالات كان العامل يترك البيت في الصباح الباكر ويعود متأخراً في المساء. وقد أدّى ذلك إلى تغير في أدوار جميع أفراد الأسرة وسلوكهم. فمع غياب الزوج أخذت الزوجة تقوم بالكثير من الأعمال والواجبات التي يقوم بها عادة الزوج ومن ضمنها الأعمال الزراعية عند العائلات التي بقيت لها بعض الأراضي. وأخذت الأم دور الأب في ضبط الأطفال وتأديبهم ومتابعة أدائهم المدرسي، وشراء حاجيات البيت، وبشكل عام أدّى ذلك إلى زيادة دور المرأة في المجتمع.
بدأت الانتفاضة الفلسطينية الشهيرة في نهاية 1987م. وكانت هذه الانتفاضة مبادرة شعبية تلقائية، قام بها المجتمع في الضفة الغربية وغزة، لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي المطول لتلك المناطق، وما ترتب عليه من مصاعب في الحياة اليومية. ويمكن تقسيم الانتفاضة إلى مرحلتين فيما يخص مشاركة المرأة. إذ كانت المرأة في المرحلة الأولى العمود الفقري للانتفاضة، فقد شاركت بنشاط في المظاهرات في الشوارع، وكذلك في التعبئة الاجتماعية والسياسية من خلال المشاركة الفاعلة في لجان الأحياء. وخلال هذه الفترة من النشاط السياسي المحموم سمح المجتمع للمرأة بالمشاركة في أنشطة الانتفاضة. وفقد عدد كبير من النساء حياتهن، كما تعرضن للإصابة نتيجة الضرب، أو طلقات الرصاص. وتعرض عدد كبير من النساء للإجهاض نتيجة لاستنشاق الغازات المسيلة للدموع، كما تم اعتقال عدد أكبر منهن ومحاكمتهن، وإصدار أحكام عليهن بالسجن لعدة سنوات. وخلال تلك الفترة، كانت المرأة الفلسطينية من كل قطاعات المجتمع تشعر بقيمتها، وبأن إسهاماتها ضرورية للحفاظ على الانتفاضة. وعندما كان الآباء والأبناء في السجن في الكثير من العائلات، اضطرت المرأة إلى تولي كل المسؤوليات المنزلية والعامة لأسرهن. واضطرت المرأة إلى الخروج للبحث عن الذكور من أعضاء العائلة في السجون العسكرية المختلفة، وإلى تعيين المحامين، ودفع الأجور الضريبية، وضمان تلبية حاجات أعضاء الأسرة سواء كانوا في السجون أو خارجها. وأدّت هذه المسؤوليات المفاجئة الجديدة إلى إعطاء المرأة شعوراً قوياً بقيمتها وأهميتها في الحفاظ على استمرارية المجتمع.
تشتت أغلبية السكان الفلسطينيين في أربع دول عربية مجاورة، هي الأردن، وسوريا، ولبنان، ومصر نتيجة للحرب العربية الإسرائيلية في 1948م. ونتيجة لهذا التفرق، حدث تصدع للمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والأكاديمية...الخ المختلفة في المجتمع. واستغرق الأمر بعض الوقت حتى استطاع الناس إعادة تنظيم صفوفهم وحياتهم، في محاولة لاستعادة بعض الاتصالات الاجتماعية على الأقل، للمحافظة على القيم الثقافية، والتقاليد اللازمة، للإبقاء على مجتمعهم، برغم فقدان القاعدة الاقتصادية التي كانت تحافظ على تلك التقاليد.
وتمثل التغير الرئيس في الهيكل الاجتماعي الفلسطيني، خلال تلك الفترة، في نشوء فئة اجتماعية جديدة هي سكان مخيمات اللاجئين. وانفصل سكان القرى الفلسطينية، الذين لم تكن لديهم حرفة سوى زراعة الأرض لكسب قوتهم عن قراهم، وهربوا إلى اتجاهات مختلفة. وأعاد هؤلاء القرويون تنظيم صفوفهم وفقاً للعلاقات العشائرية، واستقروا في مخيمات مختلفة للاجئين تنتشر في كل الدول المحيطة بإسرائيل. وبسبب ضياع الأرض التي كانت تمثل المصدر التقليدي للثروة، اضطرّ الفلسطينيون إلى التحول إلى التعليم لتحسين فرص العمالة المتاحة لهم. وتمّ إدراج الأبناء والبنات في المداس، كما أنهى عدد متزايد من الطلبة المرحلة الثانوية، واتجهوا إلى دراسات أكاديمية عليا. وبالإضافة إلى ذلك كان الرجال في أحيان كثيرة يغادرون ديارهم سعياً إلى العمل في دول الخليج، ويخلفون النساء والأطفال وراءهم.
وكان لزاماً على المرأة أن تقوم بدور أكثر نشاطاً في اتخاذ القرارات بشأن الأمور المنزلية، كما اضطرّ عدد كبير آخر إلى البحث عن العمل لتحسين اقتصاديات الأسرة. وساهمت هذه العوامل كلها في التغير التدريجي لأدوار المرأة في المجتمع. ومع ذلك لم يصحب هذا التغير في دور المرأة أي تغير في الموقف الاجتماعي منها. وكانت المرأة لا تزال تعتبر أساساً منتجة للورثة الذكور، كما كانت السلطة النهائية في اتخاذ القرارات المتعلقة بمصير المرأة، لا تزال في يدي الأب أو الزوج. ولم يتغير وضع المرأة من الناحية القانونية. واستمرت قوانين الأحوال الشخصية نفسها التي كانت سائدة في العهد العثماني، مطبقة على المرأة في تلك الفترة أيضاً. وبرغم التحسن في توفير الخدمات الصحية والتعليمية من خلال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، التي تولّت مسؤولية مخيمات اللاجئين، فإن حياة المرأة كانت مثقلة بفعل الظروف السيئة للحياة في المخيمات، والفقر المدقع، وتصدع الأسرة لأسباب اقتصادية.
وباختصار، برغم التحسن في الخدمات التعليمية والصحية، التي تلبي حاجات الإناث، وبرغم ظهور ومشاركة المرأة في الحياة العامة، فإن البرنامج العام لنشاط المرأة، كان لا يزال يتركز على القضية الوطنية على حساب تحسين وضع المرأة من خلال التغيرات في التشريع. ولم تأخذ الخطط الوطنية المختلفة في الاعتبار، الحاجات الاجتماعية المختلفة للسكان الفلسطينيين من ناحية مواقعها المختلفة، ولم تعمد إلى معالجة تلك الحاجات في مخيمات اللاجئين، أو المدن، أو القرى، وذلك لتضييق الهوة بين الهياكل الاجتماعية الفلسطينية المختلفة، وعلاوة على ذلك فلم تتضمن تلك الخطط الوطنية برنامجاً اجتماعياً تقدمياً، يؤدي إلى تحسين الوضع الاجتماعي والقانوني للمرأة بشكل عام. وكان المجتمع في معظمه لا يزال يعتبر الدور الرئيس للمرأة في الحياة، هو إنجاب الأطفال الذكور للأسرة. واستمرّت العادات والتقاليد في ذلك أيضاً، إلى موقف عانت منه المرأة في هذا الجيل مثلما عانت المرأة خلال فترة الانتداب، حيث تمت تعبئتها، ولم تصبح نشطة من الناحيتين السياسية والاجتماعية، إلا في فترة الأزمة الوطنية.
وعندما انحسرت الأزمة، انحسرت معها مشاركة المرأة في كل نواحي الحياة العامة. لقد مزّقت حرب 1948م جسم المجتمع الفلسطيني وبعثرت أجزاءه في جميع أجزاء العالم وأصبحت الأكثرية الساحقة منه، المليون نسمة، لاجئين. وقد أدّى هذا إلى بداية تيارين متناقضين في العائلة الفلسطينية اللاجئة: من الجهة الأولى، أدّت الحرب إلى تمزيق المجتمع الفلسطيني على جميع المستويات ومنها مستوى العائلة، ومن جهة أخرى، فإن هذا التمزق في المجتمع وغياب أي نوع من البناء الاجتماعي فوق مستوى العائلة لمدة طويلة، أدّى إلى زيادة اعتماد الفرع على العائلة، وكانت قوة وتماسك العائلة والحمولة والعشيرة والقرية لمجتمع ما قبل 1948م هي التي أنقذت الشعب الفلسطيني، وحافظت على بقائه واستمراريتها في مرحلة ما بعد 1948م. ويمكن أن نقسم الشعب الفلسطيني الذي رُحّل سنة 1948م إلى قسمين، قسم بقي على أرض الوطن فيما أصبح يعرف بالضفة الغربية وقطاع غزة، وقسم ذهب إلى البلاد العربية المجاورة ومنها انتقل قسم فيما بعد إلى باقي أجزاء العالم. وقد أصبح هذا التقسيم ذا معنى أكبر بعد سنة 1967م حين وقعت الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي الذي ما زال مستمراً حتى اليوم، وتعرّض المهجرون كما تعرض باقي السكان في الضفة والقطاع إلى ممارسات الاحتلال التي سنتحدث عنها فيما بعد. ونجد أن العائلة الفلسطينية المهجرة لجأت/ من أجل البقاء، إلى استراتيجيات متشابهة إلى حد كبير بغض النظر عن مكان وجودها. فنحن نجد أن الحرب والتهجير قد قضت على القاعدة الإنتاجية الاقتصادية للعائلة الممتدة بحرمانها من أراضيها وممتلكاتها، وعدم إمكانية الحفاظ على تماسكها سواء في مخيمات اللاجئين أو بين العائلات التي انتقلت للعيش في المدن والقرى المجاورة للمخيمات، وإلى درجة تفوق تماسك العائلة الممتدة في باقي أجزاء المجتمع. وقد تمكنت من ذلك بعدة طرق بعضها مقصودة وواعية وبعضها جاءت نتيجة الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي واجهتها. وقد تأثّرت علاقات الزواج بين الفلسطينيين المهجّرين بمحاولات البقاء والحفاظ على تماسك الوحدات الاجتماعية.
قبل 1948م كانت العلاقات الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني بشكل عام فلاحية، فكانت الحاجة إلى تنظيم إنتاج الأرض ضمن العائلات الممتدة وبينها، وتضامن أفراد العائلة الممتدة والحفاظ على أموالها وممتلكاتها وعلى عمل العائلة وتنظيم وراثة الأرض هي المحدد الأول لعلاقات الزواج. ومع أن معظم هذه المحددات، والقاعدة الإنتاجية والمادية لوجود العائلة الممتدة ككل، قد اختفت مع الترحيل سنة 1948م إلا أننا نجد أن زواج الأقارب في المخيمات قد ازداد بدلاً من أن ينقص، ولكن الدوافع وراء ترتيبات الزواج المستند إلى القربى قد تغيرت.
فبدلاً عن دوافع الملكية والسلطة والإنتاج ظهرت دوافع بقاء واستمرارية هوية المجتمعات الصغرى التي تشتت. وقد حاولت العائلات الفلسطينية المهجّرة أينما وجدت إيجاد وسائل للتعويض عما خسرته من أموال وممتلكات بطرق مختلفة، ومن أهم هذه الوسائل، التعليم. يقول سليم تماري مثلاً: "ولقد عزز فقدان الأرض والممتلكات نتيجة للحرب قيمة التعليم والهجرة كمصدرين للحراك الاجتماعي (شريف كناعنة/ التغير والاستمرارية، تأثير الاحتلال على المجتمع العربي الفلسطيني ص 88). وكانت وسيلة هذا الحراك هي العائلة الممتدة، التي استثمرت الكثير (قياساً بالدخل) في تعليم أفرادها الأكثر شباباً، وخصوصاً الأولاد الذكور. (تماري 1994م ص 22). أساليب التوافق التي نتجت عن التهجير وانعكاساتها على العائلة الفلسطينية ظهرت بوضوح في مخيمات اللاجئين في الدول العربية وبين الجاليات الفلسطينية في كل مكان، أما بين الفلسطينيين الذين بقوا على أرض فلسطين فقد انعكس تأثير التهجير بشدة ووضوح على قطاع غزة أكثر من غيرها، حيث تدفقت إليها أثناء حرب عام 1948م أعداد كبيرة من المهجرين آتين من المناطق الساحلية الواقعة جنوب يافا ومن منطقة بئر السبع حتى أصبحت الكثافة السكانية فيها خانقة. وقد بلغت نسبة اللاجئين في قطاع غزة حوالي ثلثي السكان، يعيش قسم كبير منهم في المدن، ويقول تماري (1994 ص 21): "ويظهر من تحليلنا للأسرة أن الأكثر حرماناً بين الفئات الاجتماعية هم فقراء المدن، في الضفة الغربية وغزة على حد سواء، والذين يشكلون قطاعاً مهماً من سكان المدن الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين".
كان لاحتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967م، وما تلا تلك من سياسات وممارسات إسرائيلية تأثير كبير على العائلة الفلسطينية في هذه الأراضي. حاولت إسرائيل منذ اليوم الأول السيطرة سياسياً وقانونياً عل الضفة الغربية وغزة. وكانت إستراتيجيتها الأساسية في تنفيذ خططها هي جعل الأراضي الفلسطينية المحتلة تعتمد كلياً على اقتصاد إسرائيل. وقد توصلت إلى ذلك بعدة طرق منها مصادرة الأراضي، وتحطيم الصناعات المحلية، وضرب المنتجات الزراعية الفلسطينية، وفتح باب العمل في إسرائيل أمام الفلسطينيين. هذه الترتيبات حطمت القاعدة الإنتاجية للعائلة الممتدة، ولم تعطها حوافز بديلة للمحافظة على وحدتها وتماسكها مثل تلك الحوافز والآليات التي ظهرت بين العائلات المهجّرة في مخيمات اللاجئين لحرب 1948م.
وأدّى العمل الفردي المأجور إلى تفسّخ العائلة الممتدة إلى عائلات أولية صغيرة. وفي كثير من الحالات كان الأب في هذه الأسر غائباً معظم الوقت. فقد كان العامل الفلسطيني عادة يقضي أسبوعاً أو شهراً كاملاً في مكان العمل في المدن اليهودية، وفي أحسن الحالات كان العامل يترك البيت في الصباح الباكر ويعود متأخراً في المساء. وقد أدّى ذلك إلى تغير في أدوار جميع أفراد الأسرة وسلوكهم. فمع غياب الزوج أخذت الزوجة تقوم بالكثير من الأعمال والواجبات التي يقوم بها عادة الزوج ومن ضمنها الأعمال الزراعية عند العائلات التي بقيت لها بعض الأراضي. وأخذت الأم دور الأب في ضبط الأطفال وتأديبهم ومتابعة أدائهم المدرسي، وشراء حاجيات البيت، وبشكل عام أدّى ذلك إلى زيادة دور المرأة في المجتمع.
بدأت الانتفاضة الفلسطينية الشهيرة في نهاية 1987م. وكانت هذه الانتفاضة مبادرة شعبية تلقائية، قام بها المجتمع في الضفة الغربية وغزة، لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي المطول لتلك المناطق، وما ترتب عليه من مصاعب في الحياة اليومية. ويمكن تقسيم الانتفاضة إلى مرحلتين فيما يخص مشاركة المرأة. إذ كانت المرأة في المرحلة الأولى العمود الفقري للانتفاضة، فقد شاركت بنشاط في المظاهرات في الشوارع، وكذلك في التعبئة الاجتماعية والسياسية من خلال المشاركة الفاعلة في لجان الأحياء. وخلال هذه الفترة من النشاط السياسي المحموم سمح المجتمع للمرأة بالمشاركة في أنشطة الانتفاضة. وفقد عدد كبير من النساء حياتهن، كما تعرضن للإصابة نتيجة الضرب، أو طلقات الرصاص. وتعرض عدد كبير من النساء للإجهاض نتيجة لاستنشاق الغازات المسيلة للدموع، كما تم اعتقال عدد أكبر منهن ومحاكمتهن، وإصدار أحكام عليهن بالسجن لعدة سنوات. وخلال تلك الفترة، كانت المرأة الفلسطينية من كل قطاعات المجتمع تشعر بقيمتها، وبأن إسهاماتها ضرورية للحفاظ على الانتفاضة. وعندما كان الآباء والأبناء في السجن في الكثير من العائلات، اضطرت المرأة إلى تولي كل المسؤوليات المنزلية والعامة لأسرهن. واضطرت المرأة إلى الخروج للبحث عن الذكور من أعضاء العائلة في السجون العسكرية المختلفة، وإلى تعيين المحامين، ودفع الأجور الضريبية، وضمان تلبية حاجات أعضاء الأسرة سواء كانوا في السجون أو خارجها. وأدّت هذه المسؤوليات المفاجئة الجديدة إلى إعطاء المرأة شعوراً قوياً بقيمتها وأهميتها في الحفاظ على استمرارية المجتمع.