بحث هذه المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات من الذاكرة الفلسطينية: أبو نبيل لو عاد بي الزمن لفضلت الموت على اللجوء. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات من الذاكرة الفلسطينية: أبو نبيل لو عاد بي الزمن لفضلت الموت على اللجوء. إظهار كافة الرسائل

2014-05-09

من الذاكرة الفلسطينية: أبو نبيل لو عاد بي الزمن لفضلت الموت على اللجوء


من الذاكرة الفلسطينية: أبو نبيل لو عاد بي الزمن لفضلت الموت على اللجوء

نابلس - لينا الحاج محمد وهبة أبو غضيب
ستة ملايين لاجئ في فلسطين والمهجر يعيشون ذكرى البحث عن وطنهم المفقود وأرضهم المسلوبة.... في ثالث يوم رمضان من عام 1948، الاستعداد إلى صوم يوم جديد تحول إلى الصوم عن بيتهم وأرضهم 64 عاماً على التوالي.

التجاعيد تحت عينيه، والسواد يغمرهما، والدموع تترقرق في عينيه، والرجفة لا تفارق يديه اللتين جار عليهما الزمان، ليرسم له واقعاً مريراً؛ لكن رغم كل ذلك؛ ما زالت ذاكرة أبو نبيل الطيراوي (79 عاماً) من مخيم بلاطة (شرق مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية) تنبض بتفاصيل يوم الرحيل ورحلة اللجوء.

وما إن بدأت "العودة" بسؤاله عمّا عاشه خلال أيام النكبة عام 48، بدأت ذاكرته تروي قصة الهجرة بتفاصيلها، وكأنها حدثت بالأمس القريب. حكاية عاشها أبو نبيل، وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره؛ حيث كان يسكن مع عائلته في قرية "طيرة دندن" قضاء مدينة اللد؛ لينتهي بهُم الحال للعيش في حيّ بلاطة البلد بجانب مخيم بلاطة في نابلس، وهو أكبر مخيمات الضفة الغربية.

تنهيدة وابتسامة بسيطة رسمت على وجه أبو نبيل في بداية حديثه عن بلده الطيرة، القرية التي وصفها بـ"جنة فلسطين الخالدة"؛ بطقسها الجميل، وأراضيها وبياراتها الخضراء، وحياة مثالية بأوضاع مالية ممتازة، وأراضٍ مزروعة بالقمح والذرة والصبار والزيتون كان يملكها والد أبو نبيل الذي كان يعمل تاجر مواشٍ في الطيرة.

بداية الحكاية
يقول الشيخ الهرم لـ"العودة": كانت بداية خروج جزء من أهل القرية لما سمعوه عن وحشية اليهود في دير ياسين غربي القدس المحتلة، فيما بقيت أنا وعائلتي وباقي أهل البلد في القرية، حتى فاجأتنا العصابات اليهودية ثالث أيام شهر رمضان قبل أذان الفجر، حيث دخلوا القرية من منطقة الغرب؛ فاستيقظ الناس مذعورين على صوت إطلاق نار كثيف كالمطر، لم يتوقف للحظة ولم يميز بين كبير وصغير".

يتابع وصف ذلك المشهد وكأنه يراه أمامه، ويقول: "خرجنا من البيت كلنا حفاة ومن دون وعي، ولم يكن بحوزة والدي سوى مبلغ صغير من المال، إضافة إلى المرتينة (بندقية تحوي 20 طلقة)، تاركين وراءنا كل ما نملك من أراضٍ وأثاث ومواشٍ".

ولشدة الذعر والهلع الذي انتشر بين الناس لدى هجوم العصابات الصهيونية؛ أشار أبو نبيل إلى أن عدداً من العائلات خرجوا تاركين أطفالهم في البيوت، ولم يتذكروا أطفالهم إلا بعد قطع مسافة كبيرة، وبعدما حلّ القصف على كل حجر في القرية، ومنهم من ضاعوا عن أطفالهم وتفرقوا ولم يستطيعوا رؤيتهم أبداً".

ويضيف: "اتجهنا نحو جبال القرية، لكني لم أستطع أن أبقى بعيداً عن المنزل وأترك الخراف التي كنت أعتني بها وألاعبها وأسرح بها في الأراضي والجبال لترعى. لم أستطع أن أتركها وحيدة هناك، فقررت العودة إلى المنزل لأخذ الخراف، لكن القصف اشتد أكثر من كل نواحي القرية وازدادت الاشتباكات بين الثوار في القرية والعصابات اليهودية، حينها أجبرت على ترك الخراف وسط القرية وهربت مسرعاً؛ وأثناء طريقي، رأيت امرأة تجمع القمح فصرخت عليها بذعر: ماذا تفعلين؟ هل جننت وصوت القصف فوق رأسك؟ اهربي قبل أن تقتلي، فتركت ما بيدها واتجهنا نحو الجبل. لقد كان كل ما يدور في عقلي هو اللحاق بوالدي ومحاولة تجاهل صوت القصف المرعب".

ويشير أبو نبيل إلى أن كبار السن في قريته لم يستطيعوا الهرب مع أهالي القرية، وبقوا في بيوتهم، وقال: "كانوا نحو 20 مسناً، منهم امرأة واحدة ومسن ضرير، وعند وصول اليهود إلى القرية جمعوهم وأرسلوهم إلى مدينة اللد، لكنهم أصروا على العودة إلى قريتهم مشياً على الأقدام، وأثناء عودتهم؛ تغلب مرض المرأة المسنة عليها وفارقت الحياة قبل أن ترى بلدتها ومنزلها مرة أخرى، وقاموا بدفنها في الطريق، واستمروا في سيرهم إلى أن وصلوا إلى أطراف القرية. وقبل استنشاقهم رائحة أرضهم؛ فجأة غطى الرصاص رؤوسهم، وكان آخر ما استنشقوه رائحة دمائهم العطرة التي روت أرضهم.

الأرض فراشنا والسماء غطاؤنا
التقى أبو نبيل بأهله وأكملوا طريقهم إلى دير طريف (جانب قرية الطيرة)، وعلى كتفه أخوه الأصغر البالغ من العمر 4 سنوات. وعندما حلّ الظلام؛ منهم من نام داخل الكهوف؛ ومنهم من نام تحت شجر الزيتون، ووصف حالهم حينها قائلاً: "لقد افترشنا الأرض وكانت السماء غطاءنا. وعند بدء نهار جديد، بدأنا بالسير لثلاثة أيام متتالية، شهدنا خلالها قصصاً مؤلمة لوفاة عدد من الأطفال بسبب التعب والحر والجوع والعطش، ولولا مساعدات الفلاحين وسكان القرى لمات الكبار أيضاً من الجوع والعطش. كان الأهالي يعملون المستحيل لتدبير القليل من الطعام والماء لصغارهم، حتى وصلنا إلى قرية "دير عمار" غرب مدينة رام الله".

أما عائلة "أبو نبيل"، فقد أنقذها ذلك المبلغ الصغير الذي كان يحمله والده بجيبه عند خروجه من منزلهم، فبدأ بشراء المواشي وذبحها وتعليقها على شجر الزيتون ليبيعها لأهالي القرى.

ويشير إلى أنه "في ذلك الوقت عمّ قرية الطيرة هدوء نسبي، فأرسلني والدي إلى القرية مع حمار حتى يجلب لهم ما يستطيع إحضاره من المنزل. كنت أشعر بخوف ورعب شديدين، لكن رائحة زهور برتقال البيارات التي تملأ المكان كانت تهدئ من روعي قليلاً".

ويتابع وصف مشهد دخوله القرية بشيء من التأثر والانفعال، وكأن ما حدث لا يزال يراود خياله بكل لحظة: "أثناء دخولي القرية رأيت ما تقشعر له الأبدان؛ كنت أخطو خطوة وأرجع للخلف خطوتين، متردداً وخائفاً ينتابني شعور غريب، ولكني أكملت الطريق، وإذ بي أنظر تحت قدمي أدوس جثة شيخ من القرية؛ فيما كان هناك نساء وأطفال تغطيهم الدماء في كل مكان".

أثناء الحديث؛ تأثر أبو نبيل وصمت لوهلة والدموع بعينيه، مختصراً حديثه بأنه استطاع إحضار 100 كيلو طحين وطعام يكفيهم، متردداً على القرية لثلاثة أيام على التوالي، حتى حان موعد إكمال هجرتهم ليصلوا إلى نابلس، ويسكنوا داخل "حي بلاطة البلد" قرب مخيم بلاطة؛ بعد شهرين.

خيام المخيم أبشع ما رآه أبو نبيل
وبعد سنوات قليلة، توفي والد أبو نبيل، بينما كبر هو وتزوج وأصبح لديه طفل، فاضطر إلى أن يسكن هو وزوجته وابنه في خيمة داخل مخيم بلاطة؛ بعد حدوث بعض المشاكل العائلية بينه وبين زوجة أبيه. ويضيف: "الخيمة كانت الحل الأخير لي، لكني لم أستطع تحمل وضع الحياة فيها من دون مرافق صحية، ولا حتى مكان للطبخ، وكلما هبّت الرياح لا تبقى أي خيمة في مكانها. كانت ظروف الحياة فيها مزرية وبشعة وصعبة لا تحتمل؛ وكانت زوجتي صغيرة بالعمر وأنا أخاف عليها من هذا المسكن، فانتقلت للسكن عند عمي حتى جاءت الأونروا وقدمت مساعدات، وبنت لنا بيوتاً محل الخيام التي كنا نطلق عليها اسم وحدات".

وعاد أبو نبيل ليسكن وأسرته في وحدته داخل المخيم، وأكمل عمل والده في تجارة المواشي؛ حتى أصبح يمتلك ملحمة لبيع اللحوم.

عاش أهل المخيم فترة من الاستقرار النسبي لم تدم؛ حيث اقتحم اليهود مخيم بلاطة عام 1967؛ فهرب الأهالي مرة أخرى من بيوتهم؛ خوفاً من القتل، وخشية على أعراضهم، وتوجهوا نحو قرية "بيت فوريك" (شرق مخيم بلاطة). ويذكر أبو نبيل موقفاً حينها، قائلاً: "حملت زوجتي العجين الذي كانت تحضره لتخبزه قبيل الاقتحام، لكنه لم يفِ بغرضهم وتعفن في الطريق ورمته وهي تبكي بشدة، حيث لم يبق معها ما تطعمه لأطفالنا".

ويشير أبو نبيل إلى أنه لدى عودتهم إلى المخيم بعد أيام، قرر أن يشتري منزلاً خارج المخيم ويسكن فيه؛ حيث سكن في منطقة بلاطة البلد.

أبو نبيل: الدول العربية سبب في ضياع أوطاننا

وعند سؤال "العودة" أبو نبيل عن وصف شعوره وهو بعيد عن أرضه وبلده الأصلي، كان رده بعصبية، منقلبة نبرة صوته، يظهر بعيونه الندم لخروجه من بلده ومتمنياً لو مات هناك ولم يخرج منها لما رآه وعاشه من واقع مر بقي في ذاكرته 79 عاماً.

ويقول: "أنا أقول لأحفادي: إننا نحن من تركنا أرضنا لليهود، ونحن السبب في توطنهم في فلسطين، ونحن من بعناهم أراضينا وكروم العنب والزيتون والبيارات. كانوا أقل عدداً منا، إلا بعض الفلسطينيين استسلموا للملايين التي دفعوها اليهود لهم، وبنوا مستعمراتهم فيها".

اشتد غضب أبو نبيل وارتجفت يداه وتساءل: "ألم نكن السبب في استيلائهم على باقي أراضي فلسطين؟ فعند بيعك بلاطة أرض واحدة لعدو حقير فأدرك أنك ستبيع باقي أرضك وبلا إحساس، فأصبحوا اليهود يمتدون ويتوسعون أكثر في بنائهم نحو باقي الأراضي حولهم وبعدوانية بشعة، والسبب في حالنا هي الدول العربية؛ التي وقفت في مكانها ولم تساعدنا، مع أنها تمتلك القدرة في المساعدة"

المصدر: مجلة العودة/ العدد ـ 60 / شهر 9/ 2012