من الذاكرة الفلسطينية: الحاجة بهية عبدو رشدان: قرية لوبية، في عيون أبنائها، هي أجمل بقاع الأرض
أحمد الباش:
لوبية قرية فلسطينية من قضاء مدينة طبريا، تقع على مسافة 13كم للغرب منها، على طريق طبريا الناصرة. ترتفع 325 متراً عن سطح البحر. مساحتها 210 دونمات. ولها أراضٍ واسعة تبلغ مساحتها 39629 دونماً، منها 1163 للطرق والوديان. تحيط بأراضيها أراضي قرى: نمرين، وطرعان، والشجرة، وكفر سبت، والمنارة، وحطين. غرس الزيتون في 1520 دونماً من أراضيها. وصف مؤلفا كتاب “جغرافية فلسطين” أراضيها بقولهما: “أراضٍ فسيحة ومخصبة وقمحها مشهور”.
كان في لوبيا في عام 1922م 1712 نسمة؛ وفي عام 1931 ارتفع عدد سكانها إلى 1850: منهم 953 ذكور؛ و897 إناث؛ يسكنون 405 بيوت. في عام 1945؛ قُدِّر عدد سكان لوبيا بـ 2350 فلسطينيا عربياً مسلماً.
تأسست في لوبية في العهد العثماني مدرسة ذات بناء حسن تابعت عملها في العهد البريطاني، وكانت صفوفها في العام الدراسي 1942 - 1943 إلى الصف الخامس الابتدائي.
وتمتاز لوبيا بموقعها الأثري الذي احتوى على “مدافن منقورة في الصخر، ومعاصر خمر، وصهاريج، وقطع معمارية، ونحت في الصخور”؛ وتقع على مسافة كيلومترين للشرق من لوبيا بقايا بناء لخان يعرف باسم “الخان” أو “خان لوبيا”، يحتوي على “أسس خان، وبركة متهدمة، وصهاريج، وآثار بناء مبني بالحجارة الكبيرة الضخمة، ويقع فوق هضبة”.
سقطت قرية "لوبيا" في تموز من عام 1948، وأخرج أهلها منها، ودمرها الصهاينة تدميراً كاملاً، وأقاموا على أراضيها. في شباط من عام 1949 أُنشئت مستعمرة دعوها باسم “Lavi” (بمعنى الأسد). كان فيها عام 1961م، 254 يهودياً.
وقرية لوبية في عيون أبنائها هي أجمل بقاع الأرض، كما تقول الشاهدة على النكبة (بهية عبدو رشدان)، التي غادرت القرية وهي في السادسة عشرة من عمرها. وتضيف الشاهدة: بيتنا (أي بيت زوجي) كان ملاصقاً لبيوت الأقارب والجيران، وممن أذكرهم: دار ديب العبد الله، ودار أحمد الشناشري، ودار أهلي (عبدو الرشدان). كنا كلنا بجانب بعضنا؛ وما زلت أذكر باب بيتنا الخشبي، والبيت الذي تزوجت فيه، كان فيه قاع دار كبيرة (باحة الدار).
كانت علاقة أهل البلد بعضهم ببعض علاقة قوية ومتينة، وظهرت قوتها أثناء الثورة وأثناء المعارك مع اليهود والإنكليز، وبتعاملهم مع الثوار، وبالدفاع عن البلد؛ فقد التحق شباب لوبية بالثورة مبكراً، وكانت لهم مشاركات في عدة معارك، وخاصة معارك ثورة الـ36 (ثورة القسام)، واستشهد منهم العديد، وجرح واعتقل العديد أيضاً.
و(زي) ما كانت علاقتهن ببعض (مليحة)، كانت علاقتهم مع القرى المحيطة أيضاً (كتير كتير مليحة)، وخاصة قرى: الشجرة، والمغار، وعرب المواسي، وعرب الوهيب، وغيرهم؛ وكان شباب لوبية يفزعوا (يناصرون) لهذه القرى في معاركهن ضد الإنكليز واليهود.
بداية المناوشات
وأذكر في إحدى الليالي؛ سمعنا صوت ينادي -وكان الصوت لناطور البلد- وأخذ يصيح ويقول بأمر من مخاتير البلد: أخرجوا النساء والأطفال من القرية، وخليهم يتوجهوا إلى قرية (عين آبون) على طريق فلسطين لبنان، وممنوع أي زلمة يطلع من البلد.
وعندما اجتمع أهل القرية؛ أخبرنا بعض الوجهاء أنه وصلتهم أخبار من بعض الجواسيس العرب عند اليهود بأن اليهود راح يهجموا الليلة على القرية.
وبالفعل انتشر الشباب والرجال على أطراف القرية واستعدوا لصدّ أيّ هجوم يأتي من قبل اليهود، وإحنا (النساء والأطفال) خرجنا على عين آبون، ونمنا (هذيك) الليلة هناك. وصارت تلحقنا الأخبار من القرية، وسمعنا أنه اليهود هاجموا البلد وقتلوا حسن العبد واحتلوا بيته؛ رغم أنه كان عامل خندق حول البيت وقاعد فيه، وسمعنا أنه قتلوه بنفس الخندق؛ وجرت بين المدافعين عن القرية والعصابات اليهودية المهاجمة معركة قوية استمرت من المساء لثاني يوم الساعة 11 الصبح، بعدين انسحب اليهود. وجاء رجل من البلد وقال ارجعوا على البلد لحتى تشوفوا مين استشهد ومين انجرح؛ لأنو اليهود طلعوا منها.
رجعنا على البلد ولقينا الشباب كلها منتشرة تحت الزيتون، وكان القتلى اليهود على الأرض وكان في شهداء من عنا أيضاً. ويبدو أن المعركة كانت وجهاً لوجه.
جمعنا الشهداء من أبناء البلد، و(اجينا) بدنا نقبرهن؛ لكن المقبرة موجودة على تلة ومكشوفة لليهود، وإذا شافونا عمنقبرهن، راح يغافلونا ويقصفونا بالمدافع، أو ممكن يهاجمونا؛ فقرر رجال البلد إنو يقبروهن في المغر، وقريتنا (لوبية) كانت مليانه بالمغر القديمة اللي كنا نسميها مغر كفرية. أخذنا الشهداء ووضعناهن بالمغر بلباسهن، بجنب بعضهم، في صف واحد، وأغلقنا تلك المغر.
وبعدين جمعوا القتلى اليهود واللي كان من بينهم مجندات يهوديات، كانوا لابسين خوذ على رؤوسهن. وبعد ساعات قلائل؛ جاء أفراد من الصليب الأحمر يتفاوضوا مع رجال البلد؛ حتى يسلموهن جثث القتلى اليهود، وبعد مفاوضات معهن؛ ما توصلوا لحل؛ وخرجوا من البلد بدون الجثث. طبعاً اليهود كانوا عم براقبوا بالنواضير من بعيد. واحتار رجال القرية بتلك الجثث، وفي النهاية قرروا حرقها. وجمعت النسوة أغصان الزيتون ووضعوهن فوق الجثث وتم إشعال النيران بها حتى احترقت.
طبعاً الشهداء كان أغلبهم من الحارة القبلية؛ لأن الهجوم الصهيوني كان من جهة تلك الحارة. وبذكّر بهالمعركة استشهد ثلاث أخوة، وأيضا أخيهن وأبوهن، واستشهد زوج أختي، وابن عمي (سلفي) (أخو زوجي). وبذكّر استشهد واحد من الحارة الشمالية من دار سلامة البراهيم.
وظلينا هيك (بين صدّ ورد) إحنا واليهود، وصامدين أمامهم مدة أربعة أشهر متتالية.
إرهاصات سقوط القرية
وبعدين عرفنا أنه سقطت صفد، وسقطت حيفا والناصرة، وقلنا: إذا هالمدن الكبيرة سقطت، واللي كان عندها سلاح كثير، وإحنا ما عنّا إلاّ كم بارودة ورشاش شو بدنا نساوي!.
وفي يوم، وبعد هالأحداث المتسارعة: بعث اليهود إلنا وطلبوا منا نسلم، فخفنا ينتقموا منا، وخاصة لا ذخيرة ظل مع الشباب، ولا مدد من أحد؛ فقررنا الخروج من البلد إلى عين آبون، وبالفعل، طلعنا ونمنا ليلة في هذه القرية، ومن هناك أكملنا إلى الحدود اللبنانية، وكان طول ما إحنا ماشيين؛ الطيارة الحربية الإسرائيلية تلاحقنا؛ حتى دخلنا الحدود اللبنانية مع فلسطين؛ عندها عادت إلى الأراضي الفلسطينية.
التغريبة
وبهالطريق ياما شفنا مناظر أليمة كثير! (المرأة اللّي حاملة ابنها على كتافها؛ واللّي حاملة بقجة أواعي لولادها؛ واللي حامله خبز على رأسها؛ واللّي حافية، مناظر يمّا تدمي القلب.
دخلنا الأراضي اللبنانية ونمنا أول ليلة بقرية "رميش". أهالي المنطقة لم يتحمّلوا بقاءنا في أراضيهم؛ فاضطررنا إلى السير إلى قرية "يارون"، وصلنا هناك متعبين منهكين جوعانين، واسترحنا تحت شجر التين، وكانت ثمار تلك الأشجار تتدلى أمامنا؛ ولكن لم نستطع أن نأكل منها شيئاً؛ لأن نسوة القرية كانت ترقبنا وتشتمنا إن مددنا أيدينا لنقطف منها حبة واحدة. كنا نقول لهم لا نريد شيئا إلاّ شربة ماء لهؤلاء الأطفال، فيبيعوننا طنجرة الماء بخمس قروش (أي بشلن)، فنطعم أولادنا خبزاً وماءً، وبقينا هناك شهر، خلالها لحق بنا الصليب الأحمر، وكان يوزعلنا الخبز والحلاوة.
غادرنا تلك المنطقة إلى منطقة "القرعون"، وركّبونا بالباصات كل أبناء قرية مع سوى بباص؛ فأبناء صفورية مع بعضهم؛ وأبناء لوبية كذلك؛ وهكذا؛ أقمنا فيها شهراً ذقنا فيه الأمرين.
بعدين أجا واحد من الشام من اللاجئين، وقلّنا: والله العيشة بالشام غير(أفضل)، وأهلها غير. وحملنا حالنا ورحنا عالشام. كان ذلك في أوائل سنة 1949. ونزلنا في منطقة "المرجة" وسط دمشق، ولقيناهم ناصبين شوادر للاجئين، وبنفس الساعة؛ حطّولنا الأكل والشرب، وضيفونا ثلاث أيام. بعدها قالولنا: بدنا نوخذكو على "النيرب" في حلب. في ناس قبلت، وفي ناس ما رضيت تروح. وإحنا ركبنا الحنطور؛ لأنو ما كان في سيارات وقتها، وقعدنا ندوّر وين في فلسطينية (فلسطينيين). وبهذاك الوقت كان يبنو في الشام "مستشفى الغربا"، وكان بعدو على البلوك، وكان قاعد فيه بعض العائلات الفلسطينية. وعلى باب هالمشفى شفنا واحد من بلدنا، هو "رشيد العايدي"، ونزلنا وقفنا عنده، وقَلّنا: وين رايحين؟ قلنالو: ما منعرف، في ناس راحت قعدت بالتكية السليمانية، وفي ناس راحت على الجوامع. فقال لنا: تعالوا اقعدوا معانا. وبالفعل؛ قعدنا في هذا المكان مدة سنتين، خلّفت فيهن ولادي (خالد، وعمر).
بعدين؛ تركنا المستشفى و(تشنططنا) بين الخشش والزقاقات. وبالآخر؛ أخذنا غرفة مع حصيرة في منطقة "برزة"، وقعدنا فيها شهر. وبعدين؛ طلعنا على منطقة "الشيخ محيي الدين" في حي الصالحية، واستأجرنا غرفة، واشترينا فرشتين، وتخت حديد، وخزانة حديد، وأقمنا هناك حتى عام 1956، انتقلنا بعده إلى مخيم اليرموك، وهناك عمرنا بيت، وصارت الوكالة توزعلنا "إعاشة"، وبدأت حياتنا تتحسن شوي شوي.
واليوم، وبعد هالسنين الطويلة ورحلة العذاب والشقا يقولولي: ترجعي؟ بقولهن: بَرجع وبَنصب خيمة فوق أرضي. شقفة الأرض اللّي عنّا اسمها "أرض المعترضة" بتمتد من لوبية حتى طبريا. ورغم العمارات اللّي عمرناها هون، وهالبيوت الحلوة؛ بلادنا وترابها أحلى وأغلى من كل إشي بهالدنيا.
حنين وأمل
أنا ما شُفت أرضي من يوم ما اطلعنا منها. ومرة بنت ابني جابت شريط مصور للوبية، ولما شفته طار عقل راسي، وصرت ابكي وكأني اليوم مفارقة البلد؛ الوطن غالي يا ولادي، وبلادنا حلوة، أحلى من كل البلاد. ومثل ما عمرو ولادي بهالبلاد، راح يعمروا بأرضهن مثلها وأحسن منها إنشاء الله.
راح ترجع فلسطين؛ لكن لما تصير قلوبنا على قلب رجل واحد؛ لما نرجع إيد واحدة؛ ولما نحب بعضنا زي زمان؛ ولما أنا بقوى بأخوي، وأخوي يقوى فيّي؛ ساعتها مننتصر على اليهود.
وإحنا لو خيرونا بلوبية بكل الدنيا ما مقبل إلا لوبية؛ هي بلدي، مش غيرها، حتى لو قالولي: ترجعي على الضفة الغربية، أو على غزة؟ ما برجع إلا على لوبية؛ رغم إنها أرض فلسطينية.
وبحب أقول: إنو فلسطين عمرها ما بتتحرر بالمفاوضات؛ لأنو هدول اليهود كذابين. ما بتتحرر فلسطين إلا بحدّ السيف. وحتى الزعماء العرب ما برجعونا لبلادنا؛ لأنو أصلاً هنّ اللّي سلّموها لليهود، كيف بدهن يرجعوها!. وأخيراً نصيحتي لشبابنا إنو لا تخلو حدا يضحك عليكو، انتو اللي راح تحرروا بلادكو، مش غيركو. وعليكوا يا ولادي تتسلحوا بالعلم؛ لأنوا السبيل لتحرير بلادنا. وأنا بقولكو: ما يحك جلدكو غير ظفركو.
المصدر: مجلة العودة ــ العدد ــ 54/ شهر 3/ 2012
أحمد الباش:
لوبية قرية فلسطينية من قضاء مدينة طبريا، تقع على مسافة 13كم للغرب منها، على طريق طبريا الناصرة. ترتفع 325 متراً عن سطح البحر. مساحتها 210 دونمات. ولها أراضٍ واسعة تبلغ مساحتها 39629 دونماً، منها 1163 للطرق والوديان. تحيط بأراضيها أراضي قرى: نمرين، وطرعان، والشجرة، وكفر سبت، والمنارة، وحطين. غرس الزيتون في 1520 دونماً من أراضيها. وصف مؤلفا كتاب “جغرافية فلسطين” أراضيها بقولهما: “أراضٍ فسيحة ومخصبة وقمحها مشهور”.
كان في لوبيا في عام 1922م 1712 نسمة؛ وفي عام 1931 ارتفع عدد سكانها إلى 1850: منهم 953 ذكور؛ و897 إناث؛ يسكنون 405 بيوت. في عام 1945؛ قُدِّر عدد سكان لوبيا بـ 2350 فلسطينيا عربياً مسلماً.
تأسست في لوبية في العهد العثماني مدرسة ذات بناء حسن تابعت عملها في العهد البريطاني، وكانت صفوفها في العام الدراسي 1942 - 1943 إلى الصف الخامس الابتدائي.
وتمتاز لوبيا بموقعها الأثري الذي احتوى على “مدافن منقورة في الصخر، ومعاصر خمر، وصهاريج، وقطع معمارية، ونحت في الصخور”؛ وتقع على مسافة كيلومترين للشرق من لوبيا بقايا بناء لخان يعرف باسم “الخان” أو “خان لوبيا”، يحتوي على “أسس خان، وبركة متهدمة، وصهاريج، وآثار بناء مبني بالحجارة الكبيرة الضخمة، ويقع فوق هضبة”.
سقطت قرية "لوبيا" في تموز من عام 1948، وأخرج أهلها منها، ودمرها الصهاينة تدميراً كاملاً، وأقاموا على أراضيها. في شباط من عام 1949 أُنشئت مستعمرة دعوها باسم “Lavi” (بمعنى الأسد). كان فيها عام 1961م، 254 يهودياً.
وقرية لوبية في عيون أبنائها هي أجمل بقاع الأرض، كما تقول الشاهدة على النكبة (بهية عبدو رشدان)، التي غادرت القرية وهي في السادسة عشرة من عمرها. وتضيف الشاهدة: بيتنا (أي بيت زوجي) كان ملاصقاً لبيوت الأقارب والجيران، وممن أذكرهم: دار ديب العبد الله، ودار أحمد الشناشري، ودار أهلي (عبدو الرشدان). كنا كلنا بجانب بعضنا؛ وما زلت أذكر باب بيتنا الخشبي، والبيت الذي تزوجت فيه، كان فيه قاع دار كبيرة (باحة الدار).
كانت علاقة أهل البلد بعضهم ببعض علاقة قوية ومتينة، وظهرت قوتها أثناء الثورة وأثناء المعارك مع اليهود والإنكليز، وبتعاملهم مع الثوار، وبالدفاع عن البلد؛ فقد التحق شباب لوبية بالثورة مبكراً، وكانت لهم مشاركات في عدة معارك، وخاصة معارك ثورة الـ36 (ثورة القسام)، واستشهد منهم العديد، وجرح واعتقل العديد أيضاً.
و(زي) ما كانت علاقتهن ببعض (مليحة)، كانت علاقتهم مع القرى المحيطة أيضاً (كتير كتير مليحة)، وخاصة قرى: الشجرة، والمغار، وعرب المواسي، وعرب الوهيب، وغيرهم؛ وكان شباب لوبية يفزعوا (يناصرون) لهذه القرى في معاركهن ضد الإنكليز واليهود.
بداية المناوشات
وأذكر في إحدى الليالي؛ سمعنا صوت ينادي -وكان الصوت لناطور البلد- وأخذ يصيح ويقول بأمر من مخاتير البلد: أخرجوا النساء والأطفال من القرية، وخليهم يتوجهوا إلى قرية (عين آبون) على طريق فلسطين لبنان، وممنوع أي زلمة يطلع من البلد.
وعندما اجتمع أهل القرية؛ أخبرنا بعض الوجهاء أنه وصلتهم أخبار من بعض الجواسيس العرب عند اليهود بأن اليهود راح يهجموا الليلة على القرية.
وبالفعل انتشر الشباب والرجال على أطراف القرية واستعدوا لصدّ أيّ هجوم يأتي من قبل اليهود، وإحنا (النساء والأطفال) خرجنا على عين آبون، ونمنا (هذيك) الليلة هناك. وصارت تلحقنا الأخبار من القرية، وسمعنا أنه اليهود هاجموا البلد وقتلوا حسن العبد واحتلوا بيته؛ رغم أنه كان عامل خندق حول البيت وقاعد فيه، وسمعنا أنه قتلوه بنفس الخندق؛ وجرت بين المدافعين عن القرية والعصابات اليهودية المهاجمة معركة قوية استمرت من المساء لثاني يوم الساعة 11 الصبح، بعدين انسحب اليهود. وجاء رجل من البلد وقال ارجعوا على البلد لحتى تشوفوا مين استشهد ومين انجرح؛ لأنو اليهود طلعوا منها.
رجعنا على البلد ولقينا الشباب كلها منتشرة تحت الزيتون، وكان القتلى اليهود على الأرض وكان في شهداء من عنا أيضاً. ويبدو أن المعركة كانت وجهاً لوجه.
جمعنا الشهداء من أبناء البلد، و(اجينا) بدنا نقبرهن؛ لكن المقبرة موجودة على تلة ومكشوفة لليهود، وإذا شافونا عمنقبرهن، راح يغافلونا ويقصفونا بالمدافع، أو ممكن يهاجمونا؛ فقرر رجال البلد إنو يقبروهن في المغر، وقريتنا (لوبية) كانت مليانه بالمغر القديمة اللي كنا نسميها مغر كفرية. أخذنا الشهداء ووضعناهن بالمغر بلباسهن، بجنب بعضهم، في صف واحد، وأغلقنا تلك المغر.
وبعدين جمعوا القتلى اليهود واللي كان من بينهم مجندات يهوديات، كانوا لابسين خوذ على رؤوسهن. وبعد ساعات قلائل؛ جاء أفراد من الصليب الأحمر يتفاوضوا مع رجال البلد؛ حتى يسلموهن جثث القتلى اليهود، وبعد مفاوضات معهن؛ ما توصلوا لحل؛ وخرجوا من البلد بدون الجثث. طبعاً اليهود كانوا عم براقبوا بالنواضير من بعيد. واحتار رجال القرية بتلك الجثث، وفي النهاية قرروا حرقها. وجمعت النسوة أغصان الزيتون ووضعوهن فوق الجثث وتم إشعال النيران بها حتى احترقت.
طبعاً الشهداء كان أغلبهم من الحارة القبلية؛ لأن الهجوم الصهيوني كان من جهة تلك الحارة. وبذكّر بهالمعركة استشهد ثلاث أخوة، وأيضا أخيهن وأبوهن، واستشهد زوج أختي، وابن عمي (سلفي) (أخو زوجي). وبذكّر استشهد واحد من الحارة الشمالية من دار سلامة البراهيم.
وظلينا هيك (بين صدّ ورد) إحنا واليهود، وصامدين أمامهم مدة أربعة أشهر متتالية.
إرهاصات سقوط القرية
وبعدين عرفنا أنه سقطت صفد، وسقطت حيفا والناصرة، وقلنا: إذا هالمدن الكبيرة سقطت، واللي كان عندها سلاح كثير، وإحنا ما عنّا إلاّ كم بارودة ورشاش شو بدنا نساوي!.
وفي يوم، وبعد هالأحداث المتسارعة: بعث اليهود إلنا وطلبوا منا نسلم، فخفنا ينتقموا منا، وخاصة لا ذخيرة ظل مع الشباب، ولا مدد من أحد؛ فقررنا الخروج من البلد إلى عين آبون، وبالفعل، طلعنا ونمنا ليلة في هذه القرية، ومن هناك أكملنا إلى الحدود اللبنانية، وكان طول ما إحنا ماشيين؛ الطيارة الحربية الإسرائيلية تلاحقنا؛ حتى دخلنا الحدود اللبنانية مع فلسطين؛ عندها عادت إلى الأراضي الفلسطينية.
التغريبة
وبهالطريق ياما شفنا مناظر أليمة كثير! (المرأة اللّي حاملة ابنها على كتافها؛ واللّي حاملة بقجة أواعي لولادها؛ واللي حامله خبز على رأسها؛ واللّي حافية، مناظر يمّا تدمي القلب.
دخلنا الأراضي اللبنانية ونمنا أول ليلة بقرية "رميش". أهالي المنطقة لم يتحمّلوا بقاءنا في أراضيهم؛ فاضطررنا إلى السير إلى قرية "يارون"، وصلنا هناك متعبين منهكين جوعانين، واسترحنا تحت شجر التين، وكانت ثمار تلك الأشجار تتدلى أمامنا؛ ولكن لم نستطع أن نأكل منها شيئاً؛ لأن نسوة القرية كانت ترقبنا وتشتمنا إن مددنا أيدينا لنقطف منها حبة واحدة. كنا نقول لهم لا نريد شيئا إلاّ شربة ماء لهؤلاء الأطفال، فيبيعوننا طنجرة الماء بخمس قروش (أي بشلن)، فنطعم أولادنا خبزاً وماءً، وبقينا هناك شهر، خلالها لحق بنا الصليب الأحمر، وكان يوزعلنا الخبز والحلاوة.
غادرنا تلك المنطقة إلى منطقة "القرعون"، وركّبونا بالباصات كل أبناء قرية مع سوى بباص؛ فأبناء صفورية مع بعضهم؛ وأبناء لوبية كذلك؛ وهكذا؛ أقمنا فيها شهراً ذقنا فيه الأمرين.
بعدين أجا واحد من الشام من اللاجئين، وقلّنا: والله العيشة بالشام غير(أفضل)، وأهلها غير. وحملنا حالنا ورحنا عالشام. كان ذلك في أوائل سنة 1949. ونزلنا في منطقة "المرجة" وسط دمشق، ولقيناهم ناصبين شوادر للاجئين، وبنفس الساعة؛ حطّولنا الأكل والشرب، وضيفونا ثلاث أيام. بعدها قالولنا: بدنا نوخذكو على "النيرب" في حلب. في ناس قبلت، وفي ناس ما رضيت تروح. وإحنا ركبنا الحنطور؛ لأنو ما كان في سيارات وقتها، وقعدنا ندوّر وين في فلسطينية (فلسطينيين). وبهذاك الوقت كان يبنو في الشام "مستشفى الغربا"، وكان بعدو على البلوك، وكان قاعد فيه بعض العائلات الفلسطينية. وعلى باب هالمشفى شفنا واحد من بلدنا، هو "رشيد العايدي"، ونزلنا وقفنا عنده، وقَلّنا: وين رايحين؟ قلنالو: ما منعرف، في ناس راحت قعدت بالتكية السليمانية، وفي ناس راحت على الجوامع. فقال لنا: تعالوا اقعدوا معانا. وبالفعل؛ قعدنا في هذا المكان مدة سنتين، خلّفت فيهن ولادي (خالد، وعمر).
بعدين؛ تركنا المستشفى و(تشنططنا) بين الخشش والزقاقات. وبالآخر؛ أخذنا غرفة مع حصيرة في منطقة "برزة"، وقعدنا فيها شهر. وبعدين؛ طلعنا على منطقة "الشيخ محيي الدين" في حي الصالحية، واستأجرنا غرفة، واشترينا فرشتين، وتخت حديد، وخزانة حديد، وأقمنا هناك حتى عام 1956، انتقلنا بعده إلى مخيم اليرموك، وهناك عمرنا بيت، وصارت الوكالة توزعلنا "إعاشة"، وبدأت حياتنا تتحسن شوي شوي.
واليوم، وبعد هالسنين الطويلة ورحلة العذاب والشقا يقولولي: ترجعي؟ بقولهن: بَرجع وبَنصب خيمة فوق أرضي. شقفة الأرض اللّي عنّا اسمها "أرض المعترضة" بتمتد من لوبية حتى طبريا. ورغم العمارات اللّي عمرناها هون، وهالبيوت الحلوة؛ بلادنا وترابها أحلى وأغلى من كل إشي بهالدنيا.
حنين وأمل
أنا ما شُفت أرضي من يوم ما اطلعنا منها. ومرة بنت ابني جابت شريط مصور للوبية، ولما شفته طار عقل راسي، وصرت ابكي وكأني اليوم مفارقة البلد؛ الوطن غالي يا ولادي، وبلادنا حلوة، أحلى من كل البلاد. ومثل ما عمرو ولادي بهالبلاد، راح يعمروا بأرضهن مثلها وأحسن منها إنشاء الله.
راح ترجع فلسطين؛ لكن لما تصير قلوبنا على قلب رجل واحد؛ لما نرجع إيد واحدة؛ ولما نحب بعضنا زي زمان؛ ولما أنا بقوى بأخوي، وأخوي يقوى فيّي؛ ساعتها مننتصر على اليهود.
وإحنا لو خيرونا بلوبية بكل الدنيا ما مقبل إلا لوبية؛ هي بلدي، مش غيرها، حتى لو قالولي: ترجعي على الضفة الغربية، أو على غزة؟ ما برجع إلا على لوبية؛ رغم إنها أرض فلسطينية.
وبحب أقول: إنو فلسطين عمرها ما بتتحرر بالمفاوضات؛ لأنو هدول اليهود كذابين. ما بتتحرر فلسطين إلا بحدّ السيف. وحتى الزعماء العرب ما برجعونا لبلادنا؛ لأنو أصلاً هنّ اللّي سلّموها لليهود، كيف بدهن يرجعوها!. وأخيراً نصيحتي لشبابنا إنو لا تخلو حدا يضحك عليكو، انتو اللي راح تحرروا بلادكو، مش غيركو. وعليكوا يا ولادي تتسلحوا بالعلم؛ لأنوا السبيل لتحرير بلادنا. وأنا بقولكو: ما يحك جلدكو غير ظفركو.
المصدر: مجلة العودة ــ العدد ــ 54/ شهر 3/ 2012