تحليل نقدي لميلاد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.
لا نتوقع كل فلسطيني ان يتفق مع كل مُحتويات هذا المقال او حتى مع مؤلفه، ولكننا نرى أنه في غاية الأهمية إستيعاب محتويات هذا المقال بعقلية مرنة. المقال صغير ومُختصر، لكنه يحتوي على تحليل نقدي مُفصل يفسر علمياً أسباب إنهيار المجتمع الفلسطيني عند النكبة مما مهد لمشكلة اللاجئين. نسأل الله عز وجل بأن تجدوه مفيداً.
مقدمة
- لماذا خرج الفلسطينيون من ديارهم؟
- سياسة نقل السكان الأصليين
- نزوح اللاجئين يتم في أربعة مراحل
- مقاومة الفلسطينيين لسياسة الطرد
- السياسة الأسرائيلية بعد الحرب
مقدمة
كانت نتيجة حرب 1948 ظهور دولة اسرائيل من جهة، ودمار المجتمع الفلسطيني وولادة مشكلة اللاجئين من الجهة الأخرى. نزوح او طرد ما يقارب 700,000 من [الفلسطينيين] العرب (وهذا رقم لا يزال قيد النقاش فالاسرائيليين يعترفون ب 520,000 لاجئ تقريباً، والفلسطينيون يقولون بأن العدد يتراوح بين 900,000-1,000,000 لاجئ) من المناطق التي أصبحت الدولة اليهودية، وتوطين الاجئين في الأماكن التي أصبحت تعرف فيما بعد بالضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك في شرق الأردن وسوريا ولبنان، مع تواجد لأعداد صغيرة في كل من مصر والعراق ودول الجزيرة العربية. في نهاية الحرب وُجد أقل من نصف الفلسطينيين في ديارهم الأصلية والذي كان توزيعهم كالتالي: أقل من 150,000 في إسرائيل، و400,000 في الضفة الغربية و60,000 في قطاع غزة.
لماذا خرج الفلسطينيون من ديارهم؟
أسباب لجؤ 700,000 [فلسطيني] موضوع ساخن يكثر فية الجدل بين اسرائيل وأنصارها، والعرب وأنصارهم. الناطقون الرسميون في إسرائيل (منهم كذلك المؤرخون "الرسميون" ومؤلفي الكتب التربوية في المدارس والجامعات) يقولون ان العرب فروا من ديارهم إما "طوعاً" ، او لأن قادة الدول العربية قد حثتهم او أمرتهم على المغادرة [انقر هنا لقراءة ردنا على هذا الإدعاء] وذلك لإخلاء ساحة الحرب قبل غزوهم لفلسطين في 15 ايار 1948، وليمكّن العرب لاحقاً بالإدعاء أن الأسرائليين قد طردوا اللاجئين بناءاً عن تخطيط مسبق. الوثائق التي ظهرت في كميات هائلة خلال الثمانينات في الأرشيفات الاسرائيلية والغربية أثبتت ان الصيغة "الرسمية" الأسرائيلية غير دقيقة او غير كافية.
مشكلة اللاجئين الفلسطينيين تكاد أن تكون حتمية للأسباب التالية:
إختلاط التواجد السكاني للطرفين.
العداء بين العرب واليهود منذ 1917.
رفض الجانبان لفكرة الدولة الواحدة ثنائية القومية.
عمق العِداء العربي تجاه اليهود وخوفهم من الحكم اليهودي لفلسطين في المستقبل.
كان لدى المجتمع الفلسطيني نقاط ضعف هيكلية سهلت إنهياره وسارعت في نزوحه وهي كالتالي:
سوء التنظيم المقترن بقلة الترابط الاجتماعي او السياسي.
إنقسامات عميقة بين سكان القرى والمدن.
إنقسامات عميقة بين المسلمين والمسيحيين.
إنقسامات عميقة بين العائلات النخبة / البارزة.
غياب القادة الممثلة او المنتخبة من كافة فئات المجتمع.
غياب المؤسسات الوطنية مثل النقابات العمالية والرعاية الصحية والدفاع وجمع الضرائب،... الخ.
نتيجة للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، أجزاء كبيرة من سكان القرى قد أصبحت بلا أرض في الاربعينات. نتيجة لذلك كان هناك تزايد مستمر للنزوح السكاني من القرى الى الأحياء الفقيرة في المدن؛ وهذا أدى الى بعض الإنفصال البدني ونفسي عن الارض. علاوة على ذلك 70 الى 80 ٪ من الشعب كان من الاُميين [يرجى الملاحظة بأن الحد الأعلى لإستيعاب الطلاب الفلسطينيين في المدارس الحكومية والخاصة كان 25 ٪ -30 ٪ من إجمالي تعداد الطلاب المُؤهلين]، وبقدر ما هذا إنعكس على تدني مستوى الوعي والنشاط السياسي. قلما شارك فقراء المدن والفلاحين في الحس "القومي" الموجودة لدى عائلات البارزة .
اخيراً ان الاقتصاد العربي في فلسطين فشل في إحراز التغيرات الازمة للإنتقال من البدائية والزراعة الى الأقتصاد الصناعي- كما فعلت الحركة الصهيونية. على نفس القدر من الاهمية، قليلاً ما شارك العمال العرب في النقابات العمالية؛ بإستثناء مشاركة عدد قليل من موظفي الحكومة البريطانية الذين إستفادوا من التأمين ضد البطالة. علاوةً على ذلك، فقد الكثير مصادر رزقهم بسبب طردهم من المؤسسات والمزارع الصهيونية، او إما بسبب إغلاق المصانع العربية. بالنسبة للبعض لقد أصبح المنفى خياراً جذاباً، على الاقل حتى تهدأ الأمور في فلسطين.
سياسة نقل السكان الأصليين
كان هنالك سبب آخر بالغ الاهمية أدى لتسارع إنهيار المجتمع الفلسطيني وهو تواجد الرغبة الشديدة لدى قادة الحركة الصهيونية لنقل (او ترحيل) السكان العرب لأماكن اُخرى كإحدى الحلول المطروحة لحل "المشكلة العربية". وثائق الأرشيف الصهيوني اثبتت إجماع قادة الحركة الصهيونية على فكرة النقل (او الترحيل) السكاني في أعقاب نشر توصيات لجنة بيل البريطانبة في تموز 1937، التي أوصت بالنقل السكاني لعدة مئات من الالاف من الفلسطينيين العرب بحد أدنى (إن لم يكن جميعهم) من المنطاق التي خصصت للدولة اليهودية. في هذا السياق قال بن غوريون في حزيران 1938:
"اُؤيد النقل السكاني القصري [للفلسطينيين]. لا أرى اي شيء غير اخلاقي في هذا."
آراء بن غوريون لم تتغير على الرغم من إدركه للحاجة بأن يكون حذراً في تصريحاته لأسباب تكتيكية. غضون إجتماع الهيئة التنفيذية للوكالة اليهودية فى عام 1944، تم مناقشة كيف ينبغي على الحركة الصهيونية التعامل مع البريطانيين في حزب العمال عندما سيقترحون في المستقبل القريب فكرة النقل السكاني للفلسطينيين العرب وقال بن غوريون:
"عندما سمعت هذه الأشياء... إضطررت للتفكير ملياً وبعمق بفكرة النقل السكاني...[لكن] أنا توصلت الى إستنتاج انه من الأفضل ان يبقى هذا الأمر [في برنامج حزب العمال البريطاني] - - - فاذا سُئلت عن برنامجنا، فإنه لن يخطر ببالي الإفصاح عن فكرة النقل السكاني... لان الحديث عن هذه المسأله سيضرنا أمام الرأي العام العالمي لأنه قد يترك الإنطباع انه ليس هناك مجال للعيش مع العرب في أرض اسرائيل دون طردهم - - وهذا سينبه العرب وسيجعلهم أكثر عداءاً. "
وأضاف بن غوريون،
"نقل العرب أسهل من نقل اي [ناس] آخرين . هنالك دول عربية مجاورة ... ومن الواضح انه اذا نُقل [الفلسطينيين] العرب فهذا سيحسن من أوضاعهم وليس العكس."
لم يكن هنالك أحد من أعضاء اللجنة التنفيذية معارضاً لفكرة النقل السكاني؛ معظمهم أبدوا آراءاً موافقة. قال موشي شاريت، مدير الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية:
"النقل السكاني يمكن ان يكون أهم نتائج سياستنا، ولكن بالتأكيد لن يكون نقطة الانطلاق. [اذا تحدثنا علناً وقبل الأوان عن فكرة النقل السكاني] فهذا سيحشد ضدنا قوات ضخمة مما سيؤدي لإفشال هذه الفكرة."
واضاف :
"عند إنشاء الدولة اليهودية -- من الممكن جداً ان تكون النتيجة النقل السكاني للعرب."
بعد ثلاثة أشهر من الحرب في 7 شباط 1948، قال بن غوريون للجنة المركزية لحزب المباي عن الأحياء العربية في القدس الغربية (التي فر او طُرد منها العرب) أنه لم يرى:
" "أي غريب [من الفلسطينيين العرب]. القدس لم تكن يهودية كالأن منذ تدميرها في أيام الحكم الروماني... انا أفترض أن هذا الأمر لن يتغير ... وما حدث في القدس يمكن ان يحدث في أجزاء كبيرة من البلاد... اذا قدرنا ان نصمد، فإنه من الممكن جداً أنه في خلال الستة الى ثمانية او عشرة أشهر قادمة من الحرب أنه سيجري تغييرات كبيرة ... بالتأكيد ستكون هناك تغييرات كبيرة فى التركيبة السكانية للبلد."
[انقر هنا للمزيد عن فكرة "النقل السكاني" في الحركة الصهيونية (وما هو الى تطهير عرقي) موثقة من الأرشيف الصهيوني]
نزوح اللاجئين يتم في أربعة مراحل
هذه "التغييرات الكبيرة" (التي سبق ذكرها على لسان بن غوريون) حدثت في أربع مراحل. في المرحلة الاولى نزحت عائلات من الطبقات العليا والوسطى بين كانون الاول 1947 واذار 1948 عندما كانت الحركة الصهيونية في موقف دفاعي (وربما يصل عدد لاجئين هذه المرحلة لخمسة وسبعين الف لاجئ ) نزح معظمهم من المدن المختلطة، او أرسالوا اُسرهم الى الضفة الغربية، لبنان، مصر، سوريا، او شرق الأردن. في هذا السياق لا يمكن المبالغة بتأثير التفجيرات [الأرهابية] التي قامت بها عصابتي أرغون وإيتزل على معنويات العرب في المدن الكبيرة.
نزوح هذه الأسر كان مُيسراً في القاهرة ونابلس وعمان ، او بيروت، وعلى أي حال معظهم كانوا يظنون ان تواجدهم في المنفى سيكون مُؤقت، تماماً كما حدث عندما نزح الكثير منهم غضون ثورة 1936، فكانوا يتوقعون العودة لديارهم بعد إنتهاء القتال. كثير من الأسر البارزة أيضاً كانوا يخشون هيمنة أتباع الحج أمين الحسيني، بل ربما كانوا يخشون حكم أتباع الحج أمين بقدر ما كانوا يخشون الحياة تحت الحكم اليهودي. في هذا الوقت، العديد من القادة السياسيين و/ او أسرهم غادروا البلد بما في ذلك معظم أعضاء الهيئة العربية العليا وأعضاء اللجنة الوطنية في حيفا. الأقتتال اليهودي - العربي كان إحدى جوانب الإنهيار القانوني والنظامي في فلسطين بعد إعلان قرار التقسيم الصادر من [الجمعية العامة] للأمم المتحدة. لكن هناك ايضا الإنهيار التدريجي للخدمات العامة، إنسحاب السلطة البريطانية، وتدفق المليشيات العربية الغير نظامية للمدن والقرى الذي إقترن بإبتزازهم الأموال من الاُسر الغنية وأحيانا الأعتداء على الناس في الشوارع.
تخلي العرب ايضاً عن عدد من القرى في المناطق المخصصة للدولة اليهودية، والتي أغلبيتها كانت يهودية، على سبيل المثال منطقة السهل الساحلي. نزحت القرى الموجودة بالقرب من المدن اليهودية الرئيسية بسبب خوفهم من اليهود او بسب تخويف او إستفزاز عصابتي لحي وإيتزل [الأرهابيين] لهم. على الأقل كان هناك أيضا حالة للطرد الفوري من قبل الهاغانا - كما حدث في 20 فبراير لسكان قيساريا الواقعة فى منتصف الطريق بين تل ابيب وحيفا.
نزوح الطبقات العليا والمتوسطة ترتب عليه إغلاق الكثير من المرافق العامة كالمدارس والعيادات والمستشفيات والمؤسسات، والمكاتب، وبناءاً على ذلك تفاقمت البطالة والفقر. كانت هذه خلفية مرحلة النزوح الثانية، وهي مرحلة النزوح الجماعي من الاحياء المدنية والقروية التي سيطرت عليها القوات اليهودية في ربيع 1948. نزوح العائلات البارزة والقيادات إستنزف معنويات الجماهير مما أعطاهم مثالاً يحتذون به.
السبب الرئيسي للنزوح الجماعي من ابريل الى يونيو 1948 كان الهجوم العسكري اليهودي، أو الخوف من هجوم متوقع. ففي كل حالة تقريبا كان سبب النزوح (على سبيل المثال النزوح من حيفا في 21 نيسان - 1 أيار ؛ يافا من خلال نيسان - اوائل ايار؛ من طبرية نيسان 17-18 ؛ من صفد على 10 أيار) إما هجوم يهودي مباشر او هجوم غير مباشر او بسبب إحتلال الاحياء والقرى العربية. لا يوجد اي حالة تخلى فيها السكان عن أماكن سكنهم قبل الهجوم؛ وفي جميع الحالات تقريبا نزح السكان في نفس اليوم الذي تم الهجوم اليهودي فيه. هذا النزوح كان مُعدي لدرجة كبيرة فسقوط المدن الكبيرة ونزوح سكانهم (خاصةً في مدينتي حيفا ويافا) بث التشاؤم واليأس في القرى المحيطة. أما في المناطق القروية فكان نزوح إحدى العشائر يشجع نزوح كل عشائر الحي، ونزوح قرية يشجع نزوح القرى المجاورة.
وثائق الهاغانا تبيين ظاهرة "هوس النزوح" لدى السكان الفلسطينيين خلال هذه الفترة. صدى مذبحة دير ياسين في 9 نيسان، إضافةً للدعاية اليهودية الاحقة والتهويل العربي لما حدث، رسّخ هذا الهوس عند الأغلبية. كان نزوح أغلبية القرويين سببه الخوف من ان ينالهم نفس المصير الذي حل بدير ياسين، وكان "عامل الأرهاب اليهودي الوحشي" يُعزز دورياً من خلال مجازر اُخرى إقترفتها القوات اليهودية في الأشهر الاحقة، خاصةً في تشرين الاول [مثل مذبحة صفصاف، سعسع، عين الزيتون، ...الخ]. عدد قليل من القرى (اكثر من إثنتي عشر) طُردوا قبل بدء الهدنة الأولى (11 حزيران / يونيو) من قبل القوات اليهودية؛ والبعض نزحوا بسبب دعاية التخويف التي بثها عملاء الهاغانا في المنطقة. في معظم المناطق لم يكن هناك حاجة للطرد المباشر، فالكثير من سكان القرى والمدن نزحوا لدى سماعهم لأول قذيفة.
في بعض المناطق أمر القادة العرب إجلاء القرويين لتهيئة الارض إما لأغراض عسكرية او لمنع الأستسلام [أو التعامل مع القوات اليهودية]. نتيجة لهذه الأوامر، أقل من عشرة قرى (في شمال القدس وفي الجليل الأسفل) اُخليت خلال تلك الشهور. من جهة اخرى، في القدس الشرقية وفي الكثير من القرى المحيطة، أمر القواد إخلاء النساء والشيوخ والأطفال، وإرسالهم بعيداً عن ساحة المعارك.
الحقائق تشير ان الإعداد النفسي لنزوح الكبار والنساء والأطفال من ساحة المعركة بدأ في 1946 - 1947 عندما أيدت الهئة العربية العليا والجامعة العربية بشكل دوري هذه الخطوة كلما نوقشت الحرب في فلسطين. خلال المرحلة الثانية نزح حوالى إثنين الى ثلاث مائة الف [فلسطيني] عربي .
خلال المرحلة الأولى، لم يكن هناك سياسة صهيونية لطرد [الفلسطينيين] العرب او تخويفهم للرحيل، على الرغم ان الكثيرين من اليهود، ومنهم بن غوريون، كانوا سُعداء لنزوح أكبر عدد ممكن من العرب [الفلسطينيين]. بدون شك إن السياسات الإنتقامية التي قامت بها الهاغانا وإيتزل، وإرهاب أيتزل لعب دور في النزوح. علاوة على ذلك، لم يكن هناك سياسة عربية لكبح النزوح بإستثناء جهود متفرقة من الهيئة العربية العليا لتقليل نزوح الطبقة الوسطى.
خلال المرحلة الثانية، بينما لا يوجد غطاء سياسي لطرد السكان، تطبيق خطة دال (ديليت) كان لها أثر واضح على النزوح الجماعي. القادة اليهود الميدانيين كانوا مُخوليين لتطهير سكان القرى وسكان بعض الاحياء في المدن، وتدمير القرى اذا رأوا ضرورة عسكرية. العديد من القادة تعاطفوا مع هدف إنشاء دولة يهودية تكون الأقلية [الفلسطينية] العربية أصغر ما يمكن. بعض الجنرالات، خاصةً [يغال] ألون، تصرفوا بأساليب لتحقيق هذا الهدف [كما حدث في الجليل، شمال صفد والمنطقة الوسطى].
في الجانب العربي كان هناك إلتباس في هذا الوقت في كل ما يتعلق بالنزوح. يبدو ان الحكومات العربي ببساطة لم تفهم ما عم يحدث، وفي البداية لم يحاولوا وقف النزوح. بعدما بدأ سكان حيفا بالنزوح، شجع مندوبي الهيئة العربية العليا السكان بالإستمرار بالنزوح. لكن بناءاً على الأدلة الموجودة، النزوح الجماعي من حيفا لم يحدث بناءاً على أوامر الهيئة العربية العليا كما شاع في الرواية اليهودية. من الممكن ان الدول العربية والقادة الفلسطينيون كانوا يرغبون النزوح حتى تتوفر الأعذار لتكون كغطاء لدخول الجيوش العربية الحرب. في اوائل ايار، بدأت الدول العربية والهيئة العربية العليا البت في وقف النزوح. على سبيل المثال، مراراً حذرت مملكة شرق الأردن وجيش التحرير العربي (جيش الإنقاذ) والهيئة العربية العليا السكان من عواقب النزوح وحثوهم على البقاء، كذلك حاولوا الضغط على اللاجئين للعودة ولكن جهودهم كانت بلا جدوى. في غضون ذلك، بلا شك قامت قوات الهاغانا منذ منتصف ايار على إنتهاج سياسة منع عودة اللاجئين الى ديارهم مستخدمةً الذخيرة الحية عند الضرورة.
الغزو العربي لفلسطين في 15 ايار 1948، عزز السياسة الأسرائيلية المتشددة إزاء المدنيين الفلسطينيين لأسباب عسكرية وسياسية مشروعة. غضون إجتماع مجلس الوزراء في 16 حزيران، وبلا تصويت رسمي، كانت أغلبية الأعضاء مصممة على منع اللاجئين من العودة. رئيس أركان الجيش الاسرائيلي أمر بمنع اللاجئين من العودة حتى إذا إستلزم ذلك إطلاق النار. في وقت غير محدد قام الجيش والمستوطنات، وقسم إدارة الأراضي في الصندوق القومي اليهودي بإتخاذ عدة مبادرات رامية لمنع اللاجين من العودة. على سبيل المثال:
تدمير القرى المهجورة
وضع الألغام فيها
توطين المهاجرين اليهود الجدد فيها كما حدث في أحياء المدن المهجورة لاحقاً
إضرام النار في الحقول الزراعية
حث مُلاك الأراضي من غير النازحين لبيع أراضيهم وتشجيعهم على النزوح
إنشاء مستوطنات جديدة على الأماكن العربية
حصد الحقول الزراعية المهجورة.
في المرحلة الثالثة والرابعة نزح 300,000 لاجئ تقريباً في تموز، وتشرين الاول الى تشرين الثاني 1948، من ضمنهم ستون الف من سكان اللد والرملة الذين طردوا بناءاً على أوامر من بن غوريون واسحق رابين. مع ذلك سُمح للعديد من سكان الناصرة العرب بالبقاء وذلك لتجنب ردود فعل سلبية في الدول الغربية المسيحية، ولنفس السبب الناصرة كانت المكان الوحيد الذي أمر فية بن غوريون إطلاق النار على اي يهودي يقوم بنهب الممتلكات العربية.
مقاومة الفلسطينيين لسياسة الطرد
إستعداد اسرائيل لطرد [الفلسطينيين] العرب قوبل برغبة جديدة عند العرب بالبقاء. في اكتوبر 1948 أستنتج لاجئون قرى الجليل ان عودتهم لن تكون قريبة، ولذلك كان هنالك أقل رغبة للنزوح "العفوي" غضون النصف الثاني في الحرب. في غالب الأحيان كانت أسباب النزوح واضحة ومباشرة ومنها الطرد الوحشي المتعمد والأستفزازات العدائية.
بكل وضوح أراد بن غوريون ان يكون [الفلسطينيين] العرب أقل ما يمكن في الدولة اليهودية. ومع ذلك لا يوجد دليل مُتوفر لغاية الآن يشير بوجود سياسة منهجية بشأن الطرد الجماعي للسكان؛ وحسب ما نعلمه لم يكن هنالك أي مناقشة أو قرار بهذا الشأن في مجلس الوزراء او إجتماعات هيئة الاركان العامة لجيش الدفاع الاسرائيلي. لكن القوات الاسرائيلية (سواءاً في "العشرة ايام" في تموز وأثناء عملية يوعاف وحيرام في تشرين الاول وتشرين الثاني 1948) كانت أكثر ميلاً الى طرد الفلسطينيين مما كانت عليه خلال النصف الاول من الحرب. غضون عملية يوعاف كان [يغال] ألون حريصا على ان لا يترك اي تواجد سكاني عربي على كل خطوط التماس. غضون عملية حيرام في الشمال وبقيادة موشيه كرمل كان هناك إلتباس وتناقض بالنسبة لسياسة طرد السكان العرب، فبعض الوحدات طردت السكان ووحدات اُخرى سمحت للبعض بالبقاء. على الرغم من توجيهات موشي كرمل في 31 تشرين الأول التي جث فيهل على"مساعدة العرب على الرحيل"، بعض الوحدات طردت السكان، وحدات اُخرى كانت على العكس. مع انه بشكل عام كانت السياسة مُتشددة نحو المسلمين، كان هناك مذابح وطرد للعديد من القرى المسيحية والمسلمة، فعلى سبيل المثال سكان مجد الكروم سُمح لهم بالبقاء. في تشرين الثاني، قام الجيش الاسرائيلي بتطهر سكان مسيحيين ومسلمين لأسباب أمنية من منطقة بعمق 15 كم من الحدود اللبنانية [مثل تربيخا، كفر برعم والمنصورة].
مع أنه في الكثيرمن الأحيان كانت الهجمات العسكرية او الطرد المباشر تعد الأسباب الرئيسية لنزوح الاجئين، بشكل عام حدث النزوح نتيجة لتراكم عدد من الأسباب. فتاجر من حيفا لم ينزوح فقط بسبب:
العيش لعدة أشهر تحت عمليات القنص والقصف اليهودي، او
لأن عمله أصبح سيئ، او
لأنه رأى نزوح جاره، او
بسبب إبتزاز القوات العربية الغير نظامية، او
بسبب إنهيار القانون والنظام والإنسحاب التدريجي للقوات البريطاني، او
بسبب هجوم الهاغانا، أو
لأنه كان يخشى على العيش تحت حكم اليهود.
لقد غادر بسبب تراكم هذه العوامل. في المناطق القروية، في الغالب كان هنالك عوامل كثيرة مجتمعة أيضاً كتالي:
العزلة بين مجموعة من المستوطنات اليهودي.
الشعور بالأنقطاع عن المراكزالسكانية العربية.
إنعدام التوجيه من القادة الوطنيين والشعور بتخلي العالم العربي.
الخوف من هجوم يهودي، والإشاعات عن المذابح التي إقترفها اليهود.
الاعتداءات والمجازر.
السياسة الأسرائيلية بعد الحرب
منذ نيسان عام 1948 وصاعداً، تعرضت الحركة الصيونية ومن ثم دولة إسرائيل لضغوطات للسماح بعودة اللاجئين. القادة العرب والناطقين بأسماء مُختلف الفئات (على سبيل المثال سكان يافا والطائفة الموارنية في الجليل وهلم جرا) طالبوا بالعودة لديارهم، كما فعل أشخاص عالميين بالرزين ومنهم كونت برينادوت [الذي أنقاذ الكثير من يهود أوروبا من المحرقة النازية والذي أغتيل في 17 ايلول 1948 على يد عصابة شتيرين الأرهابية بقيادة إسحلق شامير] وحكومات الولايات المتحدة وبريطانيا.
ضغوط غربية أنتجت عرضين من إسرائيل للسماح بالعودة المحدودة كجزء من تسوية سلمية شاملة بين كل الأطراف. فى يوليو 1949 أعلنت اسرائيل انها ستسمح بالعودة الى 100,000 لاجئ (تم خصم 65,000 من اللاجئين المتسللين) إذا وافق العرب على توطين باقي اللاجئين في أراضيهم وإبرام تسوية سلمية مع إسرائيل. في حل بديل قد يكون ممكناً ان تضم إسرائيل قطاع غزة الى اراضيها واستيعابها لسكان القطاع الأصليين الذي كان تعدادهم 60,000 (فبل الحرب) إضافةً الى 200,000 لاجئ. بهذه الطريقة إسرائيل ستفعل أكثر من نصيبها العادل من أجل حل هذه المشكلة، فالمسؤولين الأسرائيليون رددوا بلا كلل للمفاوضين الغربيين ان هذه المشكلة ليست من صنعهم، او حسب ما كرره بن غوريون "إن اسرائيل لم تطرد عربياً واحداً".
نظرت الدول العربية لهذا العروض بأنها ضئيلة جداً وغير كافية، ومعظمهم أصرّوا بأن تسمح إسرائيل بإعادة جميع اللاجئين. لم يكن هنالك إستعداد لدى مصر لتسليم قطاع غزة (الإقليم الوحيد الذي كسبته في الحرب) على الرغم من أن ذلك سيعفيها من عبء سكاني كبير، فقير، متمرد، وليس من السهل إدارته. خلال السنوات التالية، رفض اللاجئون الجهود المبذولة لتوطينهم في الدول العربية. الاجئون أصروا على "العودة لديارهم" والدول العربية (بإستثناء الاردن الذي منحهم الجنسية الأردنية) لم يفعلوا الكثير لإستيعابهم، ورأوا انه سيكون بالإمكان إستغلال بؤسهم كأداة مفيدة تستخدم ضد اسرائيل. رفضت اسرائيل السماح للاجئين بالعودة لأنها بحاجة للأراضي والعقارات المهجورة وذلك لإستعاب المهاجرين اليهود الجدد، ولأنها كانت تخشى بأن عودة اللاجؤن ستزعزع إستقرار الدولة اليهودية الجديدة، وهكذا إستمرت مشكلة اللاجئون تؤرق الشرق الأوسط بل والعالم بأسره.
المصدر: موقع "فلسطين في الذاكرة"
لا نتوقع كل فلسطيني ان يتفق مع كل مُحتويات هذا المقال او حتى مع مؤلفه، ولكننا نرى أنه في غاية الأهمية إستيعاب محتويات هذا المقال بعقلية مرنة. المقال صغير ومُختصر، لكنه يحتوي على تحليل نقدي مُفصل يفسر علمياً أسباب إنهيار المجتمع الفلسطيني عند النكبة مما مهد لمشكلة اللاجئين. نسأل الله عز وجل بأن تجدوه مفيداً.
مقدمة
- لماذا خرج الفلسطينيون من ديارهم؟
- سياسة نقل السكان الأصليين
- نزوح اللاجئين يتم في أربعة مراحل
- مقاومة الفلسطينيين لسياسة الطرد
- السياسة الأسرائيلية بعد الحرب
مقدمة
كانت نتيجة حرب 1948 ظهور دولة اسرائيل من جهة، ودمار المجتمع الفلسطيني وولادة مشكلة اللاجئين من الجهة الأخرى. نزوح او طرد ما يقارب 700,000 من [الفلسطينيين] العرب (وهذا رقم لا يزال قيد النقاش فالاسرائيليين يعترفون ب 520,000 لاجئ تقريباً، والفلسطينيون يقولون بأن العدد يتراوح بين 900,000-1,000,000 لاجئ) من المناطق التي أصبحت الدولة اليهودية، وتوطين الاجئين في الأماكن التي أصبحت تعرف فيما بعد بالضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك في شرق الأردن وسوريا ولبنان، مع تواجد لأعداد صغيرة في كل من مصر والعراق ودول الجزيرة العربية. في نهاية الحرب وُجد أقل من نصف الفلسطينيين في ديارهم الأصلية والذي كان توزيعهم كالتالي: أقل من 150,000 في إسرائيل، و400,000 في الضفة الغربية و60,000 في قطاع غزة.
لماذا خرج الفلسطينيون من ديارهم؟
أسباب لجؤ 700,000 [فلسطيني] موضوع ساخن يكثر فية الجدل بين اسرائيل وأنصارها، والعرب وأنصارهم. الناطقون الرسميون في إسرائيل (منهم كذلك المؤرخون "الرسميون" ومؤلفي الكتب التربوية في المدارس والجامعات) يقولون ان العرب فروا من ديارهم إما "طوعاً" ، او لأن قادة الدول العربية قد حثتهم او أمرتهم على المغادرة [انقر هنا لقراءة ردنا على هذا الإدعاء] وذلك لإخلاء ساحة الحرب قبل غزوهم لفلسطين في 15 ايار 1948، وليمكّن العرب لاحقاً بالإدعاء أن الأسرائليين قد طردوا اللاجئين بناءاً عن تخطيط مسبق. الوثائق التي ظهرت في كميات هائلة خلال الثمانينات في الأرشيفات الاسرائيلية والغربية أثبتت ان الصيغة "الرسمية" الأسرائيلية غير دقيقة او غير كافية.
مشكلة اللاجئين الفلسطينيين تكاد أن تكون حتمية للأسباب التالية:
إختلاط التواجد السكاني للطرفين.
العداء بين العرب واليهود منذ 1917.
رفض الجانبان لفكرة الدولة الواحدة ثنائية القومية.
عمق العِداء العربي تجاه اليهود وخوفهم من الحكم اليهودي لفلسطين في المستقبل.
كان لدى المجتمع الفلسطيني نقاط ضعف هيكلية سهلت إنهياره وسارعت في نزوحه وهي كالتالي:
سوء التنظيم المقترن بقلة الترابط الاجتماعي او السياسي.
إنقسامات عميقة بين سكان القرى والمدن.
إنقسامات عميقة بين المسلمين والمسيحيين.
إنقسامات عميقة بين العائلات النخبة / البارزة.
غياب القادة الممثلة او المنتخبة من كافة فئات المجتمع.
غياب المؤسسات الوطنية مثل النقابات العمالية والرعاية الصحية والدفاع وجمع الضرائب،... الخ.
نتيجة للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، أجزاء كبيرة من سكان القرى قد أصبحت بلا أرض في الاربعينات. نتيجة لذلك كان هناك تزايد مستمر للنزوح السكاني من القرى الى الأحياء الفقيرة في المدن؛ وهذا أدى الى بعض الإنفصال البدني ونفسي عن الارض. علاوة على ذلك 70 الى 80 ٪ من الشعب كان من الاُميين [يرجى الملاحظة بأن الحد الأعلى لإستيعاب الطلاب الفلسطينيين في المدارس الحكومية والخاصة كان 25 ٪ -30 ٪ من إجمالي تعداد الطلاب المُؤهلين]، وبقدر ما هذا إنعكس على تدني مستوى الوعي والنشاط السياسي. قلما شارك فقراء المدن والفلاحين في الحس "القومي" الموجودة لدى عائلات البارزة .
اخيراً ان الاقتصاد العربي في فلسطين فشل في إحراز التغيرات الازمة للإنتقال من البدائية والزراعة الى الأقتصاد الصناعي- كما فعلت الحركة الصهيونية. على نفس القدر من الاهمية، قليلاً ما شارك العمال العرب في النقابات العمالية؛ بإستثناء مشاركة عدد قليل من موظفي الحكومة البريطانية الذين إستفادوا من التأمين ضد البطالة. علاوةً على ذلك، فقد الكثير مصادر رزقهم بسبب طردهم من المؤسسات والمزارع الصهيونية، او إما بسبب إغلاق المصانع العربية. بالنسبة للبعض لقد أصبح المنفى خياراً جذاباً، على الاقل حتى تهدأ الأمور في فلسطين.
سياسة نقل السكان الأصليين
كان هنالك سبب آخر بالغ الاهمية أدى لتسارع إنهيار المجتمع الفلسطيني وهو تواجد الرغبة الشديدة لدى قادة الحركة الصهيونية لنقل (او ترحيل) السكان العرب لأماكن اُخرى كإحدى الحلول المطروحة لحل "المشكلة العربية". وثائق الأرشيف الصهيوني اثبتت إجماع قادة الحركة الصهيونية على فكرة النقل (او الترحيل) السكاني في أعقاب نشر توصيات لجنة بيل البريطانبة في تموز 1937، التي أوصت بالنقل السكاني لعدة مئات من الالاف من الفلسطينيين العرب بحد أدنى (إن لم يكن جميعهم) من المنطاق التي خصصت للدولة اليهودية. في هذا السياق قال بن غوريون في حزيران 1938:
"اُؤيد النقل السكاني القصري [للفلسطينيين]. لا أرى اي شيء غير اخلاقي في هذا."
آراء بن غوريون لم تتغير على الرغم من إدركه للحاجة بأن يكون حذراً في تصريحاته لأسباب تكتيكية. غضون إجتماع الهيئة التنفيذية للوكالة اليهودية فى عام 1944، تم مناقشة كيف ينبغي على الحركة الصهيونية التعامل مع البريطانيين في حزب العمال عندما سيقترحون في المستقبل القريب فكرة النقل السكاني للفلسطينيين العرب وقال بن غوريون:
"عندما سمعت هذه الأشياء... إضطررت للتفكير ملياً وبعمق بفكرة النقل السكاني...[لكن] أنا توصلت الى إستنتاج انه من الأفضل ان يبقى هذا الأمر [في برنامج حزب العمال البريطاني] - - - فاذا سُئلت عن برنامجنا، فإنه لن يخطر ببالي الإفصاح عن فكرة النقل السكاني... لان الحديث عن هذه المسأله سيضرنا أمام الرأي العام العالمي لأنه قد يترك الإنطباع انه ليس هناك مجال للعيش مع العرب في أرض اسرائيل دون طردهم - - وهذا سينبه العرب وسيجعلهم أكثر عداءاً. "
وأضاف بن غوريون،
"نقل العرب أسهل من نقل اي [ناس] آخرين . هنالك دول عربية مجاورة ... ومن الواضح انه اذا نُقل [الفلسطينيين] العرب فهذا سيحسن من أوضاعهم وليس العكس."
لم يكن هنالك أحد من أعضاء اللجنة التنفيذية معارضاً لفكرة النقل السكاني؛ معظمهم أبدوا آراءاً موافقة. قال موشي شاريت، مدير الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية:
"النقل السكاني يمكن ان يكون أهم نتائج سياستنا، ولكن بالتأكيد لن يكون نقطة الانطلاق. [اذا تحدثنا علناً وقبل الأوان عن فكرة النقل السكاني] فهذا سيحشد ضدنا قوات ضخمة مما سيؤدي لإفشال هذه الفكرة."
واضاف :
"عند إنشاء الدولة اليهودية -- من الممكن جداً ان تكون النتيجة النقل السكاني للعرب."
بعد ثلاثة أشهر من الحرب في 7 شباط 1948، قال بن غوريون للجنة المركزية لحزب المباي عن الأحياء العربية في القدس الغربية (التي فر او طُرد منها العرب) أنه لم يرى:
" "أي غريب [من الفلسطينيين العرب]. القدس لم تكن يهودية كالأن منذ تدميرها في أيام الحكم الروماني... انا أفترض أن هذا الأمر لن يتغير ... وما حدث في القدس يمكن ان يحدث في أجزاء كبيرة من البلاد... اذا قدرنا ان نصمد، فإنه من الممكن جداً أنه في خلال الستة الى ثمانية او عشرة أشهر قادمة من الحرب أنه سيجري تغييرات كبيرة ... بالتأكيد ستكون هناك تغييرات كبيرة فى التركيبة السكانية للبلد."
[انقر هنا للمزيد عن فكرة "النقل السكاني" في الحركة الصهيونية (وما هو الى تطهير عرقي) موثقة من الأرشيف الصهيوني]
نزوح اللاجئين يتم في أربعة مراحل
هذه "التغييرات الكبيرة" (التي سبق ذكرها على لسان بن غوريون) حدثت في أربع مراحل. في المرحلة الاولى نزحت عائلات من الطبقات العليا والوسطى بين كانون الاول 1947 واذار 1948 عندما كانت الحركة الصهيونية في موقف دفاعي (وربما يصل عدد لاجئين هذه المرحلة لخمسة وسبعين الف لاجئ ) نزح معظمهم من المدن المختلطة، او أرسالوا اُسرهم الى الضفة الغربية، لبنان، مصر، سوريا، او شرق الأردن. في هذا السياق لا يمكن المبالغة بتأثير التفجيرات [الأرهابية] التي قامت بها عصابتي أرغون وإيتزل على معنويات العرب في المدن الكبيرة.
نزوح هذه الأسر كان مُيسراً في القاهرة ونابلس وعمان ، او بيروت، وعلى أي حال معظهم كانوا يظنون ان تواجدهم في المنفى سيكون مُؤقت، تماماً كما حدث عندما نزح الكثير منهم غضون ثورة 1936، فكانوا يتوقعون العودة لديارهم بعد إنتهاء القتال. كثير من الأسر البارزة أيضاً كانوا يخشون هيمنة أتباع الحج أمين الحسيني، بل ربما كانوا يخشون حكم أتباع الحج أمين بقدر ما كانوا يخشون الحياة تحت الحكم اليهودي. في هذا الوقت، العديد من القادة السياسيين و/ او أسرهم غادروا البلد بما في ذلك معظم أعضاء الهيئة العربية العليا وأعضاء اللجنة الوطنية في حيفا. الأقتتال اليهودي - العربي كان إحدى جوانب الإنهيار القانوني والنظامي في فلسطين بعد إعلان قرار التقسيم الصادر من [الجمعية العامة] للأمم المتحدة. لكن هناك ايضا الإنهيار التدريجي للخدمات العامة، إنسحاب السلطة البريطانية، وتدفق المليشيات العربية الغير نظامية للمدن والقرى الذي إقترن بإبتزازهم الأموال من الاُسر الغنية وأحيانا الأعتداء على الناس في الشوارع.
تخلي العرب ايضاً عن عدد من القرى في المناطق المخصصة للدولة اليهودية، والتي أغلبيتها كانت يهودية، على سبيل المثال منطقة السهل الساحلي. نزحت القرى الموجودة بالقرب من المدن اليهودية الرئيسية بسبب خوفهم من اليهود او بسب تخويف او إستفزاز عصابتي لحي وإيتزل [الأرهابيين] لهم. على الأقل كان هناك أيضا حالة للطرد الفوري من قبل الهاغانا - كما حدث في 20 فبراير لسكان قيساريا الواقعة فى منتصف الطريق بين تل ابيب وحيفا.
نزوح الطبقات العليا والمتوسطة ترتب عليه إغلاق الكثير من المرافق العامة كالمدارس والعيادات والمستشفيات والمؤسسات، والمكاتب، وبناءاً على ذلك تفاقمت البطالة والفقر. كانت هذه خلفية مرحلة النزوح الثانية، وهي مرحلة النزوح الجماعي من الاحياء المدنية والقروية التي سيطرت عليها القوات اليهودية في ربيع 1948. نزوح العائلات البارزة والقيادات إستنزف معنويات الجماهير مما أعطاهم مثالاً يحتذون به.
السبب الرئيسي للنزوح الجماعي من ابريل الى يونيو 1948 كان الهجوم العسكري اليهودي، أو الخوف من هجوم متوقع. ففي كل حالة تقريبا كان سبب النزوح (على سبيل المثال النزوح من حيفا في 21 نيسان - 1 أيار ؛ يافا من خلال نيسان - اوائل ايار؛ من طبرية نيسان 17-18 ؛ من صفد على 10 أيار) إما هجوم يهودي مباشر او هجوم غير مباشر او بسبب إحتلال الاحياء والقرى العربية. لا يوجد اي حالة تخلى فيها السكان عن أماكن سكنهم قبل الهجوم؛ وفي جميع الحالات تقريبا نزح السكان في نفس اليوم الذي تم الهجوم اليهودي فيه. هذا النزوح كان مُعدي لدرجة كبيرة فسقوط المدن الكبيرة ونزوح سكانهم (خاصةً في مدينتي حيفا ويافا) بث التشاؤم واليأس في القرى المحيطة. أما في المناطق القروية فكان نزوح إحدى العشائر يشجع نزوح كل عشائر الحي، ونزوح قرية يشجع نزوح القرى المجاورة.
وثائق الهاغانا تبيين ظاهرة "هوس النزوح" لدى السكان الفلسطينيين خلال هذه الفترة. صدى مذبحة دير ياسين في 9 نيسان، إضافةً للدعاية اليهودية الاحقة والتهويل العربي لما حدث، رسّخ هذا الهوس عند الأغلبية. كان نزوح أغلبية القرويين سببه الخوف من ان ينالهم نفس المصير الذي حل بدير ياسين، وكان "عامل الأرهاب اليهودي الوحشي" يُعزز دورياً من خلال مجازر اُخرى إقترفتها القوات اليهودية في الأشهر الاحقة، خاصةً في تشرين الاول [مثل مذبحة صفصاف، سعسع، عين الزيتون، ...الخ]. عدد قليل من القرى (اكثر من إثنتي عشر) طُردوا قبل بدء الهدنة الأولى (11 حزيران / يونيو) من قبل القوات اليهودية؛ والبعض نزحوا بسبب دعاية التخويف التي بثها عملاء الهاغانا في المنطقة. في معظم المناطق لم يكن هناك حاجة للطرد المباشر، فالكثير من سكان القرى والمدن نزحوا لدى سماعهم لأول قذيفة.
في بعض المناطق أمر القادة العرب إجلاء القرويين لتهيئة الارض إما لأغراض عسكرية او لمنع الأستسلام [أو التعامل مع القوات اليهودية]. نتيجة لهذه الأوامر، أقل من عشرة قرى (في شمال القدس وفي الجليل الأسفل) اُخليت خلال تلك الشهور. من جهة اخرى، في القدس الشرقية وفي الكثير من القرى المحيطة، أمر القواد إخلاء النساء والشيوخ والأطفال، وإرسالهم بعيداً عن ساحة المعارك.
الحقائق تشير ان الإعداد النفسي لنزوح الكبار والنساء والأطفال من ساحة المعركة بدأ في 1946 - 1947 عندما أيدت الهئة العربية العليا والجامعة العربية بشكل دوري هذه الخطوة كلما نوقشت الحرب في فلسطين. خلال المرحلة الثانية نزح حوالى إثنين الى ثلاث مائة الف [فلسطيني] عربي .
خلال المرحلة الأولى، لم يكن هناك سياسة صهيونية لطرد [الفلسطينيين] العرب او تخويفهم للرحيل، على الرغم ان الكثيرين من اليهود، ومنهم بن غوريون، كانوا سُعداء لنزوح أكبر عدد ممكن من العرب [الفلسطينيين]. بدون شك إن السياسات الإنتقامية التي قامت بها الهاغانا وإيتزل، وإرهاب أيتزل لعب دور في النزوح. علاوة على ذلك، لم يكن هناك سياسة عربية لكبح النزوح بإستثناء جهود متفرقة من الهيئة العربية العليا لتقليل نزوح الطبقة الوسطى.
خلال المرحلة الثانية، بينما لا يوجد غطاء سياسي لطرد السكان، تطبيق خطة دال (ديليت) كان لها أثر واضح على النزوح الجماعي. القادة اليهود الميدانيين كانوا مُخوليين لتطهير سكان القرى وسكان بعض الاحياء في المدن، وتدمير القرى اذا رأوا ضرورة عسكرية. العديد من القادة تعاطفوا مع هدف إنشاء دولة يهودية تكون الأقلية [الفلسطينية] العربية أصغر ما يمكن. بعض الجنرالات، خاصةً [يغال] ألون، تصرفوا بأساليب لتحقيق هذا الهدف [كما حدث في الجليل، شمال صفد والمنطقة الوسطى].
في الجانب العربي كان هناك إلتباس في هذا الوقت في كل ما يتعلق بالنزوح. يبدو ان الحكومات العربي ببساطة لم تفهم ما عم يحدث، وفي البداية لم يحاولوا وقف النزوح. بعدما بدأ سكان حيفا بالنزوح، شجع مندوبي الهيئة العربية العليا السكان بالإستمرار بالنزوح. لكن بناءاً على الأدلة الموجودة، النزوح الجماعي من حيفا لم يحدث بناءاً على أوامر الهيئة العربية العليا كما شاع في الرواية اليهودية. من الممكن ان الدول العربية والقادة الفلسطينيون كانوا يرغبون النزوح حتى تتوفر الأعذار لتكون كغطاء لدخول الجيوش العربية الحرب. في اوائل ايار، بدأت الدول العربية والهيئة العربية العليا البت في وقف النزوح. على سبيل المثال، مراراً حذرت مملكة شرق الأردن وجيش التحرير العربي (جيش الإنقاذ) والهيئة العربية العليا السكان من عواقب النزوح وحثوهم على البقاء، كذلك حاولوا الضغط على اللاجئين للعودة ولكن جهودهم كانت بلا جدوى. في غضون ذلك، بلا شك قامت قوات الهاغانا منذ منتصف ايار على إنتهاج سياسة منع عودة اللاجئين الى ديارهم مستخدمةً الذخيرة الحية عند الضرورة.
الغزو العربي لفلسطين في 15 ايار 1948، عزز السياسة الأسرائيلية المتشددة إزاء المدنيين الفلسطينيين لأسباب عسكرية وسياسية مشروعة. غضون إجتماع مجلس الوزراء في 16 حزيران، وبلا تصويت رسمي، كانت أغلبية الأعضاء مصممة على منع اللاجئين من العودة. رئيس أركان الجيش الاسرائيلي أمر بمنع اللاجئين من العودة حتى إذا إستلزم ذلك إطلاق النار. في وقت غير محدد قام الجيش والمستوطنات، وقسم إدارة الأراضي في الصندوق القومي اليهودي بإتخاذ عدة مبادرات رامية لمنع اللاجين من العودة. على سبيل المثال:
تدمير القرى المهجورة
وضع الألغام فيها
توطين المهاجرين اليهود الجدد فيها كما حدث في أحياء المدن المهجورة لاحقاً
إضرام النار في الحقول الزراعية
حث مُلاك الأراضي من غير النازحين لبيع أراضيهم وتشجيعهم على النزوح
إنشاء مستوطنات جديدة على الأماكن العربية
حصد الحقول الزراعية المهجورة.
في المرحلة الثالثة والرابعة نزح 300,000 لاجئ تقريباً في تموز، وتشرين الاول الى تشرين الثاني 1948، من ضمنهم ستون الف من سكان اللد والرملة الذين طردوا بناءاً على أوامر من بن غوريون واسحق رابين. مع ذلك سُمح للعديد من سكان الناصرة العرب بالبقاء وذلك لتجنب ردود فعل سلبية في الدول الغربية المسيحية، ولنفس السبب الناصرة كانت المكان الوحيد الذي أمر فية بن غوريون إطلاق النار على اي يهودي يقوم بنهب الممتلكات العربية.
مقاومة الفلسطينيين لسياسة الطرد
إستعداد اسرائيل لطرد [الفلسطينيين] العرب قوبل برغبة جديدة عند العرب بالبقاء. في اكتوبر 1948 أستنتج لاجئون قرى الجليل ان عودتهم لن تكون قريبة، ولذلك كان هنالك أقل رغبة للنزوح "العفوي" غضون النصف الثاني في الحرب. في غالب الأحيان كانت أسباب النزوح واضحة ومباشرة ومنها الطرد الوحشي المتعمد والأستفزازات العدائية.
بكل وضوح أراد بن غوريون ان يكون [الفلسطينيين] العرب أقل ما يمكن في الدولة اليهودية. ومع ذلك لا يوجد دليل مُتوفر لغاية الآن يشير بوجود سياسة منهجية بشأن الطرد الجماعي للسكان؛ وحسب ما نعلمه لم يكن هنالك أي مناقشة أو قرار بهذا الشأن في مجلس الوزراء او إجتماعات هيئة الاركان العامة لجيش الدفاع الاسرائيلي. لكن القوات الاسرائيلية (سواءاً في "العشرة ايام" في تموز وأثناء عملية يوعاف وحيرام في تشرين الاول وتشرين الثاني 1948) كانت أكثر ميلاً الى طرد الفلسطينيين مما كانت عليه خلال النصف الاول من الحرب. غضون عملية يوعاف كان [يغال] ألون حريصا على ان لا يترك اي تواجد سكاني عربي على كل خطوط التماس. غضون عملية حيرام في الشمال وبقيادة موشيه كرمل كان هناك إلتباس وتناقض بالنسبة لسياسة طرد السكان العرب، فبعض الوحدات طردت السكان ووحدات اُخرى سمحت للبعض بالبقاء. على الرغم من توجيهات موشي كرمل في 31 تشرين الأول التي جث فيهل على"مساعدة العرب على الرحيل"، بعض الوحدات طردت السكان، وحدات اُخرى كانت على العكس. مع انه بشكل عام كانت السياسة مُتشددة نحو المسلمين، كان هناك مذابح وطرد للعديد من القرى المسيحية والمسلمة، فعلى سبيل المثال سكان مجد الكروم سُمح لهم بالبقاء. في تشرين الثاني، قام الجيش الاسرائيلي بتطهر سكان مسيحيين ومسلمين لأسباب أمنية من منطقة بعمق 15 كم من الحدود اللبنانية [مثل تربيخا، كفر برعم والمنصورة].
مع أنه في الكثيرمن الأحيان كانت الهجمات العسكرية او الطرد المباشر تعد الأسباب الرئيسية لنزوح الاجئين، بشكل عام حدث النزوح نتيجة لتراكم عدد من الأسباب. فتاجر من حيفا لم ينزوح فقط بسبب:
العيش لعدة أشهر تحت عمليات القنص والقصف اليهودي، او
لأن عمله أصبح سيئ، او
لأنه رأى نزوح جاره، او
بسبب إبتزاز القوات العربية الغير نظامية، او
بسبب إنهيار القانون والنظام والإنسحاب التدريجي للقوات البريطاني، او
بسبب هجوم الهاغانا، أو
لأنه كان يخشى على العيش تحت حكم اليهود.
لقد غادر بسبب تراكم هذه العوامل. في المناطق القروية، في الغالب كان هنالك عوامل كثيرة مجتمعة أيضاً كتالي:
العزلة بين مجموعة من المستوطنات اليهودي.
الشعور بالأنقطاع عن المراكزالسكانية العربية.
إنعدام التوجيه من القادة الوطنيين والشعور بتخلي العالم العربي.
الخوف من هجوم يهودي، والإشاعات عن المذابح التي إقترفها اليهود.
الاعتداءات والمجازر.
السياسة الأسرائيلية بعد الحرب
منذ نيسان عام 1948 وصاعداً، تعرضت الحركة الصيونية ومن ثم دولة إسرائيل لضغوطات للسماح بعودة اللاجئين. القادة العرب والناطقين بأسماء مُختلف الفئات (على سبيل المثال سكان يافا والطائفة الموارنية في الجليل وهلم جرا) طالبوا بالعودة لديارهم، كما فعل أشخاص عالميين بالرزين ومنهم كونت برينادوت [الذي أنقاذ الكثير من يهود أوروبا من المحرقة النازية والذي أغتيل في 17 ايلول 1948 على يد عصابة شتيرين الأرهابية بقيادة إسحلق شامير] وحكومات الولايات المتحدة وبريطانيا.
ضغوط غربية أنتجت عرضين من إسرائيل للسماح بالعودة المحدودة كجزء من تسوية سلمية شاملة بين كل الأطراف. فى يوليو 1949 أعلنت اسرائيل انها ستسمح بالعودة الى 100,000 لاجئ (تم خصم 65,000 من اللاجئين المتسللين) إذا وافق العرب على توطين باقي اللاجئين في أراضيهم وإبرام تسوية سلمية مع إسرائيل. في حل بديل قد يكون ممكناً ان تضم إسرائيل قطاع غزة الى اراضيها واستيعابها لسكان القطاع الأصليين الذي كان تعدادهم 60,000 (فبل الحرب) إضافةً الى 200,000 لاجئ. بهذه الطريقة إسرائيل ستفعل أكثر من نصيبها العادل من أجل حل هذه المشكلة، فالمسؤولين الأسرائيليون رددوا بلا كلل للمفاوضين الغربيين ان هذه المشكلة ليست من صنعهم، او حسب ما كرره بن غوريون "إن اسرائيل لم تطرد عربياً واحداً".
نظرت الدول العربية لهذا العروض بأنها ضئيلة جداً وغير كافية، ومعظمهم أصرّوا بأن تسمح إسرائيل بإعادة جميع اللاجئين. لم يكن هنالك إستعداد لدى مصر لتسليم قطاع غزة (الإقليم الوحيد الذي كسبته في الحرب) على الرغم من أن ذلك سيعفيها من عبء سكاني كبير، فقير، متمرد، وليس من السهل إدارته. خلال السنوات التالية، رفض اللاجئون الجهود المبذولة لتوطينهم في الدول العربية. الاجئون أصروا على "العودة لديارهم" والدول العربية (بإستثناء الاردن الذي منحهم الجنسية الأردنية) لم يفعلوا الكثير لإستيعابهم، ورأوا انه سيكون بالإمكان إستغلال بؤسهم كأداة مفيدة تستخدم ضد اسرائيل. رفضت اسرائيل السماح للاجئين بالعودة لأنها بحاجة للأراضي والعقارات المهجورة وذلك لإستعاب المهاجرين اليهود الجدد، ولأنها كانت تخشى بأن عودة اللاجؤن ستزعزع إستقرار الدولة اليهودية الجديدة، وهكذا إستمرت مشكلة اللاجئون تؤرق الشرق الأوسط بل والعالم بأسره.
المصدر: موقع "فلسطين في الذاكرة"