من الذاكرة الفلسطينية: الحاج موسى أبو سلـطان: ’’النكبة’’ كأنَّها اليـوم وحلم العودة في مخيلتي
بالرغم من عبور الحاج موسى أبو سلطان الثمانين خريفاً من عمره؛ إلا أنه ما زال يعيش على أمل العودة إلى بلدته الأصلية (حمامة)، موقناً أن هذا اليوم لا بد أن يأتي، وأن الحق لا بد أن يعود لأصحابه.
ولا يملّ الحاج موسى أبو سلطان من توصية أولاده وأحفاده بعدم التفريط بشبرٍ واحد من أرضهم، ويزرع فيهم أمل العودة إلى أراضيهم، مهما طالت السنين.
وفي حوارٍ مع "العودة" قال أبو سلطان: "أمنيتي أن أرجع إلى الوطن، وأتمنى أن أعود؛ ولا يوجد شيء أغلى عندي من الوطن؛ ومستحيل أن أنسى وطني؛ وعندي أمل دائماً بالله أن يرجع الحق لأصحابه، مهما طال الزمن".
وأكد أبو سلطان أنه رغم أكثر من خمسين عاماً على الهجرة و”النكبة”؛ إلا أنه ما زال يذكر تلك اللحظات، وكأنها حدثت اليوم، وهو الوجع المحفور بقلبه على مدى السنين، وعلى يقين تام بأن "ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة". وفي ما يأتي نص الحوار:
العـودة: بدايةً أعطنا بطـاقة تعريفية عنك؟
أنا الحاج موسى إبراهيم أبو سلطان. ولدت يوم 1936/4/6 في بلدة "حمامة"، قضاء المجدل، شمال فلسطين المحتلة. ومتزوج ولدي خمسة أولاد وبنتان وأكثر من خمسين حفيداً. عندما هجِّرنا إلى غزة كان عمري 12 عاماً.
العـودة: قبل التهجير واللجوء ومرارة “النكبة”؛ كيف كانت حال بلادكم؟ صف لنا الحياة قبل “النكبة”. كيف كانت؟
حمامة قرية تقع شمالي المجدل، وتشتهر بالزراعة وصيد الأسماك. عدد السكان في تلك الفترة كان 9000 مواطن تقريباً. وكان في قريتنا مدرسة واحدة فقط، كان التعليم فيها لغاية الصف السادس؛ بعدها يأتي من يريد أن يكمل تعليمه إلى غزة؛ لأنها كان فيها كلية. كانت المودة والمحبة تجمع أهل القرية.
كنا نعيش في بيوت من الطين، لكن هناك بعض الناس كانوا يبنون بيوتاً من الباطون، فكانت بئر الماء في وسط البلد لكل أهل القرية، وكانت كل عائلة تدفع "شلن" كي تحصل على الماء"، أو يجمعون خمسة قروش. وبعدها بدأ الناس بحفر الآبار في أراضيهم.
وكانوا يتوظفون بشهادة الصف السابع فقط بعد تخرجهم من كلية غزة؛ أما أنا فتوقفت عند الصف الخامس فقط. وكان أبناء حمامة متواضعين طيبين. وفي صغري كنت أحب دائماً أن أجلس مع الكبار والمخاتير، وكنت أحب أن أسمع أحاديثهم عن عام 1936 أيام الثورة الكبرى.
وكان في قريتنا مجموعة من الشباب أطلق عليهم "المناضلين"، كانوا يقاومون اليهود الذين يسكنون المستعمرات. في ذلك الوقت؛ كان المناضل يبيع كل ما يملك من أرض، وذهب زوجته، كل شيء؛ ليشتري قطعة سلاح وباروداً؛ ليقاتلوا كل إسرائيلي جاء ليحتل الأرض.
العـودة: حدثنا كيف كان هؤلاء الشباب يقاتلون رغم قلة العدة وضعف الإمكانات في ذلك الوقت.
في ذلك الوقت؛ كانت البلدة تفتقر إلى وسائل القتال الحديثة، وحتى الخبرة اللازمة لتشكيل جيش أو ما شابه؛ لكن شباب البلدة لم يعجزوا عن تصنيع الكحل والفتيل، وجاءتهم الفكرة من طريق الصيادين الذين كانوا يستخدمون المتفجرات في صيد السمك؛ وهي عبارة عن صندوق خشب بمساحة 40 × 40 سم، ويضعون في الصندوق كحلاً وكبسولة وفتيلة، ويمدون به سلكاً طويلاً وينسفون به الآليات العسكرية. ومن أكبر المعارك التي شهدتها- ولن أنساها- معركة "جولس"، وهي عبارة عن قرية صغيرة تحدّ "حمامة" من الناحية الشمالية، وكان المعسكر يأتي بالجيش إلى جولس -حيث توجد مستوطنة نتساريم- ونصب الشباب كميناً للقافلة؛ حتى يقطعوا الطريق على الأعداء، وجاءت أربع آليات إسرائيلية من مستوطنة "هربيا" في بيت "داراس" إلى مستوطنة نتساريم، وكانت هناك عبّارة كبيرة في الأسفلت، فجاء المناضلون ووضعوا المتفجرات والعبوات فيها؛ وخططوا للاستيلاء على القافلة، وذلك بتفجير بداية ونهاية القافلة، وبعدها جرى الاستيلاء على وسط القافلة، فأول قافلة تركوها، والمناضلون كامنون في الشجر، فنسفوا العبارة، وسيطروا على القافلة الثانية، وحاصروا من فيها، وأخذوا يطلقوا النيران عليهم.
العـودة: كيف حدثت “النكبة”، وما الذي حدث فيها، بالتفصيل؟
في أواخر عام 1947؛ جاء اليهود فجأة إلى البلد، وعلمنا بقدومهم من خلال مذياع، هو الوحيد الذي كان موجود بقرية حمامة، وأخذ الناس يصرخون ويفرون من القرية؛ حيث قتلوا في بداية دخولهم مختار قرية حمامة على باب بيته، ثم بدأوا يطلقون النار في كل الاتجاهات ويقتلون كل كائن حي يجدونه أمامهم.
وهجر معظم الأهالي البلدة، مستخدمين الحمير والجمال؛ وكنا من بين الذين غادروا، ووصلنا إلى غزة، وجلسنا في حي الشجاعية؛ حيث مكثنا عندهم ليلتين، وبعدها أخذنا عمي وسكنّا في رفح واستقررنا فيها؛ فجاءت وكالة الغوث إلينا في رفح؛ فأخذوا يعطوننا ما نشاء من مخازن التموين حتى ينسونا قريتنا.
العـودة: "الكبار يموتون والصغار ينسون"، هذا ما يراهن عليه دوماً الاحتلال، فماذا تقول؟
أقول لإسرائيل: إن سياستكم هذه فاشلة وخاسرة؛ ولقد قالها موشي ديان "سيموت الكبار وينسى الصغار"، وسنعود إلى أرضنا مهما طال الزمن؛ فالحق لا بد أن يعود إلى أصحابه، ولو مرت مئات السنين. وكل ما أتمناه الآن هو ن أرجع إلى أرضي، وأرى بيتنا ومدرستي؛ فلا يوجد شيء أغلى عندي من الوطن، ومستحيل أن أنسى وطني. وعندي أمل دائماً بالله أن يرجع الحق لأصحابه مهما طال الزمن؛ وما زلت أحتفظ بكواشين الأرض والطابو التي تركها لي والدي وعمي؛ وسأورثها لأولادي وأحفادي من بعدي، وسنبقى نحتفظ بها جيلاً بعد جيل، إلى أن يحين وقت العودة إلى بلداتنا الأصلية، وتعود فلسطين من النهر إلى البحر.
أسوأ مرحلة مرت علينا نحن الفلسطينيين هي الهجرة و”النكبة”، وخروجنا من أراضينا واحتلال إسرائيل لها؛ بالإضافة إلى خذلان الجيش المصري لنا في حرب 67، واحتلال إسرائيل كافة الأراضي الفلسطينية.
والآن نمرّ في مرحلة سيئة جداً، وأثرت على كل الملفات الفلسطينية، كالقدس واللاجئين وحق العودة، وهي الخلافات والانقسامات بين الإخوة الفلسطينيين وانقسام الشعب الفلسطيني.
العـودة: ما المطلوب سياسياً من أجل نصرة اللاجئين؟
المطلوب أولاً من الشعب الفلسطيني، التلاحم والترابط لنكون يداً واحدة؛ لنستطيع التغلب على الاحتلال وطرده من بلادنا إلى الأبد؛ فنحن شعب واحد وكلنا مستهدفون، سواء كان ابن "فتح"، أو ابن "حماس"؛ فإسرائيل لا تفرق بين "حمساوي" و"فتحاوي"، ولا "جهادي"، وتقتل كل شيء: البشر، والشجر؛ والحجر. كل ما نريده من فصائلنا هو الوحدة، وأن يلتفتوا إلى هموم الوطن، وترك الخلافات جانباً؛ لأن الاحتلال هو المستفيد الأول والوحيد من الانقسام
المصدر: مجلة العودة / العدد ــ الخامس والستون/ شباط ــ (فبراير)/ 2013
بالرغم من عبور الحاج موسى أبو سلطان الثمانين خريفاً من عمره؛ إلا أنه ما زال يعيش على أمل العودة إلى بلدته الأصلية (حمامة)، موقناً أن هذا اليوم لا بد أن يأتي، وأن الحق لا بد أن يعود لأصحابه.
ولا يملّ الحاج موسى أبو سلطان من توصية أولاده وأحفاده بعدم التفريط بشبرٍ واحد من أرضهم، ويزرع فيهم أمل العودة إلى أراضيهم، مهما طالت السنين.
وفي حوارٍ مع "العودة" قال أبو سلطان: "أمنيتي أن أرجع إلى الوطن، وأتمنى أن أعود؛ ولا يوجد شيء أغلى عندي من الوطن؛ ومستحيل أن أنسى وطني؛ وعندي أمل دائماً بالله أن يرجع الحق لأصحابه، مهما طال الزمن".
وأكد أبو سلطان أنه رغم أكثر من خمسين عاماً على الهجرة و”النكبة”؛ إلا أنه ما زال يذكر تلك اللحظات، وكأنها حدثت اليوم، وهو الوجع المحفور بقلبه على مدى السنين، وعلى يقين تام بأن "ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة". وفي ما يأتي نص الحوار:
العـودة: بدايةً أعطنا بطـاقة تعريفية عنك؟
أنا الحاج موسى إبراهيم أبو سلطان. ولدت يوم 1936/4/6 في بلدة "حمامة"، قضاء المجدل، شمال فلسطين المحتلة. ومتزوج ولدي خمسة أولاد وبنتان وأكثر من خمسين حفيداً. عندما هجِّرنا إلى غزة كان عمري 12 عاماً.
العـودة: قبل التهجير واللجوء ومرارة “النكبة”؛ كيف كانت حال بلادكم؟ صف لنا الحياة قبل “النكبة”. كيف كانت؟
حمامة قرية تقع شمالي المجدل، وتشتهر بالزراعة وصيد الأسماك. عدد السكان في تلك الفترة كان 9000 مواطن تقريباً. وكان في قريتنا مدرسة واحدة فقط، كان التعليم فيها لغاية الصف السادس؛ بعدها يأتي من يريد أن يكمل تعليمه إلى غزة؛ لأنها كان فيها كلية. كانت المودة والمحبة تجمع أهل القرية.
كنا نعيش في بيوت من الطين، لكن هناك بعض الناس كانوا يبنون بيوتاً من الباطون، فكانت بئر الماء في وسط البلد لكل أهل القرية، وكانت كل عائلة تدفع "شلن" كي تحصل على الماء"، أو يجمعون خمسة قروش. وبعدها بدأ الناس بحفر الآبار في أراضيهم.
وكانوا يتوظفون بشهادة الصف السابع فقط بعد تخرجهم من كلية غزة؛ أما أنا فتوقفت عند الصف الخامس فقط. وكان أبناء حمامة متواضعين طيبين. وفي صغري كنت أحب دائماً أن أجلس مع الكبار والمخاتير، وكنت أحب أن أسمع أحاديثهم عن عام 1936 أيام الثورة الكبرى.
وكان في قريتنا مجموعة من الشباب أطلق عليهم "المناضلين"، كانوا يقاومون اليهود الذين يسكنون المستعمرات. في ذلك الوقت؛ كان المناضل يبيع كل ما يملك من أرض، وذهب زوجته، كل شيء؛ ليشتري قطعة سلاح وباروداً؛ ليقاتلوا كل إسرائيلي جاء ليحتل الأرض.
العـودة: حدثنا كيف كان هؤلاء الشباب يقاتلون رغم قلة العدة وضعف الإمكانات في ذلك الوقت.
في ذلك الوقت؛ كانت البلدة تفتقر إلى وسائل القتال الحديثة، وحتى الخبرة اللازمة لتشكيل جيش أو ما شابه؛ لكن شباب البلدة لم يعجزوا عن تصنيع الكحل والفتيل، وجاءتهم الفكرة من طريق الصيادين الذين كانوا يستخدمون المتفجرات في صيد السمك؛ وهي عبارة عن صندوق خشب بمساحة 40 × 40 سم، ويضعون في الصندوق كحلاً وكبسولة وفتيلة، ويمدون به سلكاً طويلاً وينسفون به الآليات العسكرية. ومن أكبر المعارك التي شهدتها- ولن أنساها- معركة "جولس"، وهي عبارة عن قرية صغيرة تحدّ "حمامة" من الناحية الشمالية، وكان المعسكر يأتي بالجيش إلى جولس -حيث توجد مستوطنة نتساريم- ونصب الشباب كميناً للقافلة؛ حتى يقطعوا الطريق على الأعداء، وجاءت أربع آليات إسرائيلية من مستوطنة "هربيا" في بيت "داراس" إلى مستوطنة نتساريم، وكانت هناك عبّارة كبيرة في الأسفلت، فجاء المناضلون ووضعوا المتفجرات والعبوات فيها؛ وخططوا للاستيلاء على القافلة، وذلك بتفجير بداية ونهاية القافلة، وبعدها جرى الاستيلاء على وسط القافلة، فأول قافلة تركوها، والمناضلون كامنون في الشجر، فنسفوا العبارة، وسيطروا على القافلة الثانية، وحاصروا من فيها، وأخذوا يطلقوا النيران عليهم.
العـودة: كيف حدثت “النكبة”، وما الذي حدث فيها، بالتفصيل؟
في أواخر عام 1947؛ جاء اليهود فجأة إلى البلد، وعلمنا بقدومهم من خلال مذياع، هو الوحيد الذي كان موجود بقرية حمامة، وأخذ الناس يصرخون ويفرون من القرية؛ حيث قتلوا في بداية دخولهم مختار قرية حمامة على باب بيته، ثم بدأوا يطلقون النار في كل الاتجاهات ويقتلون كل كائن حي يجدونه أمامهم.
وهجر معظم الأهالي البلدة، مستخدمين الحمير والجمال؛ وكنا من بين الذين غادروا، ووصلنا إلى غزة، وجلسنا في حي الشجاعية؛ حيث مكثنا عندهم ليلتين، وبعدها أخذنا عمي وسكنّا في رفح واستقررنا فيها؛ فجاءت وكالة الغوث إلينا في رفح؛ فأخذوا يعطوننا ما نشاء من مخازن التموين حتى ينسونا قريتنا.
العـودة: "الكبار يموتون والصغار ينسون"، هذا ما يراهن عليه دوماً الاحتلال، فماذا تقول؟
أقول لإسرائيل: إن سياستكم هذه فاشلة وخاسرة؛ ولقد قالها موشي ديان "سيموت الكبار وينسى الصغار"، وسنعود إلى أرضنا مهما طال الزمن؛ فالحق لا بد أن يعود إلى أصحابه، ولو مرت مئات السنين. وكل ما أتمناه الآن هو ن أرجع إلى أرضي، وأرى بيتنا ومدرستي؛ فلا يوجد شيء أغلى عندي من الوطن، ومستحيل أن أنسى وطني. وعندي أمل دائماً بالله أن يرجع الحق لأصحابه مهما طال الزمن؛ وما زلت أحتفظ بكواشين الأرض والطابو التي تركها لي والدي وعمي؛ وسأورثها لأولادي وأحفادي من بعدي، وسنبقى نحتفظ بها جيلاً بعد جيل، إلى أن يحين وقت العودة إلى بلداتنا الأصلية، وتعود فلسطين من النهر إلى البحر.
أسوأ مرحلة مرت علينا نحن الفلسطينيين هي الهجرة و”النكبة”، وخروجنا من أراضينا واحتلال إسرائيل لها؛ بالإضافة إلى خذلان الجيش المصري لنا في حرب 67، واحتلال إسرائيل كافة الأراضي الفلسطينية.
والآن نمرّ في مرحلة سيئة جداً، وأثرت على كل الملفات الفلسطينية، كالقدس واللاجئين وحق العودة، وهي الخلافات والانقسامات بين الإخوة الفلسطينيين وانقسام الشعب الفلسطيني.
العـودة: ما المطلوب سياسياً من أجل نصرة اللاجئين؟
المطلوب أولاً من الشعب الفلسطيني، التلاحم والترابط لنكون يداً واحدة؛ لنستطيع التغلب على الاحتلال وطرده من بلادنا إلى الأبد؛ فنحن شعب واحد وكلنا مستهدفون، سواء كان ابن "فتح"، أو ابن "حماس"؛ فإسرائيل لا تفرق بين "حمساوي" و"فتحاوي"، ولا "جهادي"، وتقتل كل شيء: البشر، والشجر؛ والحجر. كل ما نريده من فصائلنا هو الوحدة، وأن يلتفتوا إلى هموم الوطن، وترك الخلافات جانباً؛ لأن الاحتلال هو المستفيد الأول والوحيد من الانقسام
المصدر: مجلة العودة / العدد ــ الخامس والستون/ شباط ــ (فبراير)/ 2013