الرحّالة ناصر خسرو في القدس... في العام 1047 ميلادية (3)
استكمالاً لعرض رحلة الرحّالة المسلم الفارسي ناصر خسرو، التي حقّقها إلى بيت المقدس في العام 1047 ميلادية، ووصفه لمشاهداته فيها من معالم دينية مقدسة ومن آثار عمرانية لها قيمتها التاريخية والتراثية، نعرض فيما يلي وصفه المراقي المؤدّية إلى الدكة التي بساحة المسجد الأقصى كما أوردها في كتابه الشهير "السفر نامة" أي "زاد المسافر" كما ترجمته بالعربية، ووصفه لكنيسة القيامة في القدس على أنّها من أكبر وأهمّ المعالم الدينية المسيحية التي حرص المسلمون في كلّ وقتٍ على تقديرها والاهتمام بشأنها العمراني وقيمتها الدينية. يقول:
(يُسار إلى هذه الدكة من ستة مواضع لكلّ منها اسم، فبجانب القبلة طريقان يصعد فيهما على درجات فإذا وقفت في وسط ضلع الدكة وجدت أحدهما على اليمين والثاني على اليسار والذي على اليمين يسمّى مقام النبي عليه السلام والذي على اليسار يسمّى مقام الغوري، وسمّي الأول مقام النبي لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- صعد على درجاته إلى الدكة ليلة المعراج، ودخل إلى قبة الصخرة ويقع طريق الحجاز على هذا الجانب وعرض درجاته اليوم عشرون ذراعاً وهي من الحجر المنحوت المنتظم وكلّ درجة قطعة أو قطعتان من الحجر المربع وهي معَدّة بحيث يستطيع الزائر الصعود عليها راكباً، وعلى قمة هذه الدرجات أربعة أعمدة من الرخام الأخضر الذي يشبه الزمرد لولا أنّ به نقطاً كثيرة من كلّ لون ويبلغ ارتفاع كلّ عمود منها عشرة أذرع وقطره بقدر ما يحتضن رجلان، وعلى رأس هذه الأعمدة الأربعة ثلاثة طيقان أحدها مقابل للباب والآخران على جانبيه وسطح الطيقان أفقي من فوقه شرفات بحيث يبدو مربعاً وهذه العمد والطيقان منقوشة كلها بالذهب وبالمينا ليس أجمل منها، ودرابزين الدكة كلّه من الرخام الأخضر المنقط حتى لتقول إنّ عليه روضة ورد ناضر.
وقد أعدّ مقام الغوري بحيث تكون ثلاثة سلالم على موضع واحدٍ أحدها محاذٍ للدكة والآخران على جانبيها حتى يُستطاع الصعود من ثلاثة أماكن ومن فوق هذه السلالم الثلاثة أعمدة عليها طريقان وشرفة والدرجات بالوصف الذي ذكرت من الحجر المنحوت كلّ درجة قطعتان أو ثلاث من الحجر المستطيل وكُتِب بخطٍّ جميل بالذهب على ظاهر الإيوان: أمر به الأمير ليث الدولة نوشتكين الغوري.. ويقال إنّه كان تابعاً لسلطان مصر وهو الذي أنشأ هذه الطرق والمراقي.
قبّة الصخرة
وعلى الجانب الغربي للدكة سُلّمان في ناحيتين منها وهناك طريق عظيم مشابه لما ذكرت وكذلك في الجانب الشرقي طريق عظيم مماثل عليه أعمدة فوقها طيقان وشرفة يسمّى المقام الشرقي وعلى الجانب الشمالي طريقٌ أكثر علواً وأكبر منها كلّها به أعمدة فوقها طيقان يسمّى المقام الشامي وأظن أنهم صرفوا على هذه الطرق الستة مائة ألف دينار.
وفي الجانب الشمالي لساحة المسجد لا على الدكة بناءٌ به كأنّه مسجد صغير يشبه الحظيرة وهو من الحجر المنحوت يزيد ارتفاع حوائطه على قامة رجلٍ ويسمّى محراب داود وبالقرب منه حجر غير مستوٍ يبلغ قامة رجلٍ وقمّته تتيح وضع حصيرة صلاة صغيرة عليها ويقال إنّه كرسيّ سليمان -عليه السلام- الذي كان يجلس عليه أثناء بناء المسجد.
هذا ما رأيت في جامع بيت المقدس قد صوّرته وضممته إلى مذكراتي ومن النوادر التي رأيتها في بيت المقدس شجرة الحور.
بعد الفراغ من زيارة بيت المقدس عزمت على زيارة مشهد إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام في يوم الأربعاء غرة ذي القعدة سنة إبريل سنة 1047 والمسافة بينهما ستة فراسخ عن طريق جنوبيّ به قرى كثيرة وزرع وحدائق وشجر بريّ لا يُحصى من عنب وتين وزيتون وسمّاق وعلى فرسخين من بيت المقدس أربع قرى بها عين وحدائق وبساتين كثيرة تسمى الفراديس لجمال موقعها وعلى فرسخ واحد من بيت المقدس مكان للنصارى يعظمونه كثيراً يقيم بجانبه مجاورون دائماً ويحجّ إليه كثيرون اسمه بيت اللحم وهناك يقدم النصارى القرابين ويقصده الحجاج من بلاد الروم وقد بلغته مساء اليوم الذي قمت فيه من بيت المقدس).
في وصفه لكنيسة القيامة في بيت المقدس:
(وللنصارى في بيت المقدس كنيسةٌ يسمّونها "بيعة القمامة" لها عندهم مكانة عظيمة ويحجّ إليها كلّ سنة كثيٌر من بلاد الروم ويزورها ملك الرومكنيسة القيامة متخفّياً حتى لا يعرفه الناس وقد زارها أيام عزيز مصر الحاكم بأمر الله فبلغ ذلك الحاكم فأرسل إليه أحد حراسه بعد أنْ عرفه أنّ رجلاً بهذه الحلية والصورة يجلس في كنيسة بيت المقدس وقال له اذهب عنده وقل له إنّ الحاكم أرسلني إليك ويقول لا تحسبني أجهل أمرك ولكنْ كنْ آمناً فلن أقصدك بسوء، وقد أمر الحاكم هذا بالإغارة على الكنيسة فهدمها وخرّبها وظلّت خربة مدة من الزمان وبعد ذلك بعث القيصر إليه رسلاً وقدّم كثيراً من الهدايا والخدمات وطلب الصلح والشفاعة ليؤذَن له بإصلاح الكنيسة فقبل الحاكم وأعيد تعميرها.
وهذه الكنيسة فسيحة تسع ثمانية آلاف رجل وهي عظيمة الزخرف من الرخام الملوّن والنقوش والصور وهي مزدانة من الداخل بالديباج الرومي والصور، وزيّنت بطلاء من الذهب وفي أماكن كثيرة منها صورة عيسى عليه السلام راكباً حماراً، وصور الأنبياء الآخرين مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب وأبنائهم عليهم السلام وهذه الصور مطلية بزيت السندروس وقد غطّى سطح كلّ صورة بلوح من الزجاج الشفاف على قدّها بحيث لا يحجب منها شيء وذلك حتى لا يصل الغبار إليها، وينظف الخدم هذا الزجاج كلّ يوم، وهناك عدا ذلك عدة مواضع أخرى كلها مزيّنة ولو وصفتها لطالت كتابتي، وفي هذه الكنيسة لوحة مقسّمة إلى قسمين وعملا لوصف الجنة والنار فنصفٌ يصف الجنة وأهلها ونصف يصف النار وأهلها ومن يبقى فيها وليس لهذه الكنيسة نظير في أيّ جهة من العالم، ويقيم بها كثيرٌ من القسّ والرهبان يقرؤون الإنجيل ويصلون ويشتغلون بالعبادة ليل نهار).
لقد تحدث ناصر خسرو أيضاً واستفاض في وصف مدينة الخليل وقبر سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، ومدينة بيت لحم، وبعض القرى التابعة لمدينة القدس فأحسن الوصف، وترك لنا أثره الكبير وجهده العظيم في كتاب "زاد المسافر".
رحم الله ناصر خسرو الرحّالة المسلم الذي اهتمّ بشأن دينه وما فرّط بما قدر عليه من وصف وتوصيف.
المصدر: بقلم/ عدنان كنفاني- خاص بموقع مدينة القدس.
استكمالاً لعرض رحلة الرحّالة المسلم الفارسي ناصر خسرو، التي حقّقها إلى بيت المقدس في العام 1047 ميلادية، ووصفه لمشاهداته فيها من معالم دينية مقدسة ومن آثار عمرانية لها قيمتها التاريخية والتراثية، نعرض فيما يلي وصفه المراقي المؤدّية إلى الدكة التي بساحة المسجد الأقصى كما أوردها في كتابه الشهير "السفر نامة" أي "زاد المسافر" كما ترجمته بالعربية، ووصفه لكنيسة القيامة في القدس على أنّها من أكبر وأهمّ المعالم الدينية المسيحية التي حرص المسلمون في كلّ وقتٍ على تقديرها والاهتمام بشأنها العمراني وقيمتها الدينية. يقول:
(يُسار إلى هذه الدكة من ستة مواضع لكلّ منها اسم، فبجانب القبلة طريقان يصعد فيهما على درجات فإذا وقفت في وسط ضلع الدكة وجدت أحدهما على اليمين والثاني على اليسار والذي على اليمين يسمّى مقام النبي عليه السلام والذي على اليسار يسمّى مقام الغوري، وسمّي الأول مقام النبي لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- صعد على درجاته إلى الدكة ليلة المعراج، ودخل إلى قبة الصخرة ويقع طريق الحجاز على هذا الجانب وعرض درجاته اليوم عشرون ذراعاً وهي من الحجر المنحوت المنتظم وكلّ درجة قطعة أو قطعتان من الحجر المربع وهي معَدّة بحيث يستطيع الزائر الصعود عليها راكباً، وعلى قمة هذه الدرجات أربعة أعمدة من الرخام الأخضر الذي يشبه الزمرد لولا أنّ به نقطاً كثيرة من كلّ لون ويبلغ ارتفاع كلّ عمود منها عشرة أذرع وقطره بقدر ما يحتضن رجلان، وعلى رأس هذه الأعمدة الأربعة ثلاثة طيقان أحدها مقابل للباب والآخران على جانبيه وسطح الطيقان أفقي من فوقه شرفات بحيث يبدو مربعاً وهذه العمد والطيقان منقوشة كلها بالذهب وبالمينا ليس أجمل منها، ودرابزين الدكة كلّه من الرخام الأخضر المنقط حتى لتقول إنّ عليه روضة ورد ناضر.
وقد أعدّ مقام الغوري بحيث تكون ثلاثة سلالم على موضع واحدٍ أحدها محاذٍ للدكة والآخران على جانبيها حتى يُستطاع الصعود من ثلاثة أماكن ومن فوق هذه السلالم الثلاثة أعمدة عليها طريقان وشرفة والدرجات بالوصف الذي ذكرت من الحجر المنحوت كلّ درجة قطعتان أو ثلاث من الحجر المستطيل وكُتِب بخطٍّ جميل بالذهب على ظاهر الإيوان: أمر به الأمير ليث الدولة نوشتكين الغوري.. ويقال إنّه كان تابعاً لسلطان مصر وهو الذي أنشأ هذه الطرق والمراقي.
قبّة الصخرة
وعلى الجانب الغربي للدكة سُلّمان في ناحيتين منها وهناك طريق عظيم مشابه لما ذكرت وكذلك في الجانب الشرقي طريق عظيم مماثل عليه أعمدة فوقها طيقان وشرفة يسمّى المقام الشرقي وعلى الجانب الشمالي طريقٌ أكثر علواً وأكبر منها كلّها به أعمدة فوقها طيقان يسمّى المقام الشامي وأظن أنهم صرفوا على هذه الطرق الستة مائة ألف دينار.
وفي الجانب الشمالي لساحة المسجد لا على الدكة بناءٌ به كأنّه مسجد صغير يشبه الحظيرة وهو من الحجر المنحوت يزيد ارتفاع حوائطه على قامة رجلٍ ويسمّى محراب داود وبالقرب منه حجر غير مستوٍ يبلغ قامة رجلٍ وقمّته تتيح وضع حصيرة صلاة صغيرة عليها ويقال إنّه كرسيّ سليمان -عليه السلام- الذي كان يجلس عليه أثناء بناء المسجد.
هذا ما رأيت في جامع بيت المقدس قد صوّرته وضممته إلى مذكراتي ومن النوادر التي رأيتها في بيت المقدس شجرة الحور.
بعد الفراغ من زيارة بيت المقدس عزمت على زيارة مشهد إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام في يوم الأربعاء غرة ذي القعدة سنة إبريل سنة 1047 والمسافة بينهما ستة فراسخ عن طريق جنوبيّ به قرى كثيرة وزرع وحدائق وشجر بريّ لا يُحصى من عنب وتين وزيتون وسمّاق وعلى فرسخين من بيت المقدس أربع قرى بها عين وحدائق وبساتين كثيرة تسمى الفراديس لجمال موقعها وعلى فرسخ واحد من بيت المقدس مكان للنصارى يعظمونه كثيراً يقيم بجانبه مجاورون دائماً ويحجّ إليه كثيرون اسمه بيت اللحم وهناك يقدم النصارى القرابين ويقصده الحجاج من بلاد الروم وقد بلغته مساء اليوم الذي قمت فيه من بيت المقدس).
في وصفه لكنيسة القيامة في بيت المقدس:
(وللنصارى في بيت المقدس كنيسةٌ يسمّونها "بيعة القمامة" لها عندهم مكانة عظيمة ويحجّ إليها كلّ سنة كثيٌر من بلاد الروم ويزورها ملك الرومكنيسة القيامة متخفّياً حتى لا يعرفه الناس وقد زارها أيام عزيز مصر الحاكم بأمر الله فبلغ ذلك الحاكم فأرسل إليه أحد حراسه بعد أنْ عرفه أنّ رجلاً بهذه الحلية والصورة يجلس في كنيسة بيت المقدس وقال له اذهب عنده وقل له إنّ الحاكم أرسلني إليك ويقول لا تحسبني أجهل أمرك ولكنْ كنْ آمناً فلن أقصدك بسوء، وقد أمر الحاكم هذا بالإغارة على الكنيسة فهدمها وخرّبها وظلّت خربة مدة من الزمان وبعد ذلك بعث القيصر إليه رسلاً وقدّم كثيراً من الهدايا والخدمات وطلب الصلح والشفاعة ليؤذَن له بإصلاح الكنيسة فقبل الحاكم وأعيد تعميرها.
وهذه الكنيسة فسيحة تسع ثمانية آلاف رجل وهي عظيمة الزخرف من الرخام الملوّن والنقوش والصور وهي مزدانة من الداخل بالديباج الرومي والصور، وزيّنت بطلاء من الذهب وفي أماكن كثيرة منها صورة عيسى عليه السلام راكباً حماراً، وصور الأنبياء الآخرين مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب وأبنائهم عليهم السلام وهذه الصور مطلية بزيت السندروس وقد غطّى سطح كلّ صورة بلوح من الزجاج الشفاف على قدّها بحيث لا يحجب منها شيء وذلك حتى لا يصل الغبار إليها، وينظف الخدم هذا الزجاج كلّ يوم، وهناك عدا ذلك عدة مواضع أخرى كلها مزيّنة ولو وصفتها لطالت كتابتي، وفي هذه الكنيسة لوحة مقسّمة إلى قسمين وعملا لوصف الجنة والنار فنصفٌ يصف الجنة وأهلها ونصف يصف النار وأهلها ومن يبقى فيها وليس لهذه الكنيسة نظير في أيّ جهة من العالم، ويقيم بها كثيرٌ من القسّ والرهبان يقرؤون الإنجيل ويصلون ويشتغلون بالعبادة ليل نهار).
لقد تحدث ناصر خسرو أيضاً واستفاض في وصف مدينة الخليل وقبر سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، ومدينة بيت لحم، وبعض القرى التابعة لمدينة القدس فأحسن الوصف، وترك لنا أثره الكبير وجهده العظيم في كتاب "زاد المسافر".
رحم الله ناصر خسرو الرحّالة المسلم الذي اهتمّ بشأن دينه وما فرّط بما قدر عليه من وصف وتوصيف.
المصدر: بقلم/ عدنان كنفاني- خاص بموقع مدينة القدس.