بحث هذه المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات المفصل في أحكام الأضحية، الحكمة من مشروعية الأضحية ، - 3 -. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات المفصل في أحكام الأضحية، الحكمة من مشروعية الأضحية ، - 3 -. إظهار كافة الرسائل

2014-04-11

المفصل في أحكام الأضحية، الحكمة من مشروعية الأضحية ، - 3 -

     المفصل في أحكام الأضحية، الحكمة من مشروعية الأضحية ، - 3 -

المبحث الثالث
الحكمة من مشروعية الأضحية
قال أهل العلم إن الأضحية شرعت لحكم كثيرة منها :
أولاً : إحياءً لسنة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، حينما رأى في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل ، ورؤيا الأنبياء حق وصدق ، قال الله تعالى:} وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ(99)رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ(100)فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ(101)فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(102)فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ(106){ سورة الصافات .
قال صاحب الظلال يرحمه الله :[ ثم تجيء الحلقة الثانية من قصة إبراهيم … لقد انتهى أمره مع أبيه وقومه . لقد أرادوا به الهلاك في النار التي أسموها الجحيم ، وأراد الله أن يكونوا هم الأخسرين ؛ ونجاه من كيدهم أجمعين .
عندئذ استدبر إبراهيم مرحلة من حياته ليستقبل مرحلة ؛ وطوى صفحة لينشر صفحة :
} وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ {.
هكذا .. إني ذاهب إلى ربي .. إنها الهجرة . وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته . يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض ، وبهؤلاء الناس . ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل. ويهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيء ، طارحاً وراءه كل شيء ، مسلماً نفسه لربه لا يستبقي منها شيئاً .
موقنٌ أنَّ ربه سيهديه، وسيرعى خطاه ، وينقلها في الطريق المستقيم .إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال ، ومن وضع إلى وضع ، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء . إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين .
وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيداً لا عقب له ؛ وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى ، والصحبة والمعرفة ، وكل مألوف له في ماضي حياته ، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها ، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم ! فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه . اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح :
} رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ {.
واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد ، الذي ترك وراؤه كل شيء ، وجاء إليه بقلب
سليم … } فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ {.
وهو إسماعيل - كما يرجح سياق السيرة والسورة – وسنرى آثار حلمه الذي وصفه ربه به وهو غلام . ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته . لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام الذي يصفه ربه بأنه حليم .
والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم . بل في حياة البشر أجمعين . وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحى الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم …
} فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ { .
يالله ! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم .
هذا إبراهيم الشيخ . المقطوع من الأهل والقرابة . المهاجر من الأرض والوطن . هاهو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام . طالما تطلع إليه. فلما جاءه غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم . وهاهو ذا ما يكاد يأنس به ،وصباه يتفتح ، ويبلغ معه السعي ،ويرافقه في الحياة … وها هو ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد ، حتى يرى في منامه أنه يذبحه . ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية . فماذا ؟ إنه لا يتردد ، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم .. نعم إنها إشارة . مجرد إشارة . وليست وحياً صريحاً ، ولا أمراً مباشراً . ولكنها إشارة من ربه… وهذا يكفي… هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض . ودون أن يسأل ربه… لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد ؟!
ولكنه لا يلبى في انزعاج ، ولا يستسلم في جزع ، ولا يطيع في اضطراب… كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء . يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب: } قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ {…
فهي كلمات المالك لأعصابه ، المطمئن للأمر الذي يواجهه ، الواثق بأنه يؤدي واجبه. وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن ، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه ، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي ، ويستريح من ثقله على أعصابه !
والأمر شاق – ما في ذلك شك – فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة . ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته… إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده . يتولى ماذا ؟ يتولى ذبحه .. وهو – مع هذا – يتلقى الأمر هذا التلقي ، ويعرض على ابنه هذا العرض ؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره ، وأن يرى فيه رأيه !
إنه لا يأخذ ابنه على حين غرة لينفذ إشارة ربه . وينتهي . إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر . فالأمر في حسه هكذا . ربه يريد . فليكن ما يريد . على العين والرأس . وابنه ينبغي أن يعرف . وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً ، لا قهراً واضطراراً . لينال هو الآخر أجر الطاعة ، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم ! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها ؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى …
فماذا يكون من أمر الغلام ، الذي يعرض عليه الذبح ، تصديقاً لرؤيا رآها أبوه ؟
إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه : } قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ {.. إنه يتلقى الأمر لا في طاعة ولا استسلام فحسب . ولكن في رضى كذلك وفي يقين.. } يَاأَبَتِ {.. في مودة وقربى . فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده . بل لا يفقده أدبه ومودته .
} افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ { فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه . يحس أن الرؤيا إشارة . وأن الإشارة أمر . وأنها تكفي لكي يلبى وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب .
ثم هو الأدب مع الله ، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال ؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ، ومساعدته على الطاعة :
} سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ { ...
ولم يأخذها بطولة . ولم يأخذها شجاعة . ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة . ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً… إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه ، وأصبره على ما يراد به :} سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ { .
ياللأدب مع الله ! ويالروعة الإيمان . ويالنبل الطاعة . ويالعظمة التسليم !
ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام .. يخطو إلى التنفيذ : } فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ {.. ومرةً أخرى يرتفع نبل الطاعة . وعظمة الإيمان . وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان ..
إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعداداً . وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعاً. وقد وصل الأمر إلى أن يكون عياناً .
لقد أسلما .. فهذا هو الإسلام . هذا هو الإسلام في حقيقته .ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم.. وتنفيذ.. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان
العظيم .
إنها ليست الشجاعة والجراءة . وليس الاندفاع والحماسة . لقد يندفع المجاهد في الميدان، يَقْتُلُ ويُقْتَلُ . ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود . ولكن هذا كله شيء والذي يصنع إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر .. ليس هنا دم فائر، ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص ! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد ، العارف بما يفعل ، المطمئن لما يكون . لا بل هنا الرضى الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة و طعمها الجميل !
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل كانا قد أديا . كانا قد أسلما . كانا قد حققا الأمر
والتكليف. ولم يكن باقياً إلا أن يذبح إسماعيل ، ويسيل دمه ، وتزهق روحه .. وهذا أمر لا يعني شيئاً في ميزان الله ، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما
و عزمهما و مشاعرهما كل ما أراده ربه منهما .
كان الابتلاء قد تم . والامتحان قد وقع . ونتائجه قد ظهرت . وغاياته قد تحققت . ولم يعد إلا الألم البدني . وإلا الدم المسفوح. والجسد الذبيح . والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء . ولا يريد دمائهم وأجسادهم في شيء . ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم ، فقد أدوا وقد حققوا التكليف ، وقد جازوا الامتحان بنجاح .
وعرف الله من إبراهيم و إسماعيل صدقهما ، فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا :
} وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {
قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلاً . فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه ، ولو كان هو الابن فلذة الكبد ، ولو كانت هي النفس والحياة . وأنت - يا إبراهيم - قد فعلت . جدت بكل شيء . وبأعز شيء . وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين . فلم يبق إلا اللحم والدم . وهذا ينوب عنه ذبح . أي ذبحٍ من دم ولحم ! و يفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت. يفديها بذبح عظيم . قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه
وإرادته ليذبحه بدلاً من اسماعيل !
وقيل له : } إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {.. نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء . ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء . ونجزيهم بإقدارهم و إصبارهم على الأداء .
ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء !
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى ، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارةً لحقيقة الإيمان . وجمال الطاعة . وعظمة التسليم . والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم ، الذي تتبع ملته ، والذي ترث نسبه وعقيدته . ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها ، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا ؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه . ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئاً ، ولا تختار في ما تقدمه لربها هيئةً ولا طريقةً لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم ! ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء
ولا أن يؤذيها بالبلاء ، إنما يريد أن تأتيه طائعةً ملبيةً وافيةً مؤدية . مستسلمةً لا تقدم بين يديه ، ولا تتألى عليه ، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام .
و احتسبها لها وفاء وأداء . وقبل منها وفدّاها ، وأكرمها كما أكرم أباها ] (1) .
وقد نقلت لك أخي القارئ كلام صاحب الظلال رغم طوله لبيان عظمة موقف إبراهيم الخليل وكيف أنه أقدم طائعاً لتنفيذ الرؤيا يذبح ولده الوحيد إسماعيل وموقف ذلك الولد المطيع المستسلم لأمر الله تعالى فإن في عملهما قدوة لنا معشر المسلمين قال تعالى :} قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ { سورة الممتحنة الآية 4.

-------------------------
(1) تفسير ظلال القرآن 7/61-66 .

-------------------------

ثانياً : إن ذبح الأضحية وسيلة للتوسعة على النفس وأهل البيت وإكرام الجيران والأقارب والأصدقاء والتصدق على الفقراء . وقد مضت السنة منذ عهد النبي  في التوسعة على الأهل وإكرام الجيران والتصدق على الفقراء يوم الأضحى ، فقد ثبت في الحديث عن أنس  عن النبي  قال:( من ذبح قبل الصلاة فليعد.فقال رجل : هذا يوم يشتهى فيه اللحم
وذكر هَنَةً من جيرانه فكأن رسول الله  عذره ، وقال عندي جذعة خير من شاتين فرخص له النبي  … ) الحديث رواه البخاري ومسلم (1) .

قال الحافظ ابن حجر :[ قوله وذكر فيه هَنَةً بفتح الهاء والنون الخفيفة بعدها هاء تأنيث ، أي حاجة من جيرانه للَّحم ] (2) .
وجاء في حديث البراء  قال :( خطبنا رسول الله  يوم النحر بعد الصلاة فقال : من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم . فقام أبو بردة بن نيار فقال : يا رسول الله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت فأكلت وأطعمت أهلي وجيراني .
فقال رسول الله  : تلك شاة لحم . فقال : إن عندي عناقاً جذعةً وهي خيرٌ من شاتي لحم فهل تجزئ عني ؟ قال : نعم ، ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك ) رواه البخاري ومسلم ، وأبو داود واللفظ له (3) .
فانظر إلى قول أبي بردة :( فأكلتُ وأطعمتُ أهلي وجيراني ) فإنه يشير إلى ما ذكرت .
وجاء في الحديث أن عطاء بن يسار قال :( سألت أبا أيوب الأنصاري كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله  ؟ فقال : كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصارت كما ترى ) رواه الترمذي وقال : حسن صحيح ، ورواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهم ، وقال الشيخ الألباني : صحيح (4) .
قلت : وهكذا قول أبي أيوب ( فيأكلون ويطعمون ) ، يدل على ما سبق .
ثالثاً : شكراً لله سبحانه وتعالى على نعمه المتعددة :
فالله سبحانه وتعالى قد أنعم على الإنسان بنعمٍ كثيرةٍ لا تُعَدُ ولا تُحصى كنعمة البقاء من عام لعام . ونعمة الإيمان ونعمة السمع والبصر والمال ؛ فهذه النعم وغيرها تستوجب الشكر للمنعم سبحانه وتعالى ، والأضحية صورةٌ من صور الشكر لله سبحانه وتعالى ، فيتقرب العبد إلى ربه بإراقة دم الأضحية امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى (1) ، حيث قال جلَّ جلاله:{ فصلِّ لربك وانحر } سورة الكوثر الآية 2 .

المبحث الرابع
حكم الأضحية
اختلف الفقهاء في حكم الأضحية على قولين :
القول الأول : الأضحيةُ سنةٌ مؤكدةٌ في حق الموسر، وهذا قول أكثر العلماء ، وممن قال به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وبلال وسويد بن غفلة وأبو مسعود البدري وسعيد بن المسيب وسفيان الثوري وابن المبارك
وعطاء وعلقمة والأسود ومالك في القول المشهور عنه والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد والزعفراني من الحنفية وإسحاق وأبو ثور والمزني وداود وابن حزم الظاهريان وابن المنذر وغيرهم (1) .
القول الثاني : الأضحيةُ واجبةٌ ، وبهذا قال جماعة من أهل العلم على اختلافٍ بينهم في حق من تجب :
فقال ربيعة الرأي والليث بن سعد والأوزاعي ومالك في قولٍ عنه ، الأضحيةُ واجبةٌ على المقيم والمسافر الموسر إلا الحاج بمنى فلا تجب عليه وإنما المشروع في حقه الهدي (2) .
وقال أبو حنيفة الأضحيةُ واجبةٌ في حق المقيم الموسر ، وهو قول زفر والحسن ورواية عن أبي يوسف ومحمد . واختار شيخ الإسلام ابن تيمية القول بوجوب الأضحية (3) .

--------------------------
(1) صحيح البخاري مع الفتح 12/116 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/100-101 .
(2) فتح الباري 12/116 .
(3) صحيح البخاري مع الفتح 12/98 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/99 ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/356 .
(4) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/75 ، سنن ابن ماجة 2/1051 ، سنن البيهقي 9/268 ، إرواء الغليل 4/355 .
(1) انظر أحكام الذبائح في الإسلام ص126 ، الفقه الإسلامي وأدلته 3/595 .
(1) انظر المجموع 8/385 ، المغني 9/435 ، الحاوي الكبير 15/71 ، شرح الخرشي 3/33 ، شرح الآبي على صحيح مسلم 5/290 ، تفسير القرطبي 15/108 ، بلغة السالك 1/286 ، بدائع الصنائع 4/192-193 ، الهداية مع تكملة شرح فتح القدير 8/425 ، تبيين الحقائق 6/2 ، مغني المحتاج 6/123 ، سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 5/79 المحلى 6/3 .
(2) المجموع 8/385 ، الحاوي الكبير 15/71 ، المغني 9/435 ، الذخيرة 4/140 ، بداية المجتهد 1/348 .
------------------------------

سبب اختلاف الفقهاء في حكم الأضحية :
ويرجع سبب اختلاف الفقهاء في حكم الأضحية إلى أمرين :
الأول : هل فعل الرسول  محمول على الوجوب أم على الندب ؟
حيث إنه قد ثبت عن الرسول  أنه كان يضحي كل عام كما ذكره ابن عمر رضي الله عنهما :( أن النبي  أقام بالمدينة عشر سنين يضحي ) وسيأتي .
وهذا يعني أن النبي  لم يترك الأضحية قط ، حتى إنه كان يضحي في السفر ، كما ثبت في حديث ثوبان  قال :( ذبحَ رسولُ الله  ضحيته ثم قال : يا ثوبان أصلح لحم هذه . فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة ) رواه مسلم (1) .
الثاني : اختلافهم في مفهوم الأحاديث الواردة في الأضحية ، حيث إنه قد ثبت من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال:( إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من ظفره شيئاً ) رواه مسلم .
فقوله ( وأراد أحدكم أن يضحي ) فيه دليل على أن الأضحية متروكة لإرادة المسلم ورغبته ، وما كان كذلك لا يكون واجباً .
ولمَّا أمر الرسول  أبا بردة بن نيار  بإعادة أضحيته إذ ذبح قبل صلاة العيد حيث
قال  :( من كان قد ذبح قبل الصلاة فليعد ) رواه البخاري ومسلم (2) .
فهم جماعة من الفقهاء من أمره  الوجوب (3) .
أدلةُ الجمهور على أنَّ الأضحيةَ سنةٌ مؤكدةٌ ، وليست واجبة :
1. حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت :( قال رسول الله  : إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً ) (4) .
قال الإمام الشافعي :[ هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة ، لقوله  ( وأراد ) ، فجعله مفوضاً إلى إرادته ولو كان واجباً لقال  ( فلا يمس من شعره وبشره حتى يضحي )(5).
2. ما روي عن ابن عباس أن رسول الله  قال : ( ثلاث هن عليَّ فرائض ولكم تطوع ، النحر والوتر وركعتا الضحى ) رواه أحمد و البيهقي ، وفي رواية أخرى عند البيهقي عن ابن عباس رفعه قال :( كُتِبَ عليَّ النحرُ ولم يكتبْ عليكم ) (6) .
والحديث ضعيف كما قال الإمام النووي (1) .
وقال الحافظ ابن حجر :[ ومداره على أبي جناب الكلبي عن عكرمة ، وأبو جناب ضعيف ومدلس أيضاً ، وقد عنعنه وأطلق الأئمة على هذا الحديث الضعف كأحمد والبيهقي وابن الصلاح وابن الجوزي والنووي وغيرهم … الخ ] (2) .
وقال الحافظ ابن حجر في موضع آخر بعد أن ذكر طرق الحديث :[ فتلخص ضعف الحديث من جميع طرقه ] (3) .
3. عن جابر بن عبد الله :( أن رسول الله  صلى بالناس يوم النحر فلما فرغ من خطبته وصلاته دعا بكبش فذبحه هو بنفسه وقال: باسم الله ، الله أكبر اللهم عني وعمَّن لم يضح من أمتي ) رواه أحمد وأبو داود وسكت عليه والترمذي وابن ماجة والبيهقي واللفظ له والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الشيخ الألباني أيضاً (4) .
والحديث احتج به صاحب المنتقى على عدم الوجوب حيث قال :[ باب ما احتج به في عدم وجوبها بتضحية رسول الله  عن أمته ] (5) ثم ساق حديث جابر السابق وحديث أبي رافع وهو الحديث التالي :

-----------------------
(3) الهداية مع تكملة شرح فتح القدير 8/425 ، تبيين الحقائق 6/2 ، بدائع الصنائع 4/193 ، ملتقى الأبحر 2/222 ، عقود الجواهر المنيفة 2/70 ، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 23/162 .
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 5/116 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 12/101 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 5/100 .
(3) انظر بداية المجتهد 1/348 .
(4) سبق تخريجه .
(5) مختصر المزني مع الأم 8/283 ، الحاوي 15/67 ، المجموع 8/386 .
(6) الفتح الرباني 22/41 ، سنن البيهقي 9/264 .
(1) المجموع 8/386 .
(2) التلخيص الحبير 2/18 .
(3) التلخيص الحبير 3/118 .
(4) المستدرك 4/255 ، الفتح الرباني 13/63-64 ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/3 ، سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/94 ، سنن ابن ماجة 2/1043 ، سنن البيهقي 9/264 ، إرواء الغليل 4/349-350 .
(5) المنتقى مع شرحه نيل الأوطار 5/125 .
-----------------------------

4. عن أبي رافع :( أن رسول الله  كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين فإذا صلى وخطب الناس أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ثم يقول :
اللهم هذا عن أمتي جميعاً من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول : هذا عن محمد وآل محمد فيطعمهما جميعاً المساكين ويأكل هو وأهله منهما فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المئونة برسول الله  والعزم ) رواه أحمد (6) .
قال الشوكاني عن الحديث السابق بأن الحافظ سكت عنه في التلخيص (1) والأمر
كذلك (2) .
وقال الهيثمي :[ رواه البزار وأحمد بنحوه ، ورواه الطبراني في الكبير بنحوه … وإسناد أحمد والبزار حسن ] (3) . وصححه الشيخ الألباني (4) .
قال الشوكاني :[ ووجه دلالة الحديثين وما في معناهما على عدم الوجوب ، أن الظاهر تضحيته  عن أمته وعن أهله ، تجزئ كل من لم يضح سواء كان متمكناً من الأضحية أو غير متمكن ] (5) .
5. قال الشافعي :[ وبلغنا أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان كراهية أن يُرَى أنها واجبة ] (6) .
وقد روى ذلك عنهما أيضاً البيهقي بإسناده عن الشعبي عن أبي سريحة :[ أدركت أبا بكر أو رأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان . في بعض حديثهم - كراهية أن يقتدى بهما - أبو سريحة الغفاري هو حذيفة بن أسيد صاحب رسول الله  (7) .
قال الإمام النووي :[ وأما الأثر المذكور – عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما – فقد رواه البيهقي بإسناد حسن ] (8) .
وقال الهيثمي :[ ورواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح ] (9) .
وصححه الشيخ الألباني (10) .
6. ذكر الإمام الشافعي أنه قد بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه اشترى بدرهمين لحماً فقال : هذه أضحية ابن عباس (1) .
ورواه البيهقي بإسناده عن عكرمة مولى ابن عباس : كان إذا حضر الأضحى أعطى مولىً له درهمين فقال : اشتر بهما لحماً وأخبر الناس أنه أضحى ابن عباس (2) .
7. وروى البيهقي بإسناده عن أبي مسعود الأنصاري  قال :[ إني لأدعُ الأضحى وإني لموسر مخافةَ أن يرى جيراني أنه حتمٌ عليَّ ] (3) .
ورواه سعيد بن منصور في سننه بسند صحيح كما قال الحافظ ابن حجر (4) .
وصحح إسناده الشيخ الألباني (5) .
8. وقالوا : إن التضحية لو كانت واجبة ، لما سقطت بفوات إلى غير بدل ،كالجمعة وسائر الواجبات . ووافقنا الحنفية على أنها إذا فاتت لا يجب قضاؤها (6) .

-----------------------
(6) الفتح الرباني 13/61 .
(1) نيل الأوطار 5/125 .
(2) التلخيص الحبير 4/143 .
(3) مجمع الزوائد 4/22 .
(4) إرواء الغليل 4/352 .
(5) نيل الأوطار 5/126 .
(6) مختصر المزني مع الأم 8/283 .
(7) سنن البيهقي 9/265 .
(8) المجموع 8/383 .
(9) مجمع الزوائد 4/18 .
(10) إرواء الغليل 4/355 .
(1) مختصر المزني مع الأم 8/284 .
(2) سنن البيهقي 9/265 .
(3) المصدر السابق 9/265 .
(4) التلخيص الحبير 4/145 .
(5) إرواء الغليل 4/355 .
---------------------------------

9. واحتجوا من القياس بأنها إراقة دم لا تجب على المسافر، فلا تجب على الحاضر كالعقيقة ولأن من لم تجب عليه العقيقة ، لم تجب عليه الأضحية كالمسافر ، ولأنها أضحية لا تجب على المسافر ، فلم تجب على الحاضر ، كالواجد لأقل النصاب (7) .

أدلة القائلين بوجوب الأضحية :
1. احتجوا بقوله تعالى } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { سورة الكوثر الآية 2 .
قال الكاساني :[ ولنا قوله عز وجل } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { ، قيل في التفسير: صل صلاة العيد وانحر البدن بعدها .
وقيل صل صلاة الصبح بجمعٍ – مزدلفة – وانحر بمنى ومطلق الأمر للوجوب في حق العمل ومتى وجب على النبي  يجب على الأمة لأنه قدوة الأمة ] (1) .
قال التهانوي :[ ومما يدل على وجوبها ما رواه الطبري في تفسيره : حدثنا ابن حيمد … عن أنس بن مالك قال : كان النبي  ينحر قبل أن يصلي فأُمِرَ أن يصلي ثم ينحر - أراد قوله تعالى } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { - وسنده حسن … .… قال ابن جرير حدثنا ابن عبد الأعلى … عن قتادة } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { ، قال : صلاة الأضحى ، والنحر نحر البدن ، وسنده صحيح .
وحدثنا ابن حميد … عن الربيع } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { ، قال : إذا صليت يوم الأضحى فانحر ، وسنده حسن …
ودلالتها على وجوب صلاة العيد ونحر البدن ظاهرة ، ولولا أنه  قال :( من وجد سعة فلم يضح فلا يقربنَّ مصلانا ) وفيه تقييد الوجوب بالسعة لقلنا بوجوبها على كل مسلم بالأمصار مثل الصلاة ] (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وأمَّا الأضحية فالأظهر وجوبها أيضاً ، فإنها من أعظم شعائر الإسلام ،وهي النسك العام في جميع الأمصار ،والنسك مقرون بالصلاة ، في قوله تعالى } إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين { ، وقد قال تعالى } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { فأمر بالنحر كما أمر بالصلاة .
وقد قال تعالى :} وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ { وقال تعالى :} وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ {.
وهي من ملة إبراهيم الذي أمرنا باتباع ملته ، وبها يذكر قصة الذبيح ، فكيف يجوز أن المسلمين كلهم يتركون هذا لا يفعله أحد منهم ، وترك المسلمين كلهم هذا أعظم من ترك الحج ، في بعض السنين (1) .
2. واحتجوا بما ورد في الحديث عن البراء  قال :( ذبح أبو بردة قبل الصلاة فقال له النبي  : أبدلها . قال : ليس عندي إلا جذعة – قال شعبة: وأحسبه قال هي خيرٌ من مسنَّة – قال : اجعلها مكانها ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك ) رواه البخاري ومسلم(2).
قال التهانوي :[ … بل الظاهر من الأمر بالإبدال دلالته على الوجوب ](3).
3. واحتجوا بحديث جندب بن سفيان البجلي  قال :( شهدتُ مع النبي  يوم النحر، فقال : من ذبح قبل أن يصلي فليعدْ مكانها أخرى ومن لم يذبح فليذبح ) متفق عليه .
قالوا : قوله ( فليعد ) وقوله ( فليذبح ) كلاهما صيغة أمر وظاهر الأمر الوجوب .
4. احتجوا بما روي في الحديث :( ضحوا فإنها سنَّةُ أبيكم إبراهيم عليه الصلاة السلام ) رواه ابن ماجة والبيهقي.
قال الكاساني :[ أمر عليه الصلاة والسلام بالتضحية والأمر المطلق عن القرينة يقتضي الوجوب في حق العمل ] (4) .
5. واحتجوا بما ورد في الحديث عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  :( من وجد سَعَةً فلم يضح فلا يقربنَّ مصلانا ) رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1) .
قال الكاساني :[ وهذا خرج مخرج الوعيد على ترك الأضحية ، ولا وعيدَ إلا بترك الواجب ] (2) .
------------------------------
(6) المجموع 8/386 .
(7) الحاوي 15/72 .
(1) بدائع الصنائع 4/193 ، وانظر تحفة الفقهاء 3/81 ، الاختيار 5/16-17 ، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 2/641 .
(2) إعلاء السنن 17/241-240 .
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 23/162 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 12/108 ،صحيح مسلم بشرح النووي 5/98 – 99 .
(3) إعلاء السنن 17/246 .
(4) بدائع الصنائع 4/194 .
(1) المستدرك 4/258 ، الفتح الرباني 13/58 ، سنن ابن ماجه 2/1044 ، سنن البيهقي 9/ 260 ، سنن الدار قطني 4/276.
-----------------------------------

6. واحتجوا بحديث عامر أبي رملة عن مخنف بن سليم قال :( ونحن وقوف مع رسول الله  بعرفات قال : يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد (3) .
وقال الترمذي :[ هذا حديث حسن غريب ، لا نعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه من حديث ابن عون ] (4) .
ووجه الشاهد فيه أن كلمه على للإيجاب كما هو الأصل (5) .
7. واحتجوا بما ورد في الحديث عن علي عن النبي  قال :( أيها الناس ضحوا واحتسبوا بدمائها ، فإن الدم وإن وقع في الأرض فإنه يقع في حرز الله عز وجل ) رواه الطبراني في الأوسط (6) .
وفيه الأمر بالأضحية وأصله للوجوب (7) .
8. واحتجوا بما ورد في الحديث عن معاذ بن جبل  قال :( كان رسول الله  يأمر أن نضحي ويأمر أن نطعم منها الجار والسائل ) والأمر يدل على الوجوب (8) .
9. واحتجوا بما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت :( يا رسول الله : أأستدين وأضحي؟
قال : نعم فإنه دينٌ مقضيٌ ) رواه الدار قطني والبيهقي (1) .
10. واحتجوا بمواظبة النبي  على الأضحية ، والمواظبة على الفعل تدل على الوجوب .
قال التهانوي :[ ومما يدل على الوجوب قول ابن عمر  :( أقام رسول الله  بالمدينة عشر سنين يضحي ) رواه الترمذي وحسنه .
وقوله ( ضحى رسول الله  والمسلمون بعده ) كما تقدم .
والمواظبة على فعل دليل الوجوب لا سيما إذا أقرنت بالوعيد على تركه ، وأيُّ وعيدٍ أشدُ من قوله  :( من وجد سَعَةً فلم يضح فلا يقربنَّ مُصلانا ) ] (2).
11. قالوا إن الأضحية قربة يضاف إليها وقتها ، يقال يوم الأضحى ، وذلك يؤذن بالوجوب ، لأن الإضافة للاختصاص ، ويحصل الاختصاص بالوجود ، والوجوب هو المفضي إلى الوجود ظاهراً بالنظر إلى جنس المكلفين ، لجواز أن يجتمعوا على ترك ما ليس بواجب ، ولا يجتمعوا على ترك الواجب ، ولا تصح الإضافة باعتبار جواز الأداء فيه ، ألا ترى أن الصوم يجوز في سائر الشهور ، والمسمى بشهر الصوم رمضان وحده ، وكذا الجماعة تجوز في كل يوم ، والمسمَّى بيوم الجمعة يوم واحد ، ولأن الإضافة إلى الوقت لا تتحقق إلا إذا كانت موجودة فيه بلا شك ، ولا تكون موجودة فيه بيقين ، إلا إذا كانت واجبة (3) .
مناقشة وترجيح:
بعد إجالة النظر والفكر في أدلة العلماء في هذه المسألة ، يظهر لي رجحان قول جمهور أهل العلم بأن الأضحية سنةٌ مؤكدةٌ ، وليست واجبة .
ويوضح هذا الترجيح الأمور التالية :
1. إن الاستدلال بقوله تعالى:} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { ، على وجوب الأضحية غيرُ مُسلَّم ، لأن الآية محتملة ، وقد اختلف العلماء في تفسيرها فمنهم من قال : أقم الصلاة المفروضة عليه كذا رواه الضحاك عن ابن عباس .
وقال قتادة وعطاء وعكرمة } فَصَلِّ لِرَبِّكَ { ، صلاة العيد يوم النحر } وَانْحَرْ { نسكك
وورد عن علي  أن المعنى : ضع اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة .

وقيل إن المعنى يرفع يديه في التكبير إلى نحره .
وقيل إن المعنى استقبل القبلة بنحرك .
-------------------------------------
(2) بدائع الصنائع 4/194 .
(3) الفتح الرباني 13/58 ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/340 ، سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/92 ، سنن النسائي 7/167 ، سنن ابن ماجه 2/1045 .
(4) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/92 .
(5) انظر بدائع الصنائع 4/194 .
(6) مجمع الزوائد 4/17
(7) إعلاء السنن 17/245 .
(8) المصدر السابق 17/239 .
(1) سنن البيهقي 9/262 ، سنن الدار قطني 4/283 ، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 2/642 .
(2) إعلاء السنن 17/244 .
(3) تبيين الحقائق 6/3 ، وانظر الهداية 8/427-430 .
----------------------------------