نتابع: رسالة ماجستير / دور بريطانيا في بلورة المشروع الصهيوني 1656-1917 - 2 -,
رسالة ماجستير للأستاذ نهاد الشيخ خليل
الفصل الأول
موقف بريطانيا من اليهود في عصر الإصلاح الديني
المبحث الأول: الإصلاح البروتستانتي في أوروبا
المبحث الثاني: انفصال إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية
المبحث الثالث: ثورة البيوريتان في إنجلترا
الفصل الأول
موقف بريطانيا من اليهود في عصر الإصلاح الديني
تسلم آل تيودور الحكم في إنجلترا في نهايات القرن الخامس عشر، وتحديداً سنة 1485م، عندما تمكن هنري السابع من اعتلاء عرش إنجلترا. وتمكن الملك الجديد من بناء دولة قوية يسيطر ملكها على الأوضاع الداخلية فيها بشكل جيد( ). وفي عهد هذه الأسرة حدث انفصال الكنيسة الإنجليزية عن الكنيسة الكاثوليكية في روما( )، وبدأ عهد الإصلاح البروتستانتي في إنجلترا( ).لكن الحديث عن الإصلاح الديني في إنجلترا يتطلب توضيح ظروف الكنيسة الكاثوليكية التي انفصلت عنها إنجلترا، ومعرفة حيثيات الإصلاح الديني في أوروبا بشكل عام وكيف تأثرت به بريطانيا، خاصة وأن الإصلاح الديني كان له أثر كبير في تغيير موقف الأوروبيين، ومن ثمّ الإنجليز، من اليهود. وهذا ماسيتناوله الفصل الحالي،حيث سيتطرق المبحث الأول لموضوع الإصلاح البروتستانتي في أوروبا إذ سيبدأ بتمهيد عن المسيحية وما طرأ عليها من انحرافات استدعت قيام حركات الإصلاح الديني. أما المبحث الثاني فسيعالج الكيفية التي انفصلت بها إنجلترا عن الكنيسة الأم في روما. والمبحث الثالث سيتابع تطورات وتفاعلات الإصلاح الديني في إنجلترا والتي بلغت أوجها في منتصف القرن السابع عشر حيث نجح أتباع المذهب البروتستانتي من إثارة موضوع السماح لليهود بالعيش في بريطانيا من جديد.
المبحث الأول
الإصلاح الديني في أوروبا
الديانة المسيحية هي ديانة سماوية أُنزلت على عيسى عليه السلام مكملة لرسالة موسى عليه السلام، ومتممة لما جاء في التوراة من تعاليم، وموجهة خاصة لبني إسرائيل. لكن اليهود لم يقبلوا دعوة عيسى عليه السلام بل ناصبوه العداء( ). ولم تكترث الدولة الرومانية بدعوة عيسى عليه السلام في البداية، لأن دعوته موجهة لبني إسرائيل فقط. لكن الأمر لم يستمر على هذا الحال إذ سرعان ما تبدل الحال، وانتهى الأمر بمحاكمته بتهمة الخيانة والسعي إلى صلبه. ويزعم النصارى أنه صُلب وقُتل( )، ولكن الحقيقة أن الله نجّاه من كيدهم ورفعه إليه.
واستمرت الدعوة بعد عيسى عليه السلام، ورفع لواءها حواريوه، واستمرت محاربتهم واضطهادهم من جانب الأباطرة الرومان( )، ولم يُرفع الاضطهاد عنهم إلا بصدور مرسوم ميلان 313( ) حيث تم الاعتراف بالمسيحية من قبل الإمبراطورية الرومانية. وخلال تلك القرون الثلاثة كان هناك صراع يدور بين حواريي عيسى عليه السلام والجماعات المؤيدة لهم، وبين تيار نصراني آخر بقيادة بولس( ) (5-67م) Paul، الذي كان يهودياً متعصباً ضد النصارى، وممن شاركوا في اضطهادهم( )، ثم انقلب فجأة ليدافع عنهم مدعياً أنه تلقى وحياً ضمنّه فيما يُعرف بالرسائل المنسوبة إليه. واستمر هذا الصراع حتى تغلب تيار بولس وأُسكت صوت التوحيد. وظهرت نصرانية مستندة إلى تعاليم بولس التي استمدها من الفلسفات القديمة والديانات الوثنية. فأدخل في النصرانية تأليه المسيح وعقيدة التثليث وغيرها من العقائد، لكن النصارى يعتبرون بولس من أهم وأعظم شخصياتهم التاريخية والدينية، وينسبون له حوالي كتابة ثلث العهد الجديد ( ).
قرر بولس أن النصرانية ليست مذهباً يهودياً خاصاً ببني إسرائيل، بل هي دين جديد وأن عليها أن تجعل دعوتها مفتوحة لغير اليهود( )، وورد في الكتاب المقدس في سفر أعمال الرسل ( 9: 15) أن الله أمر بولس بتوسيع الدعوة لتشمل الأمم " فأمره الرب: اذهب فقد اخترت هذا الرجل ليكون إناء يحمل اسمي إلى الأمم والملوك وبني إسرائيل". وتساهل بولس في الكثير من التشريعات والعقائد والطقوس، وجاء بنصرانية جديدة خالف بها دعوة عيسى عليه السلام، وما زال العالم المسيحي، في معظمه، يعيش على معتقدات هذا الرجل الذي حرّف بها النصرانية الموحدة( ).
وبعد ذلك اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية على مذهب بولس. ومنح بولس وأتباعه حرية العبادة، كما أن المجامع النصرانية التي انعقدت تحت سلطة الإمبراطور ووفقاً لتوجيهاته، انحازت لآراء بولس وطاردت الموحدين والمخالفين للكنيسة في الرأي( ). وبحلول سنة 392 أصبحت النصرانية الديانة الرسمية للدولة الرومانية وانتشرت على إثر ذلك في أوروبا الغربية جميعها، بل إن تاريخ أوروبا ارتبط في مساره العام بالنصرانية. ولم يلبث أن بدأ الضعف يدب في أوصال الإمبراطورية الرومانية. وفقد آخر إمبراطور روماني سلطته سنة 476، وحينها انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين: الشرقية والغربية. واستولى على الأخيرة القبائل الجرمانية التي قسمتها إلى ممالك صغيرة، لكن أوروبا الغربية بقيت موحدة دينياً. وتبع الانقسام السياسي انقساماً دينياً، فأصبح هناك كنيسة شرقية مركزها القسطنطينية، وأُخرى غربية مركزها روما. ويُعرف أتباع الكنيسة الشرقية بالأرثوذكس، وينتشرون في روسيا وبعض دول البلقان بينما يُعرف أتباع الكنيسة الغربية بالكاثوليك، ويعيشون في إيطاليا وبلجيكا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال.
وفي العصور الوسطى طغت سلطة الكنيسة، ومارست أبشع أنواع الاضطهاد والظلم. فبالإضافة إلى ما أدخلته الكنيسة من تحريف في العقائد وانحرافات أعطتها قدسية من خلال المجامع الكنسية، فقد مارست الكنيسة أنواعاً من الطغيان الروحي والعقلي، فجعلت لنفسها حق التفرد بمعرفة أسرار العقيدة وفهم الكتاب المقدس، وربطت الكنيسة إيمان الناس بها من غير فهم ولا مناقشة، فحجبت العقول عن التفكير وفهم الدين، بل منعت الناس من التفكير في مسائل الكون والحياة وفقاً لما يقتضيه العلم من الملاحظة والمشاهدة. ونشأت دواوين التحقيق تصادر كل رأي مخالف لما تقرره الكنيسة من أفكار. ومارست الكنيسة ألواناً من الطغيان المادي بما فرضته من ضرائب وإتاوات على الأراضي والناس. وأعطت الكنيسة لنفسها حق منح صكوك الغفران للمسيحيين مقابل دفعهم مبالغ مالية لقاء ذلك، وساد في أوساط الكنيسة نوع من الفساد الأخلاقي والانغماس في الترف والملذات( ).
بلغ النفوذ البابوي ذروته في القرن الثاني عشر والثالث عشر، لكن مركز البابا تعرض لهزة عنيفة عندما جمع بين كونه صاحب السلطة الدينية الروحية وبين كونه حاكماً دنيوياً، وأصبح له بلاط ملئ بالترف والانحراف. ثم فقدت البابوية هيبتها في القرن الرابع عشر خاصة بين سنتي 1305-1377 عندما اعتلى عرش البابوية باسم البابا كليمنت الخامس( ) (1264-1314) Clement V، ورأى البابا الجديد أن يبقى في فرنسا وتمت مراسم توليته في ليون بدلاً من روما، وجعل مدينة أفينون( ) Avignon مقراً له، وبقيت البابوية هناك خاضعة للملكية الفرنسية حوالي اثنتين وسبعين سنة. وبذلك فقدت البابوية الكثير من هيبتها وزعامتها العالمية( ). وازداد انهيار مركز البابوية سنة 1378م عندما حدث الانقسام البابوي العظيم (1378-1417) وتم انتخاب بابا في مدينة أفينون الفرنسية بالإضافة إلى بابا روما( ).
ورغم أن حالة الانقسام قد انتهت، وتوحدت البابوية من جديد في روما وحُسم الخلاف وانتهت حالة الانقسام. لكن المشكلة لم تنته الأمر الذي دفع المفكرين للبحث في الموقف والمطالبة بالإصلاح الديني. وقد مرت عملية الإصلاح بمرحلتين. وتتمثل المرحلة الأولى في محاولات إصلاح الكنيسة من الداخل، حيث برزت مجموعة من المصلحين الذين فضحوا فساد الكنيسة وانتقدوا احتكارها لتفسير نص الكتاب المقدس، وساهموا في إحياء اللغة العبرية باعتبارها المفتاح الرئيسي لفهم الكتاب المقدس، كما قاموا بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات المحلية في بعض الدول الأوروبية، ومن أشهر هؤلاء المصلحين جون وايكليف، وإرازموس( ) (1466-1536م). وكان من نتائج دعوات الإصلاح في المرحلة الأولى أن خلقت أجواءً معارضة لمسلكيات الكنيسة والكثير من مفاهيمها، رغم أن هؤلاء المصلحين لم يقصدوا الخروج على الكنيسة الكاثوليكية، وكانوا يعتقدون بسمو مكانة البابا( ).
ولما فشلت عملية الإصلاح من الداخل، بدأت المرحلة الثانية من الإصلاح الديني إذ ظهر مصلحون يطالبون بالإصلاح إما قسراً أو اختياراً، وكان مارتن لوثر أول زعمائها وأبرزهم وأشدهم تأثيراً في تاريخ الإصلاح الديني، وقد بدأت حركته في ألمانيا. وهنا تجدر الإشارة إلى أن لوثر كان معاصراً لعدد من المصلحين الذين يمثلون الاتجاه الإصلاحي الأول الذي يركز الاهتمام على الإصلاح من الداخل مثل إرازموس. لكن تضافرت مجموعة من العوامل ساعدت مارتن لوثر على تبني توجهاً جذرياً، كما هيّأت الأجواء أمام ألمانيا لكي تكون مهداً لحركة الإصلاح الديني الجذري. ويتمثل أول هذه العوامل في ظهور عدد من المفكرين أمثال إرازموس ، الذين انتقدوا البابوية واهتموا باللغة العبرية وترجمة الكتاب المقدس قبل أن يبدأ لوثر حركته، كما أن اختراع الطباعة في ألمانيا ساعد على نشر أفكارهم( ).
أما العامل الثاني فيرجع إلى انقسام ألمانيا إلى ولايات كثيرة تتبع إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة من الناحية الإسمية فقط. الأمر الذي ساعد على انتشار أفكار لوثر. والسبب الثالث فيعود إلى أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والروحية تجمعت في مطلع العصور الحديثة. والطبقة المتوسطة كانت تحاول تأكيد مكانتها وترسيخ حقوقها في المجتمع الألماني( ). ويضاف إلى ما تقدم سبباً رابعاً يتعلق بوجود طبقات اجتماعية مثل الفرسان والنبلاء الذين كانوا ساخطين بسبب ما آلت إليه ظروفهم في بداية العصور الحديثة، حيث تراجعت مكانتهم كنتيجة للتطورات الاقتصادية إذ أصبحت التجارة هي النشاط الاقتصادي الرئيسي بدلاً من الزراعة، الأمر الذي جعلهم يؤيدون أي عمل معادي للكنيسة لأن من شأنه أن يعوضهم بعض ما خسروا جراء التطورات الاقتصادية( ). ويتضح مما تقدم مدى الإجماع في ألمانيا ضد الكنيسة الكاثوليكية، ولهذا يمكن القول أن حركة مارتن لوثر جاءت كحركة تعبير جماعية عن إرادة الشعب في تغيير الأوضاع الدينية السائدة.
ظهر مارتن لوثر في هذه البيئة القلقة فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا والمليئة بالشكوك تجاه الكنيسة وكل الفئات المسيطرة على موارد الشعب الألماني. ولولا هذه الظروف والأجواء التي أحاطت بجهود لوثر لما كان باستطاعته إلا أن يكون "شهيداً جديداً على مقصلة الكنيسة" كما ذكر المؤرخ جون ديلبنبرغر( ). وأبدى اهتماماً في بداية حياته بالتأمل في مسائل العقيدة المسيحية وكيفية تكفير الذنوب. وفي سنة 1510م زار روما واطلع على فساد البابوية فأصيب بصدمة، وزادت شكوكه وتعاظم بحثه إلى أن اهتدى إلى نظرية بعثت في نفسه الهدوء والرضا والطمأنينة( ). وتتلخص نظريته في أن الإيمان المطلق برحمة الله، وإسداء الحمد والشكر من قلب طاهر سليم إلى العليّ القدير تكفل النجاة من العقاب، أما الطقوس فليست كافية للخلاص من الخطايا. وسُمّيت نظريته بعقيدة التبرير بالإيمان( ).
وعاش لوثر عدة سنوات يبشر بهذه العقيدة بين تلاميذه بهدوء. وفي سنة 1517م أرسل البابا ليو العاشر( ) الراهب تتزل( ) ليبيع صكوك الغفران( ) في مقاطعة سكسونيا شمال ألمانيا حيث يعيش لوثر، فقرر الأخير أن يعلن احتجاجه على الملأ. وانتهز الاجتماع العادي في كنيسة فتمبرج، وعلّق على باب الكنيسة احتجاجاً طويلاً مكوناً من 95 مادة ضد صكوك الغفران( ). وجاء في هذا الاحتجاج أن الغفران منوط برحمة الله وحدها، وليس من شأن البابا. ثم دعا من شاء من العلماء لمناقشة الحجج التي ساقها، وأكد لوثر أن الكتاب المقدس هو المرجع الأساسي في تفسير العقائد، وأن كل شخص مثقف باستطاعته أن يقرأه، وهو حر في تفسيره، وليس للبابا الحق في احتكار تفسيره، وكذلك يجب إباحة الزواج للقسس، وإخضاع رجال الدين للسلطة الزمنية( ).
وفي مقابل تصرف مارتن لوثر أصدر البابا ليو العاشر قراراً بالحرمان ضد لوثر، فقام لوثر بحرق القرار علانية أمام الناس في فيتمبرج، وبذلك انقطعت كل صلة بين لوثر والكنيسة، وتفاقم الأمر حتى أن البابا طلب من الإمبراطور شارل الخامس أن يلقي القبض على لوثر وقمع حركته، وتنفيذ قرار الحرمان الصادر ضده باعتباره مارقاً خارجاً على المسيحية. وصدر حكم بإهدار دم لوثر عام 1521لولا تدخل الأمير فريدريك حاكم سكسونيا ووضعه تحت حمايته في قلعة حصينة شمال ألمانيا، وخلال مكوثه في القلعة ترجم الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية( )، وكان لهذه الترجمة أثر كبير في إحياء الأدب الألماني ووعي الناس بالدين. واستفادت حركة الإصلاح الديني من الحماية التي وفرها أمراء شمال ألمانيا وعلى رأسهم فريديك حاكم سكسونيا خاصة وأن الإمبراطور شارل الخامس لم يتعامل بجدية بشأن تنفيذ قرار الحرمان الذي أصدرته الكنيسة بحق مارتن لوثر بسبب الخلافات بين الإمبراطور والبابا( )، وبسبب انشغال الامبراطور في حرب الدولة العثمانية على الحدود الشرقية لامبراطوريته( ).
استفادت حركة الإصلاح الديني في ألمانيا من عدم جدية الإمبراطور في مواجهتها، وأخذت تمتد وتكتسح معظم طبقات المجتمع الألماني. وانفجرت عدة ثورات مؤيدة للإصلاح الديني، وساهمت في تحريكها الظروف الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة، واتخذت العنف وسيلة للوصول إلى أهدافها، فقامت ثورتان خطيرتان تصادم الشعب مع السلطة خلالها مما أزعج لوثر وجعله يخرج من مخبئه ليعلن أنه برئ من اتخاذ العنف وسيلة لتحقيق الهدف. وكان أهم هذه الثورات حرب الفرسان وثورة الفلاحين( ).
بخصوص حرب الفرسان، فإنهم لما ظهرت الحركة اللوثرية رأوا ضرورة انتهازها كفرصة ثمينة لاسترداد نفوذهم وثرائهم عن طريق ما نادى به لوثر من استقلال الكنيسة الألمانية عن الكنيسة في روما من الناحية المالية والإدارية. ولذلك قاموا بثورة عارمة دمروا خلالها محتويات الكنائس واعتبروا أن البابا غريب عن ألمانيا وأنه يبتز أموالها بغير وجه حق، وفي نفس الوقت اتخذ الفرسان تلك الثورة وسيلة للتخلص من أعدائهم الأمراء. لكن فشلت حركة الفرسان، وانتهوا كعامل مهم في الحياة الألمانية. واعتبر البابا أن لوثر هو المسؤول، وكذلك السلطة الألمانية اعتبرته مسؤولاً عما جرى، والأمراء أصبحوا من أعداء الثورة. وكان ذلك إيذاناً بحدوث انقسام بين طبقات المجتمع الألماني. وانتهز البابا الفرصة لكي يطالب من جديد بوجوب تطبيق قرار الحرمان ضد لوثر( ).
وكذلك وجد الفلاحون في تعاليم لوثر فرصة يجب استغلالها للمطالبة برفع المظالم الواقعة عليهم، سواء من طرف السلطة الدينية أو الزمنية، وتتمثل هذه المطالب في التخلص من سيطرة الإقطاع على الإنتاج الزراعي، وتخفيف الضرائب المفروضة على المزارعين، وتحديد إيجارات الأراضي الزراعية بشكل عادل، والعمل على إيجاد مجتمع مسيحي عادل، ومنحهم الحق في اختيار رجال الدين في مجتمعاتهم. وثورة الفلاحين عبارة عن مجموعة من الثورات التي تفجرت سنة 1524م في معظم أنحاء ألمانيا، واتخذت طابعاً عنيفاً، لكن الأمراء والنبلاء أخمدوها بلا رحمة، وألقوا القبض على زعمائها وأعدموهم، وانتهت الثورة سنة 1525م ولم تجن طبقة الفلاحين منها إلا الدمار( ).
خرج لوثر من مخبئه، ودعا الناس إلى الطاعة التامة للسلطات ونبذ وسائل العنف، وحرّض الأمراء على عدم التهاون في قمع الثورة. لكن الأمراء حقدوا عليه لأن تعاليمه هي التي غرست التطلع للحرية والمساواة في نفوس الناس، فاستعدوا عليه الإمبراطور شارل الخامس من جديد، فاستجاب لهم بسبب تفاقم الحال، وخوفاً من قيام ثورات جديدة. لكن الإمبراطور كان منهمكاً في صراع خارجي ضد فرانسوا الأول( ) (1515-1547) Francois I ملك فرنسا، وضد الأتراك الذين يهددون ممتلكات الإمبراطور في النمسا والمجر. واكتفى الإمبراطور شارل الخامس بالتهدئة الداخلية في ألمانيا حتى يضمن إرسال الإمدادات للمساعدة على وقف تقدم الأتراك، ولهذا ظل مدة طويلة لا يستطيع اتخاذ موقف حاسم ضد اللوثرية مما شجع أنصارها وقوّى ساعدهم. وكذلك كانت علاقة الامبراطور بالبابا على أسوأ حال، خاصة عندما دعا البابا كليمنت السابع( ) Clement VII في مايو 1526م إلى تكوين حلف مقدس ضد الإمبراطور بقصد القضاء على نفوذه في إيطاليا( ).
ساهم مارتن لوثر في إشاعة جو التسامح تجاه اليهود في بادئ الأمر، حيث تصور أن بإمكانه هداية اليهود وتنصيرهم. وهاجم لوثر المسيحيين الذين يضطهدون اليهود، وأدان اضطهادهم من قبل الكنيسة الكاثوليكية محتجاً بأن المسيحيين واليهود ينحدرون من أصل واحد، واعتبر أن اليهود على حق في رفض المسيحية الكاثوليكية. وقد وردت هذه الأفكار في كتابه الذي نشره سنة 1523 بعنوان "عيسى ولد يهودياً". ودفاع لوثر عن اليهودية هو جزء من نزعته التبشيرية، أي أنه غير مهتم باليهود في حد ذاتهم وإنما مهتم بهم بمقدار إمكان تنصيرهم، فهو يختتم كتابه هذا بقوله: "إذا أردنا أن نجعلهم خيراً مما هم فعلينا أن نعاملهم حسب قانون المحبة المسيحي لا قانون البابا. علينا أن نحسن وفادتهم، وأن نسمح لهم بأن يتنافسوا، وأن نتيح لهم الفرصة لفهم الحياة والعقيدة المسيحية، وإذا أصر بعضهم على عناده فما الضرر في ذلك؟ فنحن أنفسنا لسنا جميعاً مسيحيين صالحين"( ).
لكن موقف لوثر تغير في أواخر الثلاثينات، إذ اتخذ موقفاً متطرفاً من اليهود يفوق في تطرفه موقف الكنيسة الكاثوليكية. ونشر سنة 1542م كتاب بعنوان "اليهود وأكاذيبهم"، وتضمن هذا الكتاب سيلاً من الشتائم والهجوم على اليهود إذ وصفهم بأنه خبثاء ولصوص وقطاع طرق وديدان مقززة. واستخدم لوثر في كتابه كل الاتهامات التي كانت توجه إلى اليهود في العصور الوسطى، مثل تهمة الدم وتسميم الآبار، واتهمهم بأنهم يلعنون المسيحيين في معابدهم، ووصف اليهودية بأنها أصبحت شكلاً من أشكال الوثنية. كما أوصى لوثر بضرورة إحراق معابد اليهود وتدمير منازلهم، وأن يُجمعوا كالقطيع في الحظائر حتى يتحققوا من أنهم ليسوا أسياداً في بلادهم وإنما غرباء في المنفى( ). ورغم ذلك فقد دعا لوثر في نفس الكتاب إلى عدم إعاقة اليهود عن العودة إلى أرضهم في "يهودا" أي فلسطين. وأوصى بتزويدهم بكل ما يحتاجونه في رحلتهم، لا لشئ إلا للتخلص منهم لأنهم عبء ثقيل على المجتمعات الأوروبية( ).
وخلاصة القول بشأن موقف مارتن لوثر من اليهود يتمثل في أنه بدأ ينظر إليهم، ويشيع هذه النظرة في الرأي العام الأوروبي، بطريقة مختلفة عن نظرة الكنيسة الكاثوليكية، بحيث قدّم لوثر تفسيراً مباشراً لنصوص العهد القديم. ورغم أنه بدأ في كتاباته متعاطفاً مع اليهود، وانتهى متشائماً منهم حاقداً عليهم، إلا أنه طالب بتسهيل أو على الأقل عدم إعاقة عودتهم إلى فلسطين.
يلي مارتن لوثر من حيث الأهمية في حركة الإصلاح الديني في أوروبا رجل الدين السويسري أولريخ زوينجلي( ) (1484-1531) Ulrich Zwingli، وكان لحركته الإصلاحية طابع مختلف عن تلك الموجودة في ألمانيا، وجمع بين معارضة الكنيسة الكاثوليكية وبين المطالبة بالإصلاح السياسي والاجتماعي، والتنديد بما يقترفه الحكام من مظالم تجاه الطبقات الفقيرة من الشعب. وعارض بيع صكوك الغفران كما فعل لوثر، لكنه اختلف عن لوثر في بعض المسائل الدينية مثل مسألة القربان والنظرة للكنيسة، حيث رأى زوينجلي الكنيسة مؤسسة ديمقراطية ينتخب أعضاؤها هيئة تفصل في المسائل المتعلقة بالشؤون الكنسية، بينما اعتبر لوثر أمير الولاية أو حاكم البلاد رئيساً أعلى والمهيمن على شؤون الكنيسة. وقد شارك زوينجلي في الصراعات التي قامت بين الكاثوليك والبروتستانت في سويسرا، وقُتل سنة 1531وأُحرقت جثته، وبعد وفاته تقرر احتفاظ كل مدينة من المدن السويسرية بعقيدتها( ).
واعتبر زوينجلي أن تاريخ الكنيسة لا يقتصر على فترة عيسى عليه السلام وإنما يعود لآدم، وأن سيدنا إبراهيم قام بتجديد دور الكنيسة. وبالنسبة للعلاقة بين المسيحيين واليهود فيقول: "يجب أن نكون نحن واليهود شعب واحد"( ).
وفي هذه الأثناء برز رجل الدين الفرنسي الإصلاحي جون كالفن، قرأ كالفن كتابات لوثر وتأثر بها. وغادر فرنسا سنة 1536 بسبب اضطهاد فرانسوا الأول للبروتستانت، واستقر في سويسرا حيث أصدر هناك كتابه المشهور بعنوان "تنظيمات الدين المسيحي" وهو خلاصة التعاليم البروتستانتية( ). اتفق مع البروتستانتية في الاعتماد على الكتاب المقدس وحده، وأن المسيح وحده هو الذي يشفع عند الله، وأن التبرير بالإيمان وليس بالأعمال. لكن الكالفنية اختلفت عن اللوثرية في مسألة الغفران، إذ كان كالفن يعتقد أن الغفران أمر قدري، والخلاص منحة يقدمها الله لمن يشاء بصرف النظر عن فضائلهم ونقائصهم. ورفض كالفن خضوع الكنيسة للدولة، أو أن يسن الملك تشريعات خاصة بالدين، وكان كالفن يطمح إلى قيام مجتمع مسيحي روحاني( )، بينما لوثر جعل الملك أو الأمير الرئيس الأعلى للكنيسة.
أما جون كالفن فلا يتسم فكره بهذا الوضوح والعنف، فلم يكن لديه علاقة كبيرة باليهود سواء في فرنسا أو في سويسرا. لكن أثر كالفن على اليهود يظهر بشكل غير مباشر من خلال اهتمامه بالعهد القديم والدعوة إلى تعميم قراءته وتفسيره اهتماماً كبيراً، وقد ساهم هذا الأمر في نشر أساطير التوراة المتعلقة باليهود والتي تتحدث عن إقامة مملكة الله في الأرض، وعودة اليهود إلى الأرض المقدسة في فلسطين( ).
يتضح مما تقدم أن حركة الإصلاح الديني في أوروبا انطوت في محصلتها النهائية على ثلاثة أبعاد رئيسية. ويمكن تقسيم هذه الأبعاد إلى:
1-البعد القومي، الذي يتمثل في تحقيق الاستقلال الديني وما ينطوي عليه من استقلال سياسي وفوائد مالية للبلد.
2-البعد الإصلاحي الداخلي في كل دولة وفي داخل الكنائس أيضاً.
3-والبعد الثالث هو المتمثل في الانفتاح على العهد القديم المترجم الأمر الذي حسّن صورة اليهود في أوروبا.
وبالطبع فإن إنجلترا جزء من أوروبا، فهل كان للإصلاح الديني أي أثر على موقف البريطانيين من اليهود؟! هذا ما سنناقشه في المبحثين التاليين.
المبحث الثاني
انفصال الكنيسة الإنجليزية عن روما
تمكن مؤسس أسرة ثيودور هنري السابع (1485-1509م) من بناء دولة قوية حيث أنهى عهداً طويلاً من الحروب الإقطاعية والنزاع بين الأسر الإقطاعية، وكان عهده فاتحة لعصر تقدم اقتصادي كبير قام على سواعد الطبقة الوسطى، التي استفادت من الكشوف الجغرافية وحركة النهضة وإحياء العلوم، فانصرف الناس للكسب والعلم والتجارة، وأصبح الملك صاحب الحل والعقد في الشؤون السياسية( ). كما استطاع هنري السابع من استخدام البرلمان أداة طيعة في يده، وأصدر مجموعة من القوانين لتدعيم الملكية مثل قانون تأسيس غرفة النجم Star Charte سنة 1487م( )، وهي محكمة ذات صلاحيات واسعة لمراقبة تصرف النبلاء ومحاكمتهم، وقانون لمحاكمة المعارضين لحكومة الملك( ). وهكذا استطاع هنري السابع أن يؤسس ملكية ذات سلطة مطلقة على الصعيد الداخلي.
أما على الصعيد الخارجي فلم يهتم هنري السابع بالحروب، بل اتجه للتقارب مع أسبانيا عن طريق مصاهرة ملكها. ففي سنة 1501 زوّج هنري السابع ابنه آرثر بالأميرة كاترين بنت فرديناند ملك أسبانيا( ). ولم يدم هذا الزواج طويلاً إذ مات آرثر بعد خمسة شهور من زواجه، فعقد هنري السابع زواجاً ثانياً لابنه هنري (الذي عُرف بعد ذلك باسم الملك هنري الثامن) على كاترين زوجة أخيه الراحل، وكان ذلك منافياً لقوانين الكنيسة، ومع ذلك فقد منحه البابا إذناً بذلك( ).
وعندما تولّى هنري الثامن (1509-1547م) Henry viii الحكم بعد والده ركز اهتمامه على العلاقة بالكنيسة في روما، ويمكن القول أن الإصلاح الديني يُعتبر أبرز ما حدث في عصر هنري الثامن، وبدأ هذا الانفصال سياسياً ثم تحوّل دينياً. وكان هنري الثامن كاثوليكياً متعصباً عارض أفكار لوثر في البداية، وكتب رسالة بهذا الشأن ضمّنها أفكاره سنة 1521 فمنحه البابا "لقب حامي حمى العقيدة"( ). وقد تبنى هنري الثامن هذا الموقف المعارض للإصلاح الديني رغم أن عصره شهد وجود عدد من المصلحين الذين وجهوا انتقادات للكنيسة الكاثوليكية وطالبوا بإصلاحها( ).
بدأ هنري الثامن يعيد تقييم علاقته بالكنيسة الكاثوليكية عندما طلب من البابا كليمنت السابع Clement vii أن يُطلّق له زوجته كاترين Cathrene التي أنجب منها ابنة وحيدة تُدعى ماري Mary، فهنري لم يتزوج كاترين عن حب، وكان مغرماً بالوصيفة آن بولين لكن البابا كليمنت السابع كان قد وقع في ذلك الوقت في أسر الإمبراطور شارل الخامس، الأمر الذي جعل البابا يمتنع عن الموافقة على الطلاق لأنه لا يريد إغضاب الإمبراطور.حاول توماس ولزاي Thomas Wolseyوزير الملك هنري الثامن استصدار أمر من روما بالطلاق لكنه فشل فحقد عليه الملك وعزله( ).
عيّن الملك هنري الثامن وزيراً جديداً يُدعى توماس كرومويل Thomas Cromwell . وأشار الأخير على الملك بالانفصال عن الكنيسة الأم، ووضع كنيسة إنجلترا تحت سيادة الملك. اقتنع الملك هنري الثامن بهذا الحل واعتبر نفسه زعيماً للإصلاح( )، وحقق بذلك ثلاثة أهداف، ويتمثل الهدف الأول في طلاق كاترين والزواج من آن بولين. أما الهدف الثاني فهو تمكن الملك من الاستيلاء على الأموال التي كانت تُرسل في الأصل إلى كنيسة روما. والهدف الثالث فيتجلّى في تدعيم سلطان الملك على مقاليد الدولة الحديثة بفضل سيطرته وسيادته على جميع رعاياه من علمانيين ومتدينين. وهذه هي الروح التي أشاعتها أفكار مارتن لوثر –في عصر الكشوف الجغرافية والنهضة الأوروبية- في عموم أوروبا، إذ أصبح الكثير من الملوك والأمراء والشعوب يتطلعون للاستقلال القومي والسياسي والديني، نظراً لما يمثله الأخير من ثروة طائلة كانت تذهب للكنيسة الأم في روما.
وكان الشعب الإنجليزي متحمساً للإصلاح بسبب إطلاعه على مساوئ الكنيسة، إضافة إلى تأييده إلى مسعى الملكية لتدعيم سلطانها وما يوفره هذا من أمان خاصة بعد الفوضى التي عانت منها البلاد في حرب الوردتين، ولأن الشعب الإنجليزي فضّل زوال سلطة البابا لأنها سلطة أجنبية وليست سلطة قومية. وساعد على تأييد الإصلاح أن المنادين به لم يهاجموا الكاثوليكية، والبرلمان أيد الملك في الإصلاح ولم يتعرض بسوء للكاثوليكية( ).
ومنذ نوفمبر 1529م انعقد البرلمان الإنجليزي لمدة سبع سنوات متتالية، وكان الإصلاح الديني هو همه الأول، فقد أصدر عدة قوانين كان هدفها إصلاح مساوئ الكنيسة وإخضاع رجال الدين في إنجلترا لسلطة الملك. واشتدت الحملة لتحقيق هذه الأهداف وبدأت بإصدار البرلمان قانون منع إرسال الأموال إلى روما، وأخر يمنع الكنيسة في إنجلترا من التصرف في شؤونها بغير موافقة الملك، وقانون يُحرّم تعيين الأقارب في الوظائف الكنسية( ).
وفي سنة 1533م أصدر الملك مرسوماً بتعيين توماس كرانمر Thomas Cranmer رئيساً لأساقفة كنتربري، وقد رفض البابا كليمنت السابع Clement vii الموافقة على تعيينه، لكن هنري الثامن لم يعبأ برفض البابا، واستصدر قراراً من كرانمر بإلغاء زواجه من كاترين والموافقة على زواجه من آن بولين( ). وبعد ذلك بأسابيع أصدر البابا قرار الحرمان ضد هنري الثامن، الذي كان قد تزوج من أن بولين سراً قبل أن يصدر رئيس أساقفة كانتربري موافقته الرسمية، وأنجب منها إليزابيث (فيما بعد الملكة إليزابيث) التي جعلها وريثة العرش من بعده، وألغى حق ابنته ماري التي أنجبها من زوجته الأولى كاترين( ).
وفي نوفمبر 1534م أصدر البرلمان "قانون السيادة العليا" Act of Supermacy الذي نص على أن الملك هو الرئيس الأعلى للكنيسة الإنجليزية، وله كل السلطات الروحية والقانونية التي كان البابوات يتمتعون بها في إنجلترا، ومعاقبة كل من يعترض على شخص الملك وحقوقه( ). ثم صدر قانون "حل الأديرة"( )، وتم حل حوالي 600 دير ذهبت ممتلكاتها البالغة حوالي خمس الأراضي الزراعية في إنجلترا للملك، وينطبق نفس الأمر على إيرادات هذه الأديرة وثرواتها المنقولة الأمر الذي ترتب عليه ازدياد قوة الملكية( ). وعلى الأثر أقدم الملك هنري الثامن على اتخاذ عدة قرارات لتقوية الدولة فأنشأ أسطولاً قوياً وحصّن الشواطئ ، واستطاع أن يشن حرب على فرنسا (1543-1546م)، ووحّد شمال إنجلترا وجنوبها، وحاول قبيل موته أن يضم اسكتلندا إلى التاج لكنه فشل( ).
وقد أدت الحياة العائلية المتغيرة للملك هنري الثامن إلى تغيير نظام الوراثة، فقد تخلص من زوجته آن بولين( ) Anne Boleyn، وتزوج بعدها بثلاث أخريات متتاليات. لكنه أنجب إدوارد من جين سيمون، واستصدر قراراً من البرلمان يجعل له وراثة العرش، فإذا مات من غير وريث خلفته أخته ماري بنت كاترين، فإذا لم يكن لها وريث خلفتها أختها إليزابيث. وهكذا انتقل العرش من بعده إلى ابنه إدوارد، الذي حمل لقب إدوارد السادس، سنة 1547م( ).
كان إدوارد السادس ابن عشر سنوات، فتولى خاله إرل هرتفورد Earl Hertford، وأُطلق عليه دوق سمرست Duke Somerset، وكان هذا بروتستانتياً، ولذا ألغى كل القوانين السابقة التي اضطهدت البروتستانت، ثم تحول لمناهضة الكاثوليك، وأغلق كثيراً من كنائسهم، وحوّل دخلها إلى خزينة الملك( ). وفي عهد دوق سمرست سارت حركة الإصلاح الديني والتحول للمذهب البروتستانتي شوطاً كبيراً ومن ذلك إصدار كتاب الصلوات العامة Book of Common Prayers باللغة الإنجليزية( ).
لكن مركز سمرست تزعزع بسبب كثرة أعدائه خاصة على خلفية الاضطرابات الداخلية التي نشأت بسبب حركة إغلاق الحقول، وسببها أن أصحاب الأراضي الصالحة للزراعة فضلوا أن يحولوها إلى مراع للأغنام لتصدير صوفها، وأقاموا أسيجة حول الأرض، وطردوا منها المنتفعين بها من صغار المزارعين، وبذلك تحولت المساحات الزراعية الكبرى إلى حقول مسوّرة لتربية الأغنام، فسادت البطالة بين المزارعين، وكان أصحاب مزارع المواشي أكثر جشعاً من الأشراف القدامى، إذ اعتبره كبار الملاك مسؤولاً عن اضطراب البلاد، واتهموه بالتبذير في الأموال العامة، وأنه جمع لنفسه ثروة طائلة من مال الكنيسة، وكذلك غضب عليه عامة الشعب بسبب الدعايات التي دُبرت ضده، وأدى كل ذلك في النهاية إلى القبض عليه وخلعه من منصبه سنة 1549م، ثم كان نصيبه الإعدام سنة 1552م( ). خلف دوق سمرست في منصبه شخص آخر يُدعى إيرل وارويك Earl Warwickالذي عُرف بلقب دوق نورثمبلند، وهو أحد كبار الملاك، تمكن من إخماد ثورة الفلاحين، وانتشر في عهده المذهب البروتستانتي في لندن والمدن الساحلية( ). وتجدر الإشارة إلى أنه تم التركيز في عهد الملك إدوار الأول على سن التشريعات التي تشجع نشر المذهب البروتستانتي خاصة قانون المذهب الواحد The Act of Uniformityالأول والذي صدر سنة 1549 ثم جرى التأكيد عليه سنة 1552( ). وكذلك تم إصدار قانون يسمح بزواج القسس سنة 1549( )، وقانون حل الأديرة الصغيرة( ) Act dissolving The Chantries . وفي عهده تم رفع الصور من الكنائس، وحُظر التوسل للبابوات وتم نشر كتاب الصلوات العامة( ) Common Prayer Book. وتجدر الملاحظة إلى أن الاهتمام بالمذهب البروتستانتي محصور في النخبة الحاكمة والتي تستهدف من ورائه تعزيز سلطتها وإحكام سيطرتها على الكنيسة وممتلكاتها ورجالها، أما الشعب الإنجليزي فلم يكن حتى هذه اللحظة مهتماً بأي تغيير ذا طابع عقائدي، ويرجع السبب في ذلك إلى أن الشعب البريطاني ليس لديه أي تجارب احتكاك عملية مع البابوية وفسادها في روما، كما أن أياً من المصلحين الجذريين لم يسبق أن زار بريطانيا، ولهذا بقي البريطانيون بعيدون عن النقاش بشأن العقيدة المسيحية، واكتفوا من الإصلاح بمكاسبه السياسية والاقتصادية.
مات إدوارد السادس، وتولت العرش بعده أخته الملكة ماري( ) (1552-1558م)Mary ، وكانت كاثوليكية متعصبة، ولهذا فإن أول قرار اتخذته كان إعادة العلاقات مع كنيسة روما، ثم ألغت جميع القوانين الدينية التي سُنّت في عهد الملك إدوارد السادس من خلال قانون الإلغاء The Act of Repeal( ). وتزوجت الملكة ماري فيليب الثاني ملك أسبانيا، وهو كاثوليكي متعصب، الأمر الذي أثار الإنجليز، فقاموا بثورة تزعمها السير توماس وايت، لكن الملكة قضت على الثورة وأعدمت زعيمها. ثم بدأ الاضطهاد للبروتستانت، قتل وسجن وإحراق حتى لُقبت بالسفاحة( ).
وقد كان زواجها من فيليب شؤماً عليها وعلى البلاد، فلم يقبله أحد، ولم يطب له العيش فيها فغادرها إلى الأراضي المنخفضة، ولم يعد لإنجلترا إلا لإقناع الملكة ماري بأن تشترك معه في الحرب ضد فرنسا، ولبت ماري دعوته، وكانت العاقبة وخيمة على البلاد، وذلك لأن الإنجليز أغفلوا تحصين كاليه فانتزعها الفرنسيون مع نشوب الحرب سنة 1558، ولم تكتسب إنجلترا من مغامرة ملكتها سوى ضياع ميناء كاليه التي بقيت لها من فتوحاتها بالقارة الأوروبية في العصور الوسطى. وضج الشعب من سوء الحال، وزاد عدد الداخلين في المذهب البروتستانتي، فقد ارتبطت الكاثوليكية في ذهنهم بالدماء المراقة، والتضحية بالمصالح الإنجليزية في سبيل أسبانيا. وفي نفس الوقت كثر عدد الهاربين منهم إلى الدول الأوروبية الأخرى خاصة هولندا. وكان معظم الإنجليز يخشون أن تُنجب الملكة من فيليب ولياً للعهد تجري في عروقه الدماء الأجنبية، لكن الملكة ماتت قبل أن يحدث هذا الأمر. وخلفتها على العرش أختها إليزابيث بتاريخ 17 نوفمبر 1558 ( ). تجدر الإشارة هنا إلى أن الهاربين إلى داخل القارة تعرفوا على المذهب الكالفني، وهو المذهب الديني الإصلاحي الذي يولي أهمية كبيرة لقراءة العهد القديم وتفسيره بشكل حرفي بالإضافة إلى تأكيده على مقاومة ظلم الملوك والحكام، وإصلاح الكنيسة والمجتمع. فهل سيكون لهؤلاء أي أثر فيما يتعلق بالإصلاح الداخلي وموقف البريطانيين من اليهود؟!
لم تتعجل الملكة إليزابيث (1558-1603م) ، بشأن قطع العلاقات مع كنيسة روما( ). واتبعت إليزابيث سياسة الحل الوسط، وأخذت تؤسس صرح ما عُرف باسم "الكنيسة الأنجليكانية"، وأوجدت ما أسماه المؤرخون نظام إليزابيث الكنائسي الذي يستند إلى قانونين: قانون السيادة العليا The Act of Supermercy ، وقانون المذهب الواحد The Act of Uniformity( ). بخصوص القانون الأول فقد أكد أن الملك هو صاحب السيادة العليا، وأُلزم رجال الدين أن يُقسموا له يمين الولاء، وعدم الخضوع لأية سلطة أجنبية، ونص القانون على معاقبة المعارضين. أما قانون المذهب الواحد فقد أقر نوع العبادة التي تضمنها كتاب الصلوات الثاني لسنة 1552م، وأدخل تعديلات في تفصيلات العقيدة تُسهّل على المعتدلين البروتستانت والكاثوليك أن يقبلوه، وبشأن الطقوس فإنها بمقتضاه لا تتنافى مع الكاثوليكية. واعتبر هذا القانون أن زواج القسيس جائزاً مع تشجيعه( ).
ومنذ عهد إليزابيث بدأ نوع من الجدل يشغل الكنيسة، وكانت أول مذكرة وجهت للبرلمان سنة 1572 هي التي كتبها كل من فيلد Field وويلكوكس Wilcox، وتعتبر هذه المذكرة من أهم بيانات البيوريتان في ذلك الوقت، حيث أكدت المذكرة على ضرورة تنظيم أسس الحكم والعلاقة بين الكنيسة والدولة وفقاً للكتاب المقدس( ). أما المذكرة الثانية فقد صدرت في نفس العام، وكان كاتبها هو توماس كارترايت Thomas Cartwright ، حيث هاجم فيها الأساقفة، وأشار إلى أن تعاليم الكتاب المقدس تؤكد على استقلالية الكنيسة، وأن التعاليم الكالفنية الصحيحة ترفض خضوع الكنيسة للدولة( ). وتصدى في ذلك الوقت ريتشارد هوكر Richard Hooker للدفاع عن الكنيسة الأنجليكانية فهاجم البيوريتان في كتابه "السياسة الكنسية" وأكد في هذا الكتاب أن تحديد الصواب من الخطأ لا يقتصر على نص الكتاب المقدس، بل إن تراث الكنيسة والعقل الإنساني لهما دور كبير في ذلك( ). وأكد هوكر أن أمور العقيدة يحددها نص الكتاب المقدس ولكن فيما يخص العبادة والسياسة فمن حق الكنيسة أن تتبنى الأشكال التي تراها مناسبة( ). لكن برزت فئة أخرى انفصالية يُطلق عليها اسم المعمدانية Anabaptism رفضت التعاطي مع الكنيسة الأنجليكانية، ومن أبرز دعاتها روبرت براون Robert Browne الذي كان يرى أن الكنيسة مؤسسة مستقلة ينضم إليها المؤمنون تطوعاً وتتشكل وفق ميثاق يُتفق عليه بينهم. ويجب أن تبقى بعيدة عن أي تدخل خارجي، وأن تكون مستقلة عن الدولة( ).
وعلى صعيد السياسة الخارجية أيدت إليزابيث البروتستانت في الأراضي المنخفضة (هولندا وبلجيكا في صراعهما ضد الاحتلال الأسباني)، والهيجونوت (وهم بروتستانت فرنسا في صراعهم ضد الملك). وفي مقابل ذلك عمد فيليب الثاني ملك أسبانيا إلى التدخل في شؤون إيرلندا والعمل على إثارتها ضد الحكم الإنجليزي، وكذلك فقد توترت العلاقات بين إليزابيث ملكة إنجلترا وماري ستيوارت ملكة اسكتلندا، وهي زوجة فرنسوا الثاني ملك فرنسا،، وتجدر الإشارة إلى أن ماري ستيوارت كانت محور المؤامرات التي يديرها الكاثوليك ضد إليزابيث، وهدفهم الرئيس تنصيب ماري ستيوارت على عرش إنجلترا بدلاً من إليزابيث. لكن الظروف لم تخدم ماري ستيوارت التي اضطرت إلى اللجوء إلى إنجلترا عندما ثار عليها شعبها، وفي سنة 1587م تمكنت إليزابيث من إعدامها.
كانت إليزابيث حريصة على الاستقلال والسلام، لكن الخلافات مع أسبانيا بشأن الدين والتجارة والمستعمرات، حيث اشتد في هذا الوقت التنافس بشأن الكشوف الجغرافية واستعمار المناطق المكتشفة واحتكار خيراتها ، كل ذلك أدى إلى حدوث الاحتكاك خاصة عندما قام فيليب الثاني ملك اسبانيا بتأييد ماري ستيوارت في عرش إنجلترا، ومساهمته في تدبير مؤامرة لاغتيال إليزابيث لتحل محلها ماري ستيوارت. وفي الوقت نفسه كانت إليزابيث تساعد الهولنديين في ثورتهم ضد أسبانيا بالمال والسلاح ثم بالعسكر مما أشعل الحرب، وقد نفّذ فيليب عزمه بتجهيز أسطول ضخم أطلق عليه إسم "الأرمادا"( ) ِArmada. انهزم الأسبان في هذه المعركة التي وقعت سنة 1588م( )، وبهزيمة الأرمادا اكتملت عملية تحول إنجلترا إلى بلاد بروتستانتية وذلك لأن آمال الكاثوليك الإنجليز والاسكتلنديين تحطمت مع تحطم الأرمادا، وانتهت أحلام الكنيسة الكاثوليكية الرامية إلى التخلص من إليزابيث( ).
وبعد وفاة إليزابيث سنة 1603م انتقل الملك إلى أسرة ملكية جديدة هي أسرة ستيوارت. وكان ملوك أسرة تيودور قد حكموا إنجلترا حكماً مطلقاً، لكن سلطتهم استندت إلى رضا طبقة وسطى قوية كانوا أحكم من أن يبعدوها عنهم، ولذلك لم يلجأ الملوك أو مؤيديهم في تأييد الحكم المطلق لنظرية الحق الإلهي، ولم يكن يوجد من يفكر بالمقاومة، أو من يتخيل أن هنالك إمكانية لحدوث أي نزاع بين الملك والبرلمان أو المحاكم. لكن رغم ذلك كانت تتخلق في رحم المجتمع الإنجليزي بذور مشاكل خطيرة نتيجة الاضطراب الاقتصادي الخطير الذي صحب قيام التجارة الحديثة وتحطيم الاقتصاد القديم فالتجارة تطلبت تحويل الأراضي الزراعية إلى مراع وسلب الملكية من الفلاحين الذين يشغلونها. فالأغنام تستهلك مزارع كبيرة. وبينما يتضور الفلاحون جوعاً يبدي الأغنياء مظاهر ترف في المأكل والملبس والمسكن، وبدلاً من معالجة الآثار الخطيرة لظاهرة انسحاق طبقة اجتماعية وبروز طبقة أخرى على حساب الأولى، أخذت الدولة تبتز الضرائب أو تلجأ إلى مشروعات للحرب لا تعود على البلد إلا بالخسارة إما العسكرية أو المادية على الأقل، وبرز آثار هذا التحول بجلاء في عهد أسرة ستيوارت.
يتبــــــع
رسالة ماجستير للأستاذ نهاد الشيخ خليل
الفصل الأول
موقف بريطانيا من اليهود في عصر الإصلاح الديني
المبحث الأول: الإصلاح البروتستانتي في أوروبا
المبحث الثاني: انفصال إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية
المبحث الثالث: ثورة البيوريتان في إنجلترا
الفصل الأول
موقف بريطانيا من اليهود في عصر الإصلاح الديني
تسلم آل تيودور الحكم في إنجلترا في نهايات القرن الخامس عشر، وتحديداً سنة 1485م، عندما تمكن هنري السابع من اعتلاء عرش إنجلترا. وتمكن الملك الجديد من بناء دولة قوية يسيطر ملكها على الأوضاع الداخلية فيها بشكل جيد( ). وفي عهد هذه الأسرة حدث انفصال الكنيسة الإنجليزية عن الكنيسة الكاثوليكية في روما( )، وبدأ عهد الإصلاح البروتستانتي في إنجلترا( ).لكن الحديث عن الإصلاح الديني في إنجلترا يتطلب توضيح ظروف الكنيسة الكاثوليكية التي انفصلت عنها إنجلترا، ومعرفة حيثيات الإصلاح الديني في أوروبا بشكل عام وكيف تأثرت به بريطانيا، خاصة وأن الإصلاح الديني كان له أثر كبير في تغيير موقف الأوروبيين، ومن ثمّ الإنجليز، من اليهود. وهذا ماسيتناوله الفصل الحالي،حيث سيتطرق المبحث الأول لموضوع الإصلاح البروتستانتي في أوروبا إذ سيبدأ بتمهيد عن المسيحية وما طرأ عليها من انحرافات استدعت قيام حركات الإصلاح الديني. أما المبحث الثاني فسيعالج الكيفية التي انفصلت بها إنجلترا عن الكنيسة الأم في روما. والمبحث الثالث سيتابع تطورات وتفاعلات الإصلاح الديني في إنجلترا والتي بلغت أوجها في منتصف القرن السابع عشر حيث نجح أتباع المذهب البروتستانتي من إثارة موضوع السماح لليهود بالعيش في بريطانيا من جديد.
المبحث الأول
الإصلاح الديني في أوروبا
الديانة المسيحية هي ديانة سماوية أُنزلت على عيسى عليه السلام مكملة لرسالة موسى عليه السلام، ومتممة لما جاء في التوراة من تعاليم، وموجهة خاصة لبني إسرائيل. لكن اليهود لم يقبلوا دعوة عيسى عليه السلام بل ناصبوه العداء( ). ولم تكترث الدولة الرومانية بدعوة عيسى عليه السلام في البداية، لأن دعوته موجهة لبني إسرائيل فقط. لكن الأمر لم يستمر على هذا الحال إذ سرعان ما تبدل الحال، وانتهى الأمر بمحاكمته بتهمة الخيانة والسعي إلى صلبه. ويزعم النصارى أنه صُلب وقُتل( )، ولكن الحقيقة أن الله نجّاه من كيدهم ورفعه إليه.
واستمرت الدعوة بعد عيسى عليه السلام، ورفع لواءها حواريوه، واستمرت محاربتهم واضطهادهم من جانب الأباطرة الرومان( )، ولم يُرفع الاضطهاد عنهم إلا بصدور مرسوم ميلان 313( ) حيث تم الاعتراف بالمسيحية من قبل الإمبراطورية الرومانية. وخلال تلك القرون الثلاثة كان هناك صراع يدور بين حواريي عيسى عليه السلام والجماعات المؤيدة لهم، وبين تيار نصراني آخر بقيادة بولس( ) (5-67م) Paul، الذي كان يهودياً متعصباً ضد النصارى، وممن شاركوا في اضطهادهم( )، ثم انقلب فجأة ليدافع عنهم مدعياً أنه تلقى وحياً ضمنّه فيما يُعرف بالرسائل المنسوبة إليه. واستمر هذا الصراع حتى تغلب تيار بولس وأُسكت صوت التوحيد. وظهرت نصرانية مستندة إلى تعاليم بولس التي استمدها من الفلسفات القديمة والديانات الوثنية. فأدخل في النصرانية تأليه المسيح وعقيدة التثليث وغيرها من العقائد، لكن النصارى يعتبرون بولس من أهم وأعظم شخصياتهم التاريخية والدينية، وينسبون له حوالي كتابة ثلث العهد الجديد ( ).
قرر بولس أن النصرانية ليست مذهباً يهودياً خاصاً ببني إسرائيل، بل هي دين جديد وأن عليها أن تجعل دعوتها مفتوحة لغير اليهود( )، وورد في الكتاب المقدس في سفر أعمال الرسل ( 9: 15) أن الله أمر بولس بتوسيع الدعوة لتشمل الأمم " فأمره الرب: اذهب فقد اخترت هذا الرجل ليكون إناء يحمل اسمي إلى الأمم والملوك وبني إسرائيل". وتساهل بولس في الكثير من التشريعات والعقائد والطقوس، وجاء بنصرانية جديدة خالف بها دعوة عيسى عليه السلام، وما زال العالم المسيحي، في معظمه، يعيش على معتقدات هذا الرجل الذي حرّف بها النصرانية الموحدة( ).
وبعد ذلك اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية على مذهب بولس. ومنح بولس وأتباعه حرية العبادة، كما أن المجامع النصرانية التي انعقدت تحت سلطة الإمبراطور ووفقاً لتوجيهاته، انحازت لآراء بولس وطاردت الموحدين والمخالفين للكنيسة في الرأي( ). وبحلول سنة 392 أصبحت النصرانية الديانة الرسمية للدولة الرومانية وانتشرت على إثر ذلك في أوروبا الغربية جميعها، بل إن تاريخ أوروبا ارتبط في مساره العام بالنصرانية. ولم يلبث أن بدأ الضعف يدب في أوصال الإمبراطورية الرومانية. وفقد آخر إمبراطور روماني سلطته سنة 476، وحينها انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين: الشرقية والغربية. واستولى على الأخيرة القبائل الجرمانية التي قسمتها إلى ممالك صغيرة، لكن أوروبا الغربية بقيت موحدة دينياً. وتبع الانقسام السياسي انقساماً دينياً، فأصبح هناك كنيسة شرقية مركزها القسطنطينية، وأُخرى غربية مركزها روما. ويُعرف أتباع الكنيسة الشرقية بالأرثوذكس، وينتشرون في روسيا وبعض دول البلقان بينما يُعرف أتباع الكنيسة الغربية بالكاثوليك، ويعيشون في إيطاليا وبلجيكا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال.
وفي العصور الوسطى طغت سلطة الكنيسة، ومارست أبشع أنواع الاضطهاد والظلم. فبالإضافة إلى ما أدخلته الكنيسة من تحريف في العقائد وانحرافات أعطتها قدسية من خلال المجامع الكنسية، فقد مارست الكنيسة أنواعاً من الطغيان الروحي والعقلي، فجعلت لنفسها حق التفرد بمعرفة أسرار العقيدة وفهم الكتاب المقدس، وربطت الكنيسة إيمان الناس بها من غير فهم ولا مناقشة، فحجبت العقول عن التفكير وفهم الدين، بل منعت الناس من التفكير في مسائل الكون والحياة وفقاً لما يقتضيه العلم من الملاحظة والمشاهدة. ونشأت دواوين التحقيق تصادر كل رأي مخالف لما تقرره الكنيسة من أفكار. ومارست الكنيسة ألواناً من الطغيان المادي بما فرضته من ضرائب وإتاوات على الأراضي والناس. وأعطت الكنيسة لنفسها حق منح صكوك الغفران للمسيحيين مقابل دفعهم مبالغ مالية لقاء ذلك، وساد في أوساط الكنيسة نوع من الفساد الأخلاقي والانغماس في الترف والملذات( ).
بلغ النفوذ البابوي ذروته في القرن الثاني عشر والثالث عشر، لكن مركز البابا تعرض لهزة عنيفة عندما جمع بين كونه صاحب السلطة الدينية الروحية وبين كونه حاكماً دنيوياً، وأصبح له بلاط ملئ بالترف والانحراف. ثم فقدت البابوية هيبتها في القرن الرابع عشر خاصة بين سنتي 1305-1377 عندما اعتلى عرش البابوية باسم البابا كليمنت الخامس( ) (1264-1314) Clement V، ورأى البابا الجديد أن يبقى في فرنسا وتمت مراسم توليته في ليون بدلاً من روما، وجعل مدينة أفينون( ) Avignon مقراً له، وبقيت البابوية هناك خاضعة للملكية الفرنسية حوالي اثنتين وسبعين سنة. وبذلك فقدت البابوية الكثير من هيبتها وزعامتها العالمية( ). وازداد انهيار مركز البابوية سنة 1378م عندما حدث الانقسام البابوي العظيم (1378-1417) وتم انتخاب بابا في مدينة أفينون الفرنسية بالإضافة إلى بابا روما( ).
ورغم أن حالة الانقسام قد انتهت، وتوحدت البابوية من جديد في روما وحُسم الخلاف وانتهت حالة الانقسام. لكن المشكلة لم تنته الأمر الذي دفع المفكرين للبحث في الموقف والمطالبة بالإصلاح الديني. وقد مرت عملية الإصلاح بمرحلتين. وتتمثل المرحلة الأولى في محاولات إصلاح الكنيسة من الداخل، حيث برزت مجموعة من المصلحين الذين فضحوا فساد الكنيسة وانتقدوا احتكارها لتفسير نص الكتاب المقدس، وساهموا في إحياء اللغة العبرية باعتبارها المفتاح الرئيسي لفهم الكتاب المقدس، كما قاموا بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات المحلية في بعض الدول الأوروبية، ومن أشهر هؤلاء المصلحين جون وايكليف، وإرازموس( ) (1466-1536م). وكان من نتائج دعوات الإصلاح في المرحلة الأولى أن خلقت أجواءً معارضة لمسلكيات الكنيسة والكثير من مفاهيمها، رغم أن هؤلاء المصلحين لم يقصدوا الخروج على الكنيسة الكاثوليكية، وكانوا يعتقدون بسمو مكانة البابا( ).
ولما فشلت عملية الإصلاح من الداخل، بدأت المرحلة الثانية من الإصلاح الديني إذ ظهر مصلحون يطالبون بالإصلاح إما قسراً أو اختياراً، وكان مارتن لوثر أول زعمائها وأبرزهم وأشدهم تأثيراً في تاريخ الإصلاح الديني، وقد بدأت حركته في ألمانيا. وهنا تجدر الإشارة إلى أن لوثر كان معاصراً لعدد من المصلحين الذين يمثلون الاتجاه الإصلاحي الأول الذي يركز الاهتمام على الإصلاح من الداخل مثل إرازموس. لكن تضافرت مجموعة من العوامل ساعدت مارتن لوثر على تبني توجهاً جذرياً، كما هيّأت الأجواء أمام ألمانيا لكي تكون مهداً لحركة الإصلاح الديني الجذري. ويتمثل أول هذه العوامل في ظهور عدد من المفكرين أمثال إرازموس ، الذين انتقدوا البابوية واهتموا باللغة العبرية وترجمة الكتاب المقدس قبل أن يبدأ لوثر حركته، كما أن اختراع الطباعة في ألمانيا ساعد على نشر أفكارهم( ).
أما العامل الثاني فيرجع إلى انقسام ألمانيا إلى ولايات كثيرة تتبع إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة من الناحية الإسمية فقط. الأمر الذي ساعد على انتشار أفكار لوثر. والسبب الثالث فيعود إلى أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والروحية تجمعت في مطلع العصور الحديثة. والطبقة المتوسطة كانت تحاول تأكيد مكانتها وترسيخ حقوقها في المجتمع الألماني( ). ويضاف إلى ما تقدم سبباً رابعاً يتعلق بوجود طبقات اجتماعية مثل الفرسان والنبلاء الذين كانوا ساخطين بسبب ما آلت إليه ظروفهم في بداية العصور الحديثة، حيث تراجعت مكانتهم كنتيجة للتطورات الاقتصادية إذ أصبحت التجارة هي النشاط الاقتصادي الرئيسي بدلاً من الزراعة، الأمر الذي جعلهم يؤيدون أي عمل معادي للكنيسة لأن من شأنه أن يعوضهم بعض ما خسروا جراء التطورات الاقتصادية( ). ويتضح مما تقدم مدى الإجماع في ألمانيا ضد الكنيسة الكاثوليكية، ولهذا يمكن القول أن حركة مارتن لوثر جاءت كحركة تعبير جماعية عن إرادة الشعب في تغيير الأوضاع الدينية السائدة.
ظهر مارتن لوثر في هذه البيئة القلقة فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا والمليئة بالشكوك تجاه الكنيسة وكل الفئات المسيطرة على موارد الشعب الألماني. ولولا هذه الظروف والأجواء التي أحاطت بجهود لوثر لما كان باستطاعته إلا أن يكون "شهيداً جديداً على مقصلة الكنيسة" كما ذكر المؤرخ جون ديلبنبرغر( ). وأبدى اهتماماً في بداية حياته بالتأمل في مسائل العقيدة المسيحية وكيفية تكفير الذنوب. وفي سنة 1510م زار روما واطلع على فساد البابوية فأصيب بصدمة، وزادت شكوكه وتعاظم بحثه إلى أن اهتدى إلى نظرية بعثت في نفسه الهدوء والرضا والطمأنينة( ). وتتلخص نظريته في أن الإيمان المطلق برحمة الله، وإسداء الحمد والشكر من قلب طاهر سليم إلى العليّ القدير تكفل النجاة من العقاب، أما الطقوس فليست كافية للخلاص من الخطايا. وسُمّيت نظريته بعقيدة التبرير بالإيمان( ).
وعاش لوثر عدة سنوات يبشر بهذه العقيدة بين تلاميذه بهدوء. وفي سنة 1517م أرسل البابا ليو العاشر( ) الراهب تتزل( ) ليبيع صكوك الغفران( ) في مقاطعة سكسونيا شمال ألمانيا حيث يعيش لوثر، فقرر الأخير أن يعلن احتجاجه على الملأ. وانتهز الاجتماع العادي في كنيسة فتمبرج، وعلّق على باب الكنيسة احتجاجاً طويلاً مكوناً من 95 مادة ضد صكوك الغفران( ). وجاء في هذا الاحتجاج أن الغفران منوط برحمة الله وحدها، وليس من شأن البابا. ثم دعا من شاء من العلماء لمناقشة الحجج التي ساقها، وأكد لوثر أن الكتاب المقدس هو المرجع الأساسي في تفسير العقائد، وأن كل شخص مثقف باستطاعته أن يقرأه، وهو حر في تفسيره، وليس للبابا الحق في احتكار تفسيره، وكذلك يجب إباحة الزواج للقسس، وإخضاع رجال الدين للسلطة الزمنية( ).
وفي مقابل تصرف مارتن لوثر أصدر البابا ليو العاشر قراراً بالحرمان ضد لوثر، فقام لوثر بحرق القرار علانية أمام الناس في فيتمبرج، وبذلك انقطعت كل صلة بين لوثر والكنيسة، وتفاقم الأمر حتى أن البابا طلب من الإمبراطور شارل الخامس أن يلقي القبض على لوثر وقمع حركته، وتنفيذ قرار الحرمان الصادر ضده باعتباره مارقاً خارجاً على المسيحية. وصدر حكم بإهدار دم لوثر عام 1521لولا تدخل الأمير فريدريك حاكم سكسونيا ووضعه تحت حمايته في قلعة حصينة شمال ألمانيا، وخلال مكوثه في القلعة ترجم الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية( )، وكان لهذه الترجمة أثر كبير في إحياء الأدب الألماني ووعي الناس بالدين. واستفادت حركة الإصلاح الديني من الحماية التي وفرها أمراء شمال ألمانيا وعلى رأسهم فريديك حاكم سكسونيا خاصة وأن الإمبراطور شارل الخامس لم يتعامل بجدية بشأن تنفيذ قرار الحرمان الذي أصدرته الكنيسة بحق مارتن لوثر بسبب الخلافات بين الإمبراطور والبابا( )، وبسبب انشغال الامبراطور في حرب الدولة العثمانية على الحدود الشرقية لامبراطوريته( ).
استفادت حركة الإصلاح الديني في ألمانيا من عدم جدية الإمبراطور في مواجهتها، وأخذت تمتد وتكتسح معظم طبقات المجتمع الألماني. وانفجرت عدة ثورات مؤيدة للإصلاح الديني، وساهمت في تحريكها الظروف الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة، واتخذت العنف وسيلة للوصول إلى أهدافها، فقامت ثورتان خطيرتان تصادم الشعب مع السلطة خلالها مما أزعج لوثر وجعله يخرج من مخبئه ليعلن أنه برئ من اتخاذ العنف وسيلة لتحقيق الهدف. وكان أهم هذه الثورات حرب الفرسان وثورة الفلاحين( ).
بخصوص حرب الفرسان، فإنهم لما ظهرت الحركة اللوثرية رأوا ضرورة انتهازها كفرصة ثمينة لاسترداد نفوذهم وثرائهم عن طريق ما نادى به لوثر من استقلال الكنيسة الألمانية عن الكنيسة في روما من الناحية المالية والإدارية. ولذلك قاموا بثورة عارمة دمروا خلالها محتويات الكنائس واعتبروا أن البابا غريب عن ألمانيا وأنه يبتز أموالها بغير وجه حق، وفي نفس الوقت اتخذ الفرسان تلك الثورة وسيلة للتخلص من أعدائهم الأمراء. لكن فشلت حركة الفرسان، وانتهوا كعامل مهم في الحياة الألمانية. واعتبر البابا أن لوثر هو المسؤول، وكذلك السلطة الألمانية اعتبرته مسؤولاً عما جرى، والأمراء أصبحوا من أعداء الثورة. وكان ذلك إيذاناً بحدوث انقسام بين طبقات المجتمع الألماني. وانتهز البابا الفرصة لكي يطالب من جديد بوجوب تطبيق قرار الحرمان ضد لوثر( ).
وكذلك وجد الفلاحون في تعاليم لوثر فرصة يجب استغلالها للمطالبة برفع المظالم الواقعة عليهم، سواء من طرف السلطة الدينية أو الزمنية، وتتمثل هذه المطالب في التخلص من سيطرة الإقطاع على الإنتاج الزراعي، وتخفيف الضرائب المفروضة على المزارعين، وتحديد إيجارات الأراضي الزراعية بشكل عادل، والعمل على إيجاد مجتمع مسيحي عادل، ومنحهم الحق في اختيار رجال الدين في مجتمعاتهم. وثورة الفلاحين عبارة عن مجموعة من الثورات التي تفجرت سنة 1524م في معظم أنحاء ألمانيا، واتخذت طابعاً عنيفاً، لكن الأمراء والنبلاء أخمدوها بلا رحمة، وألقوا القبض على زعمائها وأعدموهم، وانتهت الثورة سنة 1525م ولم تجن طبقة الفلاحين منها إلا الدمار( ).
خرج لوثر من مخبئه، ودعا الناس إلى الطاعة التامة للسلطات ونبذ وسائل العنف، وحرّض الأمراء على عدم التهاون في قمع الثورة. لكن الأمراء حقدوا عليه لأن تعاليمه هي التي غرست التطلع للحرية والمساواة في نفوس الناس، فاستعدوا عليه الإمبراطور شارل الخامس من جديد، فاستجاب لهم بسبب تفاقم الحال، وخوفاً من قيام ثورات جديدة. لكن الإمبراطور كان منهمكاً في صراع خارجي ضد فرانسوا الأول( ) (1515-1547) Francois I ملك فرنسا، وضد الأتراك الذين يهددون ممتلكات الإمبراطور في النمسا والمجر. واكتفى الإمبراطور شارل الخامس بالتهدئة الداخلية في ألمانيا حتى يضمن إرسال الإمدادات للمساعدة على وقف تقدم الأتراك، ولهذا ظل مدة طويلة لا يستطيع اتخاذ موقف حاسم ضد اللوثرية مما شجع أنصارها وقوّى ساعدهم. وكذلك كانت علاقة الامبراطور بالبابا على أسوأ حال، خاصة عندما دعا البابا كليمنت السابع( ) Clement VII في مايو 1526م إلى تكوين حلف مقدس ضد الإمبراطور بقصد القضاء على نفوذه في إيطاليا( ).
ساهم مارتن لوثر في إشاعة جو التسامح تجاه اليهود في بادئ الأمر، حيث تصور أن بإمكانه هداية اليهود وتنصيرهم. وهاجم لوثر المسيحيين الذين يضطهدون اليهود، وأدان اضطهادهم من قبل الكنيسة الكاثوليكية محتجاً بأن المسيحيين واليهود ينحدرون من أصل واحد، واعتبر أن اليهود على حق في رفض المسيحية الكاثوليكية. وقد وردت هذه الأفكار في كتابه الذي نشره سنة 1523 بعنوان "عيسى ولد يهودياً". ودفاع لوثر عن اليهودية هو جزء من نزعته التبشيرية، أي أنه غير مهتم باليهود في حد ذاتهم وإنما مهتم بهم بمقدار إمكان تنصيرهم، فهو يختتم كتابه هذا بقوله: "إذا أردنا أن نجعلهم خيراً مما هم فعلينا أن نعاملهم حسب قانون المحبة المسيحي لا قانون البابا. علينا أن نحسن وفادتهم، وأن نسمح لهم بأن يتنافسوا، وأن نتيح لهم الفرصة لفهم الحياة والعقيدة المسيحية، وإذا أصر بعضهم على عناده فما الضرر في ذلك؟ فنحن أنفسنا لسنا جميعاً مسيحيين صالحين"( ).
لكن موقف لوثر تغير في أواخر الثلاثينات، إذ اتخذ موقفاً متطرفاً من اليهود يفوق في تطرفه موقف الكنيسة الكاثوليكية. ونشر سنة 1542م كتاب بعنوان "اليهود وأكاذيبهم"، وتضمن هذا الكتاب سيلاً من الشتائم والهجوم على اليهود إذ وصفهم بأنه خبثاء ولصوص وقطاع طرق وديدان مقززة. واستخدم لوثر في كتابه كل الاتهامات التي كانت توجه إلى اليهود في العصور الوسطى، مثل تهمة الدم وتسميم الآبار، واتهمهم بأنهم يلعنون المسيحيين في معابدهم، ووصف اليهودية بأنها أصبحت شكلاً من أشكال الوثنية. كما أوصى لوثر بضرورة إحراق معابد اليهود وتدمير منازلهم، وأن يُجمعوا كالقطيع في الحظائر حتى يتحققوا من أنهم ليسوا أسياداً في بلادهم وإنما غرباء في المنفى( ). ورغم ذلك فقد دعا لوثر في نفس الكتاب إلى عدم إعاقة اليهود عن العودة إلى أرضهم في "يهودا" أي فلسطين. وأوصى بتزويدهم بكل ما يحتاجونه في رحلتهم، لا لشئ إلا للتخلص منهم لأنهم عبء ثقيل على المجتمعات الأوروبية( ).
وخلاصة القول بشأن موقف مارتن لوثر من اليهود يتمثل في أنه بدأ ينظر إليهم، ويشيع هذه النظرة في الرأي العام الأوروبي، بطريقة مختلفة عن نظرة الكنيسة الكاثوليكية، بحيث قدّم لوثر تفسيراً مباشراً لنصوص العهد القديم. ورغم أنه بدأ في كتاباته متعاطفاً مع اليهود، وانتهى متشائماً منهم حاقداً عليهم، إلا أنه طالب بتسهيل أو على الأقل عدم إعاقة عودتهم إلى فلسطين.
يلي مارتن لوثر من حيث الأهمية في حركة الإصلاح الديني في أوروبا رجل الدين السويسري أولريخ زوينجلي( ) (1484-1531) Ulrich Zwingli، وكان لحركته الإصلاحية طابع مختلف عن تلك الموجودة في ألمانيا، وجمع بين معارضة الكنيسة الكاثوليكية وبين المطالبة بالإصلاح السياسي والاجتماعي، والتنديد بما يقترفه الحكام من مظالم تجاه الطبقات الفقيرة من الشعب. وعارض بيع صكوك الغفران كما فعل لوثر، لكنه اختلف عن لوثر في بعض المسائل الدينية مثل مسألة القربان والنظرة للكنيسة، حيث رأى زوينجلي الكنيسة مؤسسة ديمقراطية ينتخب أعضاؤها هيئة تفصل في المسائل المتعلقة بالشؤون الكنسية، بينما اعتبر لوثر أمير الولاية أو حاكم البلاد رئيساً أعلى والمهيمن على شؤون الكنيسة. وقد شارك زوينجلي في الصراعات التي قامت بين الكاثوليك والبروتستانت في سويسرا، وقُتل سنة 1531وأُحرقت جثته، وبعد وفاته تقرر احتفاظ كل مدينة من المدن السويسرية بعقيدتها( ).
واعتبر زوينجلي أن تاريخ الكنيسة لا يقتصر على فترة عيسى عليه السلام وإنما يعود لآدم، وأن سيدنا إبراهيم قام بتجديد دور الكنيسة. وبالنسبة للعلاقة بين المسيحيين واليهود فيقول: "يجب أن نكون نحن واليهود شعب واحد"( ).
وفي هذه الأثناء برز رجل الدين الفرنسي الإصلاحي جون كالفن، قرأ كالفن كتابات لوثر وتأثر بها. وغادر فرنسا سنة 1536 بسبب اضطهاد فرانسوا الأول للبروتستانت، واستقر في سويسرا حيث أصدر هناك كتابه المشهور بعنوان "تنظيمات الدين المسيحي" وهو خلاصة التعاليم البروتستانتية( ). اتفق مع البروتستانتية في الاعتماد على الكتاب المقدس وحده، وأن المسيح وحده هو الذي يشفع عند الله، وأن التبرير بالإيمان وليس بالأعمال. لكن الكالفنية اختلفت عن اللوثرية في مسألة الغفران، إذ كان كالفن يعتقد أن الغفران أمر قدري، والخلاص منحة يقدمها الله لمن يشاء بصرف النظر عن فضائلهم ونقائصهم. ورفض كالفن خضوع الكنيسة للدولة، أو أن يسن الملك تشريعات خاصة بالدين، وكان كالفن يطمح إلى قيام مجتمع مسيحي روحاني( )، بينما لوثر جعل الملك أو الأمير الرئيس الأعلى للكنيسة.
أما جون كالفن فلا يتسم فكره بهذا الوضوح والعنف، فلم يكن لديه علاقة كبيرة باليهود سواء في فرنسا أو في سويسرا. لكن أثر كالفن على اليهود يظهر بشكل غير مباشر من خلال اهتمامه بالعهد القديم والدعوة إلى تعميم قراءته وتفسيره اهتماماً كبيراً، وقد ساهم هذا الأمر في نشر أساطير التوراة المتعلقة باليهود والتي تتحدث عن إقامة مملكة الله في الأرض، وعودة اليهود إلى الأرض المقدسة في فلسطين( ).
يتضح مما تقدم أن حركة الإصلاح الديني في أوروبا انطوت في محصلتها النهائية على ثلاثة أبعاد رئيسية. ويمكن تقسيم هذه الأبعاد إلى:
1-البعد القومي، الذي يتمثل في تحقيق الاستقلال الديني وما ينطوي عليه من استقلال سياسي وفوائد مالية للبلد.
2-البعد الإصلاحي الداخلي في كل دولة وفي داخل الكنائس أيضاً.
3-والبعد الثالث هو المتمثل في الانفتاح على العهد القديم المترجم الأمر الذي حسّن صورة اليهود في أوروبا.
وبالطبع فإن إنجلترا جزء من أوروبا، فهل كان للإصلاح الديني أي أثر على موقف البريطانيين من اليهود؟! هذا ما سنناقشه في المبحثين التاليين.
المبحث الثاني
انفصال الكنيسة الإنجليزية عن روما
تمكن مؤسس أسرة ثيودور هنري السابع (1485-1509م) من بناء دولة قوية حيث أنهى عهداً طويلاً من الحروب الإقطاعية والنزاع بين الأسر الإقطاعية، وكان عهده فاتحة لعصر تقدم اقتصادي كبير قام على سواعد الطبقة الوسطى، التي استفادت من الكشوف الجغرافية وحركة النهضة وإحياء العلوم، فانصرف الناس للكسب والعلم والتجارة، وأصبح الملك صاحب الحل والعقد في الشؤون السياسية( ). كما استطاع هنري السابع من استخدام البرلمان أداة طيعة في يده، وأصدر مجموعة من القوانين لتدعيم الملكية مثل قانون تأسيس غرفة النجم Star Charte سنة 1487م( )، وهي محكمة ذات صلاحيات واسعة لمراقبة تصرف النبلاء ومحاكمتهم، وقانون لمحاكمة المعارضين لحكومة الملك( ). وهكذا استطاع هنري السابع أن يؤسس ملكية ذات سلطة مطلقة على الصعيد الداخلي.
أما على الصعيد الخارجي فلم يهتم هنري السابع بالحروب، بل اتجه للتقارب مع أسبانيا عن طريق مصاهرة ملكها. ففي سنة 1501 زوّج هنري السابع ابنه آرثر بالأميرة كاترين بنت فرديناند ملك أسبانيا( ). ولم يدم هذا الزواج طويلاً إذ مات آرثر بعد خمسة شهور من زواجه، فعقد هنري السابع زواجاً ثانياً لابنه هنري (الذي عُرف بعد ذلك باسم الملك هنري الثامن) على كاترين زوجة أخيه الراحل، وكان ذلك منافياً لقوانين الكنيسة، ومع ذلك فقد منحه البابا إذناً بذلك( ).
وعندما تولّى هنري الثامن (1509-1547م) Henry viii الحكم بعد والده ركز اهتمامه على العلاقة بالكنيسة في روما، ويمكن القول أن الإصلاح الديني يُعتبر أبرز ما حدث في عصر هنري الثامن، وبدأ هذا الانفصال سياسياً ثم تحوّل دينياً. وكان هنري الثامن كاثوليكياً متعصباً عارض أفكار لوثر في البداية، وكتب رسالة بهذا الشأن ضمّنها أفكاره سنة 1521 فمنحه البابا "لقب حامي حمى العقيدة"( ). وقد تبنى هنري الثامن هذا الموقف المعارض للإصلاح الديني رغم أن عصره شهد وجود عدد من المصلحين الذين وجهوا انتقادات للكنيسة الكاثوليكية وطالبوا بإصلاحها( ).
بدأ هنري الثامن يعيد تقييم علاقته بالكنيسة الكاثوليكية عندما طلب من البابا كليمنت السابع Clement vii أن يُطلّق له زوجته كاترين Cathrene التي أنجب منها ابنة وحيدة تُدعى ماري Mary، فهنري لم يتزوج كاترين عن حب، وكان مغرماً بالوصيفة آن بولين لكن البابا كليمنت السابع كان قد وقع في ذلك الوقت في أسر الإمبراطور شارل الخامس، الأمر الذي جعل البابا يمتنع عن الموافقة على الطلاق لأنه لا يريد إغضاب الإمبراطور.حاول توماس ولزاي Thomas Wolseyوزير الملك هنري الثامن استصدار أمر من روما بالطلاق لكنه فشل فحقد عليه الملك وعزله( ).
عيّن الملك هنري الثامن وزيراً جديداً يُدعى توماس كرومويل Thomas Cromwell . وأشار الأخير على الملك بالانفصال عن الكنيسة الأم، ووضع كنيسة إنجلترا تحت سيادة الملك. اقتنع الملك هنري الثامن بهذا الحل واعتبر نفسه زعيماً للإصلاح( )، وحقق بذلك ثلاثة أهداف، ويتمثل الهدف الأول في طلاق كاترين والزواج من آن بولين. أما الهدف الثاني فهو تمكن الملك من الاستيلاء على الأموال التي كانت تُرسل في الأصل إلى كنيسة روما. والهدف الثالث فيتجلّى في تدعيم سلطان الملك على مقاليد الدولة الحديثة بفضل سيطرته وسيادته على جميع رعاياه من علمانيين ومتدينين. وهذه هي الروح التي أشاعتها أفكار مارتن لوثر –في عصر الكشوف الجغرافية والنهضة الأوروبية- في عموم أوروبا، إذ أصبح الكثير من الملوك والأمراء والشعوب يتطلعون للاستقلال القومي والسياسي والديني، نظراً لما يمثله الأخير من ثروة طائلة كانت تذهب للكنيسة الأم في روما.
وكان الشعب الإنجليزي متحمساً للإصلاح بسبب إطلاعه على مساوئ الكنيسة، إضافة إلى تأييده إلى مسعى الملكية لتدعيم سلطانها وما يوفره هذا من أمان خاصة بعد الفوضى التي عانت منها البلاد في حرب الوردتين، ولأن الشعب الإنجليزي فضّل زوال سلطة البابا لأنها سلطة أجنبية وليست سلطة قومية. وساعد على تأييد الإصلاح أن المنادين به لم يهاجموا الكاثوليكية، والبرلمان أيد الملك في الإصلاح ولم يتعرض بسوء للكاثوليكية( ).
ومنذ نوفمبر 1529م انعقد البرلمان الإنجليزي لمدة سبع سنوات متتالية، وكان الإصلاح الديني هو همه الأول، فقد أصدر عدة قوانين كان هدفها إصلاح مساوئ الكنيسة وإخضاع رجال الدين في إنجلترا لسلطة الملك. واشتدت الحملة لتحقيق هذه الأهداف وبدأت بإصدار البرلمان قانون منع إرسال الأموال إلى روما، وأخر يمنع الكنيسة في إنجلترا من التصرف في شؤونها بغير موافقة الملك، وقانون يُحرّم تعيين الأقارب في الوظائف الكنسية( ).
وفي سنة 1533م أصدر الملك مرسوماً بتعيين توماس كرانمر Thomas Cranmer رئيساً لأساقفة كنتربري، وقد رفض البابا كليمنت السابع Clement vii الموافقة على تعيينه، لكن هنري الثامن لم يعبأ برفض البابا، واستصدر قراراً من كرانمر بإلغاء زواجه من كاترين والموافقة على زواجه من آن بولين( ). وبعد ذلك بأسابيع أصدر البابا قرار الحرمان ضد هنري الثامن، الذي كان قد تزوج من أن بولين سراً قبل أن يصدر رئيس أساقفة كانتربري موافقته الرسمية، وأنجب منها إليزابيث (فيما بعد الملكة إليزابيث) التي جعلها وريثة العرش من بعده، وألغى حق ابنته ماري التي أنجبها من زوجته الأولى كاترين( ).
وفي نوفمبر 1534م أصدر البرلمان "قانون السيادة العليا" Act of Supermacy الذي نص على أن الملك هو الرئيس الأعلى للكنيسة الإنجليزية، وله كل السلطات الروحية والقانونية التي كان البابوات يتمتعون بها في إنجلترا، ومعاقبة كل من يعترض على شخص الملك وحقوقه( ). ثم صدر قانون "حل الأديرة"( )، وتم حل حوالي 600 دير ذهبت ممتلكاتها البالغة حوالي خمس الأراضي الزراعية في إنجلترا للملك، وينطبق نفس الأمر على إيرادات هذه الأديرة وثرواتها المنقولة الأمر الذي ترتب عليه ازدياد قوة الملكية( ). وعلى الأثر أقدم الملك هنري الثامن على اتخاذ عدة قرارات لتقوية الدولة فأنشأ أسطولاً قوياً وحصّن الشواطئ ، واستطاع أن يشن حرب على فرنسا (1543-1546م)، ووحّد شمال إنجلترا وجنوبها، وحاول قبيل موته أن يضم اسكتلندا إلى التاج لكنه فشل( ).
وقد أدت الحياة العائلية المتغيرة للملك هنري الثامن إلى تغيير نظام الوراثة، فقد تخلص من زوجته آن بولين( ) Anne Boleyn، وتزوج بعدها بثلاث أخريات متتاليات. لكنه أنجب إدوارد من جين سيمون، واستصدر قراراً من البرلمان يجعل له وراثة العرش، فإذا مات من غير وريث خلفته أخته ماري بنت كاترين، فإذا لم يكن لها وريث خلفتها أختها إليزابيث. وهكذا انتقل العرش من بعده إلى ابنه إدوارد، الذي حمل لقب إدوارد السادس، سنة 1547م( ).
كان إدوارد السادس ابن عشر سنوات، فتولى خاله إرل هرتفورد Earl Hertford، وأُطلق عليه دوق سمرست Duke Somerset، وكان هذا بروتستانتياً، ولذا ألغى كل القوانين السابقة التي اضطهدت البروتستانت، ثم تحول لمناهضة الكاثوليك، وأغلق كثيراً من كنائسهم، وحوّل دخلها إلى خزينة الملك( ). وفي عهد دوق سمرست سارت حركة الإصلاح الديني والتحول للمذهب البروتستانتي شوطاً كبيراً ومن ذلك إصدار كتاب الصلوات العامة Book of Common Prayers باللغة الإنجليزية( ).
لكن مركز سمرست تزعزع بسبب كثرة أعدائه خاصة على خلفية الاضطرابات الداخلية التي نشأت بسبب حركة إغلاق الحقول، وسببها أن أصحاب الأراضي الصالحة للزراعة فضلوا أن يحولوها إلى مراع للأغنام لتصدير صوفها، وأقاموا أسيجة حول الأرض، وطردوا منها المنتفعين بها من صغار المزارعين، وبذلك تحولت المساحات الزراعية الكبرى إلى حقول مسوّرة لتربية الأغنام، فسادت البطالة بين المزارعين، وكان أصحاب مزارع المواشي أكثر جشعاً من الأشراف القدامى، إذ اعتبره كبار الملاك مسؤولاً عن اضطراب البلاد، واتهموه بالتبذير في الأموال العامة، وأنه جمع لنفسه ثروة طائلة من مال الكنيسة، وكذلك غضب عليه عامة الشعب بسبب الدعايات التي دُبرت ضده، وأدى كل ذلك في النهاية إلى القبض عليه وخلعه من منصبه سنة 1549م، ثم كان نصيبه الإعدام سنة 1552م( ). خلف دوق سمرست في منصبه شخص آخر يُدعى إيرل وارويك Earl Warwickالذي عُرف بلقب دوق نورثمبلند، وهو أحد كبار الملاك، تمكن من إخماد ثورة الفلاحين، وانتشر في عهده المذهب البروتستانتي في لندن والمدن الساحلية( ). وتجدر الإشارة إلى أنه تم التركيز في عهد الملك إدوار الأول على سن التشريعات التي تشجع نشر المذهب البروتستانتي خاصة قانون المذهب الواحد The Act of Uniformityالأول والذي صدر سنة 1549 ثم جرى التأكيد عليه سنة 1552( ). وكذلك تم إصدار قانون يسمح بزواج القسس سنة 1549( )، وقانون حل الأديرة الصغيرة( ) Act dissolving The Chantries . وفي عهده تم رفع الصور من الكنائس، وحُظر التوسل للبابوات وتم نشر كتاب الصلوات العامة( ) Common Prayer Book. وتجدر الملاحظة إلى أن الاهتمام بالمذهب البروتستانتي محصور في النخبة الحاكمة والتي تستهدف من ورائه تعزيز سلطتها وإحكام سيطرتها على الكنيسة وممتلكاتها ورجالها، أما الشعب الإنجليزي فلم يكن حتى هذه اللحظة مهتماً بأي تغيير ذا طابع عقائدي، ويرجع السبب في ذلك إلى أن الشعب البريطاني ليس لديه أي تجارب احتكاك عملية مع البابوية وفسادها في روما، كما أن أياً من المصلحين الجذريين لم يسبق أن زار بريطانيا، ولهذا بقي البريطانيون بعيدون عن النقاش بشأن العقيدة المسيحية، واكتفوا من الإصلاح بمكاسبه السياسية والاقتصادية.
مات إدوارد السادس، وتولت العرش بعده أخته الملكة ماري( ) (1552-1558م)Mary ، وكانت كاثوليكية متعصبة، ولهذا فإن أول قرار اتخذته كان إعادة العلاقات مع كنيسة روما، ثم ألغت جميع القوانين الدينية التي سُنّت في عهد الملك إدوارد السادس من خلال قانون الإلغاء The Act of Repeal( ). وتزوجت الملكة ماري فيليب الثاني ملك أسبانيا، وهو كاثوليكي متعصب، الأمر الذي أثار الإنجليز، فقاموا بثورة تزعمها السير توماس وايت، لكن الملكة قضت على الثورة وأعدمت زعيمها. ثم بدأ الاضطهاد للبروتستانت، قتل وسجن وإحراق حتى لُقبت بالسفاحة( ).
وقد كان زواجها من فيليب شؤماً عليها وعلى البلاد، فلم يقبله أحد، ولم يطب له العيش فيها فغادرها إلى الأراضي المنخفضة، ولم يعد لإنجلترا إلا لإقناع الملكة ماري بأن تشترك معه في الحرب ضد فرنسا، ولبت ماري دعوته، وكانت العاقبة وخيمة على البلاد، وذلك لأن الإنجليز أغفلوا تحصين كاليه فانتزعها الفرنسيون مع نشوب الحرب سنة 1558، ولم تكتسب إنجلترا من مغامرة ملكتها سوى ضياع ميناء كاليه التي بقيت لها من فتوحاتها بالقارة الأوروبية في العصور الوسطى. وضج الشعب من سوء الحال، وزاد عدد الداخلين في المذهب البروتستانتي، فقد ارتبطت الكاثوليكية في ذهنهم بالدماء المراقة، والتضحية بالمصالح الإنجليزية في سبيل أسبانيا. وفي نفس الوقت كثر عدد الهاربين منهم إلى الدول الأوروبية الأخرى خاصة هولندا. وكان معظم الإنجليز يخشون أن تُنجب الملكة من فيليب ولياً للعهد تجري في عروقه الدماء الأجنبية، لكن الملكة ماتت قبل أن يحدث هذا الأمر. وخلفتها على العرش أختها إليزابيث بتاريخ 17 نوفمبر 1558 ( ). تجدر الإشارة هنا إلى أن الهاربين إلى داخل القارة تعرفوا على المذهب الكالفني، وهو المذهب الديني الإصلاحي الذي يولي أهمية كبيرة لقراءة العهد القديم وتفسيره بشكل حرفي بالإضافة إلى تأكيده على مقاومة ظلم الملوك والحكام، وإصلاح الكنيسة والمجتمع. فهل سيكون لهؤلاء أي أثر فيما يتعلق بالإصلاح الداخلي وموقف البريطانيين من اليهود؟!
لم تتعجل الملكة إليزابيث (1558-1603م) ، بشأن قطع العلاقات مع كنيسة روما( ). واتبعت إليزابيث سياسة الحل الوسط، وأخذت تؤسس صرح ما عُرف باسم "الكنيسة الأنجليكانية"، وأوجدت ما أسماه المؤرخون نظام إليزابيث الكنائسي الذي يستند إلى قانونين: قانون السيادة العليا The Act of Supermercy ، وقانون المذهب الواحد The Act of Uniformity( ). بخصوص القانون الأول فقد أكد أن الملك هو صاحب السيادة العليا، وأُلزم رجال الدين أن يُقسموا له يمين الولاء، وعدم الخضوع لأية سلطة أجنبية، ونص القانون على معاقبة المعارضين. أما قانون المذهب الواحد فقد أقر نوع العبادة التي تضمنها كتاب الصلوات الثاني لسنة 1552م، وأدخل تعديلات في تفصيلات العقيدة تُسهّل على المعتدلين البروتستانت والكاثوليك أن يقبلوه، وبشأن الطقوس فإنها بمقتضاه لا تتنافى مع الكاثوليكية. واعتبر هذا القانون أن زواج القسيس جائزاً مع تشجيعه( ).
ومنذ عهد إليزابيث بدأ نوع من الجدل يشغل الكنيسة، وكانت أول مذكرة وجهت للبرلمان سنة 1572 هي التي كتبها كل من فيلد Field وويلكوكس Wilcox، وتعتبر هذه المذكرة من أهم بيانات البيوريتان في ذلك الوقت، حيث أكدت المذكرة على ضرورة تنظيم أسس الحكم والعلاقة بين الكنيسة والدولة وفقاً للكتاب المقدس( ). أما المذكرة الثانية فقد صدرت في نفس العام، وكان كاتبها هو توماس كارترايت Thomas Cartwright ، حيث هاجم فيها الأساقفة، وأشار إلى أن تعاليم الكتاب المقدس تؤكد على استقلالية الكنيسة، وأن التعاليم الكالفنية الصحيحة ترفض خضوع الكنيسة للدولة( ). وتصدى في ذلك الوقت ريتشارد هوكر Richard Hooker للدفاع عن الكنيسة الأنجليكانية فهاجم البيوريتان في كتابه "السياسة الكنسية" وأكد في هذا الكتاب أن تحديد الصواب من الخطأ لا يقتصر على نص الكتاب المقدس، بل إن تراث الكنيسة والعقل الإنساني لهما دور كبير في ذلك( ). وأكد هوكر أن أمور العقيدة يحددها نص الكتاب المقدس ولكن فيما يخص العبادة والسياسة فمن حق الكنيسة أن تتبنى الأشكال التي تراها مناسبة( ). لكن برزت فئة أخرى انفصالية يُطلق عليها اسم المعمدانية Anabaptism رفضت التعاطي مع الكنيسة الأنجليكانية، ومن أبرز دعاتها روبرت براون Robert Browne الذي كان يرى أن الكنيسة مؤسسة مستقلة ينضم إليها المؤمنون تطوعاً وتتشكل وفق ميثاق يُتفق عليه بينهم. ويجب أن تبقى بعيدة عن أي تدخل خارجي، وأن تكون مستقلة عن الدولة( ).
وعلى صعيد السياسة الخارجية أيدت إليزابيث البروتستانت في الأراضي المنخفضة (هولندا وبلجيكا في صراعهما ضد الاحتلال الأسباني)، والهيجونوت (وهم بروتستانت فرنسا في صراعهم ضد الملك). وفي مقابل ذلك عمد فيليب الثاني ملك أسبانيا إلى التدخل في شؤون إيرلندا والعمل على إثارتها ضد الحكم الإنجليزي، وكذلك فقد توترت العلاقات بين إليزابيث ملكة إنجلترا وماري ستيوارت ملكة اسكتلندا، وهي زوجة فرنسوا الثاني ملك فرنسا،، وتجدر الإشارة إلى أن ماري ستيوارت كانت محور المؤامرات التي يديرها الكاثوليك ضد إليزابيث، وهدفهم الرئيس تنصيب ماري ستيوارت على عرش إنجلترا بدلاً من إليزابيث. لكن الظروف لم تخدم ماري ستيوارت التي اضطرت إلى اللجوء إلى إنجلترا عندما ثار عليها شعبها، وفي سنة 1587م تمكنت إليزابيث من إعدامها.
كانت إليزابيث حريصة على الاستقلال والسلام، لكن الخلافات مع أسبانيا بشأن الدين والتجارة والمستعمرات، حيث اشتد في هذا الوقت التنافس بشأن الكشوف الجغرافية واستعمار المناطق المكتشفة واحتكار خيراتها ، كل ذلك أدى إلى حدوث الاحتكاك خاصة عندما قام فيليب الثاني ملك اسبانيا بتأييد ماري ستيوارت في عرش إنجلترا، ومساهمته في تدبير مؤامرة لاغتيال إليزابيث لتحل محلها ماري ستيوارت. وفي الوقت نفسه كانت إليزابيث تساعد الهولنديين في ثورتهم ضد أسبانيا بالمال والسلاح ثم بالعسكر مما أشعل الحرب، وقد نفّذ فيليب عزمه بتجهيز أسطول ضخم أطلق عليه إسم "الأرمادا"( ) ِArmada. انهزم الأسبان في هذه المعركة التي وقعت سنة 1588م( )، وبهزيمة الأرمادا اكتملت عملية تحول إنجلترا إلى بلاد بروتستانتية وذلك لأن آمال الكاثوليك الإنجليز والاسكتلنديين تحطمت مع تحطم الأرمادا، وانتهت أحلام الكنيسة الكاثوليكية الرامية إلى التخلص من إليزابيث( ).
وبعد وفاة إليزابيث سنة 1603م انتقل الملك إلى أسرة ملكية جديدة هي أسرة ستيوارت. وكان ملوك أسرة تيودور قد حكموا إنجلترا حكماً مطلقاً، لكن سلطتهم استندت إلى رضا طبقة وسطى قوية كانوا أحكم من أن يبعدوها عنهم، ولذلك لم يلجأ الملوك أو مؤيديهم في تأييد الحكم المطلق لنظرية الحق الإلهي، ولم يكن يوجد من يفكر بالمقاومة، أو من يتخيل أن هنالك إمكانية لحدوث أي نزاع بين الملك والبرلمان أو المحاكم. لكن رغم ذلك كانت تتخلق في رحم المجتمع الإنجليزي بذور مشاكل خطيرة نتيجة الاضطراب الاقتصادي الخطير الذي صحب قيام التجارة الحديثة وتحطيم الاقتصاد القديم فالتجارة تطلبت تحويل الأراضي الزراعية إلى مراع وسلب الملكية من الفلاحين الذين يشغلونها. فالأغنام تستهلك مزارع كبيرة. وبينما يتضور الفلاحون جوعاً يبدي الأغنياء مظاهر ترف في المأكل والملبس والمسكن، وبدلاً من معالجة الآثار الخطيرة لظاهرة انسحاق طبقة اجتماعية وبروز طبقة أخرى على حساب الأولى، أخذت الدولة تبتز الضرائب أو تلجأ إلى مشروعات للحرب لا تعود على البلد إلا بالخسارة إما العسكرية أو المادية على الأقل، وبرز آثار هذا التحول بجلاء في عهد أسرة ستيوارت.
يتبــــــع