نتابع: الأزمة البنيوية في الفكر الصهيوني العنصري -2-
وللإجابة على السؤال المركزي الحائر: من الذي يحكم الكيان الصهيوني؟ ومساهمة منّا في محاولة الإجابة على هذا السؤال، نورد ما يلي:
على ضوء انتخابات الكنيست الثاني عشر عام 1988، طُرِحت على بساط البحث مسألة تحديد من هو اليهودي – وقانون العودة.
وفي مواجهة هذا الجدل، تحرّك صهاينة ما وراء البحار. ومن ضمن تحرّكهم عقِد مؤتمرٌ لـ"الاتحادات اليهودية لأميركا الشمالية" في مدينة نيو أورليانز تحت شعارٍ له دلالته البالغة: "إننا بحاجةٍ إلى إسرائيل، كما أن إسرائيل هي بحاجة إلينا".
في افتتاح المؤتمر، قال مدير عام مجلس الاتحادات اليهودية لـ"الإسرائيليين": "يهود الولايات المتحدة لا يعيّنون لكم ما إذا كان عليكم أن تأكلوا أطعمة كاشير، أو تجنّدوا أبناء المدارس الدينية. فهذه مسألة داخلية دينية... ولكن، بالنسبة إلى مسألة تعديل قانون: من هو اليهودي، فهذه مسألةٌ أخرى".
أمّا مئير شطريت، أمين صندوق الوكالة اليهودية، فرأى أن الخطر الأكبر المتأتّي من وراء قانون تحديد من هو اليهودي، أنه سيؤدّي إلى: "تدهور مكانة اليهود في الولايات المتحدة". وبالفعل، فقد تراجعت الكنيست، ولم تقل رأيها في تحديد من هو اليهودي؛ وعلى إثر ذلك، كتبت صحيفة "هآرتس" افتتاحية جاء في متنها: "تكيّفت إسرائيل مع وضعٍ يجلس فيه القادة الصهيونيون وراء البحار، ويساعدونها في التمويل والنفوذ. والمقابل المترتّب على ذلك هو اعتراف إسرائيل بحاجات يهود الخارج". فيما يتّهم يوسي ساريد الصهاينة في الولايات المتحدة بقوله:"لا همّ لكم سوى المحافظة على هيبتكم ومكانتكم".*
وقد أظهرت تلك القضية الدور المفصليّ الذي تلعبه الصهيونية التوطينية (صهاينة ما وراء البحار) في قيادة الكيان الصهيوني. فقد أرغم هؤلاء الصهاينة إسحاق شامير على التراجع عن مواقفه والتزاماته اتجاه الأحزاب الدينية، وأوقِف البحث في تعديل "قانون العودة" وتحديد "من هو اليهودي".
لكنّ الخلاف على الهوية لم يتراجع على الإطلاق؛ بل هو ازداد حدّة في ضوء الإخفاقات المتزايدة للمشروع الصهيوني. وعلى سبيل المثال: في مطلع أيار/مايو 2006، ألقى الرّوائي "الإسرائيلي" أ. ب. يهوشع محاضرة في الندوة التي أقامتها اللجنة الأمريكية-اليهودية، بمناسبة الذكرى المئة لتأسيسها، تحت عنوان "مستقبل الماضي"؛ وفيها خاطب يهود الولايات المتحدة قائلاً:"إن الهوية جلدي وليست معطفي. أنتم تغيّرون أوطانكم مثلما تغيّرون معاطفكم. وغداً، إذا صارت الصين قوّة عظمى، فإنكم سوف تهاجرون إلى هناك!". واعتبر يهوشع أن "الهوية تتشكّل من عنصرين هما: الأرض واللغة. الهوية تتحدّد وفق الأرض التي يعيش فيها اليهودي؛ فاليهودي الإسرائيلي ليس كاليهودي الفرنسي؛ وهو يختلف عن اليهودي الأمريكي. فلكلّ يهوديٍ هويةٌ تتبع الأرض التي يعيش فيها. ومن يقيم في دولة "إسرائيل"، وينشغل بشكلٍ يوميٍ بعشرات القرارات المصيرية ذات الصّلة باستمرار وجوده كشعب، هو من يهتمّ بالاستمرارية".
وقد جاء الردّ الفوريّ من قِبل اليهود الأمريكيين على لسان المحرّر الأدبي لمجلّة "نيو ريبّبلك"، ليئون فيزلتير:"إنك تأخذ مفهوم اليهودي وتختزله بالإسرائيلي. فمفهوم اليهودي قائمٌ قبل زمنٍ طويلٍ من قيام دولة "إسرائيل". هناك دينٌ يهودي؛ هناك ثقافةٌ يهودية؛ هناك أدبٌ يهودي؛ هناك نصوصٌ يهودية تأخذنا إلى ما قبل ثلاثة آلاف عام. لماذا تصرّ على اختزالها بالإسرائيلية؟". أمّا المذيع الأمريكي الشهير تيد كوبل، فيقول: "لا يمكنك أن تتجاهل إسهام يهود العالم في استمرارية الشعب اليهودي كأمّة. ثمّة أمرٌ خاصٌ جداً جداً. عالمي؛ ويمكن ملاحظته بسهولة في صفوف اليهود. إنه شيءٌ يتجاوز الأرض، وهو شيءٌ مشتركٌ بيننا جميعاً". لكن، ما صدم يهود أمريكا لم يحدِث صدمة في الواقع الإسرائيلي. وقد كتب صحفيٍ إسرائيلي مقالاً في صحيفة "هآرتس" تحت عنوان "يهود أغراب": "كان بوسع اليهود الأمريكيين توفير الصدمة على أنفسهم، لو كانوا يعلمون أن أفكار يهوشع هذه منتشرة بشكلٍ واسعٍ في أوساط المثقّفين الإسرائيليين".
وبكلمة؛ لا يمكن لنا استيعاب عمق أزمة الهوية في الكيان الصهيوني من دون فهم طبيعة الجماعات اليهودية التي استجلِبت إلى فلسطين لتحلّ مكان الشعب الفلسطيني المُقتلع من أرضه. فأيّ رابطٍ قوميٍ أو إثنيٍ أو حتّى ديني، يجمع هذا الخليط (سفارديم، أشكناز، مزراحيم "يهود البلدان العربية والإسلامية"، أرثوذكس، ملحدين...). هذا الرّابط لم يتجاوز عملية غسيل دماغٍ واسعة، عبر ضخٍ إعلاميٍ ثقافيٍ مركّزٍ لمجموعة الأساطير التي ذكرناها آنفاً، وفي القلب منها أسطورة " الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر".
إن السقوط المدوّي لهذه الأسطورة، والذي تحقّق على يد أبطال المقاومة الإسلامية في لبنان والمقاومة الفلسطينية في غزة؛ قد أعاد تفجير سؤال الهوية في الكيان الصهيوني، بين دعاة الصهيونية الدينية والصهيونية العلمانية، وبين اليهودي الإشكنازي الأبيض، والسفاردي والمزراحي والفلاشاه. وفي زمن الإنتصارات، حين كان الجميع يستطيع أن يأخذ نصيباً من الغنائم، كان إرجاءٌ وتجميدٌ لأزمة الهوية في الكيان المحتلّ.
وقد لا يعرف الكثيرون أن الحاخامية الكبرى في الكيان الصهيوني لم تعترف بيهودية المزراحيم عند قدومهم إلى فلسطين. وكذلك كان الحال مع الفلاشا حين طُلِب منهم أن يتهوّدوا. وجاء ظهور ما يسمّى (بجيل الصابرا) من الإشكناز ذوي العقلية الكارهة لكلّ يهود العالم، ليجعل من العسير على اليهود أنفسهم تصديق مقولة (الشعب اليهودي)، لتناقضها الصارخ مع الواقع.
وممّا زاد الطّين بلّة أن عملية التهميش السياسي والثقافي والاقتصادي التي عانى منها اليهود الشرقيون طويلاً، وتغييبهم عن مراكز صنع القرار بسبب قلّتهم العددية عند تأسيس (الدولة)، لم يعد ممكناً بعد تزايد أعداد هؤلاء، وبعد أن أضحى الإشكناز أقلّية، خاصّة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن المهاجرين الرّوس الجدد يميّزون أنفسهم ويطلبون حقوقاً خاصّة.
إن استمرار مقاومة المشروع الصهيوني وعجز المؤسسة العسكرية/الأمنية الإسرائيلية عن مواجهة التحدّيات الخارجية واستعادة أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، سيزيد من عمق الشعور بالخصوصية لدى الجماعات اليهودية المكوّنة للكيان الصهيوني. كما سيعمّق من حدّة أزمة الهوية، بما يمكن أن يوصل إلى تقويض المشروع الصهيوني برمّته.
يتبع
وللإجابة على السؤال المركزي الحائر: من الذي يحكم الكيان الصهيوني؟ ومساهمة منّا في محاولة الإجابة على هذا السؤال، نورد ما يلي:
على ضوء انتخابات الكنيست الثاني عشر عام 1988، طُرِحت على بساط البحث مسألة تحديد من هو اليهودي – وقانون العودة.
وفي مواجهة هذا الجدل، تحرّك صهاينة ما وراء البحار. ومن ضمن تحرّكهم عقِد مؤتمرٌ لـ"الاتحادات اليهودية لأميركا الشمالية" في مدينة نيو أورليانز تحت شعارٍ له دلالته البالغة: "إننا بحاجةٍ إلى إسرائيل، كما أن إسرائيل هي بحاجة إلينا".
في افتتاح المؤتمر، قال مدير عام مجلس الاتحادات اليهودية لـ"الإسرائيليين": "يهود الولايات المتحدة لا يعيّنون لكم ما إذا كان عليكم أن تأكلوا أطعمة كاشير، أو تجنّدوا أبناء المدارس الدينية. فهذه مسألة داخلية دينية... ولكن، بالنسبة إلى مسألة تعديل قانون: من هو اليهودي، فهذه مسألةٌ أخرى".
أمّا مئير شطريت، أمين صندوق الوكالة اليهودية، فرأى أن الخطر الأكبر المتأتّي من وراء قانون تحديد من هو اليهودي، أنه سيؤدّي إلى: "تدهور مكانة اليهود في الولايات المتحدة". وبالفعل، فقد تراجعت الكنيست، ولم تقل رأيها في تحديد من هو اليهودي؛ وعلى إثر ذلك، كتبت صحيفة "هآرتس" افتتاحية جاء في متنها: "تكيّفت إسرائيل مع وضعٍ يجلس فيه القادة الصهيونيون وراء البحار، ويساعدونها في التمويل والنفوذ. والمقابل المترتّب على ذلك هو اعتراف إسرائيل بحاجات يهود الخارج". فيما يتّهم يوسي ساريد الصهاينة في الولايات المتحدة بقوله:"لا همّ لكم سوى المحافظة على هيبتكم ومكانتكم".*
وقد أظهرت تلك القضية الدور المفصليّ الذي تلعبه الصهيونية التوطينية (صهاينة ما وراء البحار) في قيادة الكيان الصهيوني. فقد أرغم هؤلاء الصهاينة إسحاق شامير على التراجع عن مواقفه والتزاماته اتجاه الأحزاب الدينية، وأوقِف البحث في تعديل "قانون العودة" وتحديد "من هو اليهودي".
لكنّ الخلاف على الهوية لم يتراجع على الإطلاق؛ بل هو ازداد حدّة في ضوء الإخفاقات المتزايدة للمشروع الصهيوني. وعلى سبيل المثال: في مطلع أيار/مايو 2006، ألقى الرّوائي "الإسرائيلي" أ. ب. يهوشع محاضرة في الندوة التي أقامتها اللجنة الأمريكية-اليهودية، بمناسبة الذكرى المئة لتأسيسها، تحت عنوان "مستقبل الماضي"؛ وفيها خاطب يهود الولايات المتحدة قائلاً:"إن الهوية جلدي وليست معطفي. أنتم تغيّرون أوطانكم مثلما تغيّرون معاطفكم. وغداً، إذا صارت الصين قوّة عظمى، فإنكم سوف تهاجرون إلى هناك!". واعتبر يهوشع أن "الهوية تتشكّل من عنصرين هما: الأرض واللغة. الهوية تتحدّد وفق الأرض التي يعيش فيها اليهودي؛ فاليهودي الإسرائيلي ليس كاليهودي الفرنسي؛ وهو يختلف عن اليهودي الأمريكي. فلكلّ يهوديٍ هويةٌ تتبع الأرض التي يعيش فيها. ومن يقيم في دولة "إسرائيل"، وينشغل بشكلٍ يوميٍ بعشرات القرارات المصيرية ذات الصّلة باستمرار وجوده كشعب، هو من يهتمّ بالاستمرارية".
وقد جاء الردّ الفوريّ من قِبل اليهود الأمريكيين على لسان المحرّر الأدبي لمجلّة "نيو ريبّبلك"، ليئون فيزلتير:"إنك تأخذ مفهوم اليهودي وتختزله بالإسرائيلي. فمفهوم اليهودي قائمٌ قبل زمنٍ طويلٍ من قيام دولة "إسرائيل". هناك دينٌ يهودي؛ هناك ثقافةٌ يهودية؛ هناك أدبٌ يهودي؛ هناك نصوصٌ يهودية تأخذنا إلى ما قبل ثلاثة آلاف عام. لماذا تصرّ على اختزالها بالإسرائيلية؟". أمّا المذيع الأمريكي الشهير تيد كوبل، فيقول: "لا يمكنك أن تتجاهل إسهام يهود العالم في استمرارية الشعب اليهودي كأمّة. ثمّة أمرٌ خاصٌ جداً جداً. عالمي؛ ويمكن ملاحظته بسهولة في صفوف اليهود. إنه شيءٌ يتجاوز الأرض، وهو شيءٌ مشتركٌ بيننا جميعاً". لكن، ما صدم يهود أمريكا لم يحدِث صدمة في الواقع الإسرائيلي. وقد كتب صحفيٍ إسرائيلي مقالاً في صحيفة "هآرتس" تحت عنوان "يهود أغراب": "كان بوسع اليهود الأمريكيين توفير الصدمة على أنفسهم، لو كانوا يعلمون أن أفكار يهوشع هذه منتشرة بشكلٍ واسعٍ في أوساط المثقّفين الإسرائيليين".
وبكلمة؛ لا يمكن لنا استيعاب عمق أزمة الهوية في الكيان الصهيوني من دون فهم طبيعة الجماعات اليهودية التي استجلِبت إلى فلسطين لتحلّ مكان الشعب الفلسطيني المُقتلع من أرضه. فأيّ رابطٍ قوميٍ أو إثنيٍ أو حتّى ديني، يجمع هذا الخليط (سفارديم، أشكناز، مزراحيم "يهود البلدان العربية والإسلامية"، أرثوذكس، ملحدين...). هذا الرّابط لم يتجاوز عملية غسيل دماغٍ واسعة، عبر ضخٍ إعلاميٍ ثقافيٍ مركّزٍ لمجموعة الأساطير التي ذكرناها آنفاً، وفي القلب منها أسطورة " الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر".
إن السقوط المدوّي لهذه الأسطورة، والذي تحقّق على يد أبطال المقاومة الإسلامية في لبنان والمقاومة الفلسطينية في غزة؛ قد أعاد تفجير سؤال الهوية في الكيان الصهيوني، بين دعاة الصهيونية الدينية والصهيونية العلمانية، وبين اليهودي الإشكنازي الأبيض، والسفاردي والمزراحي والفلاشاه. وفي زمن الإنتصارات، حين كان الجميع يستطيع أن يأخذ نصيباً من الغنائم، كان إرجاءٌ وتجميدٌ لأزمة الهوية في الكيان المحتلّ.
وقد لا يعرف الكثيرون أن الحاخامية الكبرى في الكيان الصهيوني لم تعترف بيهودية المزراحيم عند قدومهم إلى فلسطين. وكذلك كان الحال مع الفلاشا حين طُلِب منهم أن يتهوّدوا. وجاء ظهور ما يسمّى (بجيل الصابرا) من الإشكناز ذوي العقلية الكارهة لكلّ يهود العالم، ليجعل من العسير على اليهود أنفسهم تصديق مقولة (الشعب اليهودي)، لتناقضها الصارخ مع الواقع.
وممّا زاد الطّين بلّة أن عملية التهميش السياسي والثقافي والاقتصادي التي عانى منها اليهود الشرقيون طويلاً، وتغييبهم عن مراكز صنع القرار بسبب قلّتهم العددية عند تأسيس (الدولة)، لم يعد ممكناً بعد تزايد أعداد هؤلاء، وبعد أن أضحى الإشكناز أقلّية، خاصّة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن المهاجرين الرّوس الجدد يميّزون أنفسهم ويطلبون حقوقاً خاصّة.
إن استمرار مقاومة المشروع الصهيوني وعجز المؤسسة العسكرية/الأمنية الإسرائيلية عن مواجهة التحدّيات الخارجية واستعادة أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، سيزيد من عمق الشعور بالخصوصية لدى الجماعات اليهودية المكوّنة للكيان الصهيوني. كما سيعمّق من حدّة أزمة الهوية، بما يمكن أن يوصل إلى تقويض المشروع الصهيوني برمّته.
يتبع