من الذاكرة الفلسطينية: الحاج حسن مرعي أحد شهود نكبة قريته: لا أقبل عن قريتي بديلاً وأقول لأحفادي أكملوا مشوار العودة
أحمد الباش: دمشق
هو وادي المشيرفة الذي يفصل بين قريتينا التوأمتين: كرّاد الغنّامة، وكرّاد البقارة. هاتان القريتان اللتان عاشتا المأساة تلو المأساة، والتشرد تلو التشرد، ناضلتا وصمدتا وقدمتا الشهداء. لقد أصرّ أهالي القريتين على أن يبقوا بالقرب من أراضيهم، حتى بعد سقوطهما في نيسان 1948؛ لكن العدو الصهيوني بدوره كان أكثر إصراراً على تعقب الأهالي وإبعادهم واقتلاعهم من جديد.
الخروج من القرية
خرجنا من القرية إلى قرية "الجديبينة" على الحدود السورية، ثم إلى منطقة "الصنابر"، لنعود مرة أخرى إلى القرية. أرغمونا بعد ذلك على الانتقال إلى قريتي: شعب ودنّون قضاء عكا، وشفا عمرو في قضاء حيفا؛ لكن عنادنا كان أكبر؛ فأرغمنا العدو الصهيوني على إعادتنا من جديد إلى القرية.
لم نفرح كثيراً بهذه العودة؛ لأن المحتل كان لنا بالمرصاد دائماً، فتقرر إخراجنا من جديد، ولكن هذه المرة خارج فلسطين إلى الجولان السوري. وبعد 19 عامًا؛ فُجعنا بضياع بقية فلسطين بعد هزيمة حزيران عام 1967، وكأن الحرب كانت تقصدنا نحن من جديد؛ فخرجنا هذه المرة من الجولان إلى المنافي حيث مخيمات البؤس واللجوء.
موقع القرية
يصف حسن مرعي حسن الكردي أحد شهود النكبة قريته (كرّاد البقّارة) فيقول: إنها تقع على سفح تل بركاني صخوره سوداء داكنة، يشرف على سهول واسعة خضراء خصبة. في عام 1948 لم يكن يتجاوز عدد سكان القرية 450 نسمة.
أما القرى التي كانت تحيط بنا فهي: قرى المنصورة، وكرّاد الغنّامة، والحسينية، والعلمانية، والملاّحة وعرب الزبيد، وعرب الهيب، وعشيرة الزنغرية. تعود عشائر القرية إلى أصول بدوية كردية، من هذه العشائر: الرواشدة، والبلازية، والبدور، والعوايدة، والقرينات، والحمايدة، وغيرهم. علاقات أبناء القرية مع محيطهم وصفت بالجيدة حتى مع اليهود الفلسطينيين الذين كان يعمل بعض أبناء القرية عندهم بالزراعة، (كمرابعين مزارعين) وفي رعي الأبقار.
بدأت فصول المعاناة إبّان الاحتلال البريطاني؛ حيث تغلغل الصهاينة في جيشه؛ ما أتاح لهم دخول القرى الفلسطينية ضمن هذا الجيش؛ وعرفوا من خلال ذلك جغرافية هذه القرى، وأهلها، وتحصيناتها وقدرتها على المقاومة، وتمكنوا من مراقبة تسليحها، ومن ثم التنكيل بأهلها وإرهابهم.
بداية الأحداث
مما أذكره من الحوادث التي لا تنسى في قريتنا، حادثتان اثنتان جرتا في عام 1937، بينتا مدى الحقد والعداوة التي كان يكنّها لنا هذا المحتل الغاصب، يدفعه بذلك أولئك الغرباء الذين قدموا من أقاصي الأرض ليبنوا دولتهم المزعومة على أنقاض قرانا العامرة: الأولى: في إحدى الليالي قام الجنود الإنكليز بتفتيش القرية بحثاً عن أسلحة، وأثناء التفتيش؛ وجد عند أحد أبناء القرية بارودة، وكان اسم صاحبها "عبد الله العلي"؛ فاعتُقل على الفور. الثانية: بعد أيام من الحادثة الأولى، وبينما كان إبراهيم الماردي وأحمد الوادي من أبناء القرية يقفان أمام نبع ماء، وكان أحدهما يربط فرسه، فمرت بجانبهما دورية إنكليزية، فتنبها لذلك وصادف أن كان بحوزة أحدهما مسدسان فألقاهما على الفور في ساقية الماء.
انتبه أحد الجنود إلى ذلك، فأوقفهما وسأل الرجل: ماذا ألقيت في الماء؟ قال: لا شيء. وعندما نظر الجندي إلى أسفل الساقية؛ شاهد المسدسين فأخرجهما من الماء؛ وبذلك أسندت التهمة لكل منهما حمل مسدس حربي، وسيقا إلى السجن؛ وبعد أيام قليلة جيء بالثلاثة إلى القرية: عبد الله العلي (صاحب البارودة)؛ وأحمد الوادي، وإبراهيم الماردي (أصحاب المسدسات)، وهناك وأمام مرأى ذويهم وأبناء القرية جميعاً؛ نُفَّذ حكم الإعدام فيهم، وقام الأهالي بدفنهم في مقبرة القرية.
أحداث النكبة
خلال الأحداث التي وقعت عام 1948 أذكر أنه بينما كنا نسهر عند المختار في إحدى الليالي؛ وإذ بِدَوي انفجارات هائلة تهز الأرض من تحتنا، وكان مصدرها قرية الحسينية المجاورة؛ فهبت قريتنا والقرى المجاورة إلى الحسينية لمعرفة ما حدث؛ فكان ما شاهدناه منظراً مروعاً؛ حيث رأينا مباني في القرية هُدمت على من فيها من سكان! وعلى الفور؛ بدأنا نبحث عن الناجين وعن جثث القتلى، وبقينا هكذا حتى عصر اليوم الثاني. وأذكر من المناظر التي شاهدتها تحت الردم؛ منظر أم تحتضن طفلها الرضيع، وهما ميتان. بعد ذلك جمعت الجثث وأخذنا بدفنها في مقبرة القرية. هذا المنظر لم يفارقني طوال حياتي.
بعد مجزرة الحسينية تنبه الناس أكثر لما يجري؛ فأخذوا يتسلحون ويشترون السلاح؛ وخاصة من سورية، وكان من لديه بقرة أو أغنام يبيعها ليشتري بارودة؛ ومن لم يكن يملك مالاً كان يستدين ليشتري بارودة أو مسدساً.
ومما أذكره أن السلاح الذي كان بحوزة الرجال في القرية هو البارودة الإنكليزية التي كانت تُشترى من بعض الجنود في المعسكرات الإنكليزية؛ والبارودة الفرنسية والألمانية التي كانت تُشترى من سورية.
أخذت المعارك تشتد في ما حولنا. وكانت طبريا أول مدينة فلسطينية تسقط، وتبعتها حيفا. بعد مجزرة عين الزيتون في قضاء صفد، والقريبة من قريتنا؛ اشتدت المعارك في ما بيننا وبين العصابات الصهيونية. ولعدم التكافؤ ولقلة الذخيرة؛ سقطت قريتنا في نيسان 1948، وانسحبنا إلى قرية جديبينة السورية.
استعادة القرية
بقينا في هذه القرية قرابة عام واحد حتى جاءت قوة عسكرية من الجيش السوري، وطلبت توفير أشخاص لمعرفة الطرق، سعياً منها لتحرير القرية؛ ومن ثم الوصول إلى مستعمرة كعوش المجاورة. وبالفعل؛ دخلت القوات العسكرية السورية، ورافقهم عدد من المقاتلين، أذكر منهم: محمد أبو وردة، وكريم الحميدي، وخليفة الخلف، وهادي جبر العلي. وقد استشهد منهم خليفة الخلف أثناء استرجاع القرية والمستعمرة المجاورة.
انتقل أهالي قريتنا بعد ذلك إلى "منطقة الصنابر" القريبة من قريتنا، وبقينا فيها حتى عام 1951. صرنا خلالها ننزل إلى أراضينا ونحصد القمح ونؤمن بعضاً من الخبز ليقتات به أطفالنا وعوائلنا. بعد ذلك وقعت الهدنة بين سورية والكيان الصهيوني، وتم بموجبها اعتبار كعوش وكرّاد البقارة، منطقتين محرمتين دولياً يعود أهلهما إليهما مع وجود مراقبين دوليين فيهما. وبموجب هذا الاتفاق؛ عدنا إلى قريتنا التي كانت مهدمة تماماً.
تهجير ولجوء داخلي
لم نفرح كثيراً بهذه العودة، ففي آذار 1951 طوق الصهاينة القرية، وكان معهم قائد لواء الجليل، وأمرونا بعدم التحرك خارج القرية. وجيء بعدها بسيارات كبيرة، وطلبوا منا تحميل كل أمتعتنا ومواشينا. وسيق بنا إلى منطقة في العمق الفلسطيني، وأنزلونا في قرية عرفنا بعدها أنها قرية "شعب الفلسطينية"، التي تقع في قضاء عكا، والتي هجرها أهلها أثناء أحداث عام 1948.
وقاموا بتوزيعنا على غرف في القرية المهجورة هذه.
علمت القوات السورية بعملية التهجير تلك، وعدّتها مخالفةً لما اتفق عليه في اتفاقية الهدنة؛ الأمر الذي دفعها إلى رفع شكوى إلى الأمم المتحدة، التي أرسلت بدورها من يحقق بهذه الشكوى. وبالفعل لحق بنا بعض المراقبين الدوليين، وتحدثوا معنا، وطال الأمر بين أخذ وَرَد مدة ثلاثة أشهر. بعدها قام الجيش الصهيوني بتقسيم أهالي القرية إلى ثلاثة أقسام: قسم بقي في قرية شعب، وقسم نقل إلى قرية دنون قضاء عكا، وقسم إلى قرية شفا عمرو قضاء حيفا.
الخروج من القرية مجدداً
في عام 1952 أعادونا إلى قريتنا، وبدأنا بناءها من جديد، وبقينا فيها حتى عام 1956.
وأثناء العدوان الثلاثي على مصر اتهمنا الجيش الصهيوني بأننا طابور خامس لسورية؛ ننقل إليهم الأخبار والتقارير العسكرية؛ وبناءً على ذلك تقرر ترحيلنا من القرية. وبالفعل؛ قام الصهاينة بتدمير القرية مرة أخرى، وبطردنا هذه المرة إلى الأراضي السورية.
انتشر أهالي قريتنا (كرّاد البقارة) في قرى الجولان، وتقاسم الشعب السوري هناك معنا رغيف الخبز. وبقينا نرقب أراضينا من بعيد من على سفوح الجبال حتى عام 1967؛ حيث وقعت حرب حزيران واحتل الجولان السوري؛ وأصبحنا نشعر بأن الحروب تقام من أجل ترحيلنا نحن بالذات، لنُهجر مرة أخرى إلى عمق الأراضي السورية إلى مدينة دمشق، حيث استقر بنا المقام بين أهالينا الذين سبقونا في عام 1948 في "مخيم جرمانا" القريب من دمشق؛ والذي لازلنا فيه حتى الآن.
مسيرة من التشرد والضياع ذقنا فيها ما ذقناه، من المرارة والألم. لم نكن لنستقر في منطقة حتى يأتي الاحتلال الصهيوني ويهجرنا إلى أخرى وهكذا.
رسائل قصيرة
بعد هذه المسيرة كلها؛ ماذا عسانا فاعلين؟ أرادوا منا أن ننسى؛ أرادوا منا أن نذوب في المجتمعات العربية؛ أرادوا منا أن نغفر ما ارتكبوه من قتل ومجازر؛ ولكننا أمام كل ذلك نقول بعض الكلمات وبعض الرسائل:
أولاً: لهؤلاء الصهاينة المتغطرسين أقول: تريدون منا أن نستسلم ونرضخ وننسى أوطاننا! هذه ستبقى أمنيات لكم. نحن لنا جذور، ولنا تاريخ في فلسطين تاريخ الآباء والأجداد، فيها بلدتي وقريتي واسمها "كرّاد البقارة" التي لا أقبل لها بديلاً؛ وإن شاء الله سأرجع إليها، وسنحاكمكم على ما اقترفت أيديكم، وستدفعون لقاء استثماركم لأرضنا، ولقاء هذه المعاناة والقهر والحرمان، طوال هذه الأعوام الطويلة الماضية الكثير الكثير.
ثانياً: لمن يحاول بيعنا بثمن بخس أقول له: المفاوضات، والخنوع، والضعف لا تُرجّع بلادنا. بالقوة وحدها ترجع لبلاد. اليهود لا يعرفون غير لغة القوة.
ثالثاً: إلى أبنائي وأحفادي وأبناء قريتي، وخاصة منهم الشباب: "إحنا يا ولادي مش مخلدين، يعني إحنا راح نموت، عليكوا تكملوا المشوار. لا تقبلوا بديلاً عن العودة. والعودة مش لأي مكان! العودة إلى بلدكم وإلى قريتكم (كرّاد البقارة)، ولا أرض سواها.
المصدر: مجلة العودة
أحمد الباش: دمشق
هو وادي المشيرفة الذي يفصل بين قريتينا التوأمتين: كرّاد الغنّامة، وكرّاد البقارة. هاتان القريتان اللتان عاشتا المأساة تلو المأساة، والتشرد تلو التشرد، ناضلتا وصمدتا وقدمتا الشهداء. لقد أصرّ أهالي القريتين على أن يبقوا بالقرب من أراضيهم، حتى بعد سقوطهما في نيسان 1948؛ لكن العدو الصهيوني بدوره كان أكثر إصراراً على تعقب الأهالي وإبعادهم واقتلاعهم من جديد.
الخروج من القرية
خرجنا من القرية إلى قرية "الجديبينة" على الحدود السورية، ثم إلى منطقة "الصنابر"، لنعود مرة أخرى إلى القرية. أرغمونا بعد ذلك على الانتقال إلى قريتي: شعب ودنّون قضاء عكا، وشفا عمرو في قضاء حيفا؛ لكن عنادنا كان أكبر؛ فأرغمنا العدو الصهيوني على إعادتنا من جديد إلى القرية.
لم نفرح كثيراً بهذه العودة؛ لأن المحتل كان لنا بالمرصاد دائماً، فتقرر إخراجنا من جديد، ولكن هذه المرة خارج فلسطين إلى الجولان السوري. وبعد 19 عامًا؛ فُجعنا بضياع بقية فلسطين بعد هزيمة حزيران عام 1967، وكأن الحرب كانت تقصدنا نحن من جديد؛ فخرجنا هذه المرة من الجولان إلى المنافي حيث مخيمات البؤس واللجوء.
موقع القرية
يصف حسن مرعي حسن الكردي أحد شهود النكبة قريته (كرّاد البقّارة) فيقول: إنها تقع على سفح تل بركاني صخوره سوداء داكنة، يشرف على سهول واسعة خضراء خصبة. في عام 1948 لم يكن يتجاوز عدد سكان القرية 450 نسمة.
أما القرى التي كانت تحيط بنا فهي: قرى المنصورة، وكرّاد الغنّامة، والحسينية، والعلمانية، والملاّحة وعرب الزبيد، وعرب الهيب، وعشيرة الزنغرية. تعود عشائر القرية إلى أصول بدوية كردية، من هذه العشائر: الرواشدة، والبلازية، والبدور، والعوايدة، والقرينات، والحمايدة، وغيرهم. علاقات أبناء القرية مع محيطهم وصفت بالجيدة حتى مع اليهود الفلسطينيين الذين كان يعمل بعض أبناء القرية عندهم بالزراعة، (كمرابعين مزارعين) وفي رعي الأبقار.
بدأت فصول المعاناة إبّان الاحتلال البريطاني؛ حيث تغلغل الصهاينة في جيشه؛ ما أتاح لهم دخول القرى الفلسطينية ضمن هذا الجيش؛ وعرفوا من خلال ذلك جغرافية هذه القرى، وأهلها، وتحصيناتها وقدرتها على المقاومة، وتمكنوا من مراقبة تسليحها، ومن ثم التنكيل بأهلها وإرهابهم.
بداية الأحداث
مما أذكره من الحوادث التي لا تنسى في قريتنا، حادثتان اثنتان جرتا في عام 1937، بينتا مدى الحقد والعداوة التي كان يكنّها لنا هذا المحتل الغاصب، يدفعه بذلك أولئك الغرباء الذين قدموا من أقاصي الأرض ليبنوا دولتهم المزعومة على أنقاض قرانا العامرة: الأولى: في إحدى الليالي قام الجنود الإنكليز بتفتيش القرية بحثاً عن أسلحة، وأثناء التفتيش؛ وجد عند أحد أبناء القرية بارودة، وكان اسم صاحبها "عبد الله العلي"؛ فاعتُقل على الفور. الثانية: بعد أيام من الحادثة الأولى، وبينما كان إبراهيم الماردي وأحمد الوادي من أبناء القرية يقفان أمام نبع ماء، وكان أحدهما يربط فرسه، فمرت بجانبهما دورية إنكليزية، فتنبها لذلك وصادف أن كان بحوزة أحدهما مسدسان فألقاهما على الفور في ساقية الماء.
انتبه أحد الجنود إلى ذلك، فأوقفهما وسأل الرجل: ماذا ألقيت في الماء؟ قال: لا شيء. وعندما نظر الجندي إلى أسفل الساقية؛ شاهد المسدسين فأخرجهما من الماء؛ وبذلك أسندت التهمة لكل منهما حمل مسدس حربي، وسيقا إلى السجن؛ وبعد أيام قليلة جيء بالثلاثة إلى القرية: عبد الله العلي (صاحب البارودة)؛ وأحمد الوادي، وإبراهيم الماردي (أصحاب المسدسات)، وهناك وأمام مرأى ذويهم وأبناء القرية جميعاً؛ نُفَّذ حكم الإعدام فيهم، وقام الأهالي بدفنهم في مقبرة القرية.
أحداث النكبة
خلال الأحداث التي وقعت عام 1948 أذكر أنه بينما كنا نسهر عند المختار في إحدى الليالي؛ وإذ بِدَوي انفجارات هائلة تهز الأرض من تحتنا، وكان مصدرها قرية الحسينية المجاورة؛ فهبت قريتنا والقرى المجاورة إلى الحسينية لمعرفة ما حدث؛ فكان ما شاهدناه منظراً مروعاً؛ حيث رأينا مباني في القرية هُدمت على من فيها من سكان! وعلى الفور؛ بدأنا نبحث عن الناجين وعن جثث القتلى، وبقينا هكذا حتى عصر اليوم الثاني. وأذكر من المناظر التي شاهدتها تحت الردم؛ منظر أم تحتضن طفلها الرضيع، وهما ميتان. بعد ذلك جمعت الجثث وأخذنا بدفنها في مقبرة القرية. هذا المنظر لم يفارقني طوال حياتي.
بعد مجزرة الحسينية تنبه الناس أكثر لما يجري؛ فأخذوا يتسلحون ويشترون السلاح؛ وخاصة من سورية، وكان من لديه بقرة أو أغنام يبيعها ليشتري بارودة؛ ومن لم يكن يملك مالاً كان يستدين ليشتري بارودة أو مسدساً.
ومما أذكره أن السلاح الذي كان بحوزة الرجال في القرية هو البارودة الإنكليزية التي كانت تُشترى من بعض الجنود في المعسكرات الإنكليزية؛ والبارودة الفرنسية والألمانية التي كانت تُشترى من سورية.
أخذت المعارك تشتد في ما حولنا. وكانت طبريا أول مدينة فلسطينية تسقط، وتبعتها حيفا. بعد مجزرة عين الزيتون في قضاء صفد، والقريبة من قريتنا؛ اشتدت المعارك في ما بيننا وبين العصابات الصهيونية. ولعدم التكافؤ ولقلة الذخيرة؛ سقطت قريتنا في نيسان 1948، وانسحبنا إلى قرية جديبينة السورية.
استعادة القرية
بقينا في هذه القرية قرابة عام واحد حتى جاءت قوة عسكرية من الجيش السوري، وطلبت توفير أشخاص لمعرفة الطرق، سعياً منها لتحرير القرية؛ ومن ثم الوصول إلى مستعمرة كعوش المجاورة. وبالفعل؛ دخلت القوات العسكرية السورية، ورافقهم عدد من المقاتلين، أذكر منهم: محمد أبو وردة، وكريم الحميدي، وخليفة الخلف، وهادي جبر العلي. وقد استشهد منهم خليفة الخلف أثناء استرجاع القرية والمستعمرة المجاورة.
انتقل أهالي قريتنا بعد ذلك إلى "منطقة الصنابر" القريبة من قريتنا، وبقينا فيها حتى عام 1951. صرنا خلالها ننزل إلى أراضينا ونحصد القمح ونؤمن بعضاً من الخبز ليقتات به أطفالنا وعوائلنا. بعد ذلك وقعت الهدنة بين سورية والكيان الصهيوني، وتم بموجبها اعتبار كعوش وكرّاد البقارة، منطقتين محرمتين دولياً يعود أهلهما إليهما مع وجود مراقبين دوليين فيهما. وبموجب هذا الاتفاق؛ عدنا إلى قريتنا التي كانت مهدمة تماماً.
تهجير ولجوء داخلي
لم نفرح كثيراً بهذه العودة، ففي آذار 1951 طوق الصهاينة القرية، وكان معهم قائد لواء الجليل، وأمرونا بعدم التحرك خارج القرية. وجيء بعدها بسيارات كبيرة، وطلبوا منا تحميل كل أمتعتنا ومواشينا. وسيق بنا إلى منطقة في العمق الفلسطيني، وأنزلونا في قرية عرفنا بعدها أنها قرية "شعب الفلسطينية"، التي تقع في قضاء عكا، والتي هجرها أهلها أثناء أحداث عام 1948.
وقاموا بتوزيعنا على غرف في القرية المهجورة هذه.
علمت القوات السورية بعملية التهجير تلك، وعدّتها مخالفةً لما اتفق عليه في اتفاقية الهدنة؛ الأمر الذي دفعها إلى رفع شكوى إلى الأمم المتحدة، التي أرسلت بدورها من يحقق بهذه الشكوى. وبالفعل لحق بنا بعض المراقبين الدوليين، وتحدثوا معنا، وطال الأمر بين أخذ وَرَد مدة ثلاثة أشهر. بعدها قام الجيش الصهيوني بتقسيم أهالي القرية إلى ثلاثة أقسام: قسم بقي في قرية شعب، وقسم نقل إلى قرية دنون قضاء عكا، وقسم إلى قرية شفا عمرو قضاء حيفا.
الخروج من القرية مجدداً
في عام 1952 أعادونا إلى قريتنا، وبدأنا بناءها من جديد، وبقينا فيها حتى عام 1956.
وأثناء العدوان الثلاثي على مصر اتهمنا الجيش الصهيوني بأننا طابور خامس لسورية؛ ننقل إليهم الأخبار والتقارير العسكرية؛ وبناءً على ذلك تقرر ترحيلنا من القرية. وبالفعل؛ قام الصهاينة بتدمير القرية مرة أخرى، وبطردنا هذه المرة إلى الأراضي السورية.
انتشر أهالي قريتنا (كرّاد البقارة) في قرى الجولان، وتقاسم الشعب السوري هناك معنا رغيف الخبز. وبقينا نرقب أراضينا من بعيد من على سفوح الجبال حتى عام 1967؛ حيث وقعت حرب حزيران واحتل الجولان السوري؛ وأصبحنا نشعر بأن الحروب تقام من أجل ترحيلنا نحن بالذات، لنُهجر مرة أخرى إلى عمق الأراضي السورية إلى مدينة دمشق، حيث استقر بنا المقام بين أهالينا الذين سبقونا في عام 1948 في "مخيم جرمانا" القريب من دمشق؛ والذي لازلنا فيه حتى الآن.
مسيرة من التشرد والضياع ذقنا فيها ما ذقناه، من المرارة والألم. لم نكن لنستقر في منطقة حتى يأتي الاحتلال الصهيوني ويهجرنا إلى أخرى وهكذا.
رسائل قصيرة
بعد هذه المسيرة كلها؛ ماذا عسانا فاعلين؟ أرادوا منا أن ننسى؛ أرادوا منا أن نذوب في المجتمعات العربية؛ أرادوا منا أن نغفر ما ارتكبوه من قتل ومجازر؛ ولكننا أمام كل ذلك نقول بعض الكلمات وبعض الرسائل:
أولاً: لهؤلاء الصهاينة المتغطرسين أقول: تريدون منا أن نستسلم ونرضخ وننسى أوطاننا! هذه ستبقى أمنيات لكم. نحن لنا جذور، ولنا تاريخ في فلسطين تاريخ الآباء والأجداد، فيها بلدتي وقريتي واسمها "كرّاد البقارة" التي لا أقبل لها بديلاً؛ وإن شاء الله سأرجع إليها، وسنحاكمكم على ما اقترفت أيديكم، وستدفعون لقاء استثماركم لأرضنا، ولقاء هذه المعاناة والقهر والحرمان، طوال هذه الأعوام الطويلة الماضية الكثير الكثير.
ثانياً: لمن يحاول بيعنا بثمن بخس أقول له: المفاوضات، والخنوع، والضعف لا تُرجّع بلادنا. بالقوة وحدها ترجع لبلاد. اليهود لا يعرفون غير لغة القوة.
ثالثاً: إلى أبنائي وأحفادي وأبناء قريتي، وخاصة منهم الشباب: "إحنا يا ولادي مش مخلدين، يعني إحنا راح نموت، عليكوا تكملوا المشوار. لا تقبلوا بديلاً عن العودة. والعودة مش لأي مكان! العودة إلى بلدكم وإلى قريتكم (كرّاد البقارة)، ولا أرض سواها.
المصدر: مجلة العودة