الجزء الثاني
كثيراً ما يتردد على الألسنة أن أصل أهل فلسطين من جزيرة كريت وقبرص أو بحر إيجة. ولذلك أردت قبل الحديث عن فلسطين خلال عصر الحديد. أن أبين هوية قبيلة البولستا التي أتت من كريت وهي قبيلة كنعانية الأصل عاشت في الاغتراب فترة من الزمن وعادت مع مطلع عصر الحديد، إلى أهلها ونستطيع أن نتبين ذلك من خلال العرض التاريخي التالي:
مع نهاية عصر البرونز وبداية العصر الحديدي بفلسطين.. تحركت شعوب هند وأوربية متجهة إلى آسيا الصغرى وسوريا وفلسطين ودلتا مصر ويشير بعض المؤرخين إلى عدم معرفتهم لسبب هذا التحرك البشري، ولكن بعضهم يفيدنا بأن ميسينا الإغريقية، وهي عاصمة الآخيين التي ازدهرت حضارتها خلال قرنين من الزمان (1400-1200ق. م) كان لها أسطول، وكانت بحق "سيدة البحر" ولكنها أهملت قوتها البرية، وقد حدث أن ميسينا لم تصمد في وجه القبائل البربرية وهي المعروفة باسم الدوريين، يمثلون الإغريقية الثانية الآتية من الشمال، وقد استطاعوا احتلال العاصمة ميسينا عن طريق البر، وبالتالي لم يستطع أسطول ميسينا الصمود أو الدفاع عن ميسينا، وبذلك انتهت سيطرة الإغريق الأولين المعروفين باسم الأخيون.
وتبعاً لذلك أصبح الأسطول الآخي القومي في عرض البحر بلا وطن، وكان هذا الأسطول يضم بجانب الآخيين الذين يشكلون الأغلبية عناصر أخرى من آسيا ومنهم ما عرف بـ "الآريين" وكذلك عناصر من جزيرة كريت ومن جزر بحر إيجه.
فاتجهوا إلى المملكة الحيثية في آسيا الصغرى، وسقطت تحت ضرباتهم مدن عدة، ثم ساروا عبر سوريا براً وبحراً، ويبدو أن سيرهم كان بمحاذاة المدن الساحلية، حيث خربوا أوجاريت ودمروها.
ومنذ ذلك الحين لم تقم لها قائمة كما دمروا مدناً كنعانية أخرى ومنها صور ثم ساروا عبر فلسطين إلى دلتا النيل عن طريق البر والبحر، وفي هذه الفترة كانت الإمبراطورية المصرية في حالة لا تحسد عليها، حيث كانت تعاني من حركة قومية عنيفة ذات طابع ديني.
وقد علم ملك مصر بهجوم قبائل البحر، فخرج لملاقاتهم رعمسيس الثالث عام (1191ق. م) وقد شتت قوتهم البحرية والبرية، وبعد هزيمتهم اتجهت "عناصر منهم إلى شواطئ سوريا الشمالية وآسيا الصغرى وجزر البحر الإيجي وسردينيا وإيطاليا"(1).
أي أن كل جماعة اتجهت إلى موطنها الأصلي. أما قبيلة البولاستي فقد اتجهت إلى جزء من ساحل الكنعانيين بفلسطين وهو موطنها الأصلي.
ويذكر بعض المؤرخين أن المدن التي انضموا إلى أهلها الكنعانيين هي غزة –عسقلان –أشدود- عقرون- جت. وبعضهم يشير إلى أنهم أتوا بنسائهم معهم.
وقد تبنوا عبادات الكنعانيين المواطنين ولغتهم(2). وهؤلاء ذابوا في الكنعانيين أبناء جنسهم. والدليل على أن جماعة البولستا كنعانية، هو ما أوردته في رسالة الماجستير (الفن التشكيلي في فلسطين عبر التاريخ) وهو ما يلي:
1-في المرحلة التي استقر خلالها الفينيقيون في فينيقيا(3). خرجت منهم شعبة على الأرجح لتستقر في قبرص التي لا تبعد عن الساحل الفينيقي بأكثر من رحلة لا تعدو سفرة يوم واحد، وإنا لنعجز في كثير من المواقع عن أن نفرق بين أهل قبرص وسلالة المهاجرين الجدد من الفينيقيين وإنا لنلاحظ كذلك أن الظروف السياسية في جزيرة قبرص اتخذت نفس الصورة التي كانت لفينيقيا وفلسطين الكنعانية حتى لنرى قيام دويلات صغيرة المساحة بقدر عدد المدن القائمة.. ويشير في موضع آخر إلى أن الفينيقيين استقروا في قبرص عام 1500 ق. م وقد بقي الفينيقيون في قبرص حتى أخرجهم منها الدوريون (وهذا نفس التاريخ الذي حدثت فيه هجرة قبائل البحر)، كما يشير أيضاً إلى أن هناك شعبة سامية كبيرة جاءت إلى مصر، من عصر الحضارة الأولى، وقد جاء أصحابها من جزر البحر أو الشواطئ الشمالية الشرقية وهي الشواطئ السورية ومن ورائها، وقد كانوا من التجار وأصحاب الحرف(4).
وهكذا نرى أن الهجرات العربية الكنعانية أو الفينيقية وصلت إلى جزر البحر، قبرص، كريت منذ عصر الحضارة الأولى، أي قبل مجيء جماعة البولستا إلى فلسطين بحوالي 1800 عام. أي أن العرب الكنعانيون استقروا في جزر البحر وقبرص وكريت منذ 3000 سنة ق. م.
2-عندما تعرضت سوريا وفلسطين لهجمات الحيثيين والكاشيين والحوريين، والميتانيين، التي تدفقت إلى العراق وسوريا الشمالية، فقد دفعت بالسكان العرب إلى هجرات متتالية نحو مصر ولكن ملوك الدولة الوسطى منعوها، فاتجه معظمها إلى جزر البحر ومنها جزيرة كريت(5). وهذا يفيد أن هناك قبائل عربية كنعانية هاجرت إلى جزر البحر وهي كريت وقبرص وغيرها خلال فترة عصر البرونز المتوسط، أي قبل مجيء جماعة البولستا إلى فلسطين وهذه القبائل حافظت على عاداتها وتقاليدها الكنعانية، كما كانت في فلسطين وسوريا ولبنان والأردن قبل هجرتها إلى جزر البحر.
3-إن قبائل البحر عندما أتت إلى سوريا وفلسطين خلال نهاية عصر البرونز المتأخر عادت جميعها بما كسبت من غنائم، وبقي منها في فلسطين قبيلة البولاستي، ويبدو أن بقاءها وعدم مهاجمة سكان فلسطين من الكنعانيين لها، راجع إلى أن هذه القبيلة من أصل عربي كنعاني، ولنبذها داخل جزر البحر فقد فضلت البقاء بين سكان فلسطين الكنعانيين القريبين منها في العبادات والتقاليد والأصل.
ويؤكد ذلك أن جماعة البولستا أو قبيلة البولستا قد مارس أهلها عبادة الآلهة الكنعانية "داجون-حورون- عنات-عشتر" دون أي ضغط يمارس عليها من سكان فلسطين الذين يشكلون الأغلبية.
وقد كانوا يعبدون الآلهة الكنعانية داخل جزر البحر كما سبق القول منذ فترة زمنية قديمة ولذلك لم يكن العرب الكنعانيون من سكان فلسطين بالنسبة لهذه القبيلة الكنعانية غرباء ولذلك نلاحظ عدم قيام حروب بينهما(6).
4-نلاحظ أن أسماء المدن الكنعانية التي توزعت عليها قبيلة البولستا لم تتغير أسماؤها الكنعانية بل بقيت كما هي. كذلك لم تتغير الديانة واللغة والعادات والتقاليد الكنعانية. وهذا دليل على هوية قبيلة البولستا الكنعانية وإن كان الأمر غير ذلك وكانت البولاستي من سكان جزر البحر...
فإن هذا الأمر لا يغير شعب فلسطين، فالأقلية تذوب في الأكثرية. ولكن الحقيقة واضحة وقد أوضحت ذلك أن هذه القبيلة من الكنعانيين الذين هاجروا إلى جزر البحر على فترات متقطعة خلال عصر البرونز المبكر والمتوسط والمتأخر وقد عادوا من الغربة إلى وطنهم الأصلي فلسطين، وانضموا لأهلها الكنعانيين.
أهم المراجع:
(1)جواد بولس- لبنان والبلدان المجاورة –ص108-.
(2) المصدر السابق.
(3)فينيقيا اسم مرادف لكنعان، وهو آخر اسم أطلق على الساحل السوري، وهو أتى من اللفظة اليونانية فينوكس وتعني تاجر أو صاحب الصبغة الحمراء.
(4)نجيب ميخائيل إبراهيم-مصر والشرق الأدنى القديم رقم (3)- ص93، 94.
(5)نفس المرجع السابق- ص101.
(6)عبد الرحمن المزين- رسالة الماجستير- الفن التشكيلي في فلسطين عبر التاريخ- ص 163، 164.
"الباب التاسع"
فلسطين
خلال عصر الحديد الأول
يمتد هذا العصر من أوائل القرن الثاني عشر إلى آخر القرن العاشر، قبل الميلاد.
ومع بداية هذا العصر شهدت الأرض الفلسطينية تسلل جماعة من اليهود بغرض الاحتلال والاستيطان.
وقد دامت رحلة هذه الجماعة من مصر وتتكون هذه الجماعة من قوم موسى، ومن المصريين الذين آمنوا بديانة التوحيد، ثم جاء سيدنا موسى إلى سيناء حيث المدينيين الكنعانيين، فتزوج ابنة شيخ كبير فيهم، وهو ما يطلق عليه اسم "شعيب" وقد آمن بديانته جزء كبير من المدينيين، وسار هذا الخليط الذي يجمعه ديانة واحدة إلى فلسطين، وكان سكانها من العرب الكنعانيين يعيشون داخل مدن محصنة ذات أسوار عالية منيعة، وخنادق وأبراج دفاعية، ولذلك لم يستطيعوا دخولها، وقد مات سيدنا موسى على جبل نبو (شيحان) غربي مادبا، وقد تولى قيادة هذا الخليط شخص متعطش للدماء، واغتصاب أملاك الغير وهو يوشع بن نون، فعبر نهر الأردن وحاصر مدينة أريحا، وقد صادف قيام زلزال فهاجم المدينة وأهلها تحت الأنقاض، فذبح كل من فيها من الإنسان والحيوان، وهدم وأحرق أقدم مدينة في التاريخ القديم، وبعد ذلك تسلل اليهود إلى المدن الجبلية الفلسطينية، وكانوا يقيمون وسط الحقول، ويتحاشون الاشتباك بالحصون ثم ما لبثوا أن استولوا على لخيش (تل الدوير) وعاى، ومما ساعدهم على ذلك هو نظام المدن الفلسطينية، حيث كانت كل مدينة عبارة عن مملكة مستقلة بذاتها وتدافع عن نفسها فقط، مما ساعد على سقوط بعض مدنها الجبلية، ولكنهم لم يستطيعوا أن يهاجموا المدن المحصنة ذات الأسوار العالية والقلاع المنيعة مثل –بيت شان- مجدود- بيت زور- عكو- يافي- أشدود-عسقلان – غزة- بئر السبع-تل جاز- سدوم. وكل مسرح الحوادث بين أهل فلسطين والغزاة اليهود، كان في المنطقة الجبلية، وخلال هذا الصراع طلب اليهود من أحد أنبيائهم، وهو صموئيل أن يجعل لهم ملكاً عليهم مثل ملوك مدن فلسطين فاختار لهم أقوى وأطول رجل فيهم، وهو شاؤل ومسحه بالزيت وذلك عام 1020 ق. م من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب(1). واتخذ مكانه في جعبة "تل الفول" على بعد أربعة أميال شمالي أورشالم، وكانت مملكة صغيرة وخاضعة للكنعانيين سكان فلسطين. وقد قتله أهل فلسطين في معركة "جلبوع" بالقرب من بيت شان هو وأولاده الثلاثة، وقد قطعوا رأسه وسمر جسده وأولاده الثلاثة على سور المدينة في بيت شان، وأما سلاحه فقد أرسل كغنيمة إلى معبد عشتاروت(2).
وبموت شاؤل تولى الحكم بعده داوود زوج ابنته وذلك حوالي عام 1000 ق. م "وقد بدأ حكمه تحت سيادة الفلسطينيين".
وقد أراد أن يوسع حدود مملكته، فاختار حصن أورشليم اليبوسي، ومن ثم انتزاعه منهم، وبعد داوود تولى ابنه سليمان وذلك حوالي عام –963-923 ق. م وقد بنى قصراً له بواسطة "معماريون فينيقيون كنعانيون". كما بنى هيكلاً، وقد أصبح معبداً لليهود بعد ذلك. ويجب أن يعرف بأن البنائين والمعماريين والنجارين هم –كنعانيون عرب، وأن زخارف الهيكل وعبيده وطقوسه الخاصة والذبائح أخذت من الكنعانيين، حتى كلمة هيكل. وما تسمى باللغة العبرية هي لهجة كنعانية، استعاروها لتدوين كتابهم الديني بأول فصلين من سفر الملوك، حتى أن موسيقى الهيكل وأدواته الموسيقية والعازفين كانوا كنعانيين.
في تلك الفترة كان الكنعانيون، يقيمون في ممالكهم المحصنة في (عكو-يافي-أشدود-عسقلان-غزة-بئر السبع- عقرون-تل بيت مرسيم- عقرون-جت- مجدو- بيت شان- تل جازر- سدوم).
والأماكن التي احتلها اليهود وأطلقوا عليها مملكة داوود وسليمان في أورشليم، كان أهلها الكنعانيون العرب يشاركونهم في الأرض وخاصة اليبوسيين "وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم، فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم حتى هذا اليوم"(3).
وهناك في الداخل حصون الكنعانيين التي لم تطأها أقدام اليهود مثل حصن "جزر الكنعاني" والذي قاوم أهله بعناد احتلال اليهود لأراضيهم. وبموت سليمان انقسموا: إلى قسمين قسم في أورشليم واسم مملكته يهوذا، وقسم في شكيم أو السامرة واسم مملكته إسرائيل، أي أن احتلالهم ونفوذهم كما تشير كتبهم لم يتعد، مدينة نابلس والقدس وأن أهلها، الكنعانيون كانوا يعيشون معهم تحت الاحتلال.
ويجب أن يفهم أن وجود اليهود بفلسطين خلال عصر الحديد الأول لم يكن له أي أثر قومي على سكان فلسطين من العرب الكنعانيين، سوى احتلال بعض المدن الجبلية، كما أن حكم داوود وسليمان الذي يرد في كتب التاريخ وكأنه حكم إمبراطورية واسعة الأرجاء هذا الحكم القصير الاحتلالي، لا يتجاوز عمر الرجل، وكان محصوراً في منطقة صغيرة من فلسطين.
وقد ترك الكنعانيون العرب أعمالاً تدل على استمرارية وجودهم ومنها الفخار وأهمه التوابيت الفخارية والتي عثر على عدد منها في مقابر تل الفرعة في النقب، ومقابر بيت شان وتعود إلى القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد(4). والتوابيت الفخارية قديمة حيث ظهرت بفلسطين منذ 4500 ق. م في الغسولية والخضيرة وبيسان.
كذلك ظهر فخار برتقالي مصغر عثر عليه في مناطق متعددة من فلسطين منها بيت زور وتل النصبة- بيت إيل ومجدو وتل الفارعة، وتتميز هذه الأواني بأنها لا تختلف عن أشكال، الأواني التي ظهرت بفلسطين خلال فترات عصر البرونز المبكر وعصر البرونز المتوسط والمتأخر، وهي الأباريق، ولا تختلف عن أشكال الأباريق الفخارية المعاصرة التي يصنعها أهلنا في خانيونس وغزة والخليل ونابلس، ويشتريها الصهاينة منهم ويرسلوها إلى أوروبا مدعين، أنها فن صهيوني.
كما ظهر فخار مجدو الملون وهو لا يختلف عن الأواني التي ظهرت في عصور سابقة بفلسطين وعن الأواني المعاصرة التي يشكلها أهلها في أرضنا المحتلة.
وقد مارسوا فن النقش والتطعيم على العاج وتركوا أعمالاً عديدة عثر على معظمها في مجدو. كما أنهم نقشوا على سطح الطين حيث تركوا لوحات طينية عثر عليها في تل بيت مرسيم وقد نقش الفنان عليها صوراً تمثل الآلهة عناة وعشيرة مما يدل على استمرار العبادة الكنعانية. واستمرت الطرز المعمارية الكنعانية في العمارة الدنيونية والتحصينية والدينية والجنائزية، وعثر على آثار متعددة منها في مجدو، في الطبقات 7، 5،6 وفي بيت شان في الطبقات 6، 5، ومدينة جبلية أخرى.
ولم تنقب الهيئات الأثرية في مدن الساحل وذلك لوجود الهوية الكنعانية.
ففي بيت دجن، معبد الإله الكنعاني داجون. وقد كان موجوداً ضمن أراضي مختار بيت دجن وهو من عائلة "حبش". وقد بقي المعبد حتى احتلال فلسطين عام 1948.
هذا وقد اهتم أهل فلسطين خلال عصر الحديد الأول بتشكيل الدروع والعربات الحربية والحراب والأسرة الجميلة والكراسي المزدانة بالملائكة، كذلك الأقمشة المطرزة.
وقد مهروا إلى حد كبير بتشكيل الحديد خلال عصر الحديد الأول، وهذا هو الذي ساعدهم على السيطرة على الغزاة اليهود. وهكذا يتضح لنا من العرض السابق عروبة فلسطين خلال عصر الحديد الأول، والاحتلال اليهودي الذي استمر 69 عاماً لبعض مدننا وهي أورشالم، شكيم، أريحو مع وجود أهلنا فيها.
أهم المراجع:
(1)صموئيل الأول 9: 2.
(2) صموئيل الأول 31: 1-10.
(3) يوشع اصحاح 15 آية 63.
(4)د. وليم ف.. أولبرايت- آثار فلسطين-مترجم- ص 118.
الباب العاشر
فلسطين
خلال عصر الحديد الثاني والثالث
سكن فلسطين أهلها العرب الكنعانيون وتوزعوا في عدة مدن سميت بالممالك، وكانت مدنهم محصنة ذات أسوار عالية وأبراج مراقبة، وبوابات بعدة ممرات قائمة على أعمدة حجرية لدخول العربات الحربية.
وأشهر الممالك (عكو-يافي- أشدود-عسقلان-غزة-بئر سبع- أدوم-عقرون-تل الدوير-بيت شان- مجدو) وكل سكانها عرب كنعانيون. أما اليهود الذين دخلوا إلى فلسطين خلال عصر الحديد الأول فقد انقسموا بعد موت سليمان في مدينتين.
الأولى شكيم وسموها مملكة إسرائيل والثانية أورشليم وسموها مملكة يهوذا. وكان يعيش بينهم العرب الكنعانيون الذين احتلت مدينتهم.
وتشير نصوص رأس شمرا أو أجاريت إلى وجود العرب الكنعانيين في القرن السابع قبل الميلاد في مدنهم وخاصة النقب والساحل كذلك في كتبهم المقدسة ورد على لسان النبي اليهودي صفينا في الاصحاح الثاني من سفرة الآيات (2-1).
ويشير إلى أن غزة وممالك ساحلية كان يسكنها أهلها من الفلسطينيين أو العرب الكنعانيين(1). وإذا ما تتبعنا الحالة السياسية لممالك فلسطين، فإننا نجد أنها كانت في منطقة وقعت بين إمبراطوريتين كبيرتين الإمبراطورية الآشورية والإمبراطورية المصرية وكانوا يتنافسون في فرض السيادة على هذه الممالك الصغيرة، وفرض الأتاوة عليها، ولذلك نجد سرجون وخلفه سنحاريب يقومون بعدة حملات لتأديب كل مملكة أو مدينة كنعانية لم تدفع الجزية وتدخل تحت سيطرة أشور.
وقد حدث في عهد سرجون أن تمردت بعض الممالك بفلسطين، ولم تدفع الجزية، وحابت مصر فقام شلمناصر الخامس وحاصر السامرة ثلاث سنوات ومن ثم سقطت في عام 722 ق. م في يد خلفه سرجون الثاني "الذي سبى أحسن رجال إسرائيل وعددهم (27280) شخصاً إلى ميديا"(2) ومن ثم تلاشت مملكتهم من الوجود إلى الأبد.
ويعتقد بأن الآشوريين "قد أتوا بقبائل من بلاد بابل وعيلام وسورية وبلاد العرب عامة لتحل محل اليهود المسبيين من مدينة السامرة وأسكنوها السامرة ومنطقتها. وقد امتزج المستوطنون الجدد بمن تبقى من اليهود في المدينة ليشكلوا السامريين، واتحدت معتقداتهم الدينية أيضاً مع عبادة يهوه(3) وقد استولى سرجون على صيدا وعكو، فقام ملوك عمون ومؤاب وأدوم وأشدود بإرسال وفود للتفاوض ودخلوا في النهاية تحت سيطرة آشور. ولكن ملوك يافا وغزة وبئر سبع ولاخيش وعسقلان وعقرون وأورشالم رفضوا الرضوخ، فاستولى جيش آشور على مملكة يافا، عسقلان، غزة، بئر سبع، لاخيش، ولكن عقرون قاومت وتم الاستيلاء عليها.
وأثناء سيطرة جيش آشور على ممالك أهل فلسطين من العرب الكنعانيين، تحرك الجيشان المصري والحبشي ضد جيش آشور فرأى ملك آشور عدم ترك أحد الحصون أو الممالك وراءه دون فتحها وهي "أرشالم" أو حصن يهوذا. فأرسل فرقة آشورية لتأديب الحصن أما باقي الجيش فقد تقدم والتقى مع الجيشان المصري والحبشي عند خربة المقنع "التقية". وقد حال دون تقدمهما، ولكن ملك آشور أمر جيشه بالتراجع لأن مرض الطاعون قد فتك بأعداد كبيرة من جنوده.
بعد سقوط نينوى في يد الإمبراطورية الجديدة البابلية "الكلدانية" وذلك حوالي عام 612 ق. م. تجد مصر ترجع لتوسيع حدودها الإمبراطورية وبسط سيطرتها مرة ثانية على الساحل الكنعاني (السوري-اللبناني- الفلسطيني). فزحف ملك مصر المعروف في ذلك الوقت باسم "نيخو" وتحالف معه ملك يهوذا وهو يهوياقيم ولكن والده قاتلهم، وقد اتبع ملك أورشالم سياسة مصر وخالف سياسة بابل وبذلك تحدى نبوخذ نصر-قائد جيش بابل وهزم جيش مصر في قرقميش عام 605ق. م، واستولى على "جميع الممالك الخاصة لمصر في ذلك الوقت" ومنها ممالك فلسطين إلا أن مملكة أرشالم أو يهوذا خالف ملكها سياسة بابل عام 597ق. م. فقام جيشها بتأديبه حيث كبل ملكها بالسلاسل(3) ولكنه مات فألقوا بجثته خارج أسوار أورشالم أو أورشليم، ومن ثم تولى ابنه يهويا قيم ملك المدينة لمدة قصيرة وسبى الملك مع نسائه، وأمه وموظفيه وسبعة آلاف من جنوده، وأخذ ألفاً من الصناع المهرة إلى بابل حيث نصب عم الملك المسبي ملكاً على يهوذا واسمه صدقيا (597-586ق.م) فأطاع وأظهر الولاء لنبوخذ نصر لعدة سنين كبقية ممالك فلسطين، ولكنه عاد و تمرد معتمداً على مساندة مصر له، فقام نبوخذ نصر بإرسال جيش بابلي وأرسلت مصر جيشها بقيادة "هفرغ" فرجع الجيش البابلي إلا أن البابليين عادوا مرة ثانية عام 586ق. م وحاصروا أورشليم، فهرب ملكها تحت جنح الظلام، ولكن جند ببال أمسكوا به في سهل أريحا وأحضروه إلى معسكر نبوخذ نصر في "ربله" حيث قتل أولاده أمامه ومن ثم سملت عيناه وقيد بالسلاسل وحمل إلى بابل وقام البابليون بهدم أورشليم والهيكل وسبوا معهم خمسون ألفاً، ولم يبق إلا جماعة من البائسين.
أما باقي ممالك كنعان بفلسطين فقد خضعت لحكم بابل ودفعوا الجزية، ومن هذه الممالك "عكو-مجدو-يافي-أشدود-بيت شان-غزة- بئر السبع- عقرون-عسقلان-باستثناء صور التي قاومت حتى عام 752ق. م.
وبانتهاء أورشليم عام 586 انتهى نفوذهم السياسي في هذه المدينة الكنعانية وبقي فيها أهلها الكنعانيون.
بقيت الممالك الكنعانية بفلسطين خاضعة لبابل منذ (605-525ق. م). وبعد أن تحطمت الإمبراطورية البابلية على أيدي الإمبراطورية الفارسية دخلت فلسطين تحت حكم الإمبراطورية الجديدة منذ (525 ق. م- 331ق. م). فقام الفرس بإعادة بعض اليهود من بابل إلى القدس "أورشليم" بحجة بناء الهيكل، وذلك مقابل مساعدة اليهود لكورش في انتصاره على بابل حيث كانوا جواسيسه على الإمبراطورية البابلية، ولكي يكونوا أيضاً جواسيس لقورش على أهل فلسطين تمنعهم من الاتصال بمصر(2).
خلال عصر الحديد الثاني والثالث بقي نظام العمارة التحصينية والمعابد والمباني الدنيوية والجنائزية كما هو، واهتموا بالصناعات التطبيقية وخاصة الصناعات المعدنية والفخار الذي صدروه إلى جزر إيجة والمنسوجات الأرجوانية والأقمشة المطرزة التي اشتهروا فيها منذ القدم وبرعوا بزخرفتها إلى حد كبير، كذلك صدروا الزجاج، وظهرت عملة "أتيكا" اليونانية وأصبحت العملة الرسمية بين التجار، كذلك ظهرت عملة بفلسطين نقش أهلها أحد آلهتهم الكنعانية عليها وهو الآلهة داجون وذلك في القرن الرابع قبل الميلاد.
وهكذا يتضح لنا من عرضنا السابق لفلسطين خلال عصر الحديد الأول والثاني أن وجود اليهود في فلسطين قد انحصر في مدينتين شكيم- وفي "أورشليم": القدس وقد كان الكنعانيون العرب يسكنون معهم تحت الاحتلال اليهودي، وأما باقي مدن فلسطين فلم تطأها أقدام اليهود.
أهم المراجع:
(1)د. حسن ظاظا- الساميون ولغاتهم ص 57-58.
(2)سفر الملوك الثاني 17: 16.
(3)سفر الملوك الثاني 17: 25-33 د. فيليب حتي –تاريخ سورية ولبنان وفلسطين الجزء الأول- مترجم- ص 214.
(4)عبد الرحمن المزين- رسالة الماجستير- الفن التشكيلي في فلسطين عبر التاريخ- ص 237.
الباب الحادي عشر
فلسطين خلال العصر
اليوناني-الروماني
في عام 332 ق. م حاصر الاسكندر مدينة غزة مدة شهرين، وقد دافع عنها أهلها ببسالة إلى جانب حامية الفرس، حيث أصيب الاسكندر بجراح ومن ثم سقطت المدينة بيد الاسكندر ودخلت فلسطين تحت حكم الإمبراطورية اليونانية.
وبعد وفاة الاسكندر في حزيران من عام 323 ق. م ببابل على إثر إصابته بالحمى تقاسم الإمبراطورية قادته الأربعة فيما بينهم.
ففي مصر بطليموس، وسوريا وأرض الرافدين سلوقس، وآسيا الصغرى انتيفوس، واليونان "مقدونيا" انيتباتر، وكانت فلسطين من نصيب أسرة لاغوس المعروفين في التاريخ بالبطالة، وذلك منذ عام 323 ق. م وحتى عام 198ق. م.
ولكن أنطيوخس حاول في عام 217 ق. م ضم فلسطين، ولكنه فشل حيث هزم بالقرب من رفح "رافيا القديمة". إلا أنه عاد واستطاع ضمها إلى سوريا عام 198 ق. م. وقد اعتبر أنطيوخس نفسه آلهاً، أو الإله الظاهر (تيوس ابيفانس) وقرن نفسه بزفس أوليمبيوس، وأعطى أهل سوريا أنفسهم امتياز عبادة الملك، واستولى على كنوز معابد الكنعانيين بفلسطين.
واعتبر الإله زفس معادلاً للإله بعل ولم يعترض سكان فلسطين. ولكن اليهود الذين أعادهم الفرس لبناء المعبد اليهودي تمردوا، عندما وضع ايطوخس في معبدهم مذبحاً للإله اليوناني وكان الإله زفس يعبد بصفات كنعانية ويمثل بلبلس نصف كنعاني.
إلا أن اليهود الموجودين في القدس لم يقبلوا بذلك فقاموا بمعارضة الاعتداء على الهيكل عام 168ق. م، وتزعم المعارضين ابن كاهن يهودي اسمه يهوذا، واتخذ اسمه "المكابي" وتعني المطرقة، ولكن السلوقي ديمتريوس الثاني نيكابور قام بإعطائهم الحرية الدينية وعين منهم كاهناً اسمه سمعان، ومن ثم عينه حاكماً على فلسطين عام 141 ق. م وهذه سنة المستعمرين حيث يعطى الحكم والنفوذ للأقليات ليكونوا جواسيس للسلطة على أهل البلاد.
وهكذا كان دور اليهود بفلسطين خلال فترة الإغريق، ولكن نزعتهم الدينية تحولت إلى نزعة قومية فقاموا بالضغط والإجبار على الكنعانيين العرب كي يدينوا باليهودية وكذلك الختان. ومن القبائل التي مورس الضغط عليها الأدوميين عام 26 ق. م(1).
كما تطاولوا في عهد خلف سمعان، أرسطو بولس (105-103م) حيث ضغطوا على الأريتوريين العرب، سكان الجليل وهم كنعانيون، وخيروهم أيضاً بالختان والدخول في اليهودية. وقد دخل كثير منهم في الديانة اليهودية ولذا نجد أن كثيراً ممن عمل السيد المسيح (عليه السلام) بينهم واتخذ منهم أكثر تلاميذه هم من أصل عربي. وكان اليهود ينظرون إليهم وكأنهم أدنى من اليهود وغير أهل لظهور نبي فيهم(2).
سقطت فلسطين في يد روما عام 63 ق. م وأصبحت تحكم من قبل نائب قنصل روماني. ومن ثم أعطت روما خلال القرن الأول قبل الميلاد هيرودس حكم أجزاء من فلسطين (37-4ق. م) وهو أدومي كنعاني عربي. ولكن اليهود الموجودين في القدس عادوا وتمردوا ضد بيت المقدس 70 م بأمر من تيتوس الروماني وأنهى وجودهم ولم يبق إلا النذر البسيط، عاشوا في فلسطين بالقدس بين أهلها الكنعانيين الذين كانوا يرزحون تحت نير الاحتلال الروماني. واستمر الاحتلال حتى عام 323م. حيث انتصرت المسيحية في أوائل القرن الرابع الميلادي على يد قسطنطين.
وخلال الفترة من عام 332 ق. م إلى عام 323 م خضعت فلسطين إلى حكم الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية وتركت الهيلينية(3) بصماتها واضحة على مظاهر الحياة أيام اليونانيين وذلك نتيجة لأن الاسكندر قام بإنشاء (70) مدينة ضخمة على الطراز الإغريقي، استخدمها كمراكز ثقافية لنشر الحضارة الهيلينية في البلاد الشرقية وكذلك لتأمين طرق المواصلات.
سكنها المسرحون من الجيش، وقد جمعت المدن الكثير من العسكريين والتجار والعلماء والفنانين والعبيد ومن المدن الثقافية التي أنشئت في العهد اليوناني، بيلاوديون "تل الأشعري"، وهيبوس "قلعة الحصن" ويقعان شرقي طبريا "فيلوتير" في الطرف الجنوبي من بحيرة طبريا، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى فيلوتير شقيقة بطليموس الثاني فيلادلفوس مدينة جيرازا، وقد حول الإغريق الكثير من أسماء المدن العربية، فأعطوها أسماء إغريقية ورومانية، منها عكا، حيث سميت بتولما في عهد بطليموس الثاني وبيسان سميت سكيثوبوليس، وبيت جبرين أطلق عليها اليوثيروبولس.
بعد العصر الإغريقي الروماني أعاد العرب إلى مدنهم أسماءها الكنعانية العربية القديمة باستثناء نابلس التي كانت تسمى شكيم وسماها الإغريق نابلوليس حرفت وأصبحت حالياً نابلس. وهذه المدن أو المراكز الثقافية اتبع في تخطيطها النظام المعماري اليوناني، وأصبحت معظم المدن وخاصة يافا وعسقلان وغزة ورافا ذات صبغة هيلنستية خلال الحكم اليوناني الروماني، وخلال فترة الرومان أقيم اتحاد مدن عرف باسم اتحاد الديكابوليس(4).
ومن المدن التي اشتهرت في هذه الفترة مدينة الأنباط البتراء عاصمة مملكتهم وسكانها من القبائل العربية. وهم الذين يعرفون اليوم باسم الحويطات ويعيش جزء منهم في الأردن، حول البتراء، وجزء آخر في النقب وسيناء وجزء في السعودية ثم تغير اسمهم عبر التاريخ فيوماً كان اسمهم المدينيين ثم الأنباط ثم الحويطات إلا أنهم في الأصل عرب كنعانيون.
وخلال العصر اليوناني بفلسطين تغير نظام الحياة، حيث خضعت المدن إلى حكم الإمبراطور مباشرة، وأصبحت المدن تشتمل على رقعة واسعة من الأراضي تحيط بها الأسوار ولها بوابات ضخمة ورهيبة وذات جلال، وبداخل الأسوار يقع القصر الملكي أو قصر الحاكم، وكذلك الساحة العامة والمدرج الضخم والمسرح وبرك السباحة، والمعابد الضخمة المتعددة بينما خلت الحياة في الريف الفلسطيني من الصبغة اليونانية الرومانية، ولم تختلف الحياة عن صورة الأجداد الكنعانيين، حيث لم يتدخل الرومان واليونان في حياة الفلاحين، ولذلك بقي الفلاحون يعيشون حياتهم العادية. فتأثرهم بالحضارة الإغريقية والرومانية غير واضح، ولذلك استمروا يمارسون حياتهم وفق عاداتهم وتقاليدهم القديمة، فخلت فنونهم من التأثير: العمارة الدنيوية والدينية والجنائزية، فن التطريز، الخزف، الزجاج والمنحوتات الخشبية(5).
أهم المراجع:
(1)سفر المكابيين الأول 4: 29.
(2)أنجيل مرقس 14: 70، أعمال الرسل 2: 7، لوقا 22، 59، يوحنا 1: 46.
(3)الهيلينية: هي الحضارة اليونانية في بلاد اليونان وتسمى داخل اليونان باسم الهيلينية أما حضارة اليونان التي ظهرت خارج اليونان، وهي مزيج من اليونانية والشرقية وتسمى الهيلنستية.
(4) هو اتحاد يضم عشرة مدن إغريقية كان منها بيسان، جداراً، جراسا فيلادلفيا دمشق.
(5)عبد الرحمن المزين- الفن التشكيلي في فلسطين عبر التاريخ ص 253 إلى 256.
الباب الثاني عشر
فلسطين
خلال العصر المسيحي
يمكن القول إن العصر المسيحي بفلسطين يمتد منذ ميلاد السيد المسيح حتى ظهور الإسلام. وقد لاقت المسيحية بفلسطين صعوبات كبيرة من الإمبراطور والديانات الوثنية الكنعانية والديانة اليهودية ثم زالت هذه الصعوبات بعد أن اعترف قسطنطين بالمسيحية عام 312 ودخلت فلسطين تحت الحكم البيزنطي، ومن ثم أصبحت فلسطين كلها مسيحية.
ونستطيع أن نقسم الفترة منذ ميلاد السيد المسيح حتى الفتح الإسلامي إلى قسمين:
1-فترة الحكم الروماني- اضطهاد المسيحية.
2-فترة الحكم البيزنطي- فترة الاعتراف بالمسيحية.
أولاً- فترة اضطهاد المسيحية:
ولد النبي عيسى بن مريم (عليه السلام) حوالي عام 6 ق. م وفي ذلك الوقت كانت فلسطين جزءاً من سوريا وتخضع للإمبراطورية الرومانية ولم تمت دعوته حيث قام أتباعه بتسجيل تعاليمه وأعماله في كتب تعرف اليوم باسم الأناجيل، وهي التي تبين لنا حياة سيدنا عيسى. وقد اعتنق الديانة المسيحية الكثير من الفلسطينيين وكذلك بعض اليهود، الذين كانوا يقيمون بين أهل فلسطين في القدس كأية جالية أجنبية.
واستطاع الآباء المسيحيون، الأوائل وخاصة "بولس" أن يوصلوا هذه الديانة إلى سكان الإمبراطورية الرومانية. وذلك بأن أعطوها الصبغة الهيلينية، والذي ساعدهم على ذلك هو معرفتهم باللغة اللاتينية، فأهل فلسطين كانوا يعرفون الآرامية واليونانية خلال العصر المسيحي وخاصة أيام الرومان. وهذا أدى إلى سرعة انتشار الديانة المسيحية خاصة في اليونان وروما. وتبعاً لذلك ظهرت جماعات مسيحية في اليونان وروما لم تؤد واجباتها للآلهة الوثنية، فبدأ ما يعرف في التاريخ "الاضطهاد المسيحي"(1).
والمعروف أن اليونان والرومان كانوا يؤمنون بآلهة متعددة، وكانوا متسامحين مع أصحاب الديانات الأخرى الوثنية، لأنهم كانوا يحترمون آلهتهم، ولكن أصحاب الديانة المسيحية لم يشاركوا في الأعياد الدينية الوثنية، وأعياد الإمبراطورية فبدأ الاضطهاد.
وكان أول اضطهاد هو محاولة قتل المسيح عليه السلام على يد اليهود عام 27-29م، ثم إبادة المسيحيين بعد حريق روما الشهير في عهد نيرون عام 64 م، ثم بعد ذلك حكم على بولس بالموت صلباً في روما عام 67 م في عهد نيرون أيضاً، ثم أصبح المسيحيون في جميع أرجاء الإمبراطورية يقتلون ويضطهدون، وخاصة عندما تحل كارثة أو وباء أو مجاعة أو قحط في أي بلد من أنحاء الإمبراطورية الرومانية، حيث كانوا يعزون ذلك إلى المسيحيين.
واستمر الاضطهاد، ففي عام 303م أصدر ديوكليتان أمراً بإزالة الكنائس المسيحية وحرق جميع كتبها الدينية. وطرد كل مسيحي من وظيفته وحرمانه من العمل في أي وظيفة، وأصبحوا يعاملون كخونة، إذا لم يقدموا مراسم الاحترام للآلهة. وقد تفننوا في قتل المسيحيين، من أجل ذلك فإن كثيراً من المسيحيين تعرضوا للهلاك والتعذيب وخاصة عرب فلسطين ولهذا فإن كثيراً منهم اضطروا لترك الديانة المسيحية والعودة لديانة الأجداد الكنعانية، ومن بقي منهم مسيحياً فقد كتم أمره عن أقرب الناس إليه، ولذلك كانوا يجتمعون في أماكن بعيدة عن الرؤيا مثل الكهوف والمغارات، وأي منزل عادي بعيد عن أنظار الناس.
من هنا لم تقم لهم أماكن عبادة علنية خاصة بالدين المسيحي الأمر الذي جعل فنونهم لا تختلف عن فنون الأجداد الكنعانيين، فالكنيسة في فترة الاضطهاد كانت عبارة عن منزل أو معبد كنعاني، ولهذا فإن طراز الكنيسة الأول بفلسطين هو طراز المعابد الكنعانية والتي يعود تاريخ ظهورها إلى 6800ق.م.
وكان أقدم بيت بفلسطين حول إلى كنيسة عام 200 م وعثر عليه في مدينة دورا على الشاطئ الشمالي الفلسطيني، وعثر في نفس المدينة على كنيسة تعود إلى منتصف القرن الثالث وبه باب خاص بالنساء، وكذلك مقاعد خاصة بهن، وعثر أيضاً على بقايا كنيسة في دورا يعود إلى 232م، وهي أقدم كنيسة عرفت بفلسطين، بل وتعتبر "أقدم كنيسة مسيحية عثر عليها"(3).
ثانياً: فترة الاعتراف بالمسيحية:
عندما انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين، قسم يحكم في روما ويعرف بالإمبراطورية الرومانية الغربية، وقسم يحكم في القسطنطينية، ويعرف بالإمبراطورية الشرقية البيزنطية، ويذكر المؤرخ فيليب حتي: إن سوريا الجنوبية "فلسطين قد أصبحت تابعة للإمبراطورية البيزنطية، وقد قسمت إلى ثلاثة أجزاء: فلسطين الأولى وكانت قيصرية مدينتها الرئيسية، ضمت أورشالم، نيابوليس- جوبا "يافا" عسقلان-غزة، وغيرها من المدن. وفلسطين الثانية ومركزها سكيثو بوليس "بيسان" ومدنها الرئيسية جدرة- طبرية. ثم فلسطين الثالثة وكانت البتراء مدينتها الرئيسية وتضم جنوب فلسطين وشمال الجزيرة العربية والبتراء وما حولها" ويذكر أيضاً أن البلاد أصبحت كلها مسيحية، وسيطر على العصر بوجه عام الروح الدينية، وأصبحت الكنيسة مكان المعابد القديمة الكنعانية، وأصبح للقديسين شأن كبير واحتلوا مكان كهنة المعابد. وقد نالوا احترام الناس واهتموا ببناء مراكز ثقافية تنشر تعاليم المسيح، ففي مدينة غزة في الجنوب برز منها المؤرخ الكنسي اليوناني "سوزمين، سوزمينوس" في القرن الخامس الميلادي. وفي شمال فلسطين قيصرية التي ينتسب إليها يوسيبيوس وهو أول مؤرخ كنسي عظيم، كذلك المؤرخ بروكوبيوس والكثير من القديسين ومنهم (جيروم) وهو من قرية بالقرب من غزة(4).
بعد الاعتراف أصبحت فلسطين تابعة للإمبراطورية البيزنطية، وبنيت كنائس كبيرة على طراز الباسيليكا، وهي عبارة عن مبنى ضخم مستطيل كان يستخدم زمن الرومان كمحاكم قضائية أو مكان للأعمال التجارية، وكان يوجد به ثلاث قبلات ولا تقل في الغالب عن قبلة واحدة كبيرة وعظيمة والقبلة فسحة دائرية(5). والواقع أن نظام القبلات الثلاث، قد ظهر بفلسطين في معبد أريحا منذ 6800 ق. م. إذن فالرومان قد نقلوه عنا وأسقف الكنائس كانت عبارة عن جمالونات خشبية تغطي بالقرميد، وأسلوب الجمالون قديم كنعاني ظهر بفلسطين في بيسان مجدو منذ 4500 ق. م.
وهناك كنائس كثيرة منتشرة في ربوع فلسطين والأردن وسوريا وخاصة في طبريا وبيت لحم والقدس والناصرة، وهي تزخر بمختلف أنواع الفنون.
وقد أدى انتشار المسيحية إلى زيادة الطلب على الأقمشة الأرجوانية والمطرزة، حيث أصبح رجال الكهنوت يرتدونها، ومن هنا زاد الطلب على هذه الأقمشة المطرزة، كما جاء الحجاج المسيحيون إلى فلسطين وأخذوا معهم ملابس أرجوانية وملابس مطرزة تبركاً بها وهدايا. ولهذا انتشرت الأزياء الفلسطينية في ربوع العالم المسيحي، حتى الموسيقى وأزياء الرهبان الخاصة بالكنائس هي من تراث أجدادنا الكنعانيين.
وما أن حل ظهور الإسلام ودخلت جيوش المسلمين فلسطين رغم تغيير أسماء المدن الرئيسية بأسماء يونانية ورومانية وبيزنطية ابتداء من 331 ق. م وحتى 631م، فقد حفظ الأقدمون الأسماء العربية وأورثوها لأجيالهم قرابة ألف عام وعندما ظهر الإسلام وذهب الاحتلال، أعادوا إلى مدنهم أسماءها الكنعانية العربية ومنها: -أسدود- يافا- غزة- عسقلان- بيت جبرين- عقرون وغيرها الكثير وهكذا يتضح لنا عروبة فلسطين عبر التاريخ.
أهم المراجع:
(1)عبد الرحمن المزين- الفن التشكيلي في فلسطين عبر التاريخ- ص 261،262.
(2)نفس المرجع السابق-ص 263.
(3) د. فيليب حتي- تاريخ سورية ولبنان وفلسطين- الجزء الأول- مترجم- ص 386 إلى 398.
(4)نفس المرجع السابق- ص403، 404.
(5)محمد خليل نايل ومحمد أمين عبد القادر –تاريخ العمارة- الجزء الأول ص 544، 245.
الباب الثالث عشر
فلسطين
خلال العصر الإسلامي
عادت فلسطين إلى عروبتها بعد أن طرد منها المحتلون البيزنطيون إثر ثلاثة أحداث هامة وهي:
أولاً- أجنادين:
وهي معركة قامت بين العرب المسلمين والروم والبيزنطيين بالقرب من الرملة، سنة 13 هجرية – 634 ميلادية، بقيادة عمرو بن العاص، وتم النصر فيها للعرب المسلمين.
ثانياً- معركة اليرموك:
جرت سنة 15 هجرية –636 ميلادية، وتم النصر فيها للعرب بقيادة خالد بن الوليد وهو انتصار حاسم.
ثالثاً- فتح القدس:
في سنة 17 هجرية- 638 ميلادية، فتحت القدس بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، وتم فتحها سلماً على يد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومنذ تحرير الشام (ومنها فلسطين)، بدأ المجتمع الشامي عامة أو المجتمع السوري يدخل في حياة جديدة يسودها طابع جديد.
فالفاتحون الجدد يتفقون مع سكان الشام في أنهم جميعاً عرب وكانت الشام ومنها فلسطين قبل قدوم الإسلام وثنية مسيحية كما كانت تخضع لنفوذ إمبراطوريات من جنس غير عربي، بينما ظهر بعد ظهور الإسلام فاتح جديد يحمل عقيدة الإسلام ومن جنس عربي، ولهذا تجاوب عرب فلسطين مع إخوانهم العرب الفاتحين، ولم يعترضوا على دخولهم بل استقبلوهم في مدينة القدس بالترحاب وأسلم غالبيتهم.
والملفت للنظر: إن اليونانيين والرومان والبيزنطيين، منذ عام 332 ق. م. وحتى عام 638م قد غيروا أسماء المدن الكنعانية العربية ولكن عرب فلسطين حافظوا على الأسماء الكنعانية العربية وأورثوها لأبنائهم جيلاً بعد جيل، وعندما ذهب المحتلون البيزنطيون عام 638م. وحل محلهم عرب، نجدهم وقد أعادوا إلى مدنهم أسماءها الكنعانية بعد غيابها 1000 عام. ومن هذه الأسماء: (عكا-أسدود- يافا- غزة- بئر سبع- بيت شمس-بيت جبرين- عقرون- بيت دجن- بيسان- أريحا- وغيرها الكثير).
ومنذ عام 638م توالت الخلافة الإسلامية على فلسطين: خلال عهود الأمويين- العباسيين- الفاطميين- الأيوبيين- المماليك- والعثمانيين. وخلال هذه الفترة الممتدة منذ عام 638م إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، تعرضت فلسطين لأطماع وغزوات المحتلين الأجانب ومنهم الصليبيون حيث سقطت القدس في أيديهم عام 1099م، ولكنهم طردوا منها على يد صلاح الدين الأيوبي عام 1173م، ثم تعرضت فلسطين لغزو التتار عام 1260م، ثم المغول عام 1400م ولكنهم طردوا منها. وأخيراً بعد الحرب العالمية الأولى احتلت فلسطين بواسطة البريطانيين حتى 15 أيار / أيار / مايو عام 1948م وخلال الانتداب البريطاني قامت في فلسطين عدة ثورات لطرد المحتلين البريطانيين والصهاينة الذين ساعدتهم وسمحت لهم بريطانيا بإقامة مستعمرات في وطننا فلسطين.
في 15 أيار / أيار / مايو عام 1948 ذهبت بريطانيا وحل محلها استعمار استيطاني وهو الاستعمار الذي ما زال جاثماً على أرضنا فلسطين حتى الآن ويذيق أهلنا في الأرض المحتلة شتى أنواع القهر والاستعباد، ولكن شعبنا منذ الفاتح من كانون الثاني / كانون الثاني / يناير عام 1965م وحتى الآن يناضل داخل فلسطين المحتلة وخارجها. لإقامة دولته العربية الفلسطينية المستقلة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد لشعبنا العربي الفلسطيني، وأن القدس هي عاصمة فلسطين.
القدس:
أهلها كنعانيون عرب ظهروا بشكل واضح منذ العصر الحجري المتوسط وكانوا في بادئ الأمر يسكنون في وادي النطوف شمالي غربي القدس حيث عثر على بيوتهم الدائرية والمسقفة بالقصب المخلوط مع التبن. كما وجدت (مواقد مربعة في وسط كل بيت، وقد أحيطت بأحجار طليت بمادة بيضاء قوية جداً وهي الجبس)(1).
وقد عرفوا الزراعة حيث عثرت على أدوات حصاد وهي مناجل شكلت من حجارة الصوان ومن النوع المعروف باسم "الشفرات الصوانية" ثبت في قبضة خشبية ذات شكل منحني مثل المنجل ويعتقد أنها كانت تستخدم لحصاد القمح(2) ويعود تاريخها إلى 12000 سنة قبل الميلاد.
وانتشروا بعد ذلك ليغطوا مرتفعات القدس وما جاورها منذ العصر الحجري الحديث، وقد دلت الحفريات الأخيرة التي قامت في "إيبلة" شمال سوريا وتعود إلى 3500 سنة قبل الميلاد أن أورشالم إحدى مدن الكنعانيين وطبيعي أن هذه الحفريات التي ظهرت فيها أسماء مدن كنعانية لم توجد فجأة، بل إن هذه المدن قد وجدت قبل ذلك التاريخ.
وتظهر فسيفساء من إمبراطورية حمورابي البابلية (2003-1950ق. م) وهم أمراء محليون كانوا يتقاسمون بلاد كنعان "فلسطين وأمور وسوريا" وكان أهم أولئك الملوك الكنعانيين ملك يبوس أو "أورشليمو" وكانت مملكته تمتد حتى الكرمل وهكذا تبدو أورشليمو، معروفة منذ العهد البابلي.
عثر في مدينة اليبوسيين "القدس أو أورشالم" على سور ضخم عرضه تسعة أقدام، وهو يمتد في أحد جوانب المدينة لمسافة 49 متراً، وأمامه خندق عرضه 11 متراً يعود إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، استخدمه اليهود عندما احتلوا مدينة اليبوسيين في القرن العاشر قبل الميلاد(3).
والاسم الكنعاني لمدينة القدس هو "أورشالم" وهو مشتق من اسم إله الشفاء الكنعاني حيث كانوا يعتقدون أن مكانه في القدس. وقد ورد اسم شالم في نصوص رأس شمرا "أوجاريت" الكنعانية.
وكما كانت مقدسة لدى أجدادنا الكنعانيين العرب، فقد قدست أيضاً خلال العصر الإسلامي، وقد شيد فيها العرب المسلمون كبرى العمائر الإسلامية الدينية وأهمها:
قبـة الصـخرة، والمسـجد الأقصى.
1- قبـة الصـخرة:
تعتبر هذه القبة من أقدم نماذج الفن المعماري الإسلامي، وقد أمر ببنائها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان سنة 72هـ- 691-692م. بقي في الصندوق الذي توجد به الأموال الخاصة ببناء القبة بعد الانتهاء من بنائها ما يعادل 100.000 دينار.
وقد أمر الخليفة بإعطاء هذا المبلغ مكافأة للرجلين اللذين أشرفا على عملية البناء، ولكن الرجلين اعتذرا عن أخذ المبلغ، فأمر الخليفة عبد الملك بن مروان بأن تسبك المائة ألف دينار وتوضع على القبة والأبواب.
وهذان الرجلان هما يزيد بن سلام وهو فلسطيني من مدينة القدس وكان من موالي الخليفة، والآخر رجاء بن حيوه الكندي، وكان من العلماء المعروفين في تلك الأيام.
وقد اعتمدوا في الغالب على بنائين ومعماريين محليين، كما أن العمال الذين ساهموا يف بناء هذه القبة هم عرب فلسطينيون من مدينة القدس ومن بينهم كثرة من النبطيين(4) وهم عرب كنعانيون.
تم بناء قبـة الصخرة في مدة تتراوح ما بين 3 إلى 5 سنوات، هذا وقد روى الكثير عن سبب بناء قبـة الصخرة، فقد كتب اليعقوبي الذي توفي في عام 284هـ، عن سبب بناء هذه القبة فقال: (إن عبد الملك منع أهل الشام من الحج، وذلك أن عبد الله ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة، فلما رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة، فضج الناس وقالوا، تمنعنا من حج بيت الله الحرام وهو فرض من الله علينا!
فقال: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسـجد الحرام وي ومسـجد بيت المقدس- وهو يقوم لكم مقام المسـجد" وهو الصخرة وضع قدمه عليها رسول الله لما صعد إلى السماء تقوم لكم مقام الكعبة. فبنى على الصخرة قبة وعلق عليها ستور الديباج وأقام لها سدنة وأخذ الناس يطوفون حول القبة(5).
ويتكون التخطيط المعماري لقبـة الصـخرة من بناء حجري مثمن يتكون من مثمن خارجي يتكون من ثمانية جدران طول كل منها حوالي عشرين متراً ونصف متر، وارتفاعه حوالي تسعة أمتار ونصف متر، وفي أعلى كل جدار من هذه الجدران توجد نوافذ يدخل منها النور إلى داخل المسـجد. وفي الجدران المقابلة للجهات الأربع الأصلية من المثمن توجد أربعة أبواب. ويقسم كل جدار من هذه الجدران إلى قسمين، علوي مبلط بالقاشاني الصغير الحجم نسبياً وسفلي وهو مغطى بالرخام.
ويلي المثمن الخارجي دائرة تتكون من أربعة أكتاف واثني عشر عموداً تحمل فوقها ستة عشر عقداً مدبباً. ويلي العقود رقبة أسطوانية بها ست عشرة نافذة وفوقها قبة. وهي القسم العلوي المذهب من قبـة الصـخرة، ويبلغ قطرها حوالي عشرين متراً وأربعة وأربعين سنتمتراً. وقد شكلها الفنان من طبقتين من الخشب الداخلية تغطيها طبقة من الجص المزخرف بمجموعة من الفصوص الذهبية الخارجية مغطاة بطبقة من الرصاص المطلي بالذهب(6).
جعل الفنان المعماري بين طبقتي الخشب فراغ حتى يسهل الترميم، وكذلك العزل الحراري. وتتراوح سعة هذا الفراغ من عند العنق حوالي 75 سم، ثم يزداد هذا الفراغ تدريجياً ويصل إلى 118 سم ثم إلى مترين في وسط القبة، ولقد استبدلت أخيراً الطبقة الخارجية الرصاصية المذهبة، بطبقة من معدن الألومنيوم المذهب.
وسط هذا البناء وأسفل القبة مباشرة تقع الصخرة المقدسة وقد وصفها كريزول:
"إن طولها 18 متراً من الشمال إلى الجنوب وعرضها 13 متراً من الشرق إلى الغرب وأن أقصى ارتفاع لها حوالي متر ونصف المتر".
وتحت الصخرة المقدسة مغارة يوصل إليها سلم ضيق عدد درجاته 11 درجة.. وهي مربعة طول ضلعها حوالي أربعة ونصف متر، وهذه الصخرة زارها الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عندما فتح أبو عبيدة الجراح فلسطين، وقد كانت مغطاة بالقاذورات فأمر الخليفة واحداً من أهل المدينة بأن ينظفها وكان من الأنباط العرب وقد نظفها، واتفق أن هطلت الأمطار بعد ذلك وقد أذن عمر بعد ذلك للصلاة فوقها(7) وقد أقام عمر مصلى من الخشب بعد ذلك قبل أن يقيم عبد الملك بن مروان على أنقاض البناء الحالي وهو قبـة الصـخرة.
يشاهد الناظر للقبة من الداخل أن الأقواس الداخلية نصف دائرية، وكذلك أقواس النوافذ، أما الأعمدة فهي من مباني قديمة دمرتها جيوش كسرى عام 614م ومعظمها من الكنائس وعددها داخل المسـجد حوالي 12 عموداً، وهي تختلف من حيث طرزها المعمارية وقد استخدمت روابط خشبية لربط التيجان.
تعتبر قبة الصخرة من أبدع العمائر الإسلامية وأقدمها، كذلك من أقدم نماذج القباب الإسلامية. وقد بني مسـجد قبـة الصـخرة في وسط قطعة من أرض القدس منبسطة ومرتفعة نوعاً عما حولها، وتبلغ مساحة الأرض المقدسة التي تضم قبة الصخرة والمنطقة المحيطة بها، والتي تعرف بفناء الصخرة وكذلك المسـجد الأقصى حوالي 260.000متر مربع. ويوجد في فناء الصخرة ثمانية قناطر تكلل الأدراج أو المراقي التي يصعد عليها المرء إذا ما أراد الانتقال من أرض الحرم الشريف إلى فناء الصخرة.
وقد انتقل تأثير قبة الصخرة إلى الطرز المعمارية الإسلامية ففي العصر العباسي اتبع الأسلوب المثمن المتبع في تخطيط مبنى مسـجد قبة الصخرة وخاصة في بناء الأضرحة.
فضريح قبة المنتصر والتي تعرف باسم قبة الصليبيين في سامرا، كان تخطيطه مثمناً وفي وسطه حجرة الدفن وتعلوها قبة، وفي العصر المملوكي اتبع نظام تشكيل مسـجد قبة الصخرة، وذلك في تشكيل قبة مسـجد السلطان حسن حيث كانت القبة من الخشب ومغلفة بالرصاص.. كما استخدم تخطيط قبة الصخرة في العصر المملوكي وخاصة في قبة قلاوون من فناء مكشوف تحيط به أروقة معقودة بقبوات وهي تحيط به على تخطيط مثمن مثل تخطيط مسـجد قبـة الصـخرة"(8).
1-خلاصة القول أن مبنى مسـجد قبة الصخرة الذي يعتبر من أبدع وأقدم العمائر الإسلامية هو من عمل فنانين عرب من فلسطين وقد أشرف على بنائه رجلان عربيان هما يزيد بن سلام وكان من المقدسيين ومن موالي عبد الملك بن مروان، ورجاء بن حيوه الكندي، وكان من العلماء المعروفين في تلك الأيام وقد اعتمدا في الغالب على بنائين ومعماريين محليين، كما أن أكثر الذين ساهموا في بناء مسـجد الصخرة كانوا كما ذكر المؤرخون من أهل القدس. "لقد كان جل اعتماد المسلمين في البداية على الصناع والفنيين من المسيحيين السوريين وكلمة سوري تعني شامي والمقصود بها سكان (سورية-لبنان-فلسطين- الأردن).
كما يرد أيضاً أنهم "كانوا أساتذة المسلمين في هذا الميدان". ونشأ على يد الجميع الطراز الأموي في الفنون الإسلامية، ونقل القواد والولاة وأتباعهم أصول هذا الطراز من الشام إلى سائر الأقاليم الإسلامية فتأثرت بها الأساليب الفنية القديمة في تلك الأقاليم"(9).
2-كما أن الشكل الثماني قديم بفلسطين وقد عبد منذ 4500 سنة ق. م.
3-كذلك القبة التي ظهرت في البناء في فلسطين منذ 12000 سنة ق. م.
وبهذا نستطيع أن نرفض الآراء المغلوطة والتي يقولون فيها بأن قبة الصخرة متأثرة بالفن البيزنطي والساساني. إذ إن النظام المعماري لقبة الصخرة قديم بفلسطين وكذلك الشكل المثمن وأن العمال والبنائين والمشرفين على عملية البناء هم عرب من فلسطين وسوريا.
2-المسـجد الأقصى:
ويقع جنوب مسـجد الصخرة على بعد 500 متر من رقعة الحرم الشريف، وقد أنشئ أول الأمر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك سنة 17هـ- 638م، وقد زاره أركولف وهو سائح أوروبي حوالي عام 670م، وقد وصفه بأنه بسيط للغاية، وقد شكله الفنان من الخشب واللبن، وهو مستطيل الشكل ويتسع لحوالي 3000 من المصلين. وقد أمر بإعادة بنائه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. وكان قوامه الأروقة موازية للقبلة يعترضها رواق عريض.
وقد أتم بناؤه ابنه الوليد بن عبد الملك سنة 86هـ- 705م(10)، يبلغ طول المسـجد الأقصى حوالي 80 متراً وعرضه 55 متراً وارتفاعه 15 متراً، ويقوم الآن على مساحة تبلغ نحو 4500 متر مربع. وبه ثلاثة وخمسون عموداً من الرخام، وتسع وأربعون سارية مربعة الشكل. وبه مائة وسبع وثلاثون نافذة. وكانت أبوابه الإحدى عشرة زمن الأمويين ملبسة بصفائح الذهب والفضة، ولكن أبا جعفر المنصور أمر بقلعها وتسييجها إلى دنانير تنفق على المسـجد وفي أوائل القرن الحادي عشر في زمن الفاطميين أصلحت بعض أجزائه، كما تشكلت قبته وأبوابه الشمالية وعندما احتل الصليبيون بيت المقدس عام 1099م حولوا قسماً كبيراً من المسـجد إلى كنيسة، كما جعلوا القسم الآخر إلى الكنيسة مسكناً لفرسان الهيكل ومستودعاً لذخائرهم. ولكن عندما استعاد صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين بيت المقدس، أمر بأن يصلح المسـجد الأقصى، وبتجديد المحراب، كما أمر بأن تكسى القبة بالفسيفساء، وقد وضع فيه منبراً خشبياً وعرف باسمه، وقد عني بعد ذلك سلاطين المماليك، وسلاطين بني عثمان بالمسـجد.
هذا ويوجد داخل الأقصى جامع يعرف باسم جامع عمر، وهو مستطيل الشكل وإيوان كبير يعرف بمقام عزيز وإيوان صغير يعرف بمحراب زكريا، ويوجد رواق كبير أمام المسـجد من الشمال، وقد أمر بإنشائه أحد ملوك الأيوبيين وذلك سنة 1217م.
ويتألف هذا الرواق من سبع قناطر مقصورة كل واحدة تقابل باباً من أبواب المسـجد كما يوجد تحت الأقصى القديم أو الإسطبل وقوامه سلسلة عقود تقوم على أعمدة ضخمة(11).
تعرض المسـجد المقدس (الأقصى) والتحفة الفنية التي تجمع مدارس الفن الإسلامي (الأموي-العباسي-الفاطمي-الأيوبي- المملوكي-العثماني) للحريق في 21-8-1969م على يد السلطات الصهيونية وألصقت التهمة بشاب أسترالي.
"وقد ثبت من خلال التصريح الذي أعلنه سماحة الشيخ حلمي المحتسب رئيس الهيئة الإسلامية بالقدس في مؤتمره الصحفي الذي عقده بعد الحريق ونشرته جريدة "القدس" بتاريخ 22-8-1969م.
ومن خلال التقارير التي وضعها المهندسون العرب، الذين انتدبتهم الهيئة الإسلامية في القدس للكشف عن الحريق، كذلك الصور التي أخذت للمسـجد من الداخل والخارج بعد الحريق.. إنه حريق مفتعل وغير طبيعي، وليس من جراء خلل في شبكة الكهرباء، ومما يثبت تعمد الحريق أن مياه البلدية لدى سلطات الاحتلال قد قطعت عن منطقة الحرم الشريف فور ظهور الحريق، كما أن سيارات الإطفائية التابعة لبلدية سلطات الاحتلال تأخر وصولها ومباشرتها لعملية الإطفاء كي يتم الحريق. كما أن الذي ساهم وساعد على إطفاء وإخماد الحريق هو وصول سيارات إطفاء بلديتي رام الله والخليل ولكن بعد أن أتى الحريق على منبر صلاح الدين والسطح الشرقي الجنوبي للمسـجد، حيث أتى على سقف ثلاثة أروقة، وعلى جزء كبير من هذا القسم(12). كما يبين أمين القدس روحي الخطيب، أن الحريق كان معتمداً من سلطات الاحتلال الصهيوني من خلال صور الحريق، والتي يبدو فيها أن حريق المنبر لم يلتق مع حريق الأروقة.
فيقول: "أما الصور التي أخذت للموقع بعد الحريق مباشرة، فإنها تكشف عن الحريق الأول الذي أتى على المنبر، لم ترتفع إلى السقف الذي فوق المنبر، وبناء عليه فإن هذا الجزء من السقف لم يتأثر، هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى، فإن ألسنة نيران الحريق الثاني لم تمس جدران وأعمدة الأروقة التي تحتها، ولم تمس حتى السجاد المفروش في هذا الجزء... و بالإضافة إلى ذلك، فإنه لم يحصل أي لقاء بين الحريقين الأول والثاني.
ولما كان ارتفاع السقف عن أرض المسـجد يبلغ 15 متراً. وحيث إنه لم يكن هناك أي اتصال قريب بين موقع المنبر والسطح الشمالي الشرقي، ولما لم يكن هناك أية دلائل تشير إلى اتصال بين الحريقين، فإنه لمن المؤكد أن حريقين منفصلين قد حصلا في وقت واحد"(13).
والنظام المعماري للمسـجد الأقصى هو نظام محلي كنعاني عربي ظهر بفلسطين في العصر الحجري النحاسي وذلك منذ 4500 سنة ق. م وكانت تمتاز به العمارة الدنيوية في مدينة (بيت شان) بيسان. كذلك ظهر في تشكيل التوابيت الفخارية وخاصة توابيت الخضيرة منذ 4500 ق. م.
أما بالنسبة لبناء المآذن، فالمعروف أن أقدمها في الشام مئذنة المسـجد الأموي بدمشق، ومئذنة بيت المقدس في القدس، ومئذنة المسـجد الجامع في غزة.
والمعروف أن المساجد الأولى في الإسلام كانت بغير مآذن كما أن الرسول والصحابة كانوا يصلون في البداية من غير آذان وعندما أذن بلال بأمر من الرسول الكريم (صلعم) فقد كان يؤذن من أعلى سطح يجاور المسـجد.
أما المآذن فقد استخدمت كما ورد لأول مرة في الشام في مدينة دمشق حيث أذن للصلاة من أبراج المعبد الوثني القديم الذي أقيم مكانه المسـجد الأموي.
وقد كانت الأبراج مربعة الشكل واستخدم هذا الطراز في دمشق، والقدس وغزة. كما عم استخدام هذه المآذن في المغرب العربي.
ومن هنا نرى أن المآذن الأولى ظهرت في الشام في سوريا وفلسطين، وكانت أبراجها مربعة ومنها انتقل إلى أنحاء العالم الإسلامي، خاصة في الجزيرة العربية ومصر وبلاد المغرب والأندلس.
بقي هذا النظام المعماري حتى الآن في غربي العالم الإسلامي كذلك يظهر بكثرة في الشام وفي بعض أجزاء العالم الإسلامي.
ومن أمثلة هذا الطراز وأقدمها في بلاد المغرب، مئذنة جامع سيدي عقبة في القيروان. وقد شيدت في عصر هشام بن عبد الملك وهي تقليد لمآذن سوريا وفلسطين "فهي برج مربع ضخم يضيق كلما ارتفع وتعلوه شرفات وطابقان"، ومن الأمثلة الأخرى التي تأثرت بطراز سوريا وفلسطين منارة "مئذنة" الكتيبة في مراكش، ومئذنة المسـجد الجامع في إشبيلية بالأندلس وتعرف الآن باسم برج الكاتدرائية.
كذلك مئذنة حسن في الرباط وتاريخها يرجع إلى القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي(14).
وقد شاع بفلسطين استخدام نوعين من المآذن:
1-المآذن المربعة: ومن أمثلتها مئذنة في بيت المقدس وهي منتشرة في معظم مدن فلسطين والقدس والرملة وعكا وحيفا ويافا وغزة والخليل ونابلس.
2-المآذن المثمنة: تقوم على قاعدة مربعة وبدنها مثمن الأضلاع، وما زال يستخدم حتى الآن.
وكلا الطرازين مستمد من الطراز العربي الكنعاني القديم الذي ظهر في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق.
وبهذا نستطيع أن نقول أن أولى العمائر الإسلامية بفلسطين تعتبر من أول النماذج المعمارية الإسلامية وهي ابتكار عربي محلي وامتداد لطراز أجدادنا الكنعانيين.
أهم المراجع:
(1)د. وليد الجادر- دراسة في حضارة العراق والشرقين الأوسط والأدنى القديمة –مترجمة 65 مجلة الأقلام- العدد السادس- وزارة الإعلام- بغداد- 1972م.
(2) د. فيليب حتي- تاريخ لبنان- مترجم- ص 62، 65، 1972م.
(3) Kenyon: Biblical Archaeologist, Vol. XXVII May 1964, No. 2, p. 40.
(4)مجلة العربي العدد – 161 مارس 1972م- ص 95.
(5) د. زكي محمد حسن- فنون الإسلام ص 37-38.
(6)أبو صالح الألفي –الفن الإسلامي- (145، 146، 147، 132) د. زكي محمد حسن، فنون الإسلام – ص 36، 37.
(7)الدليل السياحي الأردني- وزارة السياحة والآثار- عمان ص 97، مجلة العربي، العدد 160 مارس 1972م-ص50.
(8)راجع: أبو صالح الألفي- الفن الإسلامي ص (195 إلى 198).
(9)د. زكي محمد حسن- فنون الإسلام من (44 إلى 150).
(10)أبو صالح الألفي ص 150.
(11)الدليل السياحي الأردني- وزارة السياحة والآثار – ص 97، 98، مجلة العربي- العدد 160 – ص 64.
(12) أمين القدس: روحي الخطيب- تهويد القدس- الجزء الأول ص 38 إلى 43.
(13) نفس المرجع السابق: ص 43، 89، 93.
(14)د. زكي محمد حسن- فنون الإسلام- ص 144 إلى 150.
الباب الرابع عشر
الخاتمة
ومن خلال عرضنا السابق لتاريخ فلسطين القديم، يتضح لنا الحقائق التاريخية التالية:
-أقدم ظهور لإنسان فلسطين كان في العصر الحجري القديم، وأماكن تواجده الأولى في كهف أم قطفة، ومغارة الزطية، والسخوم، والطابون، والوادي، وكهف الأميرة وعلى جانبي مجرى نهر الأردن.
-أقدم أدوات حجرية استخدمها إنسان فلسطين تعود إلى العصر الحجري القديم منذ 280.000 سنة على الأقل، وتتكون من الفؤوس اليدوية والبلطات اليدوية والمطارق والسواطير والسكاكين، وأدوات التخريم، ثم تطورت إلى أدوات دقيقة وهي الأسلحة النصلية السهلة الحمل والتنقل.
-عرف إنسان فلسطين النار منذ 150000 سنة في مغارة الطابون، وتتكون من أخشاب السنديان والطرفاء والكرمة والزيتون.
-أقدم هياكل عظمية متحجرة بشرية في منطقة الشرق الأدنى القديم، عثر عليها في مغارتي الطابون والسخول، وكذلك في جبل القفزة في كهف يقع جنوب الناصرة وتاريخها يعود إلى 100.000 سنة على الأقل.
-في العصر الحجري المتوسط، عرف إنسان فلسطين استئناس الحيوانات وتربيتها منذ 15.000 سنة، وعرف الزراعة وبناء القرى منذ 12.000 سنة قبل الميلاد.
-عرف إنسان فلسطين العمارة الدنيوية والجنائزية منذ 12.000 سنة قبل الميلاد.
والعمارة التحصينية والدينية منذ 7800-7000 سنة قبل الميلاد، هم عرب كنعانيون كما تشير إلى ذلك الدلالات الأثرية المادية الملموسة وأهمها:
1-النظام الدائري للقبة الذي ظهر في قرى عين ملاحة، وعينات، وأريحا، ووادي النطوف. هذا النظام المعماري من أهم مميزات العمارة الكنعانية وخاصة منذ بداية عصر البرونز المبكر، كذلك أصبح من أهم مميزات العمارة الإسلامية.
2-النحت الذي عثر عليه في مغارة الوادي، ويمثل عضو التزكير، هذا النحت كان يستخدم لدى الكنعانيين، وخاصة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وتعرف باحتفالات عيد آلهة الخصب، وهذه الدلالات تشير إلى أن أهل فلسطين خلال العصر الحجري المتوسط كانوا عرباً كنعانيين.
-في العصر الحجري الحديث عرف أول استقرار كامل بفلسطين، وذلك في مدينة أريحا منذ (8000-7000 سنة قبل الميلاد).
كما عرفوا نظام العمارة التحصينية التي تتكون من خندق وبرج وأسوار عالية، وعرفوا المعابد وفن النحت والفخار والنسيج منذ 6800 سنة قبل الميلاد. وهناك دلالات على عروبة فلسطين في هذه المرحلة وهي:
1-وجد مبنى غريب الشكل وقد عثر على جماجم للأطفال تحت أساسات المبنى وهذه، عادة كنعانية.
2-عثر على شواهد أثرية عبارة عن أعمدة حجرية على جانبي نهر الأردن، وداخل معبد أريحا، وهذه رموز لآلهة كنعانية ظهرت بشكل واضح خلال عصر البرونز المبكر.
3-التماثيل الثلاثية التي عثر عليها في معبد أريحا، تذكرنا بالثالوث في العبادة الكنعانية، إله الخصب، آلهة الخصب، وعدو إله الخصب.
4-تمثال آلهة الخصب الذي عثر عليه في أريحا هو تمثال للآلهة عناة التي عرفت في نصوص أوجاريت، حيث تمسك بثدييها لتعطي الخصب والحياة لأرض الكنعانيين –سوريا-لبنان-فلسطين-الأردن.
5-النحت الصوري الذي عثر عليه في أريحا، وهو الجماجم المغطاة بالجبس، يظهر على إحدى هذه الجماجم غطاء للرأس، وهو يشبه تماماً غطاء الرأس المعاصر الذي تلبسه النساء الفلسطينيات ويعرف باسمه الشعبي "الوقاية" أو "الصمادة" أو "العصبة". وهذه هي العصبة الكنعانية، كذلك فإن هناك جماجم ظهرت حليقة، وهي عادة كنعانية، حيث يظهر الكهنة الكنعانيون على جدران مقابر المصريين في طيبة حليقي الرؤوس.
6-المباني التي تلتف حول باحة تتوسطها ذات الأبواب الواسعة والأقواس، هي مبان ذات نظام معماري كنعاني ما زال متبعاً حتى الآن في الأرياف الفلسطينية والمدن.
7-المحراب الذي ظهر في معبد أريحا، هو المحراب الذي ظهر في المعابد الكنعانية خلال العصور التاريخية، وقد نقله "اليهود" إلى الكنيس ثم نقل إلى الكنيسة المسيحية، ثم ظهر في المساجد الإسلامية وهو في الأصل نظام معماري عربي كنعاني ظهر في فلسطين منذ 6800 سنة قبل الميلاد.
8-فخار أريحا الذي يعود إلى 5500 سنة قبل الميلاد تقريباً، فيه أشكال الإبريق والزبدية وصحن أبو عشرة "اللقان" وهي من أهم الأواني الكنعانية وخاصة الإبريق والزبدية. وهذه الأدوات ما زالت تشكل حتى الآن بين أبناء شعبنا العربي في غزة والخليل، وخان يونس ونابلس.
-في العصر الحجري النحاسي- عرف إنسان فلسطين العمارة الدنيوية والدينية والجنائزية وعرف الزراعة المعتمدة على الري، وزادت علاقته مع جيرانه، وأهم مواقعه الأثرية أريحا-وادي غزة- بئر السبع-الغسولية- مجدو- بيت شان- الخضيرة- تل الفارعة- تل جازر. وأهل هذه الحضارة هم عرب كنعانيون ويدل على ذلك:
1-عثر على أطفال تحت أساسات المباني داخل جرار فخارية وهي عادة كنعانية
2-زخارف التوابيت الفخارية هي نفس الزخارف التي توجد على الأزياء المعاصرة الفلسطينية.
3-عرفوا فن التطريز في هذه المرحلة 4500 سنة قبل الميلاد.
4-أوانيهم الفخارية كلها كنعانية وما زالت حتى الآن وخاصة الزبدية والبوشة.
-في عصر البرونز 3000-1200 سنة قبل الميلاد، انضم لأهل فلسطين من العرب الكنعانيين عرب جدد جاؤوا من شمال سوريا والبعض من أرض الرافدين ومن جنوب بلاد العرب وسبقهم أيضاً عرب انضموا لأهل فلسطين منذ 3500 قبل الميلاد. وتطورت حياتهم وظهر نظام المدن أو الممالك المستقلة بشكل واضح.
فكل مدينة يطلق عليها مملكة وهي ذات تحصينات تتكون من الأبراج البوابات الضخمة. واشتهروا بصناعة الأرجوان التي اكتسبوا اسمهم منها. كذلك اشتهروا بالأسلحة الحربية وخاصة العربات الحربية، والصناعات العاجية، وقد ظهرت لهم قوة عرفت في التاريخ باسم الهكسوس، وهم عرب كنعانيون وعموريون من سكان سوريا ولبنان وفلسطين والأردن.
وفي هذه الفترة أيضاً حدثت هجرات عربية كنعانية إلى جزر بحر إيجه، وقد عادت بعض هذه القبائل، ومنها قبيلة البولستا إلى فلسطين وهي كنعانية عربية.
-وفي عصر الحديد- حدث غزو لبعض المدن الجبلية الكنعانية وخاصة شكيم "نابلس" وأورشالم "القدس". واحتلت من قبل مجموعة خليطة يدينون باليهودية، ولكنهم انتهوا من شكيم "السامرة" عام 722 سنة قبل الميلاد، ومن أورشالم القدس عام 586 قبل الميلاد. كما خضع أهل فلسطين لحكم الإمبراطوريات الكبيرة، وهي آشور وبابل ثم الفرس، ثم اليونانيين عام 331 قبل الميلاد ثم الرومان والبيزنطيين منذ عام 64 قبل الميلاد، لتعود إلى فلسطين حريتها وعروبتها.
وتوالت بعد ذلك الخلافة الإسلامية وظهر الأمويون والعباسيون والفاطميون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون. وخلال هذه الفترة تعرضت فلسطين لغزوات متعددة: هم الصليبيون والمغول والتتار. وبعد الحرب العالمية الأولى الإنكليز، وفي عام 1948 تعرضت فلسطين لأطماع الاحتلال الاستيطاني الصهيوني حتى الآن. وهذه الأرض التي سكنها أجدادنا العرب الكنعانيون منذ العصر الحجري القديم وأنشأوا أول قرى بفلسطين عربية منذ 12000 سنة قبل الميلاد، هذه الأرض ستبقى عربية رغم الاحتلال الصهيوني لها. وسيستمر النضال بفضل سواعد ثوارنا المقاتلة داخل أرضنا المحتلة وخارجها، حتى تقوم الدولة العربية الفلسطينية المستقلة، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وسيرتفع علم فلسطين فوق عاصمتها القدس... مدينة أجدادنا الكنعانيين التي ظهرت منذ سنة آلاف سنة على الأقل.