بحث هذه المدونة الإلكترونية

2014-05-05

من الذاكرة الفلسطينية: الحاج إسماعيل سلامة حسين شاهد عيان على مجزرة الصّبيح






لن أنسى ولن أغفر مقتل أمي وإخوتي الأربعة، وصورتهم لا تزال ماثلة أمامي

أحمد الباش
مشاهد وفصول لملحمة بطولية سطّر ثلة من أبناء عشيرة الصبيح، وترويها ذاكرة واعية وقارئة للحاج إسماعيل سلامة حسين، شاهد العيان الذي جمع بين البصر والبصيرة.

التاريخ: فجر السادس من أيار عام 1948، ساحة المعركة بيوت ومضارب عشيرة الصبيح في قضاء الناصرة.

دماء ودموع
بدا المشهد يومها قاتماً، أبي وأخي خليل مصابان بجروح إثر المواجهة الدامية في الدفاع عن القرية، وينقلان إلى مستشفى الناصرة. أنا في السادسة من العمر، وأخي حسن في الرابعة، نختبئ خلف الباب، نراقب ما يحدث، ثرثرة جنود في الخارج، لغة لم نعتد سماعها. جنديان من العصابات الصهيونية يدخلان البيت من الباب الحديدي مدججين بالأسلحة والذخائر. يتقدمان نحو أمي وإخوتي. المشهد لا يزال ماثلاً أمامي وكأنَّه حصل بالأمس القريب: إخوتي الثلاثة يقتلون، لكل واحد منهم رصاصة في رأسه: حسين ابن الإثني عشر ربيعاً؛ وخالد ابن العاشرة؛ وغانم ابن الثامنة، وأمي. أمي يطلق عليها رشقات من رشاش غادر وهي تحمل رضيعها! تسقط أمي صريعة على الفور، أحمل أنا وأخي حسن أخي الرضيع حسني وهو مصاب وينزف، سرعان ما يفارق الحياة بين أيدينا.

بعد أن خرّب الجنود محتويات البيت، وكسروا جرار الزيت الذي اختلط بدماء أمي وإخوتي؛ انتقل الجنود الصهاينة إلى بيتنا الثاني، وكان فيه خالتي عليا النمر، أطلقوا عليها النار على الفور فألقوها صريعة أيضاً؛ حاول ابنها أن يفتح الباب ليخرج من البيت ويهرب؛ فأمطروه بوابل من الرصاص وأردوه قتيلاً. انسحب الصهاينة إلى الخارج. وبعد قليل خرجنا من البيت وذهبنا إلى بيت جارنا أبو عباس، وكان عندهم «تصوينة» كبيرة. رأيت الجنود متمركزين على تلك «التصوينة» يجمعون بعضهم وينقلون قتلاهم وجرحاهم من ساحة المعركة إلى خارج القرية، وأذكر أنه كان بينهم مجندات يهوديات اشتركن في المعركة.

هذا جزء من المشهد، والمشهد بالكامل كان يقول: إنَّ الخطر الداهم بات على الإنسان وعلى الأرض معاً.

مستوطنة (بيت كيشت) شرارة المعركة الأولى:
بدأت الشرارة الأولى عندنا بعد أن بُنيت على أطراف القرية مستوطنة سميت "بيت كيشت" في بداية الأربعينيات من القرن الماضي؛ حيث بدأ المستوطنون يزحفون بحدود مستعمرتهم على أراضي القرية ومضارب العشيرة، وبدأوا يحرمون أبناءها مراعيهم المعتادة في أراضيهم. لم يصبر أبناء عرب الصبيح على ذلك، وأخذوا يتحدون تلك العصابات بإرادة وتصميم؛ ما أدى إلى تسارع الأحداث، وصولاً إلى المعركة الحاسمة.

أول معركة خاضها عرب الصبيح كانت خارج مضاربهم، وعلى "طريق عين ماهل"، وقد وقعت حين هبّ رجال العشيرة لنجدة إخوانهم في القرى المجاورة (كفر كنّا، وعين ماهل)؛ حيث قامت مجموعة من رجال عرب الصبيح بقيادة القائد علي النمر برصد عودة الصهاينة إلى المستعمرة، فنصبوا لهم كميناً محكماً كانت من نتيجته تكبّد العدو خسائر فادحة، بينما لم يصب أحد من رجال العشيرة. وقد عُرفت تلك الخسائر من آثار الدماء في أرض المعركة، ومن الأسلحة التي خلفها الأعداء وراءهم؛ راح اليهود يبحثون عن وسيلة ينتقمون بها من هذه العشيرة المجاهدة، فقرروا منع المواشي والرعيان منعاً باتاً من دخول المراعي التي صادروها لهم من قبل؛ وعلى الفور كان رد الرجال في القرية المواجهة السريعة؛ وذلك لتلقين هذه العصابات درساً لا ينسونه أبداً، وقد يضطرهم بعد ذلك إلى الرحيل.

أدخل الرجال بعضاً من قطعان الماشية إلى أراضيهم التي منعوا من دخولها، وفي الوقت نفسه نصبوا كميناً للمستوطنين الصهاينة من مستعمرة "بيت كيشت". رأى الصهاينة تلك المواشي، فهبّوا لمصادرتها، ووقعوا في الكمين الذي نصب لهم؛ فأمطرهم المقاتلون بقيادة القائد علي النمر بوابل من الرصاص؛ فقتلوا منهم سبعة مستوطنين؛ بينما فرّ الباقون مذعورين مهزومين، وتركوا قتلاهم في أرض المعركة. ثم سحبت الجثث إلى مكان المقاتلين. حاول الصهاينة مراراً وتكراراً الإغارة على العشيرة لتخليص جثث قتلاهم ولم يستطيعوا ذلك، فلجأوا أخيراً إلى التفاوض، ووسّطوا لذلك البريطانيين والصليب الأحمر الدولي، واستطاعوا بذلك استرداد جثث قتلاهم.

تفاصيل المعركة الكبرى
بعد هذه المعركة التي أطلق عليها معركة الصبيح الأولى، والتي وقعت في 3 آذار 1948م؛ أخذ الصهاينة يسلحون أنفسهم أكثر فأكثر، واستقدموا لذلك تعزيزات إضافية من أمهر ضباطهم وجنودهم من عصابات البالماخ (التي هي نخبة عصابات الهاغانا)، وبدأوا يُعدّون العدة لخوض لمعركة كبيرة وواسعة؛ انتقاماً لما حصل معهم في المعركة السابقة على أرض الصبيح؛ بينما وصل بعض الأسلحة الخفيفة إلى المدافعين عن القرية من مدينة الناصرة. ومع بزوغ فجر السادس من أيار من عام 1948؛ فاجأ الصهاينة أبناء العشيرة بهجوم كبير كان واضحاً أنه غير متكافئ، لا بالعتاد ولا بالرجال؛ وبعد قتال عنيف استبسل فيه المدافعون، وسقط فيهم الشهداء والجرحى، ومع نفاذ الذخيرة؛ اضطر المقاتلون إلى الانسحاب إلى خارج القرية.

جرح في المعركة القائد علي النمر، وكان بجانبه ابنه (حسين) الذي قام بتغطية انسحاب أبيه من القرية. بعدها دخل الصهاينة إلى الساحات، وحاصروا بيت علي النمر، ومن ثم لغّموه ونسفوه. وكل ذلك كان من أجل قتل هذا القائد؛ وبالتالي كسر معنويات المقاتلين المدافعين عن العشيرة. طبعاً اليهود ظلوا متابعين زحفهم وتغلغلوا بالمضارب، وأصبحت المقاومة أثناءها من بيت إلى بيت؛ لكن، كما قلت: "المعركة كانت غير متكافئة".

شهداء وجرحى من القرية:
استعمل الصهاينة خلال الهجوم على القرية، المدافع المتوسطة والأسلحة الرشاشة؛ لذلك وقعت خسائر كبيرة بالمدافعين عن القرية ما بين شهيد وجريح، وخاصةً بحمولة الضهرات (أحد الفروع الخمسة لعشيرة الصبيح). وأذكر من الشهداء على سبيل المثال لا الحصر: حامد اجليّل، ومحمود العيد، وإبراهيم الحمد، وياسين الساري، وعلي الذياب، ومحمد أسعد القاسم، وسليمان الشمسي، ومحمد عقاب البياضي؛ أما جرحى المجزرة فأذكر منهم: حسن سعيد الحساني، ووالدي (سلامة حسين)، وأخي (خليل سلامة حسين)، وتوفيق النهار، وساري العقلة، وإسماعيل ساري العقلة، وإبراهيم النهار، ومحمود اشتيوي، وذياب الشكور، وحسن سعيد إحساني.

بعد أن انتهت المعركة؛ عاد المقاتلون من أبناء العشيرة، الذين كانوا قد ذهبوا لنجدة إخوانهم في قريتي (لوبية والشجرة)، ومعهم نجدات من تلك القرى، ليلتقوا في القرية مع نجدات أتت من قريتي:
"عين ماهل"، و"كفر كنّا"؛ وذلك بعد أن وصلتهم أنباء القتل والدمار الذي لحق بعشيرة الصبيح وأهلها، وبدأوا يحصون الخسائر ويجمعون جثث الشهداء من المنازل والساحات من النساء والأطفال والشيوخ، وأذكر منهم: غزالة النمر (زوجة سلامة حسين الخليل)، وأولادها الأربعة: حسين، وخالد، وغانم، وحسني؛ وعليا النمر (زوجة علي محمد الخليل)، وابنها (محمود علي المحمد)؛ وعدلة السعيد (زوجة محمد الخليل)، وأولادها الثلاثة: صالح، وسمية، وشمسية؛ وعمشة صعوب (زوجة أحمد حسين الخليل)؛ والشيخ الضرير (رجا الفارس)؛ والشيخ عايد الموسى؛ وعلي الخروب؛ أما الجرحى فأذكر منهم: حمدة إبراهيم (زوجة ياسين حوران)؛ وحمدة الخضر؛ والطفل عيد المحمود، والطفلة صالحة محمد الخليل، التي ضربت رجلاها بالفؤوس.

جمعت جثث الشهداء وكانوا بحدود ثلاثين شهيداً، نقلوا جميعاً بدون جنازة، ودُفنوا في مغارة في مدفن جماعي على أطراف القرية من الجهة الشمالية الغربية، وأغلقوا بابها.

هذه المجزرة جعلت الجميع في العشيرة يشعر بأن القرية أصبحت غير آمنة، وخاصة بعد أن دمرت العصابات الصهيونية من البالماخ، بيوتها وخربوا أرضها ونهبوا خيراتها، واستولوا على قطعان الماشية فيها؛ لذلك بدأ الجميع بالرحيل تحت جنح الليل؛ خوفاً من المزيد من القتل لأبنائهم ونسائهم. خرجوا من جهة الأرض الوعرة. وقد ساعد في التغطية على تحركاتهم وانتقالهم إلى مناطق أخرى أكثر أمناً حالة الطقس، إذ خيم وقتئذ ضباب كثيف على المنطقة كلها.

وفي مقام الشهداء؛ دعني أذكر أنَّ شهيدين سقطا خلال النجدات التي ذهبت من عشيرة الصبيح إلى قرية "لوبية" المجاورة، إضافة إلى الشهيدين: حسن المعارك، وذياب الشكور، اللذين سقطا في معركة الشجرة في قضاء طبرية.

بداية التغريبة
خرجنا من القرية إلى قرية عين ماهل، وبقينا فيها فترة من الزمن، بعدها انتقلنا إلى منطقة اسمها "وادي صلاميا". الرجال كانوا يروحوا ويرجعوا؛ يلي إلو بقايا محاصيل زراعية أو بقايا فراش؛ واللي عندوا بقايا مواشي راح جابها؛ رغم أن الأغلبية سلبت من قبل المستوطنين. وأذكر في هذا المجال على سبيل المثال: أن جدي سلب منه أربعمائة رأس غنم.

التقيت أبي وأخي، التقينا في مستشفى الناصرة، وذهبنا باتجاه "وادي الصلاميا" أو "وادي صلاما"، بعد ذلك؛ اجتزنا الحدود باتجاه الأراضي اللبنانية، وانتقلنا فيها من مكان إلى آخر، حتى وصلنا الحدود السورية؛ فدخلناها، وكنا نسمع في الطريق أن المجازر الصهيونية قد عمت أغلب القرى الفلسطينية، ونسمع أيضاً عن سقوط القرى الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى، والمدينة بعد المدينة، لتحط بنا الرحال (وأية رحال نحملها!!) إلى مخيم "خان الشيح" الذي ما زلنا نعيش به حتى الآن بانتظار العودة.

قسم وعهد
بعد مسيرة العذاب ومسيرة المعاناة في خيام الذل وطوفان الشتاء علينا، إلى بيوت الطين، إلى ألم الفراق والحسرة، بعد هذا كله، يريدون منا أن ننسى وأن نغفر! لا والله، فأنا لن أنسى ولن أغفر ما دام فيّ قلب ينبض بالحياة. والله إن المشاهد التي رأيتها تشيب لها الولدان، وإنها والله محفورة في الذاكرة ولن تمحى أبداً، وسأورثها للأجيال جيلاً وراء جيل، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

المصدر: تجمع العودة الفلسطيني(واجب) 6/7/2011

من الذاكرة الفلسطينية: الحاج حسن مرعي أحد شهود نكبة قريته: لا أقبل عن قريتي بديلاً وأقول لأحفادي أكملوا مشوار العودة


من الذاكرة الفلسطينية: الحاج حسن مرعي أحد شهود نكبة قريته: لا أقبل عن قريتي بديلاً وأقول لأحفادي أكملوا مشوار العودة

أحمد الباش: دمشق
هو وادي المشيرفة الذي يفصل بين قريتينا التوأمتين: كرّاد الغنّامة، وكرّاد البقارة. هاتان القريتان اللتان عاشتا المأساة تلو المأساة، والتشرد تلو التشرد، ناضلتا وصمدتا وقدمتا الشهداء. لقد أصرّ أهالي القريتين على أن يبقوا بالقرب من أراضيهم، حتى بعد سقوطهما في نيسان 1948؛ لكن العدو الصهيوني بدوره كان أكثر إصراراً على تعقب الأهالي وإبعادهم واقتلاعهم من جديد.

الخروج من القرية

خرجنا من القرية إلى قرية "الجديبينة" على الحدود السورية، ثم إلى منطقة "الصنابر"، لنعود مرة أخرى إلى القرية. أرغمونا بعد ذلك على الانتقال إلى قريتي: شعب ودنّون قضاء عكا، وشفا عمرو في قضاء حيفا؛ لكن عنادنا كان أكبر؛ فأرغمنا العدو الصهيوني على إعادتنا من جديد إلى القرية.
لم نفرح كثيراً بهذه العودة؛ لأن المحتل كان لنا بالمرصاد دائماً، فتقرر إخراجنا من جديد، ولكن هذه المرة خارج فلسطين إلى الجولان السوري. وبعد 19 عامًا؛ فُجعنا بضياع بقية فلسطين بعد هزيمة حزيران عام 1967، وكأن الحرب كانت تقصدنا نحن من جديد؛ فخرجنا هذه المرة من الجولان إلى المنافي حيث مخيمات البؤس واللجوء.

موقع القرية

يصف حسن مرعي حسن الكردي أحد شهود النكبة قريته (كرّاد البقّارة) فيقول: إنها تقع على سفح تل بركاني صخوره سوداء داكنة، يشرف على سهول واسعة خضراء خصبة. في عام 1948 لم يكن يتجاوز عدد سكان القرية 450 نسمة.
أما القرى التي كانت تحيط بنا فهي: قرى المنصورة، وكرّاد الغنّامة، والحسينية، والعلمانية، والملاّحة وعرب الزبيد، وعرب الهيب، وعشيرة الزنغرية. تعود عشائر القرية إلى أصول بدوية كردية، من هذه العشائر: الرواشدة، والبلازية، والبدور، والعوايدة، والقرينات، والحمايدة، وغيرهم. علاقات أبناء القرية مع محيطهم وصفت بالجيدة حتى مع اليهود الفلسطينيين الذين كان يعمل بعض أبناء القرية عندهم بالزراعة، (كمرابعين مزارعين) وفي رعي الأبقار.

بدأت فصول المعاناة إبّان الاحتلال البريطاني؛ حيث تغلغل الصهاينة في جيشه؛ ما أتاح لهم دخول القرى الفلسطينية ضمن هذا الجيش؛ وعرفوا من خلال ذلك جغرافية هذه القرى، وأهلها، وتحصيناتها وقدرتها على المقاومة، وتمكنوا من مراقبة تسليحها، ومن ثم التنكيل بأهلها وإرهابهم.

بداية الأحداث

مما أذكره من الحوادث التي لا تنسى في قريتنا، حادثتان اثنتان جرتا في عام 1937، بينتا مدى الحقد والعداوة التي كان يكنّها لنا هذا المحتل الغاصب، يدفعه بذلك أولئك الغرباء الذين قدموا من أقاصي الأرض ليبنوا دولتهم المزعومة على أنقاض قرانا العامرة: الأولى: في إحدى الليالي قام الجنود الإنكليز بتفتيش القرية بحثاً عن أسلحة، وأثناء التفتيش؛ وجد عند أحد أبناء القرية بارودة، وكان اسم صاحبها "عبد الله العلي"؛ فاعتُقل على الفور. الثانية: بعد أيام من الحادثة الأولى، وبينما كان إبراهيم الماردي وأحمد الوادي من أبناء القرية يقفان أمام نبع ماء، وكان أحدهما يربط فرسه، فمرت بجانبهما دورية إنكليزية، فتنبها لذلك وصادف أن كان بحوزة أحدهما مسدسان فألقاهما على الفور في ساقية الماء.

انتبه أحد الجنود إلى ذلك، فأوقفهما وسأل الرجل: ماذا ألقيت في الماء؟ قال: لا شيء. وعندما نظر الجندي إلى أسفل الساقية؛ شاهد المسدسين فأخرجهما من الماء؛ وبذلك أسندت التهمة لكل منهما حمل مسدس حربي، وسيقا إلى السجن؛ وبعد أيام قليلة جيء بالثلاثة إلى القرية: عبد الله العلي (صاحب البارودة)؛ وأحمد الوادي، وإبراهيم الماردي (أصحاب المسدسات)، وهناك وأمام مرأى ذويهم وأبناء القرية جميعاً؛ نُفَّذ حكم الإعدام فيهم، وقام الأهالي بدفنهم في مقبرة القرية.

أحداث النكبة

خلال الأحداث التي وقعت عام 1948 أذكر أنه بينما كنا نسهر عند المختار في إحدى الليالي؛ وإذ بِدَوي انفجارات هائلة تهز الأرض من تحتنا، وكان مصدرها قرية الحسينية المجاورة؛ فهبت قريتنا والقرى المجاورة إلى الحسينية لمعرفة ما حدث؛ فكان ما شاهدناه منظراً مروعاً؛ حيث رأينا مباني في القرية هُدمت على من فيها من سكان! وعلى الفور؛ بدأنا نبحث عن الناجين وعن جثث القتلى، وبقينا هكذا حتى عصر اليوم الثاني. وأذكر من المناظر التي شاهدتها تحت الردم؛ منظر أم تحتضن طفلها الرضيع، وهما ميتان. بعد ذلك جمعت الجثث وأخذنا بدفنها في مقبرة القرية. هذا المنظر لم يفارقني طوال حياتي.


بعد مجزرة الحسينية تنبه الناس أكثر لما يجري؛ فأخذوا يتسلحون ويشترون السلاح؛ وخاصة من سورية، وكان من لديه بقرة أو أغنام يبيعها ليشتري بارودة؛ ومن لم يكن يملك مالاً كان يستدين ليشتري بارودة أو مسدساً.


ومما أذكره أن السلاح الذي كان بحوزة الرجال في القرية هو البارودة الإنكليزية التي كانت تُشترى من بعض الجنود في المعسكرات الإنكليزية؛ والبارودة الفرنسية والألمانية التي كانت تُشترى من سورية.
أخذت المعارك تشتد في ما حولنا. وكانت طبريا أول مدينة فلسطينية تسقط، وتبعتها حيفا. بعد مجزرة عين الزيتون في قضاء صفد، والقريبة من قريتنا؛ اشتدت المعارك في ما بيننا وبين العصابات الصهيونية. ولعدم التكافؤ ولقلة الذخيرة؛ سقطت قريتنا في نيسان 1948، وانسحبنا إلى قرية جديبينة السورية.

استعادة القرية

بقينا في هذه القرية قرابة عام واحد حتى جاءت قوة عسكرية من الجيش السوري، وطلبت توفير أشخاص لمعرفة الطرق، سعياً منها لتحرير القرية؛ ومن ثم الوصول إلى مستعمرة كعوش المجاورة. وبالفعل؛ دخلت القوات العسكرية السورية، ورافقهم عدد من المقاتلين، أذكر منهم: محمد أبو وردة، وكريم الحميدي، وخليفة الخلف، وهادي جبر العلي. وقد استشهد منهم خليفة الخلف أثناء استرجاع القرية والمستعمرة المجاورة.

انتقل أهالي قريتنا بعد ذلك إلى "منطقة الصنابر" القريبة من قريتنا، وبقينا فيها حتى عام 1951. صرنا خلالها ننزل إلى أراضينا ونحصد القمح ونؤمن بعضاً من الخبز ليقتات به أطفالنا وعوائلنا. بعد ذلك وقعت الهدنة بين سورية والكيان الصهيوني، وتم بموجبها اعتبار كعوش وكرّاد البقارة، منطقتين محرمتين دولياً يعود أهلهما إليهما مع وجود مراقبين دوليين فيهما. وبموجب هذا الاتفاق؛ عدنا إلى قريتنا التي كانت مهدمة تماماً.

تهجير ولجوء داخلي

لم نفرح كثيراً بهذه العودة، ففي آذار 1951 طوق الصهاينة القرية، وكان معهم قائد لواء الجليل، وأمرونا بعدم التحرك خارج القرية. وجيء بعدها بسيارات كبيرة، وطلبوا منا تحميل كل أمتعتنا ومواشينا. وسيق بنا إلى منطقة في العمق الفلسطيني، وأنزلونا في قرية عرفنا بعدها أنها قرية "شعب الفلسطينية"، التي تقع في قضاء عكا، والتي هجرها أهلها أثناء أحداث عام 1948.

وقاموا بتوزيعنا على غرف في القرية المهجورة هذه.

علمت القوات السورية بعملية التهجير تلك، وعدّتها مخالفةً لما اتفق عليه في اتفاقية الهدنة؛ الأمر الذي دفعها إلى رفع شكوى إلى الأمم المتحدة، التي أرسلت بدورها من يحقق بهذه الشكوى. وبالفعل لحق بنا بعض المراقبين الدوليين، وتحدثوا معنا، وطال الأمر بين أخذ وَرَد مدة ثلاثة أشهر. بعدها قام الجيش الصهيوني بتقسيم أهالي القرية إلى ثلاثة أقسام: قسم بقي في قرية شعب، وقسم نقل إلى قرية دنون قضاء عكا، وقسم إلى قرية شفا عمرو قضاء حيفا.

الخروج من القرية مجدداً

في عام 1952 أعادونا إلى قريتنا، وبدأنا بناءها من جديد، وبقينا فيها حتى عام 1956.

وأثناء العدوان الثلاثي على مصر اتهمنا الجيش الصهيوني بأننا طابور خامس لسورية؛ ننقل إليهم الأخبار والتقارير العسكرية؛ وبناءً على ذلك تقرر ترحيلنا من القرية. وبالفعل؛ قام الصهاينة بتدمير القرية مرة أخرى، وبطردنا هذه المرة إلى الأراضي السورية.

انتشر أهالي قريتنا (كرّاد البقارة) في قرى الجولان، وتقاسم الشعب السوري هناك معنا رغيف الخبز. وبقينا نرقب أراضينا من بعيد من على سفوح الجبال حتى عام 1967؛ حيث وقعت حرب حزيران واحتل الجولان السوري؛ وأصبحنا نشعر بأن الحروب تقام من أجل ترحيلنا نحن بالذات، لنُهجر مرة أخرى إلى عمق الأراضي السورية إلى مدينة دمشق، حيث استقر بنا المقام بين أهالينا الذين سبقونا في عام 1948 في "مخيم جرمانا" القريب من دمشق؛ والذي لازلنا فيه حتى الآن.

مسيرة من التشرد والضياع ذقنا فيها ما ذقناه، من المرارة والألم. لم نكن لنستقر في منطقة حتى يأتي الاحتلال الصهيوني ويهجرنا إلى أخرى وهكذا.

رسائل قصيرة

بعد هذه المسيرة كلها؛ ماذا عسانا فاعلين؟ أرادوا منا أن ننسى؛ أرادوا منا أن نذوب في المجتمعات العربية؛ أرادوا منا أن نغفر ما ارتكبوه من قتل ومجازر؛ ولكننا أمام كل ذلك نقول بعض الكلمات وبعض الرسائل:

أولاً: لهؤلاء الصهاينة المتغطرسين أقول: تريدون منا أن نستسلم ونرضخ وننسى أوطاننا! هذه ستبقى أمنيات لكم. نحن لنا جذور، ولنا تاريخ في فلسطين تاريخ الآباء والأجداد، فيها بلدتي وقريتي واسمها "كرّاد البقارة" التي لا أقبل لها بديلاً؛ وإن شاء الله سأرجع إليها، وسنحاكمكم على ما اقترفت أيديكم، وستدفعون لقاء استثماركم لأرضنا، ولقاء هذه المعاناة والقهر والحرمان، طوال هذه الأعوام الطويلة الماضية الكثير الكثير.

ثانياً: لمن يحاول بيعنا بثمن بخس أقول له: المفاوضات، والخنوع، والضعف لا تُرجّع بلادنا. بالقوة وحدها ترجع لبلاد. اليهود لا يعرفون غير لغة القوة.

ثالثاً: إلى أبنائي وأحفادي وأبناء قريتي، وخاصة منهم الشباب: "إحنا يا ولادي مش مخلدين، يعني إحنا راح نموت، عليكوا تكملوا المشوار. لا تقبلوا بديلاً عن العودة. والعودة مش لأي مكان! العودة إلى بلدكم وإلى قريتكم (كرّاد البقارة)، ولا أرض سواها.

المصدر: مجلة العودة

من الذاكرة الفلسطينية: الحاج عز الدين فرحان سلام: شارك والده في ثورة 1936، ويحمل لأحفاده أمل النصر والعودة


من الذاكرة الفلسطينية: الحاج عز الدين فرحان سلام: شارك والده في ثورة 1936، ويحمل لأحفاده أمل النصر والعودة

أحمد الباش / دمشق:

حين أخذ يتذكر الوطن؛ قال لنا: إن قريته (المجيدل) هي قرية جميلة، من قرى قضاء الناصرة، تحاذيها قريتا: معلول، وصفورية؛ وبعض المستعمرات اليهودية مثل: خنيفيس، وجباتا، وجنجار، وفولة، والعفولة؛ وأنها تبعد عن مدينة الناصرة نحو سبع كيلومترات؛ وأنها غنية بالينابيع مثل: عين الحلوة. ويقول: كان عدد سكان القرية عند خروجنا منها عام 1948 قرابة 1650 نسمة؛ وأن أراضيها جزء من أراضي مرج ابن عامر، ذات الطبيعة الجميلة والغنية بمزروعاتها، والتي تُعَدّ الأخصب في فلسطين.

نحن والمستعمرات والإنكليز

يقول الشاهد عز الدين سلاّم؛ ابن الحاج المجاهد والشاعر الشعبي (فرحان أحمد سلاّم): نظراً لكون القرية محاطة بالمستعمرات اليهودية؛ فقد فرض هذا الواقع علينا (نحن أبناء قرية المجيدل) علاقة ما، مع هذه المستعمرات؛ ويمكن وصف تلك العلاقة (بالطبع قبل اندلاع أحداث 1948) بالعلاقة الودية إلى حد ما، ولكن لم تكن طبيعية. صحيح أننا كنا نعيش في ما بيننا بسلام، لكن لم تتطور لتصل إلى حد تبادل الزيارات. إضافة إلى ذلك؛ كان هناك بعض التوجس والخوف اللذين كانا يخيمان في الأفق، وكانا ينذران بالخطر.


وقد أدى الإنكليز دوراً كبيراً في تأجيج الكراهية بيننا وبين اليهود، كما أدوا دوراً أكبر في تسليح هذه الكُبَّانِيَّات (المستعمرات اليهودية). هذا الدور كانت تقوم به بريطانيا عن الغرب عموماً، وعن الحركة الصهيونية خصوصاً.

حكاية مع الوطن

يتابع الحاج عز الدين فرحان سلاّم قائلاً: أنا من مواليد 1935. لم أكن أعي أحداث ثورة 1936 في القرية! ولكن أبي كان من الذين انخرطوا في صفوف الثورة في وقت مبكر، وقد شارك في أعمالها، وكان يحدثني عنها وعن أحداثها كثيراً، فيقول: إن الاشتباكات في قريتنا (المجيدل) كانت تدور رحاها بين كروم الزيتون في أراضي القرية، وكان ثوار القرية ينصبون الكمائن للإنكليز واليهود هناك، ويطلقون النار ثم يختبئون، أو ينسحبون، حسب طبيعة الموقف.

ومن المهمات التي أوكلت إلى والدي أثناء الثورة، شراء الأسلحة من الشام. وبالفعل، حصل أثناء زياراته على عدد من البنادق، لكن لم يكن ليحصل لهذه البنادق على ذخيرة، (وإحنا كان عنا بارودة كندية، وكان معها 15 فشكة، وما كان في غيرهن. وبعدين؛ صار عرس؛ فضربنا خمس فشكات منهم، فما ظل غير عشر فشكات فقط. كانت مشكلتنا بالفشك. وقد ذكر لي أحد الثوار (أظنه من بيت الزغل) قائلا: "يشهد علي الله أنو ذهبت للمعركة، وما كان معي غير فشكة واحدة". وهذا الوضع لم يكن في قريتنا فحسب؛ بل في أغلب القرى الفلسطينية. وهذا من أهم الأسباب يلي سببت هجرتنا عن بلادنا.

يضيف الحاج عز الدين سلام فيقول: وكان لأبي في ثورة 1936 مهمة أخرى غير القتال، والمهمة كانت تنبع من كونه شاعراً شعبياً معروفاً وذائع الصيت في كل البلاد؛ فأثناء الثورة، كان يلهب بأشعاره مشاعر المقاتلين والثائرين، وتطور به الأمر إلى القيام بجولات على بعض الحكام العرب، وخاصة في دول الخليج العربي، وكان يلقي عليهم أشعاره التي يتحدث فيها عن الإنكليز واليهود وعن جرائمهم في فلسطين؛ فيستعطف مشاعرهم، ويؤلبهم على الإنكليز. ومن شدة تأثيره فيهم؛ لاحقه الإنكليز وسعوا إلى اعتقاله، وعندما شعر أبي بذلك، ذهب بنا إلى الشام، وهناك أقمنا فترة من الزمن، عدنا بعدها إلى القرية، وكان ذلك بعد أن اندلعت الحرب العالمية الثانية.

في أثناء الحرب العالمية؛ استغلت العصابات الصهيونية الأوضاع في المنطقة والعالم، وبدأت بالتسلح استعداداً لاحتلال بلادنا، وبدأت تقيم المستعمرات والمعسكرات بكثافة، وتدرب عصاباتها أفضل تدريب. واستمرت الحال على هذا المنوال إلى أن حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وقد عزز ذلك انتصار الإنكليز، وحلفاؤهم من المستعمرين الآخرين، على الألمان.

على أبواب النكبة

ما إن صدر "قرار تقسيم فلسطين" في تشرين الثاني من عام 1947؛ حتى كانت العصابات الصهيونية على أتم الاستعداد للانقضاض على بلادنا؛ فأخذت تروّع القرى والبلدات والمدن، وارتكبت بحق الشعب الفلسطيني أبشع المجازر، التي من أهمها مجزرة دير ياسين التي وقعت في نيسان عام 1948.

نحن في قريتنا (المجيدل)؛ عندما سمعنا بخبر مجزرة دير ياسين؛ اجتمع رجال القرية كلهم في دار المختار، وكان من عائلة كسّاب، وتدارسوا الأمر، وقرروا التباحث مع القيادة العسكرية في الناصرة، التي لم تجدِ شيئاً، وكان بعض الشبان من القرية يمتلكون بعض القطع من السلاح، ولكنها كانت بسيطة وقليلة.

عندما هوجمت قريتنا (قرية المجيدل) أول مرة، هرع هؤلاء المسلحون من شباب القرية ليدافعوا عنها بما لديهم من الأسلحة والذخائر، وبالفعل، استطاعوا أن يصدوا الهجوم عن القرية؛ لكن إثر هذا الهجوم؛ خرج بعض الأهالي بنسائهم وأطفالهم إلى مدينة الناصرة القريبة من القرية، وبقي بعض الرجال يحرسون القرية.

بعد ذلك؛ حصل هجوم آخر، قاومه الشبان بما لديهم من ذخيرة؛ لكنها سرعان ما نفدت من جعبهم وبنادقهم، وأصبحت البنادق تلك في أيديهم كالعصي؛ بدون رصاص؛ ما اضطرهم إلى الانسحاب واللحاق بأهاليهم وعائلاتهم إلى الناصرة.

معظم أبناء عائلات قريتنا (قرية المجيدل)، لجأوا إلى أقرباء لهم في المدينة، وسكنوا معهم في بيوتهم؛ والبعض الآخر استأجروا بيوتاً أو غرفاً. بالنسبة إلينا، كان لعمتي في الناصرة بيت واسع، سكنّا فيه مدة أسبوع واحد. بعدها، استأجر أبي عقدين (غرفتين)، وسكنّا فيهما حتى وصلت المعارك إلى مدينة الناصرة.

وصل جيش الإنقاذ إلى المدينة، وهذا الجيش لم يكن لديه الإمكانات الكبيرة؛ فلم يدخل في معارك كبيرة تغير ميزان المعركة مع العصابات الصهيونية التي كانت مدججة بالسلاح. لذلك، لم يمضِ وقت طويل حتى سقطت مدينة الناصرة.

وجع التهجير

بعد سقوط المدينة، خرجنا منها واتجهنا في سيرنا نحو الشمال باتجاه القرى اللبنانية القريبة، من الحدود مع فلسطين، وكان مشياً على الأقدام. وخلال خروجنا؛ كانت تلاحقنا بعض الطائرات اليهودية، وكانت تقصف وراءنا؛ لتمنعنا من مجرد التفكير بالعودة إلى الخلف (إلى قرانا ومدننا). بالطبع؛ كان ذلك ضمن خطة مدروسة ومحكمة.

وصلنا بعد هذا المسير الشاق إلى قرية "بنت جبيل" اللبنانية، ونزلنا عند أحد معارف أبي في القرية، حيث سكنّا في غرفة لمدة 15 يوماً.
بعد ذلك؛ جاء الجيش اللبناني ووزعَنا على المدن اللبنانية، وذهبنا نحن إلى مدينة بيروت، حيث بقينا فيها قرابة سنة أو أقل بقليل، انتقلنا بعدها إلى الشام (دمشق)، وهناك نزلنا في منطقة تسمى "الهامة"، وقامت الدولة آنذاك بإعطائنا بيتاً وبستاناً كانا لأحد المغتربين السوريين الذي كان يسكن خارج البلاد، وبقينا هناك سنة كاملة، قام أبي بعدها بتسجيلي أنا وأخويّ (الأكبر والأصغر)، في المدارس. وقد أرهقتنا منذ البداية مصاريف التنقل إلى المدينة؛ فاضطررنا للانتقال إلى منطقة "جوبر" في ريف دمشق، وسكنا في بيت يقع على "نهر تورا"، وصرنا نتابع دراستنا هناك في الوكالة (الأونروا). وعمل أبي بعد ذلك في الإمارات العربية.

أنا مفعم بالأمل

اليوم، بعد 63 سنة، ما زلت أذكر بيتنا حتى الآن، وكان مؤلفاً من غرفتين: واحدة من طين، والأخرى من حجر؛ وما زلت أذكر باب بيتنا الخشبي والقنطرة من فوقه، وكم أحنّ اليوم له! وكم أتمنى أن أعود إليه! صحيح أن اليهود هدموه؛ ولكن حين أرجع إلى أرضي سأبنيه من جديد، وأملي في ذلك كبير.

وأنا على اقتناع، بأن أول طريق لتحرير فلسطين هو توحيد العرب بيد واحدة ، "والله عندما يتوحدوا لو كل واحد عربي جاب سطل مي ورشه على (إسرائيل) لغرّقوا اليهود يلي فيها؛ ونحن مستحيل نرجع إلا إذا كان العرب يد واحدة، ونحنا أملنا بالجيل الصاعد، وأنا وبهذا العمر لو يصح لي أقاتل أقاتل؛ لأنه بغير القتال، فلسطين لا يمكن أنو تتحرر، واليهود ما رح يقولوا للفلسطينيين: خذوا بلادكوا، وإحنا طالعين منها".

بالنسبة إلى أبي؛ كما قلت: كان شاعراً شعبياً، ومن الأسماء الذائعة الصيت، وأشعاره كلها حماسية. كانت تلهب الثوار في المعارك؛ وقد حمل لقب "شاعر وثائر" بجدارة، وشارك في مجريات حرب الـ 36، وفي مجريات الحركة الوطنية الفلسطينية في ما بعد، وكان أبي قوية البنية يلبس (الديماية) (القمباز)، ويركب الخيل، ويجيد الحداء. ومن أشعاره المعروفة جداً:

إن كان بلفور يجهل قيمة الأوطان
إحنا بأرواحنا نحمي أراضينا
نبيع أرواحنا بأبخس الأثمان
حقاً على الله نصر المؤمنينا

يقول الحاج عز الدين سلاّم: رغم أن والدي كان حدّاء القرية (المغني الشعبي للقرية)، كان يحب أن يحضر في أعراسنا باقي الحدائين من القرى الفلسطينية الأخرى، مثل: أبو سعيد الحطيني، والريناوي، وعازف اليرغول (أبو شهاب)؛ وذلك لإظهار روح التحدي في ما بينهم. وكان والدي، إضافة إلى ذلك، محط احترام ورأي لدى رجالات القرية جميعاً، وكانوا يستشيرونه في كثير من أمورهم.

بعد النكبة، وفي عام 1958؛ تواصل أبي مع الفنان أبو عرب؛ وأصبحا يعملان معاً في إذاعة "صوت العرب، في القاهرة، في ركن بإذاعة فلسطين؛ وقد شاركهم أيضاً المغني الشعبي (أبو سعيد الحطيني)، وقد سجلوا للإذاعة آنذاك بعض الأغاني الفلسطينية الوطنية والتراثية، في برنامج اسمه "أهازيج ومكاتيب". أخيراً؛ رحم الله والدي، ورحم الله الحطيني، وأطال الله في عمر الفنان أبو عرب.

المصدر: مجلة العودة : العدد ـــ التاسع والأربعون ــ 2011

من الذاكرة الفلسطينية: كمال حصان: العودة إلى فلسطين كاملة لا تتحقق إلا بالمقاومة


من الذاكرة الفلسطينية: كمال حصان: العودة إلى فلسطين كاملة لا تتحقق إلا بالمقاومة
من الذاكرة الفلسطينية: كمال حصان في ذاكرة الأيام: العودة إلى فلسطين كاملة لا تتحقق إلا بالمقاومة

أحمد الباش - دمشق:
يستعيد كمال حصان ذاكرة النكبة؛ حين كان في الثامنة من عمره، فيقول: خرجنا من القرية مذهولين غير مصدقين ما حصل. خرجنا حفاة عراة، لم نكن نرتدي إلا ما كان يستر جلودنا من هذا البرد القارس من أيام شباط القاسية. (هذا المشهد لم يكن ليغيب عن بالي لحظة واحدة حتى اليوم). اتجهنا مع أبي وبعض الأقارب مباشرة إلى قرية بجوار قرية دورا الخليل، تجاوزناها إلى أن وصلنا قرية دورا، وكان ذلك صباحاً.

من الفالوجة
في فلسطين، في قرية الفالوجة التي تقع إلى الشمال من مدينة غزة، ولد كمال حصان. هذه القرية التي تبعد عن مدينة المجدل 19كم، كانت مساحتها 517 دونماً، ومساحة أراضيها 38038 دونماً؛ أما عدد سكانها فبلغ عام 1945 قرابة 4670 نسمة، وهي بذلك ثانية قرى القضاء بعدد السكان.
بعد إعلان الكيان الصهيوني دولته المزعومة في 15 أيار من عام 1948؛ دخل الجيش المصري قرية الفالوجة، وكان في استقباله أهالي القرية الذين كانوا قد أقاموا التحصينات اللازمة، وحفروا الخنادق، وتسلحوا، وبدأوا عملياتهم ضد العصابات الصهيونية. ومما أذكره حينها: أن المدافعين عن القرية هاجموا باصاً لعصابات الهاغاناة الصهيونية، كان يمر عبر الطريق العام، وقتلوا كل من فيه.

ومع دخول الجيش المصري القرية؛ قطعت قواته طرق الإمداد الصهيونية التي كانت تأتي من شمال فلسطين إلى المستعمرات الجنوبية في النقب، ونشرت عناصرها على الطرق، ونصبت الكمائن من قرية بيت جبرين حتى الفالوجة. وقد كان رد الصهاينة على ذلك بأن حاصروا قريتنا (الفالوجة)، حصاراً شديداً، استمر ستة أشهر متتالية. تقاسمنا مع الجيش المصري خلالها لقمة الخبز والصمود معاً.

كان في أرض الفالوجة لواء مصريًا؛ كان بقيادة السيد طه، الذي كان يُلقَّب بـ"الضبع الأسود". وخلال هذه الفترة الزمنية؛ وقعت في القرية ثلاث معارك عنيفة جداً:

الأولى: في تشرين الأول عام 1948؛ استبسل فيها المدافعون عن القرية مع الجيش المصري، وقدموا أروع البطولات، وسقط منهم خيرة رجالاتهم، وقد بلغوا مئة شهيد: 40 شهيداً من الجيش المصري؛ والباقي من أبناء القرية التي كان تعدادها وقت ذلك قرابة خمسة آلاف نسمة.

ووقعت بعد ذلك معركتان أخريان، استبسل فيه أيضاً المدافعون من أهل القرية بمساندة اللواء المصري الموجود في القرية. وقد كان لقائد اللواء المصري (السيد طه) دور كبير في تكبيد العصابات الصهيونية خسائر كبيرة في الأرواح؛ ففي معركة واحدة، استطاع هذا الضابط، بخديعة عسكرية منه، أن يستدرج هذه العصابات إلى ثغرة كان قد فتحها لهم، ليطبق بعدها على المهاجمين، ويكبدهم أكثر من مئتي قتيل صهيوني.

بقيت الفالوجة صامدة، لم تتراجع، ولم تستسلم؛ رغم الحصار الشديد، حتى يوم 26/2/1949، (يوم توقيع اتفاقية رودس بين الحكومة المصرية والعصابات الصهيونية)، وقد اتفق فيها الجانبان على انسحاب الجيش المصري من القرية؛ وبالتالي سقطت بأيدي الصهاينة. وكان هذا اليوم يوماً مشهوداً لأبناء القرية الذين صعقوا بذلك؛ إذ لم تسقط قريتنا الفالوجة بمعركة عسكرية، بل وفقاً لـ"اتفاقية فصل قوات".

بداية الشتات

وفي صباح ذاك اليوم المشؤوم؛ أذكر وقتها أنني كنت موجوداً إلى جانب والدي، وكان الجو ممطراً وبارداً جداً. بدأ الجيش المصري ينسحب من القرية باتجاه غزة، والضابط المصري (قائد اللواء السيد طه) كان موجوداً في مقدمة تلك القوات.

أثناء الانسحاب؛ ذهل اليهود مما شاهدوه؛ لقد كانوا يظنون أن عدد جنود الحامية المصرية كبير جداً، مقارنة بالصمود الأسطوري لتلك القوات أثناء حصار القرية، ومقارنة بما أوقعوه في صفوفهم من خسائر بشرية فادحة؛ لقد رأوا أن عدد جنود الحامية المصرية أقل بكثير مما توقعوا، وكان ذهولهم أكبر من ذلك؛ حين رأوا عتاد تلك القوات الذي اقتصر على بعض الأسلحة الفردية الخفيفة. وهذا ما حدا بأحد الضباط الصهاينة إلى أن يرفع يده تحية لهؤلاء الأبطال.

لقد كانت إرادة هؤلاء الحفنة من الرجال أقوى من أسلحة الصهاينة الثقيلة والمتنوعة؛ بل كان إيمانهم بالنصر لا يعتريه شك؛ لكنها المؤامرة.

أهالي القرية انقسموا في الرأي؛ فمنهم من فضل الخروج مع الجيش المصري؛ خوفاً من الفتك بهم والانتقام منهم، ليتجهوا إلى منطقة "دورا"، وبقي قسم آخر ينتظر؛ ولكن لم يدم هذا طويلاً؛ فسرعان ما دخل الصهاينة القرية، ونسفوا منازلها جميعاً ودمروها تدميراً كاملاً. ولم يبق ظاهراً منها سوى ركام مسجد الشيخ أحمد الفالوجي وقاعدة مئذنته؛ وبالتالي أجبروا من بقي على الرحيل إلى مدينة غزة.

خرجنا من القرية مذهولين غير مصدقين ما حصل؛ خرجنا حفاة عراة، لم نكن نرتدي إلا ما كان يستر جلودنا من هذا البرد القارس من أيام شباط القاسية. (هذا المشهد لم يكن ليغيب عن بالي لحظة واحدة حتى اليوم). اتجهنا مع أبي وبعض الأقارب مباشرة إلى قرية بجوار قرية دورا الخليل، تجاوزناها إلى أن وصلنا قرية دورا، وكان ذلك صباحاً.

والدي كان مصراً على ألا يدخل قرية دورا، رغم وجود أصحاب له فيها. لم يكن يريد أن يدخلها لكي لا يشاهده أحد ممن يعرفه ويراه على هذه الحال؛ فوالدي كان وجيهاً في قريته ومجاهداً فيها؛ بل كان رئيساً لبلديتها. وكان أيضاً إضافة إلى كل ذلك، من كبار مالكي الأراضي فيها.
ولسوء الحظ؛ عندما خرجنا من القرية، بعد حصار دام ستة أشهر؛ لم يكن لدينا كما يقال: "شروة نقير"، أي لا شيء. عزّت على أبي نفسه؛ فقال لنا وقتها: لن أذهب إلى أي مكان يعرفني فيه أحد.

وجدنا في أطراف قرية دورا مغارة كبيرة كانت تقع شمال القرية. ذهبنا إلى هذه المغارة، وتجمع كبار العائلة وأخذوا يتشاورن فيما بينهم. ودخل أحدهم إلى المغارة فوجدها مليئة بالأشواك؛ فأشار عليهم بحرق المغارة لكي يتخلصوا من الأشواك، وما يسكنها من الأفاعي والعقارب والحشرات الضارة. أشعلوا النيران فيها، وقد رأيت بأم عيني، أثناء حرقها، بعض الأفاعي تخرج منها. بقيت النار مشتعلة في المغارة حتى الظهيرة، بعدها انطفأت، ودخلت النساء إليها، وبدأن بتنظيفها. ودخل بعد ذلك الجميع من أطفال ونساء ورجال؛ ليقوا أنفسهم برد تلك الأيام القاسية. وأثناء وجودنا في المغارة؛ ذهب بعض الشبان إلى قرية دورا وأحضروا بعضاً من الطعام.

بعد ثلاثة أيام قضيناها في المغارة؛ قال لنا والدي: لن نبقى هنا؛ سنذهب إلى بلد لا يعرفنا فيه أحد، سنذهب إلى سورية، إلى منطقة حوران؛ فهناك لنا أبناء عمومة يمكن أن نسكن عندهم ونتدبر أمرنا. انطلقنا في صباح اليوم التالي؛ وسرنا حتى وصلنا إلى مدينة أريحا، وكنا متعبين جداً؛ فأقمنا هناك في بساتينها ليلتين. كنا جياعاً، ولا مال لدينا، والأطفال يتضورون. أذكر وقتها أن ثلاثة من رجال العائلة ذهبوا إلى الأراضي الزراعية القريبة على حمار، وأحضروا خرجاً (وعاء جلدي يوضع على ظهر الحمار) مليئاً بالفجل والبصل الأخضر، وأكواماً من الخبز جلبوها من أهالي المدينة، وكان الناس يأكلون الفجل وعليه التراب، وذلك لعدم وجود الماء لغسله، ويغمسون الفجل وأوراق البصل مع الخبز.

آه، آه، آه (يتنهد الشاهد كمال حصان بحرقة السنين الطوال. يتنهد تنهيدات ذاك الطفل الذي لم يتجاوز الثماني سنوات عند وقوع النكبة، ويرصد ويسجل في تلك الذاكرة الوقادة كل تلك التفاصيل المؤلمة الحزينة المفجعة)، ويتابع، فيقول: "هذه المشاهد لم تذهب عن بالي لحظة واحدة، وكأني أراها الآن حية أمامي".

في اليوم الثاني؛ كان الطعام أيضاً كاليوم الأول (فجل وبصل وخبز). عندها، قال والدي: علينا أن نستمر قاصدين درعاً.

في أريحا استأجرنا سيارة شحن كبيرة، وركب الأولاد والنساء والشيوخ والرجال. انطلقنا لنصل ليلاً إلى منطقة الرمثا الأردنية الحدودية مع سوريا، نزلنا هناك في ضواحيها، علم أهالي المنطقة بنا وعرفوا أننا لاجئون فلسطينيون ننوي الذهاب إلى أقاربنا في درعا؛ تطوع أحد رجال المنطقة وذهب إلى درعا وأخبر أقاربنا بوصولنا إلى الرمثا. وبالفعل، جاء معه أحد الأقارب من درعا، وأحضروا لنا دواب وركب النساء والأطفال ومشى الرجال خلفهم. طبعاً؛ لم نستطع دخول سورية من الطريق النظامي، بل دخلنا تهريباً؛ لأننا لم نكن نحمل معنا أية وثيقة تثبت شخصيتنا؛ فلا جواز سفر ولا هوية ولا أي شيء من هذا القبيل.

في مخيم درعا

لم نسكن بداية في مخيم درعا، ولكن بعد ستة أشهر، وبعد أن كثرت أعداد اللاجئين هناك، وخاصة من قرى حيفا (اجزم وجبع وعين غزال)؛ عُيِّن أبي مديراً على المخيم (كان يسمى ضابط المخيم وقتذاك)؛ وذلك بسبب نشاطه وتشكيله "لجنة شعبية" من أبناء المخيم؛ تعنى بشؤون اللاجئين. فسكنّا المخيم. وقد زرته مرة في مكتبه، الذي كان عبارة عن خيمة، فيها طاولة وكرسي وبعض الأوراق. وسعى والدي خلال ذلك إلى إيجاد أرض للاجئين، بالتنسيق مع الحكومة السورية ووكالة الغوث.

ومما أذكره في تلك الأيام؛ مطعم الأونروا الذي كان يقدم الوجبات الغذائية التي كان بعض اللاجئين يعتمدون عليها كلياً، ويبقون على تلك الوجبة إلى اليوم الثاني؛ إلى أن تقدم لهم وجبة النهار الجديد. أيام قاسية عشناها؛ البرد، والجوع، والقهر، والحالة النفسية، وبقجة الألبسة، وحلم العودة الذي لم يفارقهم لحظة واحدة.

على الصعيد الشخصي؛ دخلت المدرسة وأكملت دراستي الابتدائية في مدارس الأونروا، أكملت الدراسة وحصلت على "شهادة الكفاءة" (الإعدادية)، وكنت أدرس في النهار؛ وأعمل في الليل في التهريب بين درعا و الرمثا؛ أشتري خمسة أو سبعة كيلوغرامات من السكر من الرمثا وأقطع 15 كم لأعود بها إلى درعا، فأبيعها في الصباح لأربح نصف ليرة سورية، أقتات بها طوال النهار أنا ووالدتي؛ إذ كان أبي كان غادر درعا إلى مخيم حماة، حيث عين ضابطاً للمخيم هناك، وتزوج فيه امرأة ثانية.

أكملت دراستي وحصلت على الشهادة الثانوية، وكنت من العشرة الأوائل على المحافظة في دولة الوحدة عام 1959. وللمفارقة؛ إن ستةً من بين العشرة الأوائل آنذاك كانوا من اللاجئين الفلسطينيين.
بعد ذلك انتقلت إلى دراسة "الهندسة" في جامعة حلب، وحصلت على منحة دراسية مقدارها 75 ل.س. من الحكومة السورية، كنت أرسل إلى أمي منها 30 ل.س.، وأعيش بالباقي. تخرجت عام 1965، وانتقلت إلى دمشق لأنخرط في حياتي العملية موظفاً أتدرج من خلال ذلك أعلى المناصب الإدارية والنقابية حتى يومنا هذا.

للشاهد الأستاذ كمال حصان مسيرة نضالية زاخرة بالعطاء، بدأت بالمشاركة في المسيرات والتظاهرات؛ ولم تنته برئيس الدائرة التنظيمية لمنظمة الصاعقة، ولا بمواكبة حركة العودة في الشتات (وهو أحد مؤسسيها)؛ لأن هذه المسيرة من العطاء ما زالت مستمرة ومعطاءة وتقدم الجديد في المواقف، والكثير من الخبرات، وستكون لنا أحاديث طويلة عن تلك المسيرة لاحقاً.

لكن، بكل اختصار؛ يلخص الشاهد (الأستاذ كمال حصان) رؤيته لحق العودة فيقول: إن هذا الحق واجب مقدس، وهو لب القضية الفلسطينية، وإن العودة إلى الفالوجة وفلسطين كاملة، لا يمكن أن تتحقق إلا بالمقاومة؛ وبالمقاومة وحدها.

المصدر: مجلة العودة ــ العدد /56/ شهر أيار/ 2012

من الذاكرة الفلسطينية: الدكتور محمد توفيق البجيرمي (ابن اجزم) ورحلة الشتات


من الذاكرة الفلسطينية: الدكتور محمد توفيق البجيرمي (ابن اجزم) ورحلة الشتات

محمد الباش/ دمشق

اجزم، قرية من قرى حيفا العريقة، تبعد مسافة 25 كم إلى الجنوب منها، وتبعد عن البحر مسافة 3 كم. تحيط بها قرى: أم الزينات، وجبع، وعين غزال. وهي، كباقي قرى فلسطين، زراعية بالدرجة الأولى، تكثر فيها أشجار التين واللوز والرمّان، إضافة إلى الحبوب والخُضار. كانت بيوتها مبنية على تلال ترتفع قليلاً عن سطح البحر. بلغ عدد سكانها عام 1948 أكثر من 5000 نسمة.

يقول الشاهد الدكتور محمد توفيق البجيرمي (ابن اجزم والمولود فيها عام 1938م): كان بيتنا مؤلَّفاً من طبقة واحدة، وكنت أجلس على سطحه عند المساء؛ لأستمتع برؤية البحر. أقرب مستوطنة يهودية إلى قريتنا هي مستوطنة "زمّارين"، وتبعد عن القرية عدة كيلومترات.

تاريخ البلدة

لم تكن بيننا وبين ساكني مستوطنة زمّارين أية علاقة، ولم نختلط بهم، ولم يكن هناك أي نوع من الاتصال معهم. ومنذ عام 1936 وانطلاق الثورة العربية الكبرى في فلسطين؛ انخرط أهل القرية في الثورة، وسقط منهم الجرحى والشهداء، مثل: الشهيد توفيق مشينش. وكان الأهالي يحتضنون الثوار ويقدمون لهم المأوى والطعام، وكانوا يحمونهم من الجواسيس. وكان المحتل الإنكليزي يطلق الأحكام العالية الظالمة على أبناء القرى؛ لمجرد حيازة أحدهم سكيناً.

وأذكر، في قريتنا، أن أحداً أبناء القرية يكنى بـ"علي الزيبق" تسلل مرة إلى معسكر بريطاني، واستولى على بارودة للجيش؛ فعلموا به؛ ولكنه هرب إلى جبل شنّة؛ وجاء الإنكليز على أثرها وطوقوا القرية، وفتشوها تفتيشاً دقيقاً؛ بحثاً عن ذاك الرجل وعن تلك البارودة؛ لكنهم لم يجدوا الرجل ولا البارودة. وظل علي الزيبق متخفياً في الجبال مدة من الزمن.

سلاح الثوار والمدافعين عن القرية كان يأتي بعدة طرق، منها: على طريقة علي الزيبق (من المعسكرات الإنكليزية)؛ ومنها ما كان يُشترى من سورية ومصر؛ وكان ذلك يكلف أبناء القرية الكثير من المال؛ لأن ثمن البارودة كان مرتفعاً جداً.

وحين أحدق الخطر بقريتنا (اجزم) والقرى المجاورة لها؛ أدرك الأهالي أن لا سبيل إلا بمواجهة الصهاينة؛ فراحوا يتدربون في الجبال. وأذكر أن مسؤولية الدفاع عن القرية توزعت على الجميع، وخاصة آل جياب وآل زيدان. وأذكر أنه برز منهم حسن الجياب. وقد حفر المدافعون عن القرية الخنادق، وبنوا الاستحكامات، وخاصة فوق المدرسة التي وضعوا فوقها أكياس التراب.

وأذكر أن المدافعين عن القرية كانوا بضع عشرات من الرجال الأقوياء المدربين والمسلحين بالأسلحة الفردية وبعض الرشاشات الخفيفة؛ ورغم قلة عددهم؛ كانوا يخرجون لمؤازرة القرى المجاورة حين كانت تتعرض للهجوم من العصابات الصهيونية. ومن هذه القرى: عين حوض، التي صدّت هجوماً للصهاينة، أوقع المدافعون عنها إصابات كبيرة في صفوف الصهاينة، وغنم الثوار خلالها دبابتين.

في الأشهر الثلاثة التي أعقبت سقوط حيفا في 22 نيسان من عام 1948؛ لمع في القضاء نجم قرى ما سمي «مثلث الصمود الصغير» (قرى: جبع ،وعين غزال، واجزم)؛ وذلك لما أبلته في معركة الدفاع عن تلك القرى، ولمساندتهم للقرى المجاورة، إضافة إلى ما فرضه موقعهم الاستراتيجي على طرق الإمداد الصهيوني بين يافا وحيفا عل الطريق الساحلي.
لقد صمدت تلك القرى أكثر من ثلاثة أشهر، واستعمل الصهاينة لاحتلالها كل صنوف الأسلحة المتوافرة لديهم.

سقطت قرية "طيرة حيفا" في 17 تموز، وجاء أهلها إلى "اجزم"، واستقبلناهم واحتضناهم. وكانت تربطنا بهذه القرية علاقة أنساب وصداقات قوية. ولم تمض أيام إلا كان الهجوم الشامل على قرانا الثلاث (جبع، واجزم، وعين غزال)، اندلعت في خلاله معارك شرسة قدّم فيها أبناء تلك القرى بطولة نادرة، استنجدنا خلالها بوحدات الجيش العراقي القريبة منا؛ وكان الاتصال معهم بجري عبر جهاز اللاسلكي، الذي كنا نسميه وقتها "الوايلس"؛ وكان يأتي الرد من قائد الوحدة: «إنّا قادمون»! لكن تبين في ما بعد أن ثمة قراراً متخذاً من قبل قيادتهم بعدم التدخل؛ فالجواب بالمختصر وباللهجة العراقية: "ماكو أوامر".

ازداد الضغط على تلك القرى، وازداد معه القصف، ونفدت الذخيرة من أيدي المدافعين، ولا نجدات من الجيوش العربية، ولا من الهيئة العربية العليا؛ فاضطر بعدها المدافعون إلى الانسحاب عبر الطرق الوعرة مشياً على الأقدام متجهين إلى جنين، حيث كان يتمركز الجيش العراقي.

بقيت النساء والأطفال والشيوخ في القرية، رغم سماعهم عمّا يرتكبه الصهاينة من مجازر بحق المدنيين؛ ودخلت العصابات الصهيونية القرية في 27 تموز، وجمعت الأهالي وأتت بباصات ركبنا فيها مثل أكياس البطاطا، وأُخذنا إلى منطقة "اللّجون" في قضاء جنين.

وقد لفت نظري حين نزلنا من الباصات أن بيادر القمح في تلك المنطقة قد أحرقت تماماً وأضحت متفحمة. أُنزل الجميع، وبدأ الصهاينة يطلقون الرصاص فوق رؤوسنا ويصرخون: «اخرجوا من هنا». وأنا أذكر تماماً كيف كان صوت الرصاصات يمرّ من فوق رأسي.

رحلة الشتات

اتجهنا من قرية "اللجون" إلى قرية "زلفة"، ثم إلى قرية "رمّانة"، ومنها إلى جنين؛ كل ذلك كان مشياً على الأقدام، في جوٍّ حارّ جداً مع قلة من الماء بين أيدينا.

المعاناة كانت أكبر مما يتصوره العقل، ولم نجد أمامنا من ملجأ إلا الجيش العراقي المرابط في تلك المنطقة. ومكثنا بجواره حتى اعتبرنا بالنسبة إليه مصدر شغب؛ فما كان منه إلا أن أتى بشاحنات من نوع "لوري" تابعة له، وصل عددها إلى ما بين 30 و35 شاحنة. وكان بعضها مكشوفاً والآخر مغطى، وحملونا فيها واتجهوا بنا إلى بغداد.

وصلنا هناك بعد ثلاثة أيام من المشقة والتعب والقهر، وكان ذلك في شهر آب، وكنا نتيجة لموقفهم منا في الحرب قد اتهمناهم بالخيانة؛ فما كان منهم إلا أن أشاعوا بين العراقيين في العراق أننا بعنا أراضينا؛ حتى يغطوا تقصيرهم في الدفاع عن فلسطين.

أنزلونا بداية في مدارس "دار المعلمين"، وتكفلت بنا وقتها وزارة الدفاع العراقية؛ باعتبارنا أبناء عائلات للمجاهدين، وصرفت علينا فترة من الزمن؛ بعدها تكفلت بنا وزارة الشؤون الاجتماعية وعدّتنا وقتها لاجئين.

بقينا في المدارس مدة بسيطة من الزمن، ثم نقلونا إلى مخيمات وبيوت مهجورة كان يسكن بعضها يهود عراقيون غادروا إلى فلسطين.

هذه البيوت لم تكن صحية؛ كانت ضيقة وعبارة عن غرفة واحدة للعائلة الصغيرة؛ وغرفتين للعائلة الكبيرة. والغرفة نفسها مطبخ، وحمام، وللغسيل؛ أما دورات المياه فكانت مشتركة، غير أنها مفصولة بين النساء والرجال. وكانت الشوارع في هذه المنطقة معبَّدة.

وزارة الشؤون الاجتماعية العراقية كانت توزع على العائلات الفلسطينية في تلك الحقبة من الزمن ثلاثة دنانير للفرد، وكانت تقطع حين تعلم من قبل عملائها أن ربّ الأسرة تسلّم عملاً. والأعمال التي مارسها الفلسطينيون بداية هي: التدريس بعقد عمل خاص لمن كان يتقن اللغة الإنكليزية؛ والأعمال الحرة لمن يتقن حرفة.

معاملة أهل العراق تحسنت بعد ذلك، وخاصة بعد أن استطعنا أن نفنّد كذبة بيعنا لأراضينا، وأن نبدّدها من أذهانهم.

وأخذت بعض العائلات ممن عمل رب الأسرة فيها تتحسن أوضاعها، فقام البعض باستئجار بيوت أفضل من التي كانوا يسكنونها.

لا عودة إلا بالمقاومة

لا طريق لعودتنا إلا بالمقاومة، وهذه المقاومة مستمرة حتى الآن لم تنقطع. قال الصهاينة والأميركيون: إن العرب سينسون فلسطين بعد جيل أو جيلين؛ لكن ها نحن في الجيل الرابع؛ ولم ينس أحد قريته أو مدينته. وما زال الجميع متحفزاً للعودة؛ لأنهم ببساطة رضعوا مع حليب أمهاتهم كلام آبائهم وأجدادهم عن حلمهم بالعودة. الصغار لم ينسوا على الإطلاق، وهذا مدعاة فخر لنا بين شعوب الأرض كافة.

لا شيء يعوّض الفلسطيني عن أرضه. لقد اجتهد الفلسطيني في طلب العلم، وحصل على وظائف عالية، وقام بترقية نفسه في القراءة المستمرة والملاحقة المتتالية في إبقاء قضيته حية باستمرار؛ رغم محاولة الصهاينة تذويب القضية وإنهاءها.

المجتمع الدولي إلى الآن لم يقدم أي شيء، سوى أنه يعي هذه الآلام ويعي المصاعب ويتعاطف معها؛ لكن عملياً لم يُفعَل أي شيء.

نصيحتي للأجيال المتعاقبة من أبناء شعبنا: أن استمروا بالتمسك بحق العودة، واستمروا بالمقاومة، واستمروا في شرح قضيتكم وشرح آلامكم للرأي العالمي بلغة الأرقام والتواريخ. مطلوب من كل واحد منكم، في المكان الذي يوجد فيه، أن يوعّي الناس، ويوعّي الرأي العام؛ لكي تبقى قضيتنا حية في ضمائر شعوب العالم كلها.

المصدر: مجلة العودة ـ العدد ـ 58/شهر تموز / 2012

من الذاكرة الفلسطينية: خليل عثمان خلايلي: شاهدًا ومؤرخًا وباحثًا ومربيًا


من الذاكرة الفلسطينية: خليل عثمان خلايلي: شاهدًا ومؤرخًا وباحثًا ومربيًا

مواليد 1933 – قرية الجش قضاء صفد. (الصورة مرفقة)
مؤلف كتاب "تاريخ جسكالا" (الجش).

أمنيتي وأنا في هذا العمر أن أرى قريتي(الجش)، وأن ادفن في مقبرتها، مقابل جبل الجرمق؛ تعبنا وتعذبنا كثيرًا؛ ولكن حين نشاهد بلادنا محررة سيزول عنا كل ذاك التعب والمعاناة. رافقنا في رحلة العذاب عام 1948 كلبنا؛ وعندما اجتزنا الحدود مع لبنان وقف ذاك الكلب على تلك الحدود، ثم أدار وجهه نحو "الجش"، وعاد مسرعا إلى القرية ولم يتجاوز الحدود مترًا واحدًا.

مستوطنة "عين زيتيم" كانت شبه معزولة عما حولها، "وعين الزيتون" كانت تقف عائقا أمام الصهاينة للدخول إلى صفد، وكانت هذه القرية مسلحة أكثر من غيرها من القرى الفلسطينية، وكان مقاتلوها أشداء يشهد لهم كل من حولهم؛ فكان لا بد من إزالة هذا العائق.

في مساء 6 أيار من عام 1948، وبينما كنا نجلس على أطراف قريتنا؛ شاهدنا غمامة سوداء تمشي على الأرض. هذه الغمامة لم تكن إلا لنساء كثيرات كنّ يتشحن بالسواد، جئن إلى "الجش" يصرخن ويبكين ويستنجدن، ويرددن عبارات تختلط فيما بينها (القتل... المجزرة... الشباب... الرجال النساء... الأطفال... الدم... الجامع... اليهود... العصابات الصهيونية... )؛ وعندما وصلوا القرية؛ سمعنا منهم تفاصيل ما حدث في قريتهم (عين الزيتون): لقد داهمت العصابات اليهودية من قوات "البالماح"، على حين غرّة، القرية، بقوة مدججة بالسلاح المتوسط والثقيل، ترافقهم الدبابات، وكان قوام قوتهم الـ 900 مجند، مدربين أفضل تدريب. وعند وصولهم ساحة القرية؛ قاموا بتجميع العشرات من شبان القرية، ثم أطلقوا عليهم النار عليهم جميعا؛ فخروا صرعى. احتمى بعض الأهالي من النساء والأطفال والشيوخ، بمسجد القرية؛ قام الصهاينة بتلغيمه ونسفه؛ فتهدم على من فيه، وأخذوا يطلقون النار بشكل عشوائي؛ فهرع الناس مذعورون إلى القرى المجاورة .

سقطت قرية عين الزيتون بعد أن ارتكب الصهاينة فيها مجزرة فظيعة راح ضحيتها العشرات من أبناء القرية. وبسقوط هذه القرية، تمهد الطريق أمام الصهاينة لاحتلال مدينة صفد.

وبالفعل؛ وبعد خمسة أيام فقط؛ في 11\أيار؛ سقطت تلك المدينة الجميلة الوادعة .

أهالي قريتنا (الجش) أدركوا معنى سقوط صفد وبعض القرى المجاورة؛ أخذوا يعدون العدة؛ لأنهم أدركوا أن الدائرة قريبا ستدور عليهم: جمعوا المال من الأهالي، وذهبوا يجوبوا القرى لشراء السلاح، ومنهم من ذهب إلى سورية من أجل ذلك. وتمكنوا من شراء بعض القطع، منها اثنتان من نوع "توميغان"؛ وأربعا أخرى لم اعد أتذكر ما نوعها؛ ولكن لم يكن هذا ليكفي حتى نواجه تلك القوات الصهيونية المدججة والمدربة، والذين يسيرون ضمن خطط عسكرية دقيقة ومحكمة.

دخل جيش الإنقاذ قريتنا (الجش) والقرى المجاورة (ميرون والصفصاف ورأس الأحمر) ، وحاول هذا الجيش بقواته المتواضعة تحرير صفد؛ لكنه فشل؛ وأقام في قريتنا الاستحكامات القوية المبنية من الاسمنت والحجارة. واختيرت منطقة "المرج" من أراضي القرية لتلك الاستحكامات، وانتشرت قوات جيش الإنقاذ في الجش والقرى الأخرى، وكان قوام تلك القوات قرابة الـ700 جندي، مدعومين بحوالي 800 مدافع من القرى الأربعة (الجش، وميرون، والرأس الأحمر، والصفصاف)؛ وبقي الحال على حاله حتى مساء 29 تشرين أول، هذا اليوم الذي كان مفصليا بالنسبة لنا وللقرى الثلاثة الأخرى؛ فبينما كنا نلعب أنا وأصدقاء لي بالقرب من المدرسة في مساء ذاك اليوم؛ جاءت من جهة الجنوب الشرقي للقرية طائرتين ومروا فوق القرية، وفوق جبل الجرمق؛ فتصدى لها جيش الإنقاذ وأطلق نحوها بعض القذائف، ولكن لم تكن لتصل لتلك الطائرات؛ بل كانت تنفجر بالجو، ولم تكن أيضا لتخيف الطيارين الصهاينة؛ حيث تابعوا التحليق في سماء القرية والمنطقة كلها.

وعلى ما يبدو، كان هدفها الاستكشاف؛ لأنه وبعد ساعات من طلعاتها؛ بدأ اليهود يقصفون القرية قصفًا شديدًا وحاولوا التقدم نحو القرية من جهة المرج؛ أي من جانب الاستحكامات العسكرية التي أقامها جيش الإنقاذ. تصدى لها المقاومون وجيش الإنقاذ ومنعوهم من التقدم؛ فارتدوا إلى "طريق ميرون- صفد"، ومنها تحولوا إلى قرية ميرون، وأخذت الدبابات الصهيونية تقصف هذه القرية، حتى شاهدنا النيران والدخان يتصاعد منها؛ وإثر ذلك هرب أهالي قرية ميرون (هذه القرية الصغيرة والمؤلف سكانها من عائلة واحدة، هي عائلة كعوش مع وجود بعض الفلاحين من خارج القرية).

لقد حرق اليهود المهاجمون قرية ميرون واحتلوها، واتجهوا بعد ذلك إلى قرية الصفصاف المجاورة. وعند الشارع الرئيسي للقرية هذه، كان ينصب مدفع أطلق منه طلقة واحدة باتجاه الدبابات المهاجمة؛ لكن القذيفة انفجرت بالمدفع ذاته. واستمر زحف الدبابات الصهيونية دون أي عائق، ثم قاموا بتطويق القرية وقصفها، ومن ثم الدخول إليها.

واستبسل جيش الإنقاذ والمدافعين عن القرية واخرجوا الصهاينة منها؛ وسقط الكثير من الشهداء دفاعا عن هذه القرية؛ ثم أعاد الصهاينة الكرة، واحتلوها مرة ثانية؛ لكن كان إصرار المدافعين أشد؛ فحرروها مرة ثانية.

أتت للصهاينة تعزيزات إضافية؛ فهاجموها للمرة الثالثة، بعد أن استبسل المدافعون، وقدموا خلال ذلك أكثر من سبعين شهيدا، ونفذت الذخيرة منهم؛ ليستسلموا بعد محاصرتهم وليساقوا إلى شوارع القرية، ولتدوسهم جنازير الدبابات اليهودية المهاجمة وهم أحياء.

بعد أن ارتكب الصهاينة مجزرة في قرية الصفصاف؛ اتجهت دباباتهم إلى قريتنا (الجش)، وكانت تبعد عنا كيلو مترا واحدا. حاولوا تطويق جيش الإنقاذ الموجود في منطقة المرج عند الاستحكامات؛ ولكن تنبه لهم أحد الرقباء، الذي استطاع أن يسحب القوة المدافعة إلى خارج المنطقة، ولولا ذلك الرقيب وتنبهه، لأبيدت هذه القوة بالكامل.

انسحبت قوات جيش الإنقاذ عن طريق الرأس الأحمر إلى الحدود اللبنانية؛ أما أهالي القرية، فهربوا أثناء ذلك.

وكانت ليلة 29 -30 تشرين أول 1948، ودخل الصهاينة القرية مطلقين نيران رشاشاتهم وقذائف دباباتهم على كل شيء في القرية، ليدمروها ويعبثوا فيها وبمنازلها وخيراتها.

خرجنا أنا وأهلي إلى قرية "بنت جبيل" ولحق بنا أبي بعد ثلاثة أيام. أقمنا في هذه القرية عند صديق لأبي مدة يومين، ثم تابعنا سيرنا إلى الشمال، ومررنا خلال ذلك بالعديد من القرى؛ حتى وصلنا إلى قرية "تبنين". تعبنا خلال ذلك تعباً شديدا، ومن شدة التعب؛ نمنا تحت شجر الزيتون، مقابل قلعة تبنين. كان عددنا بين عشرون أو ثلاثون رجلاً وامرأة وطفلًا.

في صباح اليوم التالي؛ جاء إلينا أحد قادة جيش الإنقاذ، وكان يعرف أبي؛ فسأله عن أحوالنا؛ فشرح أبي له عن ما حل بنا. ذهب الرجل وعاد بعد قليل وهو محمل بالمواد الغذائية والماء من مؤن الجيش، وقال لنا: غداً كونوا مستعدين للانتقال من هنا. وفي الصباح: جاء الضابط ومعه باصًا. ركبنا فيه، واتجهنا إلى مدينة صور اللبنانية. وهناك وفي محطة القطار؛ التقينا بالكثيرين من سكان قرى الجليل، والتي سقطت في تلك الأيام القليلة الماضية، والتي بلغ تعدادها الــــ 86 قرية.

ركبنا القطار متجهين نحو الشمال، وكان يرافقنا لجنة كانت مهمتها توزيع اللاجئين على المدن اللبنانية. وعند وصولنا مدينة صيدا؛ أنزل مجموعة؛ وفي بيروت أنزل مجموعة أخرى؛ وفي طرابلس انزل مجموعة ثالثة. أما نحن فبقينا في القطار متجهين إلى مدينة حلب السورية. وعند وصولنا هناك؛ كان في استقبالنا من سبقنا من اللاجئين، خاصة من مدينة صفد، واسكنونا في منطقة تسمى "قشلة الترك" وبقينا فيها مدة ستة أشهر، نقلونا بعدها إلى "مخيم النيرب"، وأعطوا لكل عائلة بيت صغير. واستقر بنا المقام في هذا المخيم البائس والذي ذقنا فيه شتى أنواع العذابات.

تلك المعاناة والقهر، وتلك المشاعر فجرت فيّ الشاعر خليل خلالي. لقد صقلت هذه المسيرة المليئة بالآلام إنسانا مكافحًا، سلاحه العلم والثقافة والأدب. لقد خضت في هذه الحياة معارك على أكثر من صعيد مع العلم؛ فدرست ونلت أعلى الشهادات: مع السياسة انتظمت الأحزاب وعانيت فيها ما عانيت؛ و مع الكتابة كتبت فأنجزت العديد من المؤلفات شعرا وبحثا، منها: كتاب عن قريتي بعنوان (تاريخ جسكالا - الجش) ومنها كتاب (خليل خلايلي سنديانة من أرض كنعان).

وبعد هذه المسيرة وبعد فراق قريتي منذ63 عاما؛ أقول: انه مهما طال الزمن بيننا وبين قرانا، لا بد من العودة إليها؛ ومهما طال استعمار هذه المنطقة من قبل اليهود، فإنهم زائلون، لا يمكن أن يظلوا في أرضنا؛ لقد بقي الصليبيون قرابة 200 سنة؛ ولكنهم زالوا، وأصبحوا أثرا بعد عين؛ واليهود الصهاينة اليوم لن يبقوا، صدقوني، سيأتي اليوم الذي يصبحوا فيه أحاديث الناس الغابرة. وإن هذا يتطلب منا الكثير؛ لأن ما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد إلا بالقوة. وأنا إذ أقول هذا، أتذكر قصة كلب لنا تعلمت الكثير من مواقفه: فأثناء هجرتنا عام 1948 كان لدينا كلب عاش عندنا أكثر من عشر سنوات. رافقنا خلال الهجرة. وحين وصلنا إلى الحدود اللبنانية؛ توقف وذاك الكلب، ولم يدس الأراضي اللبنانية. نظر إلينا، وحرك ذنبه، ثم أدار رأسه إلى الجنوب، وعاد راكضاً باتجاه القرية. وقيل لي فيما بعد أن دورية يهودية جاءت إلى بيتنا وأرادوا نسفه؛ فهاجمهم ذاك الكلب؛ فأطلقوا الرصاص عليه؛ فمات.

نصيحتي لشبابنا اليوم: لقد رأيت الحفلات التي تقام في أوروبا، ورأيت الأولاد الصغار يعيشون قراهم وتراثهم، ويتمسكون بكل ذلك مثل الكبار وأكثر. وصيتي لهم ولأبناء شعبي هنا في المخيمات وفي كل مكان: أن نظل متمسكين بحقنا بعودتنا لأرضنا لقرانا لمدننا. ولدي إيمان عميق بأن العودة آتية آتية، وقريبة جدًا إنشاء الله.

أنا وصلت إلى ما وصلت إليه من العمر، وأكثر ما أشتهيه اليوم تلك المقبرة التي دفن فيها أجدادي مقابل جبل الجرمق وكم أتمنى لو أراها وأدفن فيها.

واختم بهذين البيتين الشعريين:
لقن فؤادك حيث شئت من الهوى ....... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ...... وحنينه أبدا لأول منزل