من دفاتر
النكبة (2):
الرواية التاريخية الصهيونية للنكبة وانعكاسها
على تعامل المجتمع الإسرائيلي مع حق العودة......
على تعامل المجتمع الإسرائيلي مع حق العودة......
د. مصطفى
كبها
/ خاص بـ
عــ48ـرب
منذ حصول نكبة الشعب الفلسطيني وتأسيس إسرائيل عام 1948، انصبت جهود الرواية التاريخية الرسمية الإسرائيلية في بلورة محوري كتابة أساسيين: أولهما تصوير قيام دولة إسرائيل على أنها تتويج لحركة انبعاث قومي لشعب أقام دولته المستقلة على أرض يملك معها صلات تاريخية وثيقة ووطيدة، وثانيهما تقزيم حجم وهول النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني وتصوير نتائج ما حل بهذا الشعب على أنها نتائج مرافقة لسعي الشعب اليهودي للاستقلال وتجسيده لمبدأ السيادة القومية ومن خلال ذلك خلق صورة يتم فيها تصوير تهجير الفلسطينيين من قراهم ومدنهم واقتلاعهم من أرضهم على أنه هروب أو إخلاء اختياري على أفضل الأحوال.
وعليه، فقد ركزت الرواية التاريخية الرسمية الإسرائيلية على سبع نقاط رئيسية يتمسك بها مصممو الوعي الشعبي الإسرائيليّ، من خلال المناهج التعليمية ووسائل الإعلام، إلى حدّ بعيد. أما هذه النقاط السبع فهي:
1. كان العرب هم المبادرون إلى حرب 1948، وهم الذين رفضوا قرار الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهوديّة إلى جانب دولة عربيّة. ولذا كانت الحرب محاولة يائسة من اليهود للدفاع عن أنفسهم ضد المبادرة الهجومية العربيّة وإزاء الرفض العربي المطلق لوجودهم.
2. العرب الفلسطينيون الذين سكنوا فلسطين مع بداية تطبيق المشروع الصهيوني لا يشكلون شعباً متكاملاً عضوياً، وعليه فهو ليس جديراً بتجسيد مبدأ السيادة الوطنية والقومية على وطنه بل هو مجموعة من الفرق الدينية والإجتماعية الطارئة على فلسطين وهم بحكم ذلك لا يملكون حقوقاً فيها.
3. كانت القوات الإسرائيليّة، في حرب عام 1948، أقل تفوّقًا في العدد والعتاد من الطرف العربي. وعليه تم تصوير الصراع على أنّه كان صراعًا بين داود الضئيل الماهر وَ جولياث العملاق قليل الكفاءة.
4. كان البريطانيون مؤيدين للعرب، الشيء الذي ألقى عبئاً إضافياً على عاتق القوات اليهوديّة.
5. انتهت الحرب بنصر معجزة تم تحقيقه بفضل التميّز اليهوديّ في القدرات الأخلاقية والقتالية. حيث أرسل الإسرائيليّون للمعركة قوات مذهلة تحت قيادة خارقة ومقاتلين متفوقين في شجاعتهم وصمودهم وحكمتهم.
6. تقع المسؤولية الكاملة حول تكوّن مشكلة اللاجئين على القيادات العربية التي سببت فرار الفلسطينيين من البلاد، وذلك على الرغم من المحاولات الإسرائيليّة التي حاولت منعهم من ذلك وطلبت منهم البقاء في أماكنهم.
7. انتهت الحرب بتفاهمات هشة لوقف إطلاق النار، لا بسلام كامل؛ وذلك لأن العرب امتنعوا عن قبول نتائج الحرب، ورفضوا الاعتراف بالوجود الفعلي للدولة اليهوديّة بينهم.
تشكل النقاط السبع هذه، الأسس الذي نشأت وترعرعت عليه الذاكرة الجماعية الإسرائيلية ولم يكن من السهل، ولن يكون في المدى المرئي، زحزحة هذه الأسس عن مواقعها الشيء الذي قد يجعل قبول الرأي العام بفكرة تجسيد حق العودة للاجئين الفلسطينيين أو أجزاء منه أمراً بعيد التحقق نتيجة لدخول هذه النقاط إلى خانة المسلمات والقناعات في الوعي الشعبي الإسرائيلي العام. وقد كانت الرواية التاريخية هي أداة التصميم الأساسية لها.
لم يدوِّن المؤرخون الإسرائيليون عملية تأسيس دولتهم والعقد الأول لحياتها بطريقة موحدة. ولكن كانت هناك توجهات سائدة وجهت القراء،بشكل أساسي، لتبني المحورين المذكورين أعلاه وتبني تبعاتهما.
كان الهدف الأساسي لأعمال هؤلاء المؤرخين يسعى للتأثير على تكوين ذاكرة جماعيّة للإسرائيليين تتبنى هذا التوجه وترفده بالمعطيات والصور(1). وقد بقي هذا التوجه سائداً، بشكل شبه مطلق، حتى ظهور بواكير أعمال المجموعة التي حملت اسم المؤرخون الجدد في الثمانينيّات من القرن الماضي، حيث حاولوا، دون نجاح كبير، أن يتحدّوا من خلال تلك الكتابات الرواية الإسرائيليّة السائدة(2).
علينا أن نوضّح هنا أنّ معظم أعضاء مجموعة المؤرخين الجدد (باستثناء إيلان بابه وآفي شلايم)، بالرغم من نقدهم الواضح لممارسات الحركة الصهيونية عام 1948، لا يتَحدّون المشروع الصهيونيّ بذاته، وإنّما هم يعترضون فقط على بعض الميزات الثقافيّة والأخلاقيّة التي أصابته أثناء تلك الفترة وبعدها. ولم يبدأ الجدل حول ما اصطلح على تسميته كتابة التاريخ الجديد في إشغال حيّز على الصعيد الفكري والثقافي الإسرائيلي إلا في أواخر الثمانينيّات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث بدا أكثر حدة في النصف الثاني التسعينيّات ليعود ويتراجع مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وعدول أحد أبرز أعضاء هذه المجموعة (بيني موريس ) عن آرائه السابقة.
وكان قد وقف ثلاثة مؤرّخين في طليعة موجة محاولة الصياغة الجديدة لتاريخ عام 1948 : بيني موريس؛ إيلان بابيه؛ آفي شلايم. علماً بأن دراساتهم وأبحاثهم الجدية، لم تلفت أنظار إلا مجموعة قليلة العدد من القراء ولم تفلح بزحزحة الجزء الأكبر من الوعي الجماعي الإسرائيلي عن مواقفه المتبنية بشكل تام للرواية الرسمية المتأصلة في الوعي الشعبي والراسخة في المناهج التعليمية ووسائل الإعلام.
وعليه، يمكننا الافتراض أن شرائح واسعة من الجمهور اليهودي في إسرائيل تؤمن، إلى حد بعيد، بالرواية الرسمية المهيمنة بالنسبة لما جرى عام 1948، والتي تبرز فيها صورة داود الصغير (اليهود) الذي سدد ضربة قاصمة إلى جوليات العملاق (العرب)، أو صورة أخرى داعمة مفادها أن بريطانيا لم تكن تنوي إخلاء فلسطين، بل سعت بكل ما أوتيت من قوة لإفشال محاولات اليهود إقامة دولة يهوديّة مستقلة في فلسطين.
ومن هذا الافتراض يمكننا أن نفهم أيضاً الغضب الواسع الانتشار الذي تم إطلاقه ضد محاولات كتابة الرواية التاريخية الجديدة وضد كتابها، وذلك لأنهم حاولوا أن يضربوا بالصميم عمق هذه الاقتناعات التي يؤمن بها معظم الإسرائيليين والتي شكلت الطريق الذي سلكوه لرؤية أنفسهم ورؤية الآخرين من شعوب العالم. بل أكثر من ذلك يمكن القول إنهم يروون فيها مؤشراً لتقدير مصيرهم في الحاضر ومقدراتهم في المستقبل، كما أنها تكوّن أحد المعايير الأساسية للمسلك الذي يتبعونه لفهم هويتهم الجماعية.
يرى البعض أن استمرار هيمنة هذه النظرية كل هذه السنوات يعود إلى العداء الدائم والكراهية المستمرة تجاه العرب، تلك المشاعر التي بدأت تترسخ في مجتمع الييشوف قبل حرب 1948 بكثير، ومع استمرار حالة الصراع والحرب مع الفلسطينيين والعرب فإن أمر تغيير الأطروحة الإسرائيلية الرسمية عما جرى عام 1948 يعتبر أمراً صعب الإدراك لمعظم الإسرائيليّين.
وعليه يمكن الافتراض أن تلك الحرب وحرمان الفلسطينيّين من أراضيهم ساهما في تعزيز هذا العداء، ولكنهما لم يكونا السبب في خلقه. إذ أنه يصعب على الإسرائيليّين أن يصدقوا، حتى الآن، أن العرب كانوا على استعداد لقبول تأسيس دولة يهوديّة في فلسطين. وأنهم على استعداد لقبول كيان يهودي سياسي طويل الأمد في المنطقة.
كما ويعزو بعض الباحثين ذلك إلى كيفية فهم معظم الإسرائيليين للمحاولات الفلسطينيّة المستمرة والعنيفة لعرقلة المشروع الصهيونيّ في الأعوام: 1920؛ 1921؛ 1929 وخاصة في ثورتهم الكبرى خلال الأعوام 1936- 1939. إذ أن التجارب الشخصية للعديد من الإسرائيليّين أثناء حرب 1948 عززت إيمانهم بأنه لا مفر من سرد الرواية التاريخية الشاملة(كما يرونها هم) على أنها رد دفاعيّ يهوديّ على رفض العرب التام للطموح اليهوديّ للاستقلال.
صورة الفلسطيني ومساهمتها في بلورة مواقف الرأي العام: ساهمت معارضة الفلسطينيّين العرب المستمرة، والعنيفة أحيانًا، للمشروع الصهيوني في رسم الملامح أو السمات للعربي الفلسطيني في الإدراك الجماعي للمجتمع اليهودي عن طريق دعم تصوير الآخر على أنه عدائيّ وشرّير ومتخلف وبدائي.
هذا مع العلم أنه حتى العام 1948، حافظ بعض يهود فلسطين على علاقات عادية، وودّية في بعض الأحيان، مع العرب وكثيرًا ما حاولوا تبرئة بسطاء الناس الفلسطينيّين من تهمة العنف والكراهية واضعين كامل المسؤوليّة أو اللوم على عاتق أبناء الذوات والأفندية من العائلات المدينية العربيّة الذين،على حد قولهم، استغلّوا عامّة الشعب الفلسطينيّ وحرّضوهم ضد اليهود لكي يلهوهم عن مأزقهم الخاص. أو على الحكومة البريطانية التي تبنت، وفق هذا الرأي، سياسة فرّق تسُد التي حاولت أن تمنع أي إمكانية للتفاهم بين العرب واليهود.
ولكن الحرب التدميرية عام 1948 ألغت السواد الأعظم من هذه التبريرات. إذ لم يعد بالإمكان الاستمرار في فصل الفئات الشعبية الفلسطينيّة عن قيادة حركتها الوطنية بذلك الشكل الساذج والمكشوف.
_________________
(1) لعرض مفصل لهذه الرواية أنظر : موردخاي بارؤون، زيكارون باسيفير: بداية التأريخ الاسرائيلي لحرب 1948. (بالعبرية)، تل أبيب 2001.
(2) كانت باكورة تلك الأعمال الكتاب الذي نشره سمحا فلابن، أحد نشيطي حزب مبام اليساري وأحد قدامى العاملين في الدائرة العربية لذلك الحزب وقد كان تحت عنوان :
S. Flapan, The Birth of Israel: Myths and Realities, New York 1987 (henceforth: Flapan, The Birth of Israel).
B. Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem, Cambridge 1988; Ilan Pappe, The Making of the Arab-Israeli Conflict, 1947-1951, London 1992; A. Shlaim, Collusion across the Jordan: King Abdullah, the Zionist Movement and the Partition of Palestine, Oxford 1988.
منذ حصول نكبة الشعب الفلسطيني وتأسيس إسرائيل عام 1948، انصبت جهود الرواية التاريخية الرسمية الإسرائيلية في بلورة محوري كتابة أساسيين: أولهما تصوير قيام دولة إسرائيل على أنها تتويج لحركة انبعاث قومي لشعب أقام دولته المستقلة على أرض يملك معها صلات تاريخية وثيقة ووطيدة، وثانيهما تقزيم حجم وهول النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني وتصوير نتائج ما حل بهذا الشعب على أنها نتائج مرافقة لسعي الشعب اليهودي للاستقلال وتجسيده لمبدأ السيادة القومية ومن خلال ذلك خلق صورة يتم فيها تصوير تهجير الفلسطينيين من قراهم ومدنهم واقتلاعهم من أرضهم على أنه هروب أو إخلاء اختياري على أفضل الأحوال.
وعليه، فقد ركزت الرواية التاريخية الرسمية الإسرائيلية على سبع نقاط رئيسية يتمسك بها مصممو الوعي الشعبي الإسرائيليّ، من خلال المناهج التعليمية ووسائل الإعلام، إلى حدّ بعيد. أما هذه النقاط السبع فهي:
1. كان العرب هم المبادرون إلى حرب 1948، وهم الذين رفضوا قرار الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهوديّة إلى جانب دولة عربيّة. ولذا كانت الحرب محاولة يائسة من اليهود للدفاع عن أنفسهم ضد المبادرة الهجومية العربيّة وإزاء الرفض العربي المطلق لوجودهم.
2. العرب الفلسطينيون الذين سكنوا فلسطين مع بداية تطبيق المشروع الصهيوني لا يشكلون شعباً متكاملاً عضوياً، وعليه فهو ليس جديراً بتجسيد مبدأ السيادة الوطنية والقومية على وطنه بل هو مجموعة من الفرق الدينية والإجتماعية الطارئة على فلسطين وهم بحكم ذلك لا يملكون حقوقاً فيها.
3. كانت القوات الإسرائيليّة، في حرب عام 1948، أقل تفوّقًا في العدد والعتاد من الطرف العربي. وعليه تم تصوير الصراع على أنّه كان صراعًا بين داود الضئيل الماهر وَ جولياث العملاق قليل الكفاءة.
4. كان البريطانيون مؤيدين للعرب، الشيء الذي ألقى عبئاً إضافياً على عاتق القوات اليهوديّة.
5. انتهت الحرب بنصر معجزة تم تحقيقه بفضل التميّز اليهوديّ في القدرات الأخلاقية والقتالية. حيث أرسل الإسرائيليّون للمعركة قوات مذهلة تحت قيادة خارقة ومقاتلين متفوقين في شجاعتهم وصمودهم وحكمتهم.
6. تقع المسؤولية الكاملة حول تكوّن مشكلة اللاجئين على القيادات العربية التي سببت فرار الفلسطينيين من البلاد، وذلك على الرغم من المحاولات الإسرائيليّة التي حاولت منعهم من ذلك وطلبت منهم البقاء في أماكنهم.
7. انتهت الحرب بتفاهمات هشة لوقف إطلاق النار، لا بسلام كامل؛ وذلك لأن العرب امتنعوا عن قبول نتائج الحرب، ورفضوا الاعتراف بالوجود الفعلي للدولة اليهوديّة بينهم.
تشكل النقاط السبع هذه، الأسس الذي نشأت وترعرعت عليه الذاكرة الجماعية الإسرائيلية ولم يكن من السهل، ولن يكون في المدى المرئي، زحزحة هذه الأسس عن مواقعها الشيء الذي قد يجعل قبول الرأي العام بفكرة تجسيد حق العودة للاجئين الفلسطينيين أو أجزاء منه أمراً بعيد التحقق نتيجة لدخول هذه النقاط إلى خانة المسلمات والقناعات في الوعي الشعبي الإسرائيلي العام. وقد كانت الرواية التاريخية هي أداة التصميم الأساسية لها.
لم يدوِّن المؤرخون الإسرائيليون عملية تأسيس دولتهم والعقد الأول لحياتها بطريقة موحدة. ولكن كانت هناك توجهات سائدة وجهت القراء،بشكل أساسي، لتبني المحورين المذكورين أعلاه وتبني تبعاتهما.
كان الهدف الأساسي لأعمال هؤلاء المؤرخين يسعى للتأثير على تكوين ذاكرة جماعيّة للإسرائيليين تتبنى هذا التوجه وترفده بالمعطيات والصور(1). وقد بقي هذا التوجه سائداً، بشكل شبه مطلق، حتى ظهور بواكير أعمال المجموعة التي حملت اسم المؤرخون الجدد في الثمانينيّات من القرن الماضي، حيث حاولوا، دون نجاح كبير، أن يتحدّوا من خلال تلك الكتابات الرواية الإسرائيليّة السائدة(2).
علينا أن نوضّح هنا أنّ معظم أعضاء مجموعة المؤرخين الجدد (باستثناء إيلان بابه وآفي شلايم)، بالرغم من نقدهم الواضح لممارسات الحركة الصهيونية عام 1948، لا يتَحدّون المشروع الصهيونيّ بذاته، وإنّما هم يعترضون فقط على بعض الميزات الثقافيّة والأخلاقيّة التي أصابته أثناء تلك الفترة وبعدها. ولم يبدأ الجدل حول ما اصطلح على تسميته كتابة التاريخ الجديد في إشغال حيّز على الصعيد الفكري والثقافي الإسرائيلي إلا في أواخر الثمانينيّات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث بدا أكثر حدة في النصف الثاني التسعينيّات ليعود ويتراجع مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وعدول أحد أبرز أعضاء هذه المجموعة (بيني موريس ) عن آرائه السابقة.
وكان قد وقف ثلاثة مؤرّخين في طليعة موجة محاولة الصياغة الجديدة لتاريخ عام 1948 : بيني موريس؛ إيلان بابيه؛ آفي شلايم. علماً بأن دراساتهم وأبحاثهم الجدية، لم تلفت أنظار إلا مجموعة قليلة العدد من القراء ولم تفلح بزحزحة الجزء الأكبر من الوعي الجماعي الإسرائيلي عن مواقفه المتبنية بشكل تام للرواية الرسمية المتأصلة في الوعي الشعبي والراسخة في المناهج التعليمية ووسائل الإعلام.
وعليه، يمكننا الافتراض أن شرائح واسعة من الجمهور اليهودي في إسرائيل تؤمن، إلى حد بعيد، بالرواية الرسمية المهيمنة بالنسبة لما جرى عام 1948، والتي تبرز فيها صورة داود الصغير (اليهود) الذي سدد ضربة قاصمة إلى جوليات العملاق (العرب)، أو صورة أخرى داعمة مفادها أن بريطانيا لم تكن تنوي إخلاء فلسطين، بل سعت بكل ما أوتيت من قوة لإفشال محاولات اليهود إقامة دولة يهوديّة مستقلة في فلسطين.
ومن هذا الافتراض يمكننا أن نفهم أيضاً الغضب الواسع الانتشار الذي تم إطلاقه ضد محاولات كتابة الرواية التاريخية الجديدة وضد كتابها، وذلك لأنهم حاولوا أن يضربوا بالصميم عمق هذه الاقتناعات التي يؤمن بها معظم الإسرائيليين والتي شكلت الطريق الذي سلكوه لرؤية أنفسهم ورؤية الآخرين من شعوب العالم. بل أكثر من ذلك يمكن القول إنهم يروون فيها مؤشراً لتقدير مصيرهم في الحاضر ومقدراتهم في المستقبل، كما أنها تكوّن أحد المعايير الأساسية للمسلك الذي يتبعونه لفهم هويتهم الجماعية.
يرى البعض أن استمرار هيمنة هذه النظرية كل هذه السنوات يعود إلى العداء الدائم والكراهية المستمرة تجاه العرب، تلك المشاعر التي بدأت تترسخ في مجتمع الييشوف قبل حرب 1948 بكثير، ومع استمرار حالة الصراع والحرب مع الفلسطينيين والعرب فإن أمر تغيير الأطروحة الإسرائيلية الرسمية عما جرى عام 1948 يعتبر أمراً صعب الإدراك لمعظم الإسرائيليّين.
وعليه يمكن الافتراض أن تلك الحرب وحرمان الفلسطينيّين من أراضيهم ساهما في تعزيز هذا العداء، ولكنهما لم يكونا السبب في خلقه. إذ أنه يصعب على الإسرائيليّين أن يصدقوا، حتى الآن، أن العرب كانوا على استعداد لقبول تأسيس دولة يهوديّة في فلسطين. وأنهم على استعداد لقبول كيان يهودي سياسي طويل الأمد في المنطقة.
كما ويعزو بعض الباحثين ذلك إلى كيفية فهم معظم الإسرائيليين للمحاولات الفلسطينيّة المستمرة والعنيفة لعرقلة المشروع الصهيونيّ في الأعوام: 1920؛ 1921؛ 1929 وخاصة في ثورتهم الكبرى خلال الأعوام 1936- 1939. إذ أن التجارب الشخصية للعديد من الإسرائيليّين أثناء حرب 1948 عززت إيمانهم بأنه لا مفر من سرد الرواية التاريخية الشاملة(كما يرونها هم) على أنها رد دفاعيّ يهوديّ على رفض العرب التام للطموح اليهوديّ للاستقلال.
صورة الفلسطيني ومساهمتها في بلورة مواقف الرأي العام: ساهمت معارضة الفلسطينيّين العرب المستمرة، والعنيفة أحيانًا، للمشروع الصهيوني في رسم الملامح أو السمات للعربي الفلسطيني في الإدراك الجماعي للمجتمع اليهودي عن طريق دعم تصوير الآخر على أنه عدائيّ وشرّير ومتخلف وبدائي.
هذا مع العلم أنه حتى العام 1948، حافظ بعض يهود فلسطين على علاقات عادية، وودّية في بعض الأحيان، مع العرب وكثيرًا ما حاولوا تبرئة بسطاء الناس الفلسطينيّين من تهمة العنف والكراهية واضعين كامل المسؤوليّة أو اللوم على عاتق أبناء الذوات والأفندية من العائلات المدينية العربيّة الذين،على حد قولهم، استغلّوا عامّة الشعب الفلسطينيّ وحرّضوهم ضد اليهود لكي يلهوهم عن مأزقهم الخاص. أو على الحكومة البريطانية التي تبنت، وفق هذا الرأي، سياسة فرّق تسُد التي حاولت أن تمنع أي إمكانية للتفاهم بين العرب واليهود.
ولكن الحرب التدميرية عام 1948 ألغت السواد الأعظم من هذه التبريرات. إذ لم يعد بالإمكان الاستمرار في فصل الفئات الشعبية الفلسطينيّة عن قيادة حركتها الوطنية بذلك الشكل الساذج والمكشوف.
_________________
(1) لعرض مفصل لهذه الرواية أنظر : موردخاي بارؤون، زيكارون باسيفير: بداية التأريخ الاسرائيلي لحرب 1948. (بالعبرية)، تل أبيب 2001.
(2) كانت باكورة تلك الأعمال الكتاب الذي نشره سمحا فلابن، أحد نشيطي حزب مبام اليساري وأحد قدامى العاملين في الدائرة العربية لذلك الحزب وقد كان تحت عنوان :
S. Flapan, The Birth of Israel: Myths and Realities, New York 1987 (henceforth: Flapan, The Birth of Israel).
B. Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem, Cambridge 1988; Ilan Pappe, The Making of the Arab-Israeli Conflict, 1947-1951, London 1992; A. Shlaim, Collusion across the Jordan: King Abdullah, the Zionist Movement and the Partition of Palestine, Oxford 1988.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق