بحث هذه المدونة الإلكترونية

2015-04-08

تهجير القرى العربية في النقب عام 1948 : منطقة الشريعة كحالة بحث.. من دفاتر النكبة (4)

من دفاتر النكبة (4): تهجير القرى العربية في النقب عام 1948 : منطقة الشريعة كحالة بحث..

د.مصطفى كبها/ خاص بـ عــ48ـرب

الشريعة في النقب...
تعاني الرواية الفلسطينية للنكبة، في كل ما يتعلق بعملية تهجير القرى العربية في النقب، من النقص الشديد بل يمكننا القول بأنها تقاسي الكثير من التغييب والتجاهل، الشيء الذي ينعكس، إلى حد كبير، على معالجة قضايا أبناء الأقلية العربية الفلسطينية في النقب الملتهبة هذه الأيام.

تتجاهل معظم المصادر الفلسطينية المعتمدة في هذا المجال العدد الدقيق للقرى العربية المهجرة في النقب. بعضها يحصرها في أربع قرى والبعض الآخر بتسع، والبعض الآخر يغالي قليلاً فيعطي الرقم 88. والأنكى من ذلك أن نسبة ليست قليلة من هذه المصادر تتجاهل مدينة بئر السبع الحاضرة المدنية الأهم لهذه المنطقة منذ إقامتها من قبل العثمانيين في مطلع القرن العشرين وجعلها عاصمة للقضاء.

وكما يبدو، فإن مسألة حصر عدد القرى العربية المهجرة في النقب ستتطلب من الباحثين والدارسين جهداً أكبر بكثير مما يبذلونه اليوم وذلك للتكشف لنا صورة ما جرى هناك بشكل أوضح.

في مقالتنا هذه سنحاول الوقوف على تفاصيل وآليات التهجير لمنطقة الشريعة، وهي إحدى المناطق المغيبة في رواية التهجير والنكبة، آملين أن نعطي بذلك عينة دراسة مختارة يمكن أن تكون ممثلة لما جرى في باقي المناطق المغيبة.

كانت منطقة الشريعة، الواقعة غربي مدينة بئر السبع وعلى بعد 15 كم إلى الشرق من شاطئ البحر المتوسط، تجمع بعض تجمعات القبائل العربية التي انضوت تحت لواء عشيرة قديرات الصانع، وضمت كلاً من حمائل أبو بدر، أبو سعد، أبو خبيزة، أبو عبيّد، أبو عبلة، أبو مسامح وأبو دحل، وغيرها العديد من الحمائل والبطون والتي كان بعضها قد مر بعملية من التوطين والبناء في أماكن سكن ثابتة منذ أواخر العهد العثماني، واستمرت هذه العملية طيلة فترة الانتداب البريطاني من خلال علاقات تجارية وزراعية وتعليمية طورها سكان المنطقة مع الحواضر المدينية القريبة غزة وبئر السبع والخليل.

شارك أبناء هذه العشائر في النشاط الوطني الفلسطيني منذ بداياته، وفي ثورة 1936 -1939 كان الشيخ إبراهيم الصانع (من أوائل المتعلمين في المنطقة وخريج استانبول) مضيفاً للثوار ومنظماً لهم.

وقد روى لي الشيخ حسن إبراهيم الصانع (من مواليد 1931 ) في مقابلة أجريتها معه في الخامس عشر من أيار 2008 بأن الشيخ إبراهيم عقد وليمة في بيته في نهاية عام 1935 للحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين والديار القدسية ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى آنذاك، ودعا إليها كافة مشايخ المنطقة الذين أقسموا أمامه وأمام الحاج أمين على المصحف والسيف بعدم بيع الأرض لليهود. وخوفاً من تزييف ختمه وعقد صفقات مزيفة باسمه وضع الختم على فوهة البندقية وأطلق النار كي يعلم القاصي والداني بأنه لن يوقع على أية صفقة أو وثيقة رسمية بعد ذلك .

وفي أثناء الثورة تكون في المنطقة فصيل مسلح عمل تحت قيادة الحاج حسن الإفرنجي الذي كان ذا ميول دينية وانتمى في نهاية الأربعينيات لحركة الأخوان المسلمين التي ساهمت بعض فصائلها المسلحة في معركة الدفاع عن بئر السبع والتي انتهت بسقوط المدينة وتهجير أهلها في الأسبوع الأخير من شهر تشرين أول عام 1948.

وعن تهجير سكان الشريعة/ الزمارة يضيف الحاج حسن: عند سقوط بئر السبع كنا ما زلنا موجودين في زمارة، وقسم منا كان موجوداً في اللقية، جاء إلينا رجلان يمثلان السلطة الجديدة واشتريا منا الحبوب، تركونا في أماكننا لفترة وجيزة، ولكنهما عادا وطالبانا بالرحيل بحجة قربنا من الحدود المصرية، وما يمكن لذلك أن يسبب من أخطار. بعدها تم تهجيرنا عنوة إلى اللقية، وأثناء عملية التهجير استشهد كل من عبد ربه جمعة الإفرنجي وأبو الوليد الوحيدي كما وأصيب بجراح خليل إبراهيم الصانع، هذا إضافة لسليمان محمد أبو بدر الذي كان من بين الذين استشهدوا مدافعين عن مدينة بئر السبع. كما وقامت السلطات الإسرائيلية،أثناء عملية التهجير، باعتقال كل من محمد إبراهيم الصانع وإبراهيم إسماعيل أبو سامح (أبو جابر).

في ربيع عام 1952 تعرض أبناء العشيرة الذين كانوا قد تجمعوا في اللقية إلى عملية تهجير ثانية، جرى من خلالها تهجيرهم إلى منطقة الرهوة (جنوبي منطقة الخليل) على حدود الضفة الغربية، التي كانت آنذاك تحت السيطرة الأردنية. أثناء عملية التهجير جرى اعتقال مجموعة من الرجال كان منهم : علي أبو عبيد، محمد محمود الجعّار، سعيد عبد الله الصانع وربيع أبو عصيدة وقد تم إيداعهم في سجن بئر السبع المركزي وقد ربطت السلطات أمر إطلاق سراحهم بموافقتهم على التهجير الطوعي ومن وافق على التهجير تم إطلاق سراحه.

في هذه الفترة قدم الشيخ إبراهيم الصانع التماساً، من خلال المحامي حاييم كازوتس، للمحكمة العليا الإسرائيلية طالباً فيه إلغاء أمر الترحيل، ولكن السلطات لم تنتظر حتى تبت المحكمة بأمر الالتماس، بل قامت بإحضار الشاحنات التي نقلت السكان إلى غزة ومنطقة الرهوة.

عن عملية التهجير هذه حدثني عليّان محمد إبراهيم الصانع (مواليد 1944 ) في مقابلة أجريتها معه في منتصف أيار 2008، حيث قال: في البداية جرى حصار تام للسكان شهراً كاملاً دون السماح بإدخال أي طعام أو شراب تحت دعوى مقتل بعض اليهود واتهام أبناء العشيرة بالمشاركة في عمليات التهريب. بعدها جاء الجنود يركبون الشاحنات والجيبات والتنادر وحملوا السكان تحت تهديد العصي وتم إنزالهم في منطقة الرهوة. هناك قمنا ببناء مخيم للاجئين ومكثنا فيه أربعين يوماً. في هذه الأثناء صدر قرار المحكمة العليا القاضي بإلزام الحكومة الإسرائيلية بإرجاعنا إلى اللقية وقد ساعد على ذلك رفض الحكومة الأردنية القاطع لاستقبالنا. قبلت الحكومة الإسرائيلية القرار على مضض ولكنها نفذته بشكل جزئي، حيث لم تقبل إعادتنا إلى اللقية بل قامت بتهجيرنا للمرة الثالثة وهذه المرة إلى منطقة تل عراد القاحلة. تغلب السكان هناك على الظروف الصعبة فحفروا الآبار وأقاموا السدود وزرعوا الفواكه والخضار. أما الأبناء فتعلموا بداية في الكتاب، ثم قام الآباء بإرسالهم للدراسة في مدرسة كفر قاسم في المثلث الجنوبي حيث تولى مختار كفر قاسم آنذاك، المرحوم وديع صرصور، أمر إقامتهم.

لم تكن الإقامة في تل عراد آخر المطاف في سلسلة تهجير العشيرة، فبعد إقامة هناك، مدتها خمسة وعشرون عاماً، لم تفلح هذه المدة الطويلة بإقناع الحكومة بالاعتراف بهم كنقطة سكنى شرعية بمعنى ربطهم بشرايين الحياة الحديثة وتمتعهم بحقوق مواطنتهم. حيث مارست سلسلة من الضغوطات الهادفة إلى تجميع التجمعات السكانية العربية في النقب عدد محدود من القرى والبلدات بشكل يقلص إلى حد كبير مساحة الأراضي التي بحوزتهم ويقومون باستعمالها منذ مئات السنين. وقد تم التوصل في النهاية إلى تسوية يعود من خلالها أبناء عشيرة القديرات إلى اللقية التي كانوا قد هجروا منها عام 1952.

معركة جنين (2-4 حزيران 1948) وأبعادها الاستراتيجية والتاريخية.. من دفاتر النكبة (3)



من دفاتر النكبة (3):
معركة جنين (2-4 حزيران 1948وأبعادها الاستراتيجية والتاريخية..

د.مصطفى كبها / خاص بـ عـــ48ـرب
تعتبر معركة جنين الأولى والتي جرت بين الثاني والرابع من حزيران عام 1948 في قطاع مدينة جنين الفلسطينية وعمقها القروي من أكثر المعارك تأثيراً على مجريات الحرب في النصف الثاني من عام 1948. فلهذه المعركة الكثير من المدلولات التكتيكية والاستراتيجية والعديد من الانعكاسات القريبة والطويلة المدى على سير المعارك وعلى معنويات الشعب الفلسطيني وصموده في هذا القطاع المهم من جبهات القتال.

منذ البداية، ظهر واضحاً للعيان أن قوات الجيوش العربية التي جاءت إلى فلسطين في الخامس عشر من أيار 1948 ورابطت في أجزاء مختلفة منها كانت تتمركز وتشترك في القتال، بشكل فعلي، فقط في المناطق المخصصة للدولة العربية حسب قرار التقسيم. هذا في حين لم تلتزم القوات اليهودية بذلك،حيث لم تكتف باحتلال المناطق المخصصة للدولة اليهودية بل هاجمت مناطق مخصصة للدولة العربية وقامت باحتلالها حتى قبل مغادرة القوات البريطانية فلسطين في الخامس عشر من أيار 1948.

بعد ان أكملت القوات اليهودية احتلال قرى المزار ونوريس وزرعين وتهجير أهلها في الثلاثين والحادي والثلاثين من ايار 1948، بدأت هذه القوات تقصف مدينة جنين بمدافع الهاون وبعض الطلعات الجوية وقد تركزت معظم الهجمات على محيط منطقة القلعة ( نقطة البولسي التي كانت في الماضي جزءاً من حزام القلاع الذي أقامه الضابط البريطاني تشارلز تيجارت أثناء ثورة 1936 -1939 ) والتي كانت مقراً للقوات المدافعة عن المدينة.

كان هذا القصف يهدف، كما يبدو، لتحقيق جملة من الأهداف العسكرية والاستراتيجية بعيدة المدى. فمن الناحية العسكرية كانت هذه الهجمات تهدف لاحتلال مدينة جنين والوصول إلى مفرقي قباطية ودير شرف الاستراتيجيين بحيث يكون من شأن القوات الواصلة إلى هناك عزل القوات العراقية المتمركزة في المثلث ومفاجأتها من الخلف بشكل يضطرها للانسحاب أو التسليم وهو أمر يعزز إلى حد كبير الوضع العسكري للقوات الإسرائيلية في االمواقع التي كانت قد احتلتها في قضائي حيفا وبيسان.

أما على الصعيد الاستراتيجي فقد كان هذا القصف يهدف لترويع السكان المدنيين وتعجيل تهجيرهم كما حصل في القرى والمدن العربية التي كانت قد احتلت وهجر سكانها قبل ذلك. هذا مع العلم أن نسبة عالية من اللاجئين القادمين من قطاعات حيفا وبيسان، كانت قد وجدت لها ملجأ في مدينة جنين ومحيطها، إذ أن تهجير سكان المدينة ومحيطها أنفسهم كان من الممكن ان يبعد اللاجئين مسافة أكبر عن قراهم ويزعزع لديهم المعنويات والإصرار على العودة.

كما وثمة هدف آخر سعت القيادة الإسرائيلية لتحقيقه وهو محاولة منع هجوم عراقي محتمل نحو العفولة ومرج ابن عامر يكون من شأنه عزل القوات اليهودية المتواجدة في منطقة بيسان وطبريا.

في البداية نزح سكان زرعين والمزار ونورس وصندلة ومقيبلة والجلمة وزبوبة إلى جنين وبرقين وميثلون وقرى أخرى، ولكن مع اجتياح القوات الاسرائيلية مدينة جنين في الثاني من حزيران 1948 نزح اللاجئون وسكان مدينة جنين وقرية برقين أنفسهم نحو قرى جنوب القضاء وقرى شمالي قضاء نابلس.

بلغ عدد القوات اليهودية المهاجمة قرابة 4000 مقاتل انتظموا في أربع فرق، ثلاث منها (الفرق 21 و 22 للواء كرملي والفرقة 13 للواء جولاني) قامت بالهجوم بشكل فعلي، أما الرابعة فقد انحصر نشاطها في أعمال التمويه والامداد. أما القوات العربية المدافعة فقد تكونت من: 250 جندياً عراقياً ينتمون إلى سريتين الأولى سرية مشاة بقيادة نوح عبد الله الحلبي وسرية مدرعات بقيادة الضابط محسن الأعظمي.

وقد كانت هذه القوات مسلحة ببضعة مدافع هاون وسبع مدرعات وخمس رشاشات من طراز فيكرز. إلى جانب القوة العراقية كان هناك فصيل فلسطيني يتكون من خمسين مقاتلاً من قرى شرقي قضاء جنين يقوده الشهيد داود الحوراني وفصيل فلسطيني آخر يقوده فوزي فياض جرار من صانور وقد كان يتبع جيش الجهاد المقدس هذا إضافة لفصيل من المتطوعين الفلسطينيين والأردنيين كان يقودهم الضابط عبد الرحمن الصحن (وقد كانوا مرابطين قبل ذلك في قرى شمالي قضاء جنين كزرعين والمزار ونوريس) وبعض رجال البوليس الفلسطيني برئاسة الملازم نايف صالح البرغوش. وقد كان كل المتطوعين ورجال البوليس مسلحين سلاحاً خفيفاً لم يتعد البنادق الشخصية وبعض صناديق الذخيرة للبنادق الخفيفة. اما السرية التابعة للجيش الأردني والتي كانت تحت قيادة الضابط عصر المجالي ( إبن الشيخ رفيفان المجالي ) فقد كانت قد غادرت جنين قبيل الهجوم الإسرائيلي بأربع وعشرين ساعة وقد أثار انسحابها الهلع في قلوب المدنيين وصاحب ذلك تدهور حاد في معنوياتهم.

مع قدوم الضابط العراقي نوح الحلبي ( من مواليد الموصل عام 1909، خريج الكلية العسكرية في بغداد وقد أنهى خدمته في الجيش العراقي برتبة عقيد ) مع سريته في ليلة الثاني من حزيران أصبح هو القائد الأعلى لكافة الجنود والمتطوعين العرب وقد جعل مبنى قلعة البوليس مقراً لقيادته، وقد كان معه في مقر القيادة إضافة لقادة الوحدات المذكورة أعلاه قائمقام جنين عصام الشوا وقاضي محكمة الصلح في جنين خليل العبوشي والدكتور نصفت كمال وضابط البوليس نور الدين العبوشي.

سير المعركة: في غضون يوم الثاني من حزيران 1948 وليلة الثالث منه، استطاعت القوات الإسرائيلية السيطرة على معظم التلال المحيطة بمدينة جنين بل واقتحمت معظم الأحياء السكانية بحيث لم يبق بيد القوات المدافعة سوى بعض الجيوب ومبنى القيادة في القلعة. وقد ابرق القائد نوح الحلبي إلى كافة القطاعات العراقية في فلسطين طالباً النجدة، وذلك بعد أن أوشكت ذخيرة جنوده على النفاذ. وقد كانت الوحدات التي يقودها المقدم عمر علي ( من مواليد كركوك عام 1910، خريج كلية بغداد العسكرية أنهى خدمته في الجيش العراقي برتبة زعيم ركن ) هي أقرب الوحدات العراقية إلى جنين حيث كانت هذه الوحدات في طريقها لاستبدال وحدات عراقية أخرى مرابطة في منطقة المثلث الجنوبي ( الطيرة وكفر قاسم ).

بدأت طلائع القوة العراقية تصل مشارف جنين في الساعات المبكرة من فجر الثالث من حزيران، وقد سارت هذه القوات، التي ساندتها قوات من المتطوعين الفلسطينيين، في مسارين: الأول على الطريق العام نابلس - جنين وقد كانت هذه القوات برئاسة المقدم ميخائيل شلمون ( عراقي –أشوري)، والثاني كان بقيادة عمر علي وقد سلك طريقاً فرعياً غربي الطريق العام ليتسنى له مفاجأة القوات اليهودية من الخلف في منطقة برقيناليامون.

حاولت القوات اليهودية وقف تقدم النجدات العراقية من خلال قصفها من الجو من دير شرف وحتى جنين لكن هذه الهجمات لم تفلح بوقف التقدم سيما وأن تقدم القوات العراقية كان قد تم في الليل. بدأ الالتحام بين القوات في الثامنة صباحاً من يوم الثالث من حزيران. في البداية احتلت القوات العربية سفوح برقين وبعد ذلك استطاعت هذه القوات من السيطرة على تل الخروبة الاستراتيجي بعد معركة في السلاح الأبيض خاضتها سرية عراقية بقيادة الضابط إدريس عبد اللطيف. ثم اشتد القتال في منطقة محطة السكة الحديدية التي جعلتها القيادة اليهودية مقراً لها. في عصر ذلك اليوم حاولت القوات اليهودية القيام بهجوم مضاد من خلال وحدة مدرعات ووحدتي مشاة ولكن نيران المدفعية العراقية منعت هذا الهجوم من تحقيق أي انجاز على الأرض بل قامت القوات العراقية وقوات المتطوعين الفلسطينيين بهجوم آخر تكلل في صباح الرابع من حزيران بطرد القوات اليهودية من كافة الأحياء السكنية للمدينة بل طاردت فلول القوات المنسحبة إلى ظاهر جنين الشمالي، حيث انتهت الأعمال القتالية حوالي الساعة الحادية عشرة قبل الظهر.

وقد غنم الجيش العراقي في هذه المعركة حوالي 300 بندقية من طرازات مختلفة وعشرة مدافع هاون وعشرين رشاشاً وأربعة أجهزة لاسلكية. قدرت خسائر القوات الإسرائيلية ب-300 بين قتيل وجريح، في حين قدرت الخسائر العربية بنحو 100 من العسكريين (عراقيين وفلسطينيين وأردنيين ) ونحو خمسين مدنياً.

الملفت للنظر أن هذه المعركة لم تحظ بالاهتمام البالغ من جهة الكتاب والمؤرخين اليهود، فقد اختار البعض تجاهلها في حين ذكرها البعض الآخر بشكل عرضي، في حين لم ير فيها من ذكرها إخفاقاً بل انجازاً منع التواصل بين قوات الجيش العراقي في محيط المثلث الكبير ( جنين – نابلس – طولكرم ) وبين قوات جيش الانقاذ في الجليل. وعلى سبيل المثال فقد قال موشيه كرمل قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي آنذاك في معرض حديثه عن تلك المعركة: هذه المعركة المرة التي دفعنا فيها أغلى الدماء، حسمت مصير مرج يزراعيل الذي أصبح بعدها لنا إذ أن خطط وتحضيرات العدو لمهاجمة العفولة تحولت إلى شظايا بعد المعارك الطاحنة التي دارت في جنين ومحيطها.

صحيح أن خط النار بعد هذه المعركة كان على مشارف مدينة جنين، لكن القوات العراقية سعت لإبعاده قرابة 15 كم نحو الشمال وقد نجحت في ذلك في سلسلة من الهجمات قامت بها في الثامن من تموز 1948، بحيث أضحى خط النار على تخوم قرية زرعين المهجرة شمالي خط قرى صندلة ومقيبلة، وقد بقي هذا خطاً للنار حتى اتفاقية رودس في ربيع 1949 بين الأردن وإسرائيل والتي جرى بموجبها تسليم قرى مقيبلة وصندلة للقوات الإسرائيلية التي دخلتها في تموز 1949. في حين كان العراقيون قد غادروا تلك المنطقة وسلموها للجيش الأردني في كانون الثاني من العام 1949.

وللخلاصة نقول: إنه لولا الإنجاز الذي حققته القوات العراقية وقوات المتطوعين من الفلسطينيين والأردنيين في معركة جنين لكان جزء كبير من قرى هذا القضاء في عداد القرى المهجرة وربما مدينة جنين نفسها التي كان سكانها قد نزحوا بمعظمهم عنها أثناء موجة الهجوم الإسرائيلية الأولى وقد عادوا بعد استردادها من قبل القوات العربية.

الرواية التاريخية الصهيونية للنكبة وانعكاسها على تعامل المجتمع الإسرائيلي مع حق العودة...... من دفاتر النكبة (2)



من دفاتر النكبة (2):
الرواية التاريخية الصهيونية للنكبة وانعكاسها
على تعامل المجتمع الإسرائيلي مع حق العودة......
د. مصطفى كبها / خاص بـ عــ48ـرب
منذ حصول نكبة الشعب الفلسطيني وتأسيس إسرائيل عام 1948، انصبت جهود الرواية التاريخية الرسمية الإسرائيلية في بلورة محوري كتابة أساسيين: أولهما تصوير قيام دولة إسرائيل على أنها تتويج لحركة انبعاث قومي لشعب أقام دولته المستقلة على أرض يملك معها صلات تاريخية وثيقة ووطيدة، وثانيهما تقزيم حجم وهول النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني وتصوير نتائج ما حل بهذا الشعب على أنها نتائج مرافقة لسعي الشعب اليهودي للاستقلال وتجسيده لمبدأ السيادة القومية ومن خلال ذلك خلق صورة يتم فيها تصوير تهجير الفلسطينيين من قراهم ومدنهم واقتلاعهم من أرضهم على أنه هروب أو إخلاء اختياري على أفضل الأحوال.

وعليه، فقد ركزت الرواية التاريخية الرسمية الإسرائيلية على سبع نقاط رئيسية يتمسك بها مصممو الوعي الشعبي الإسرائيليّ، من خلال المناهج التعليمية ووسائل الإعلام، إلى حدّ بعيد. أما هذه النقاط السبع فهي:

1. كان العرب هم المبادرون إلى حرب 1948، وهم الذين رفضوا قرار الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهوديّة إلى جانب دولة عربيّة. ولذا كانت الحرب محاولة يائسة من اليهود للدفاع عن أنفسهم ضد المبادرة الهجومية العربيّة وإزاء الرفض العربي المطلق لوجودهم.

2. العرب الفلسطينيون الذين سكنوا فلسطين مع بداية تطبيق المشروع الصهيوني لا يشكلون شعباً متكاملاً عضوياً، وعليه فهو ليس جديراً بتجسيد مبدأ السيادة الوطنية والقومية على وطنه بل هو مجموعة من الفرق الدينية والإجتماعية الطارئة على فلسطين وهم بحكم ذلك لا يملكون حقوقاً فيها.

3. كانت القوات الإسرائيليّة، في حرب عام 1948، أقل تفوّقًا في العدد والعتاد من الطرف العربي. وعليه تم تصوير الصراع على أنّه كان صراعًا بين داود الضئيل الماهر وَ جولياث العملاق قليل الكفاءة.

4. كان البريطانيون مؤيدين للعرب، الشيء الذي ألقى عبئاً إضافياً على عاتق القوات اليهوديّة.

5. انتهت الحرب بنصر معجزة تم تحقيقه بفضل التميّز اليهوديّ في القدرات الأخلاقية والقتالية. حيث أرسل الإسرائيليّون للمعركة قوات مذهلة تحت قيادة خارقة ومقاتلين متفوقين في شجاعتهم وصمودهم وحكمتهم.

6. تقع المسؤولية الكاملة حول تكوّن مشكلة اللاجئين على القيادات العربية التي سببت فرار الفلسطينيين من البلاد، وذلك على الرغم من المحاولات الإسرائيليّة التي حاولت منعهم من ذلك وطلبت منهم البقاء في أماكنهم.

7. انتهت الحرب بتفاهمات هشة لوقف إطلاق النار، لا بسلام كامل؛ وذلك لأن العرب امتنعوا عن قبول نتائج الحرب، ورفضوا الاعتراف بالوجود الفعلي للدولة اليهوديّة بينهم.

تشكل النقاط السبع هذه، الأسس الذي نشأت وترعرعت عليه الذاكرة الجماعية الإسرائيلية ولم يكن من السهل، ولن يكون في المدى المرئي، زحزحة هذه الأسس عن مواقعها الشيء الذي قد يجعل قبول الرأي العام بفكرة تجسيد حق العودة للاجئين الفلسطينيين أو أجزاء منه أمراً بعيد التحقق نتيجة لدخول هذه النقاط إلى خانة المسلمات والقناعات في الوعي الشعبي الإسرائيلي العام. وقد كانت الرواية التاريخية هي أداة التصميم الأساسية لها.

لم يدوِّن المؤرخون الإسرائيليون عملية تأسيس دولتهم والعقد الأول لحياتها بطريقة موحدة. ولكن كانت هناك توجهات سائدة وجهت القراء،بشكل أساسي، لتبني المحورين المذكورين أعلاه وتبني تبعاتهما.

كان الهدف الأساسي لأعمال هؤلاء المؤرخين يسعى للتأثير على تكوين ذاكرة جماعيّة للإسرائيليين تتبنى هذا التوجه وترفده بالمعطيات والصور(1). وقد بقي هذا التوجه سائداً، بشكل شبه مطلق، حتى ظهور بواكير أعمال المجموعة التي حملت اسم المؤرخون الجدد في الثمانينيّات من القرن الماضي، حيث حاولوا، دون نجاح كبير، أن يتحدّوا من خلال تلك الكتابات الرواية الإسرائيليّة السائدة(2).

علينا أن نوضّح هنا أنّ معظم أعضاء مجموعة المؤرخين الجدد (باستثناء إيلان بابه وآفي شلايم)، بالرغم من نقدهم الواضح لممارسات الحركة الصهيونية عام 1948، لا يتَحدّون المشروع الصهيونيّ بذاته، وإنّما هم يعترضون فقط على بعض الميزات الثقافيّة والأخلاقيّة التي أصابته أثناء تلك الفترة وبعدها. ولم يبدأ الجدل حول ما اصطلح على تسميته كتابة التاريخ الجديد في إشغال حيّز على الصعيد الفكري والثقافي الإسرائيلي إلا في أواخر الثمانينيّات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث بدا أكثر حدة في النصف الثاني التسعينيّات ليعود ويتراجع مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وعدول أحد أبرز أعضاء هذه المجموعة (بيني موريس ) عن آرائه السابقة.

وكان قد وقف ثلاثة مؤرّخين في طليعة موجة محاولة الصياغة الجديدة لتاريخ عام 1948 : بيني موريس؛ إيلان بابيه؛ آفي شلايم. علماً بأن دراساتهم وأبحاثهم الجدية، لم تلفت أنظار إلا مجموعة قليلة العدد من القراء ولم تفلح بزحزحة الجزء الأكبر من الوعي الجماعي الإسرائيلي عن مواقفه المتبنية بشكل تام للرواية الرسمية المتأصلة في الوعي الشعبي والراسخة في المناهج التعليمية ووسائل الإعلام.

وعليه، يمكننا الافتراض أن شرائح واسعة من الجمهور اليهودي في إسرائيل تؤمن، إلى حد بعيد، بالرواية الرسمية المهيمنة بالنسبة لما جرى عام 1948، والتي تبرز فيها صورة داود الصغير (اليهود) الذي سدد ضربة قاصمة إلى جوليات العملاق (العرب)، أو صورة أخرى داعمة مفادها أن بريطانيا لم تكن تنوي إخلاء فلسطين، بل سعت بكل ما أوتيت من قوة لإفشال محاولات اليهود إقامة دولة يهوديّة مستقلة في فلسطين.

ومن هذا الافتراض يمكننا أن نفهم أيضاً الغضب الواسع الانتشار الذي تم إطلاقه ضد محاولات كتابة الرواية التاريخية الجديدة وضد كتابها، وذلك لأنهم حاولوا أن يضربوا بالصميم عمق هذه الاقتناعات التي يؤمن بها معظم الإسرائيليين والتي شكلت الطريق الذي سلكوه لرؤية أنفسهم ورؤية الآخرين من شعوب العالم. بل أكثر من ذلك يمكن القول إنهم يروون فيها مؤشراً لتقدير مصيرهم في الحاضر ومقدراتهم في المستقبل، كما أنها تكوّن أحد المعايير الأساسية للمسلك الذي يتبعونه لفهم هويتهم الجماعية.

يرى البعض أن استمرار هيمنة هذه النظرية كل هذه السنوات يعود إلى العداء الدائم والكراهية المستمرة تجاه العرب، تلك المشاعر التي بدأت تترسخ في مجتمع الييشوف قبل حرب 1948 بكثير، ومع استمرار حالة الصراع والحرب مع الفلسطينيين والعرب فإن أمر تغيير الأطروحة الإسرائيلية الرسمية عما جرى عام 1948 يعتبر أمراً صعب الإدراك لمعظم الإسرائيليّين.

وعليه يمكن الافتراض أن تلك الحرب وحرمان الفلسطينيّين من أراضيهم ساهما في تعزيز هذا العداء، ولكنهما لم يكونا السبب في خلقه. إذ أنه يصعب على الإسرائيليّين أن يصدقوا، حتى الآن، أن العرب كانوا على استعداد لقبول تأسيس دولة يهوديّة في فلسطين. وأنهم على استعداد لقبول كيان يهودي سياسي طويل الأمد في المنطقة.

كما ويعزو بعض الباحثين ذلك إلى كيفية فهم معظم الإسرائيليين للمحاولات الفلسطينيّة المستمرة والعنيفة لعرقلة المشروع الصهيونيّ في الأعوام: 1920؛ 1921؛ 1929 وخاصة في ثورتهم الكبرى خلال الأعوام 1936- 1939. إذ أن التجارب الشخصية للعديد من الإسرائيليّين أثناء حرب 1948 عززت إيمانهم بأنه لا مفر من سرد الرواية التاريخية الشاملة(كما يرونها هم) على أنها رد دفاعيّ يهوديّ على رفض العرب التام للطموح اليهوديّ للاستقلال.

صورة الفلسطيني ومساهمتها في بلورة مواقف الرأي العام: ساهمت معارضة الفلسطينيّين العرب المستمرة، والعنيفة أحيانًا، للمشروع الصهيوني في رسم الملامح أو السمات للعربي الفلسطيني في الإدراك الجماعي للمجتمع اليهودي عن طريق دعم تصوير الآخر على أنه عدائيّ وشرّير ومتخلف وبدائي.

هذا مع العلم أنه حتى العام 1948، حافظ بعض يهود فلسطين على علاقات عادية، وودّية في بعض الأحيان، مع العرب وكثيرًا ما حاولوا تبرئة بسطاء الناس الفلسطينيّين من تهمة العنف والكراهية واضعين كامل المسؤوليّة أو اللوم على عاتق أبناء الذوات والأفندية من العائلات المدينية العربيّة الذين،على حد قولهم، استغلّوا عامّة الشعب الفلسطينيّ وحرّضوهم ضد اليهود لكي يلهوهم عن مأزقهم الخاص. أو على الحكومة البريطانية التي تبنت، وفق هذا الرأي، سياسة فرّق تسُد التي حاولت أن تمنع أي إمكانية للتفاهم بين العرب واليهود.

ولكن الحرب التدميرية عام 1948 ألغت السواد الأعظم من هذه التبريرات. إذ لم يعد بالإمكان الاستمرار في فصل الفئات الشعبية الفلسطينيّة عن قيادة حركتها الوطنية بذلك الشكل الساذج والمكشوف.

_________________

(1) لعرض مفصل لهذه الرواية أنظر : موردخاي بارؤون، زيكارون باسيفير: بداية التأريخ الاسرائيلي لحرب 1948. (بالعبرية)، تل أبيب 2001.

(2) كانت باكورة تلك الأعمال الكتاب الذي نشره سمحا فلابن، أحد نشيطي حزب مبام اليساري وأحد قدامى العاملين في الدائرة العربية لذلك الحزب وقد كان تحت عنوان :
S. Flapan, The Birth of Israel: Myths and Realities, New York 1987 (henceforth: Flapan, The Birth of Israel).
B. Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem, Cambridge 1988; Ilan Pappe, The Making of the Arab-Israeli Conflict, 1947-1951, London 1992; A. Shlaim, Collusion across the Jordan: King Abdullah, the Zionist Movement and the Partition of Palestine, Oxford 1988.

الجيش العراقي ومساهمته في حرب 1948، بين الحقيقة التاريخية والرواية الشعبية المشوهة.. من دفاتر النكبة (1)


من دفاتر النكبة (1)

الجيش العراقي ومساهمته في حرب 1948

بين الحقيقة التاريخية والرواية الشعبية المشوهة..


د.مصطفى كبها / خاص بـ عــ48ـرب
تعتبر عبارة ماكو أوامر في اللهجة الشعبية العراقية إحدى العبارات الأكثر وروداً في سياق دعاوى الفلسطينيين ضد جيوش الدول العربية، وتقصيرها في منع النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني، والتي تمخضت عن تدمير أكثر من خمسمائة قرية وست حواضر مدنية، وتحويل الغالبية العظمى من سكانها إلى لاجئين في شتى بقاع الأرض.

ولعل هذه العبارة استعملت في الغالب لذم تصرف القادة العرب، وخاصة القيادة العليا للجيوش العربية واللجنة العسكرية للجامعة العربية، ولكنها مع الوقت تحولت لموتيف يتردد عندما يتم وصف تصرف الجيش العراقي في فلسطين، لا سيما وأن العبارة هي عبارة عراقية قالها، حسب الرواية الشعبية، أحد القادة الميدانيين للجيش العراقي لمجموعة من المدنيين في منطقة جنين الذين طالبوه باستغلال الاندفاع العراقي بعد صد القوات اليهودية عن جنين في مطلع حزيران 1948 وتطوير هجوم مضاد يسترد ما كان قد احتل من قرى شمالي قضاء جنين كالمزار ونورس وزرعين من الشرق واللجون والمنسة من الغرب.

ما من شك إلى أن عملية نسب القصور العربي في فلسطين إلى الجيش العراقي من خلال هذه العبارة المشهورة فيها من التجني والظلم التاريخي الشيء الكثير، سيما وأن هذا القوات (إن كانت قوات المتطوعين والأفواج العراقية التي شاركت في جيش الانقاذ والتي دخلت فلسطين في بداية كانون الثاني عام 1948 أو القوات العراقية النظامية التي دخلت فلسطين، كسائر الجيوش العربية الأخرى، في الخامس عشر من أيار 1948) كان لها الفضل الكبير في الحفاظ على المناطق التي رابطت فيها، ومنع القوات اليهودية من دخولها كمنطقة المثلث العربي (والتي عرفت في فترة معينة بالمثلث العراقي) الممتدة من كفر قاسم في الجنوب وحتى مقيبلة وصندلة في الشمال)، وقد خاض الجيش العراقي في سبيل الحفاظ على هذه المنطقة، على الرغم من القسريات الهائلة والقيود الممضة، معارك حامية الوطيس سقط فيها عشرات الشهداء العراقيين تشهد عليهم مقابر الطيرة وطولكرم وجنين وكفر قرع وكفر قاسم وقلقيلية وعارة وعرعرة، هذا عوضاً عن متطوعين عراقيين متفرقين سقطوا في الدفاع عن قرية الشجرة قرب الناصرة (دفنوا في كفر كنا والناصرة) وعن قرى عين غزال، إجزم وجبع في منطقة الكرمل لدى الساحل الجنوبي لحيفا.

حقيقة المشاركة العراقية في حرب 1948: كان العراق أكثر البلدان العربية دعما لنضال الفلسطينيين منذ أن لبس صراعهم مع الحركة الصهيونية طابع الصراع القومي. وقد تشكلت لجان عراقية داعمة للقضية الفلسطينية على المستوين الإعلامي- التعبوي والمادي، كما وكانت بغداد في الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن الماضي محط رحال للزعماء الفلسطينيين (الحاج أمين الحسيني ) والمثقفين (أكرم زعيتر ودرويش المقدادي وإبراهيم طوقان) والضباط (عبد القادر الحسيني وحسن سلامة وذو الكفل عبد اللطيف والشاعر عبد الرحيم محمود ).

وكان لحضور هؤلاء وتفاعلهم مع النخب والطبقات الشعبية العراقية على حد سواء بالغ الأثر في الهبة الشعبية العراقية التي ضغطت على الحكومة الملكية لإرسال المتطوعين العراقيين إلى فلسطين عام 1936 (في إطار قوات المتطوعين التي قادها فوزي القاوقجي) وفي عامي 1947 -1947 عند إنشاء جيش الإنقاذ الذي شاركت فيه ثلاثة أفواج عراقية هذا إضافة إلى ثلاثة من الجنرالات (طه الهاشمي، إسماعيل صفوت ونور الدين محمود) الذين كانوا أعضاء في اللجنة العسكرية للجامعة العربية والتي أشرفت على تجنيد جيش الإنقاذ وتسليحه وإمداده بالذخيرة.

ولكن علينا أن نؤكد أن حجم المشاركة العسكرية العراقية في فلسطين عام 1948 منذ بداية المصادمات العسكرية على اثر قرار التقسيم وحتى نهاية الحرب باتفاقيات الهدنة (التي لم تشارك حكومة العراق في توقيعها ) لم يرتق إلى المستوى المطلوب، ليس بسبب قوى وقدرات الجنود العراقيين ومدى جاهزيتهم للقتال، وإنما بسبب تردد الأوساط السياسية العراقية العليا وإحجامها عن إرسال أفضل الوحدات العسكرية المقاتلة وامتناعها عن إرسال قوات جوية كافية للدفاع عن القرى والمدن الفلسطينية، هذا فضلاً عن ضغوطات مارستها بعض النخب العراقية (في الجيش والحكومة) والتي عارضت الميول القومية العربية وطورت نزعات محلية انعزالية وشعوبية، ورأت في أي تدخل عراقي في فلسطين أو أي قطر عربي آخر تبديدا واستنزافا لقدراته ومقدراته.

بسبب هذين العاملين كانت المساهمة التي أرسلتها الحكومة الملكية في العراق ضئيلة بكل مقياس إذا قورنت بالقدرات والمستوى العام للجيش العراقي الذي اعتبر آنذاك من أفضل الجيوش في الشرق الأوسط. ففي المرحلة الأولى من الحرب (قبل دخول الجيوش النظامية ) شارك زهاء 800 عراقي في قوات المتطوعين العرب، في حين بلغ عدد جنود الجيش العراقي في قمة مشاركته في المرحلة الثانية عشرة آلاف جندي.

على الرغم من كل هذه الظروف فقد كانت مشاركة العراقيين، حيثما أتيح لهم ذلك، مؤثرة وفعالة وساهمت بالإبقاء على قطاعات واسعة عربية ومنعت تهجيرها. في المرحلة الأولى شارك المتطوعون العراقيون بقيادة المقدم علي غالب عزيز في معركة رأس العين الأولى (الثامن من آذار 1948) حيث انتزعوا منطقة العيون ومنشآت المياه من أيدي البوليس البريطاني ومنعوا تسليمها لقوات الهاجاناه (كما جرى في حالات أخرى كثيرة قام الإنجليز فيها بتسليم منشآت حيوية لليهود). وقد خسر العراقيون في هذه المعركة شهيداً واحداً وأصيب جندي آخر بجراح متوسطة نقل على أثرها للعلاج في مشافي يافا.

كما وشارك بعض المتطوعين العراقيين في هذه المرحلة في معركة كفر قرع حيث نظّم أربعة ضباط منهم وضابطان سوريان آخران المعركة التي خاضها أبناء تلك القرية يوم الثامن من أيار وصدوا فيها هجوما مركزاً لقوات الهاجاناه أرادت من خلاله الاستيلاء على كفر قرع وممر وادي عارة الاستراتيجي المهم. كما وتكبدت قوات المتطوعين العراقيين خسائر كبيرة في الأرواح (17 شهيداً ) في هجوم جيش الإنقاذ الفاشل على مستوطنة مشمار هعيمق وأعمال قتالية أخرى في هذا القطاع.

أما في المرحلة الثانية للحرب فقد بدأت بدخول وحدات من الجيش العراقي النظامي فلسطين في الخامس عشر من أيار 1948 عن طريق جسر المجامع واشتباكها مباشرة مع القوات اليهودية في كوكب الهوا وجيشر، حيث استشهد في هاتين المعركتين 40 جندياً عراقياً، ومن ثم تقدم باتجاه مرج بن عامر وقضائي جنين وطولكرم ومن ثم لواء اللد (الذي ضم قضائي يافا والرملة ).

وفي أثناء انتشاره في هذه الجبهة التي زاد طولها عن 110 كم، خاض معركة الطيرة – رامات هكوفيش في الرابع والعشرين من أيار 1948 والتي سقط فيها 12 شهيداً عراقياً ثم معركة راس العين الثانية في 1948. 5. 30 والتي فقد فيها شهيدان ومعركة جنين والمزار في الفترة الواقعة بين 2-4 حزيران والتي فقد فيها العراقيون 65 شهيداً وفي معركة قاقون (قضاء طولكرم) التي وقعت في الخامس من حزيران، وفقد فيها الجيش العراقي 45 شهيداً.

هذا إضافة إلى صدامات واشتباكات متفرقة شارك فيها العراقيون في مجدل يابا (فقدوا فيها 4 شهداء ) وقلقيلية (4 شهداء ) وطولكرم (8 شهداء ) وكفر قاسم (9 شهداء ) وباقة الغربية (شهيد عراقي واحد ) وعارة (شهيد عراقي واحد). كما وفقدت القوة الجوية العراقية خمسة طيارين تم إسقاط طائراتهم ومنهم قائد سرب برتبة عقيد. وبذلك يكون مجموع ما فقدته القوات العراقية وقوات المتطوعين العراقيين في فلسطين 131 شهيداً، هذا عوضاً عن مئات الجرحى الذين سقطوا على خطوط الجبهة الطويلة التي تواجد فيها العراقيون.

إن هذه الأرقام تثبت بما لا يقبل مجال للشك بطلان مقولة ماكو أوامر في كل ما يتعلق بالمشاركة العراقية في الحرب وتأثيرهم المباشر على سيرها في مناطق التماس التي تواجدوا فيها. ولا تقتصر منجزاتهم على هذا العدد من الشهداء فحسب بل يمكن الإدعاء أن تواجدهم في الوقت المناسب منع تهجير عشرات القرى في مناطق وادي عارة وشمالي قضاء جنين، بل ومدن جنين وقلقيلية وطولكرم. إذ يفيد شهود عيان جمعنا شهاداتهم في مقيبلة وعارة وصندلة وباقة الغربية والطيرة وأم الفحم بأنه لولا تدخل الجيش العراقي وصده للهجمات الصهيونية لما كان باستطاعة سكان هذه القرى الصمود في أراضيهم. بل أن هذه الشهادات تؤكد أيضاً حسن معاملة الضباط والجنود العراقيين للسكان لدرجة أنه في بعض المناطق التي كانت تعاني الشح الشديد بالأغذية، كان الجنود العراقيون يتقاسمون مع السكان الأغذية والمؤن التي كانت تصلهم من العراق وشرقي الأردن. ولعل الاحتفال الوداعي المهيب الذي نظمه سكان باقة الغربية لوداع الضباط والجنود العراقيين الذين رابطوا هناك حتى اتفاقيات الهدنة وتسليم المثلث لإسرائيل لهو الإثبات الدامغ على ما ربط الفلسطينيين وجنود الجيش العراقي الذين دافعوا عنهم من وشائج المودة والمحبة والتقدير.