العيش مع الصراع..
عرض: د.محمود محارب
يعالج الكتاب بأسلوب أكاديمي وبمنهجية وبعمق العوامل النفسية الأجتماعية التي تؤثر على مواقف المجتمع اليهودي الإسرائيلي في تبني مواقف متصلبة ومتطرفة تتناقض بصورة حادة مع الحد الأدنى لمتطلبات السلام مع العرب خاصة الفلسطينيين.جاء الكتاب في أحد عشر فصلا، واستند على الكثير من الأبحاث المتخصصة واحتوى قائمة مراجع واسعة. وتضمن في مقدمته إطارا نظريا، وولجت فصوله إلى أهم المؤثرات في نفسية المجتمع اليهودي الإسرائيلي تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، حيث حللت الذاكرة الجماعية والمحرقة، والذاكرة الجماعية لليهود في العالم، والذاكرة الجماعية والعنف، والصراع العربي الإسرائيلي، ومعتقدات الأمن وتجلياتها وتأثيراتها، وسيطرة الخوف وهيمنته في مقابل الأمل.مؤلف الكتاب هو الدكتور دانئيل بار طال المختص في علم النفس السياسي والمحاضر في جامعة تل أبيب، والذي يعتبر أحد أبرز الباحثين في مجال بحث الصراعات وحلها، وقد شغل منصب رئيس "الجمعية الدولية لعلم النفس السياسي".يصنف المؤلف في مقدمته نظرية الصراع العربي الإسرائيلي ضمن الصراعات الأكثر خطورة و"غير الخاضعة للسيطرة" والتي تتميز بطولها وعنفها وشمولتها، حيث يعتقد طرفا الصراع أنه ليس بالإمكان حله نتيجة للتناقض الكامن بين أهداف الطرفين، فيطورا بنية تحتية نفسية اجتماعية من المعتقدات والمواقف والمشاعر حول الصراع وجوانبه المختلفة.وسرعان ما تغدو هذه البنية التحتية النفسية الاجتماعية جزءا من ثقافة الصراع وفي الوقت نفسه تقوم بتغذيته وتعزيز ديمومته".ويضيف المؤلف أن الصراع يقود إلى بلورة معتقدات اجتماعية تدور حول: عدالة الأهداف، والأمن، والظهور بمظهر الضحية، وصنع صورة إيجابية عن الذات الجماعية، وتعزيز الشعور الوطني والانتماء القومي، والوحدة الوطنية، ونزع شرعية العدو ومحو إنسانيته، وتصوير السلام كهدف منشود، وهو ما قام به المجتمع اليهودي منذ بداية الصراع وحتى اليوم.
الذاكرة الجماعية والصراع العربي الإسرائيلي
يؤكد المؤلف أن المجتمع الإسرائيلي طور بإطراد ذاكرة جماعية تنقل باستمرار عبر العقود من خلال مختلف قنوات ومؤسسات الدولة والمجتمع الإسرائيلي.وتقدم الذاكرة الجماعية تفسيرا واضحا أحادي الجانب لبداية الصراع وتطوراته في مراحله المتعددة. إنها تلتزم بتزمت بالرواية التاريخية الصهيونية وتعلل "عودة اليهود" إلى فلسطين وبناء "الوطن القومي اليهودي"، وتنفي شرعية المطالب الفلسطينية في حق تقرير المصير وتصنف مقاومة العرب الفلسطينيين بغير العقلانية وتنسب لهم وحدهم المسؤولية عن انفجار الصراع واستمراريته وتصنع صورة سلبية للغاية للعرب وخاصة للفلسطينيين.فالعرب، وفق الذاكرة الجماعية اليهودية، متخلفون وينجرّون بسرعة وراء التحريض، وهم عنيفون وقتلة ولا يترددون في ارتكاب المجازر بحق اليهود، إنهم هم وحدهم المسؤولون عن أعمال العنف.أما اليهود فتظهرهم الذاكرة الجماعية اليهودية الإسرائيلية بصورة إيجابية للغاية وتلصق بهم الكثير من المناقب وتصور أنهم صنعوا مجتمعا أخلاقيا ومحبا للسلام، وأنهم ضحية الصراع الذي يرفض العرب حلّه سلميا.ويضيف المؤلف أن الذاكرة الجماعية اليهودية تخفي كليةً الأعمال غير الأخلاقية والعنيفة التي تتناقض مع القانون الدولي ومعاييره، والتي ارتكبها اليهود أثناء الصراع.إنها تخفي جرائم قتل المدنيين وقتل الأسرى وعمليات الطرد الجماعي والعقوبات الجماعية الخطيرة والاستغلال والتمييز وغيرها من الأعمال المشينة التي ارتكبها اليهود بحق العرب.كذلك لا تتعرض الذاكرة الجماعية اليهودية إلى معاناة العرب وخاصة الفلسطينيين. إنها مبسطة وانتقائية وتطرح الأمور بشكل "أسود أبيض". وهي لا تهدف إلى البحث عن الحقيقة وإنما شغلها الشاغل دوما خدمة أهداف المجتمع اليهودي.ويؤكد المؤلف أن وظيفتها تبرير قرارات قادة إسرائيل وأفعالهم التي ارتكبوها في الماضي وإحداث تضامن بين فئات المجتمع اليهودي وحشده وتعبئته لمواجهة التحديات التي يفرضها الصراع مع العرب.
عقلية الحصار
يسود اعتقاد في المجتمع الإسرائيلي أن العالم يتبنى مواقف سلبية للغاية ضدهم. ويعزو المؤلف هذا الاعتقاد إلى مجموعة من العوامل أهمها التقاليد اليهودية والأيديولوجية الصهيونية التي قامت على فرضية أزلية العداء لليهود.ويضيف أن هذا الاعتقاد انعكس وينعكس في الخطاب الإسرائيلي في شتى المجالات: في خطابات القادة ووسائل الإعلام والثقافة والأدب والسينما وجهاز التربية والتعليم.ويرى المؤلف أن هناك وظائف هامة لـ"عقلية الحصار" التي يتمسك بها المجتمع الأسرائيلي أهمها: تمكين أفراد المجتمع من رؤية العالم بنظرة سطحية وبواسطة حلول "الأبيض والأسود"، وتنمية نظرة تشاؤمية إلى العالم الذي ينبغي عدم انتظار أي شيء إيجابي منه، وتنمية عقلية مجتمع يخوض صراعا وظهره إلى الحائط، ورسم حدود المجتمع اليهودي، "نحن" مقابل "هم" العالم.إنها تنشئ وتنمي وتحافظ على التعاطف والتضامن وحشد المجتمع ضد الآخر. كذلك تعطي عقلية الحصار إجابة غير مباشرة عن الحاجة للشعور بالتفوق على الآخر، فالمعتقدات المرتبطة بعقلية الحصار تتصل وترتبط مع المعتقدات المترسخة حول النظرة الإيجابية إلى الذات اليهودية الإسرائيلية. وتمنح عقلية الحصار المجتمع اليهودي الشعور بالاستقلالية والسيطرة على المصير وتنفيذ ما هو ضروري له وللدولة بدون أن يأبه بالعالم.ويستخلص المؤلف أن كل ذلك يقود إلى بلورة مواقف سلبية تجاه الآخر وخاصة عدم الثقة والشك به، الأمر الذي يؤدي إلى اللجوء للوحدة الوطنية وللإجماع القومي، ويسهل مهمة القيادة في حشد المجتمع خلفها ضد "العدو".
تجريد العرب من إنسانيتهم
يقول المؤلف إن معتقدات نزع الشرعية تتكون بواسطة صنع صورة نمطية سلبية للغاية لمجموعة بشرية معينة بهدف تجريدها من صفاتها الإنسانية وإخراجها من المجتمع الإنساني الذي يعمل وفق قيم ومعايير إنسانية متعارف عليها.ويؤكد المؤلف في بحثه العميق والشامل لهذا الموضوع أن هذا بالضبط ما تقوم به إسرائيل تجاه العرب وخاصة الفلسطينيين. فنزع الشرعية عن العرب يعود إلى بدايات الاستيطان اليهودي في فلسطين واستمر بقوة بعد قيام إسرائيل، وما انفك يسيطر على الذهنية والنفسية اليهودية في إسرائيل حتى يومنا هذا. وهو يظهر في شتى المجالات أبرزها: خطابات القادة، وتقارير الأخبار، وتحليلات المختصين، ووسائل الإعلام المتنوعة، وفي الثقافة والأدب والمسرح والأفلام والكتب الدراسية، ومؤسسات الدولة، حيث يوصف العرب وخاصة الفلسطينيين بالانحطاط الفكري والغباء والتخلف والكسل والعنف والاستخفاف بحياة الإنسان وعدم القدرة على العمل بنجاعة، فيصنف عملهم بـ"العمل العربي" للحط من قيمته وقيمتهم. ويضيف المؤلف أنه لا غرو في هذه الحالة أن نجد هذه المعتقدات منتشرة ومسيطرة في أوساط جميع فئات المجتمع اليهودي في إسرائيل.ويعطي مجموعة كبيرة من الاقتباسات لقادة إسرائيل ولقادة مؤسساتها المختلفة ولصانعي الرأي العام، والتي تنزع شرعية العرب وإنسانيتهم، أبرزها: "ممنوع الثقة بالعرب حتى وإن كانوا في القبر أربعين عاما"، "عندهم هذا بالدم، أن قتل اليهود يتم بشكل طبيعي"، و"ينبغي عدم إدارة الظهر للعربي لأنه سيطعنك بالظهر". (يحيئيل حزان عضو الكنيست عن الليكود 25/2/2004)."هناك فجوة واسعة بيننا وبين أعدائنا ليس فقط في القدرة وإنما في الأخلاق والثقافة وقدسية الحياة والضمير" (رئيس الدولة السابق موشيه كتساف عام 2001). "العرب هم نتاج ثقافة لا يسبب الكذب فيها أي حرج، فهم لا يعانون من المشكلة التي تنجم عن الكذب، تلك المشكلة الموجودة فقط في الثقافة اليهودية المسيحية" (إيهود باراك عام 2002)."هناك مشكلة عميقة في الإسلام، يوجد هنا عالم قيمه مختلفة، عالم لا توجد فيه قيمة للحياة كتلك القيمة الموجودة في الغرب.. الآن هذا المجتمع هو مجتمع في حالة "قاتل متسلسل"، إنه مجتمع مريض نفسيا، ينبغي التعامل معه مثلما نتعامل مع أفراد "قتلة متسلسلين" (المؤرخ الجديد البروفيسور بيني موريس، عام 2004)."يتوجب ضربهم بالصواريخ على كيف كيفك، ينبغي إبادتهم.. لا يوجد حيوان أسوأ من العرب، العرب هم حيوانات". (الزعيم الروحي لحزب شاس الديني الحاخام عوفاديا يوسف).
العربي في الذهنية الإسرائيلية
بذل المؤلف جهدا كبيرا في دراسة هذا الموضوع حيث استند على عشرات الدراسات التي عالجته، وبحث مختلف العوامل التي تصنع صورة نمطية للعرب لدى المجتمع اليهودي الإسرائيلي، وشمل ذلك الكتب المدرسية والأدب والمسرح والأفلام ووسائل الإعلام والمجال السياسي. كذلك قام هو نفسه بتحليل مضمون 124 كتابا مخصصا للطلبة منذ الطفولة المبكرة وحتى الصف الثاني عشر وخاصة في التاريخ والجغرافيا والمواطنة والأدب، والتي صدرت عن وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية أو نالت موافقتها.يستعرض المؤلف ويحلل كيف قامت الكتب المدرسية منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين وحتى اليوم بنزع شرعية وإنسانية العرب بصورة منهجية وشاملة، وصنعت صورة نمطية سلبية للغاية في نفسية وذهنية الطلاب اليهود منذ طفولتهم المبكرة في رياض الأطفال وحتى تخرجهم من الثانوية العامة. والعرب وفق الصورة النمطية التي ترسم بمنهجية في الذهنية اليهودية، لصوص، ومخربون، ومتخلفون، وناكرو الجميل، وجبناء، وغدّارون، وعنيفون، وقدريون، ومنشقون، وقبليون، وفقراء، وغير منتجين، ومريضون، وقذرون، ومتلونون، ومتقلبون، ويتكاثرون بسرعة، ويحرقون، ويقتلون، ويدمرون، وعديمو الأخلاق، ورعاع، ومتعطشون للدماء، وعصابات قتلة، ومتسللون، وعدائيون.
يعالج الكتاب بأسلوب أكاديمي وبمنهجية وبعمق العوامل النفسية الأجتماعية التي تؤثر على مواقف المجتمع اليهودي الإسرائيلي في تبني مواقف متصلبة ومتطرفة تتناقض بصورة حادة مع الحد الأدنى لمتطلبات السلام مع العرب خاصة الفلسطينيين.جاء الكتاب في أحد عشر فصلا، واستند على الكثير من الأبحاث المتخصصة واحتوى قائمة مراجع واسعة. وتضمن في مقدمته إطارا نظريا، وولجت فصوله إلى أهم المؤثرات في نفسية المجتمع اليهودي الإسرائيلي تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، حيث حللت الذاكرة الجماعية والمحرقة، والذاكرة الجماعية لليهود في العالم، والذاكرة الجماعية والعنف، والصراع العربي الإسرائيلي، ومعتقدات الأمن وتجلياتها وتأثيراتها، وسيطرة الخوف وهيمنته في مقابل الأمل.مؤلف الكتاب هو الدكتور دانئيل بار طال المختص في علم النفس السياسي والمحاضر في جامعة تل أبيب، والذي يعتبر أحد أبرز الباحثين في مجال بحث الصراعات وحلها، وقد شغل منصب رئيس "الجمعية الدولية لعلم النفس السياسي".يصنف المؤلف في مقدمته نظرية الصراع العربي الإسرائيلي ضمن الصراعات الأكثر خطورة و"غير الخاضعة للسيطرة" والتي تتميز بطولها وعنفها وشمولتها، حيث يعتقد طرفا الصراع أنه ليس بالإمكان حله نتيجة للتناقض الكامن بين أهداف الطرفين، فيطورا بنية تحتية نفسية اجتماعية من المعتقدات والمواقف والمشاعر حول الصراع وجوانبه المختلفة.وسرعان ما تغدو هذه البنية التحتية النفسية الاجتماعية جزءا من ثقافة الصراع وفي الوقت نفسه تقوم بتغذيته وتعزيز ديمومته".ويضيف المؤلف أن الصراع يقود إلى بلورة معتقدات اجتماعية تدور حول: عدالة الأهداف، والأمن، والظهور بمظهر الضحية، وصنع صورة إيجابية عن الذات الجماعية، وتعزيز الشعور الوطني والانتماء القومي، والوحدة الوطنية، ونزع شرعية العدو ومحو إنسانيته، وتصوير السلام كهدف منشود، وهو ما قام به المجتمع اليهودي منذ بداية الصراع وحتى اليوم.
الذاكرة الجماعية والصراع العربي الإسرائيلي
يؤكد المؤلف أن المجتمع الإسرائيلي طور بإطراد ذاكرة جماعية تنقل باستمرار عبر العقود من خلال مختلف قنوات ومؤسسات الدولة والمجتمع الإسرائيلي.وتقدم الذاكرة الجماعية تفسيرا واضحا أحادي الجانب لبداية الصراع وتطوراته في مراحله المتعددة. إنها تلتزم بتزمت بالرواية التاريخية الصهيونية وتعلل "عودة اليهود" إلى فلسطين وبناء "الوطن القومي اليهودي"، وتنفي شرعية المطالب الفلسطينية في حق تقرير المصير وتصنف مقاومة العرب الفلسطينيين بغير العقلانية وتنسب لهم وحدهم المسؤولية عن انفجار الصراع واستمراريته وتصنع صورة سلبية للغاية للعرب وخاصة للفلسطينيين.فالعرب، وفق الذاكرة الجماعية اليهودية، متخلفون وينجرّون بسرعة وراء التحريض، وهم عنيفون وقتلة ولا يترددون في ارتكاب المجازر بحق اليهود، إنهم هم وحدهم المسؤولون عن أعمال العنف.أما اليهود فتظهرهم الذاكرة الجماعية اليهودية الإسرائيلية بصورة إيجابية للغاية وتلصق بهم الكثير من المناقب وتصور أنهم صنعوا مجتمعا أخلاقيا ومحبا للسلام، وأنهم ضحية الصراع الذي يرفض العرب حلّه سلميا.ويضيف المؤلف أن الذاكرة الجماعية اليهودية تخفي كليةً الأعمال غير الأخلاقية والعنيفة التي تتناقض مع القانون الدولي ومعاييره، والتي ارتكبها اليهود أثناء الصراع.إنها تخفي جرائم قتل المدنيين وقتل الأسرى وعمليات الطرد الجماعي والعقوبات الجماعية الخطيرة والاستغلال والتمييز وغيرها من الأعمال المشينة التي ارتكبها اليهود بحق العرب.كذلك لا تتعرض الذاكرة الجماعية اليهودية إلى معاناة العرب وخاصة الفلسطينيين. إنها مبسطة وانتقائية وتطرح الأمور بشكل "أسود أبيض". وهي لا تهدف إلى البحث عن الحقيقة وإنما شغلها الشاغل دوما خدمة أهداف المجتمع اليهودي.ويؤكد المؤلف أن وظيفتها تبرير قرارات قادة إسرائيل وأفعالهم التي ارتكبوها في الماضي وإحداث تضامن بين فئات المجتمع اليهودي وحشده وتعبئته لمواجهة التحديات التي يفرضها الصراع مع العرب.
عقلية الحصار
يسود اعتقاد في المجتمع الإسرائيلي أن العالم يتبنى مواقف سلبية للغاية ضدهم. ويعزو المؤلف هذا الاعتقاد إلى مجموعة من العوامل أهمها التقاليد اليهودية والأيديولوجية الصهيونية التي قامت على فرضية أزلية العداء لليهود.ويضيف أن هذا الاعتقاد انعكس وينعكس في الخطاب الإسرائيلي في شتى المجالات: في خطابات القادة ووسائل الإعلام والثقافة والأدب والسينما وجهاز التربية والتعليم.ويرى المؤلف أن هناك وظائف هامة لـ"عقلية الحصار" التي يتمسك بها المجتمع الأسرائيلي أهمها: تمكين أفراد المجتمع من رؤية العالم بنظرة سطحية وبواسطة حلول "الأبيض والأسود"، وتنمية نظرة تشاؤمية إلى العالم الذي ينبغي عدم انتظار أي شيء إيجابي منه، وتنمية عقلية مجتمع يخوض صراعا وظهره إلى الحائط، ورسم حدود المجتمع اليهودي، "نحن" مقابل "هم" العالم.إنها تنشئ وتنمي وتحافظ على التعاطف والتضامن وحشد المجتمع ضد الآخر. كذلك تعطي عقلية الحصار إجابة غير مباشرة عن الحاجة للشعور بالتفوق على الآخر، فالمعتقدات المرتبطة بعقلية الحصار تتصل وترتبط مع المعتقدات المترسخة حول النظرة الإيجابية إلى الذات اليهودية الإسرائيلية. وتمنح عقلية الحصار المجتمع اليهودي الشعور بالاستقلالية والسيطرة على المصير وتنفيذ ما هو ضروري له وللدولة بدون أن يأبه بالعالم.ويستخلص المؤلف أن كل ذلك يقود إلى بلورة مواقف سلبية تجاه الآخر وخاصة عدم الثقة والشك به، الأمر الذي يؤدي إلى اللجوء للوحدة الوطنية وللإجماع القومي، ويسهل مهمة القيادة في حشد المجتمع خلفها ضد "العدو".
تجريد العرب من إنسانيتهم
يقول المؤلف إن معتقدات نزع الشرعية تتكون بواسطة صنع صورة نمطية سلبية للغاية لمجموعة بشرية معينة بهدف تجريدها من صفاتها الإنسانية وإخراجها من المجتمع الإنساني الذي يعمل وفق قيم ومعايير إنسانية متعارف عليها.ويؤكد المؤلف في بحثه العميق والشامل لهذا الموضوع أن هذا بالضبط ما تقوم به إسرائيل تجاه العرب وخاصة الفلسطينيين. فنزع الشرعية عن العرب يعود إلى بدايات الاستيطان اليهودي في فلسطين واستمر بقوة بعد قيام إسرائيل، وما انفك يسيطر على الذهنية والنفسية اليهودية في إسرائيل حتى يومنا هذا. وهو يظهر في شتى المجالات أبرزها: خطابات القادة، وتقارير الأخبار، وتحليلات المختصين، ووسائل الإعلام المتنوعة، وفي الثقافة والأدب والمسرح والأفلام والكتب الدراسية، ومؤسسات الدولة، حيث يوصف العرب وخاصة الفلسطينيين بالانحطاط الفكري والغباء والتخلف والكسل والعنف والاستخفاف بحياة الإنسان وعدم القدرة على العمل بنجاعة، فيصنف عملهم بـ"العمل العربي" للحط من قيمته وقيمتهم. ويضيف المؤلف أنه لا غرو في هذه الحالة أن نجد هذه المعتقدات منتشرة ومسيطرة في أوساط جميع فئات المجتمع اليهودي في إسرائيل.ويعطي مجموعة كبيرة من الاقتباسات لقادة إسرائيل ولقادة مؤسساتها المختلفة ولصانعي الرأي العام، والتي تنزع شرعية العرب وإنسانيتهم، أبرزها: "ممنوع الثقة بالعرب حتى وإن كانوا في القبر أربعين عاما"، "عندهم هذا بالدم، أن قتل اليهود يتم بشكل طبيعي"، و"ينبغي عدم إدارة الظهر للعربي لأنه سيطعنك بالظهر". (يحيئيل حزان عضو الكنيست عن الليكود 25/2/2004)."هناك فجوة واسعة بيننا وبين أعدائنا ليس فقط في القدرة وإنما في الأخلاق والثقافة وقدسية الحياة والضمير" (رئيس الدولة السابق موشيه كتساف عام 2001). "العرب هم نتاج ثقافة لا يسبب الكذب فيها أي حرج، فهم لا يعانون من المشكلة التي تنجم عن الكذب، تلك المشكلة الموجودة فقط في الثقافة اليهودية المسيحية" (إيهود باراك عام 2002)."هناك مشكلة عميقة في الإسلام، يوجد هنا عالم قيمه مختلفة، عالم لا توجد فيه قيمة للحياة كتلك القيمة الموجودة في الغرب.. الآن هذا المجتمع هو مجتمع في حالة "قاتل متسلسل"، إنه مجتمع مريض نفسيا، ينبغي التعامل معه مثلما نتعامل مع أفراد "قتلة متسلسلين" (المؤرخ الجديد البروفيسور بيني موريس، عام 2004)."يتوجب ضربهم بالصواريخ على كيف كيفك، ينبغي إبادتهم.. لا يوجد حيوان أسوأ من العرب، العرب هم حيوانات". (الزعيم الروحي لحزب شاس الديني الحاخام عوفاديا يوسف).
العربي في الذهنية الإسرائيلية
بذل المؤلف جهدا كبيرا في دراسة هذا الموضوع حيث استند على عشرات الدراسات التي عالجته، وبحث مختلف العوامل التي تصنع صورة نمطية للعرب لدى المجتمع اليهودي الإسرائيلي، وشمل ذلك الكتب المدرسية والأدب والمسرح والأفلام ووسائل الإعلام والمجال السياسي. كذلك قام هو نفسه بتحليل مضمون 124 كتابا مخصصا للطلبة منذ الطفولة المبكرة وحتى الصف الثاني عشر وخاصة في التاريخ والجغرافيا والمواطنة والأدب، والتي صدرت عن وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية أو نالت موافقتها.يستعرض المؤلف ويحلل كيف قامت الكتب المدرسية منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين وحتى اليوم بنزع شرعية وإنسانية العرب بصورة منهجية وشاملة، وصنعت صورة نمطية سلبية للغاية في نفسية وذهنية الطلاب اليهود منذ طفولتهم المبكرة في رياض الأطفال وحتى تخرجهم من الثانوية العامة. والعرب وفق الصورة النمطية التي ترسم بمنهجية في الذهنية اليهودية، لصوص، ومخربون، ومتخلفون، وناكرو الجميل، وجبناء، وغدّارون، وعنيفون، وقدريون، ومنشقون، وقبليون، وفقراء، وغير منتجين، ومريضون، وقذرون، ومتلونون، ومتقلبون، ويتكاثرون بسرعة، ويحرقون، ويقتلون، ويدمرون، وعديمو الأخلاق، ورعاع، ومتعطشون للدماء، وعصابات قتلة، ومتسللون، وعدائيون.
وخلاصة القول
يؤكد المؤلف إن المجتمع اليهودي الإسرائيلي طوّر عبر عقود الصراع ضد العرب شبكة متماسكة من المعتقدات شحنته وعبأته نفسيا لمواصلة الصراع. ركزت هذه المعتقدات، التي باتت جزءا من نفسية المجتمع اليهودي الإسرائيلي، على أخلاقية أهداف إسرائيل في التوسع وصدق وعدالة وسائل تحقيق هذه الأهداف، ووضعت أمن الدولة والأمن الجماعي والفردي فوق أي اعتبار، وتقمصت دور الضحية وصنعت صورة إيجابية للغاية عن الذات الجماعية ونسبت لها قيم الأخلاق ومحبة السلام، وطورت "عقلية الحصار" وعززت من الشعور القومي والوحدة الوطنية ونزعت شرعية العرب وجردتهم من إنسانيتهم وحطت من مكانتهم وأخرجتهم من المجتمع الإنساني.ويشرح المؤلف في بحثه العلمي بالتفصيل الدقيق كيف تفعل هذه المعتقدات النفسية الاجتماعية فعلها في تعبئة و"إنتاج" الشخص اليهودي من المهد إلى اللحد بشحنه بهذه المعتقدات منذ نعومة أظفاره وهو طفل في المنزل واستمرار تعبئته وشحنه في رياض الأطفال ومقاعد الدراسة الابتدائية والثانوية وأثناء خدمته الإلزامية في الجيش ثلاث سنوات.وبعد تسريحه من الجيش وانغماسه في المجتمع تستمر عملية الشحن والتعبئة بهذه المعتقدات عبر الخطاب السياسي لقادة إسرائيل وأحزابها ووسائل الإعلام والثقافة والأدب والمسرح والأفلام.. الخ.يرصد المؤلف حدوث خروج عن الرواية التاريخية الصهيونية في العديد من المجالات، ابتداء من عقد الثمانينيات، بيد أنه يؤكد أن هذا الخروج ظل محدودا ويكاد أن يكون تأثيره معدوما.فقد ظل المجتمع اليهودي الإسرائيلي مجتمعا مجندا تهيمن عليه المؤسسات العسكرية والسياسية، ومحشودا ومعبئا ضد العرب فاقدا القدرة على الإحساس بآلام ومعاناة الفلسطينيين.
لقد نجح المؤلف بأسلوب ماهر في وضع المجتمع اليهودي الإسرائيلي أمام المراَة ليرى صورته الحقيقية التي يتهرب دوما من النظر إليها؛ وليرى صورة بشعة وقميئة لمجتمع عنصري مغلق وعاجز عن الإحساس بآلام الغير وفاقد للقيم الإنسانية، مجتمع متوتر ومنشغل دوما بذاته أخرج نفسه بأفعاله وقيمه العنصرية من المجتمع الإنساني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق