المطران جرمانوس فرحات, أشرقت على يديه شمس العربية في عصر الظلمات
المطران جرمانوس
فرحات - (1670-1732)
وهو من أسرة مطر التي ارتحلت من لبنان من قرية حصرون في لبنان إلى
حلب . وقد كان من الذين وضعوا أساس النهضة في الشرق فكان شديد الاتصال بثقافة الغرب,
يعرف من اللغات العربية، الإيطالية، اللاتينية والسريانية، كما كان متضلعاً من المنطق
والفلسفة وعلوم العرب والتاريخ الخاص والعام فضلاً عن العلوم الاهوتية، وكان له أيضاً
مشاركات في علوم أخرى كالطب والكيمياء والفلك والطبيعيات .
رحل إلى روما
سنة 1711 ومنها إلى إسبانيا حيث تفقد ما بقي من آثار العرب وحصل على بعض المخطوطات
وقفل سنة 1712 عائداً إلى لبنان ولما كان اسقفاً على حلب أنشأ مكتبة تعرف بالمكتبة
المارونية وفيها بعض المخطوطات العربية النفيسة.
وقد ترك من المؤلفات
ما يزيد عن المئة في النحو، الإعراب، اللغة، العروض، الأدب، المنطق والفلسفة ومن كتبه
المشهورة "بحث المطالب" في الصرف والنحو الذي لطالما تكرر طبعه وظل معتمداً
في المدراس حتى العهد القريب .
منذ أن سقطت بغداد أم
المدائن تحت ضربات هولاكو وتيمورلنك، عاشت لغة الغرب حالة من التقهقر
والتحجر والجمود، أطلق المؤرخون عنها عصر الانحطاط.
ومنذ أن شل عرش الخلافة العباسية،
وتفوضت اركان دولتها، اخذت عوامل الهرم تدب في مفاصل هذه اللغة، وخيم ظلام الجهل
على الناطقين بها من المحيط الى الخليج..
ومنذ أن استولى الاتراك
على هذه البلاد واحكموا قبضتهم الحديدية عليها، فرض على لغة الضاد أن تواجه سلسلة
هجمات شرسة كان آخرها التتريك.
واستطاعت هذه اللغة أن
تغالب ساعات النزع والاحتضار، وأن تصمد وتنتصر وتنفض عنها غبار الموت!..
الأديرة تحضن اللغة
العربية
بعد هذا الليل الطويل من
الإرهاب والإرهاق والقلاقل والثورات التي شملت المنطقة العربية والإسلامية
بأكملها. بعد أن كادت العجمة تكتسح الجزيرة العربية وتنتشر في جميع أطرافها، ظهر
المطران جرمانوس فرحات. يومها لم تلق العربية نصيراً لها سوى المسيحيين من أبنائها
وخصوصاً الرهبان منهم الذين جعلوا من أديرتهم وصوامعهم اندية أدبية عربية جمعوا
فيها كل ما هو نفيس ونادر من المخطوطات والمأثورات والمجاميع القديمة وحفظوها في
خزانتهم حرصاً عليها من الضياع والتلف. من هؤلاء الرهبان جبرائيل فرحات (المطران
جرمانوس فيما بعد) أحد كبار الأئمة الذين شغفوا بالعربية وآدابها وما فيها من رونق
وجمال، وتعشقوها واشتغلوا بها ونثروا ونظموا وألفوا في اللغة، والتاريخ، والشعر،
والترجمة وتركوا من بعدهم تراثاً فكرياً ناهزت مجلداته المئة والعشرين.
سيرة فرحات
ولد جبرائيل فرحات في حلب
من أبوين لبنانيين، قيل انهما يتحدران من مطر بن شاهين المشروقي بن رعد من حصرون،
احدى القرى اللبنانية العريقة المجاورة للأرز. وقيل إن جد هذه العائلة نزح الى حلب
في أواخر القرن الخامس عشر. في هذه المدينة الجميلة الرابضة في آخر سهول سوريا،
والتي تشكل حلقة اتصال بينها وبين الأناضول، وبغداد، وما بين النهرين، أبصر
جبرائيل فرحات النور في العشرين من تشرين الثاني سنة 1670.
ولما أميطت تمائمه أدخله
والده المكتب الماروني حيث درس مبادئ اللغتين العربية والسريانية. وحين بلغ العمر
الذي يشعر فيه الفتى بالحاجة الى العلوم، راح يدرس اللغتين الإيطالية واللاتينية،
وفي سنة 1864 قرأ صرف العربية ونحوها على الشيخ سليمان النحوي، أحد فحول أساتذة
حلب المسلمين، فسابق أترابه 1686 دخل مدرسة يعقوب الدبسي الطرابلسي ليقتبس المعاني
والبيان والشعر، فسعى وراء تحصيلها بجد وصبر حتى جميع أوابدها وشواردها، سير أعماق
اسرارها وأدرك أقصى غاياتها.
وفي سنة 1688 اشتغل في
صرف اللغات السريالية والإيطالية واللاتينية ونحوها فأصاب منها بقسط وافر حتى
استطاع التأليف فيها. ومن ثم أقبل على دراسة اللاهوت على يد الخوري بطرس التولادي،
وكان هذا الأخير معجباً به الى حد قوله: “إن جبريل يوسف يكون من أفراد العلماء
المبرزين في الشرق”. أما أستاذة الشيخ سليمان النحوي فكان يقول عنه: “إن جبريل
يوسف يكون من أفراد العلماء المبرزين في الشرق”. أما أستاذه الشيخ سليمان النحوي
فكان يقول عنه: العلم خلية عسل فكل تلامذتي اشتار شيئاً منها، أما تلميذي جبريل
فاشتار ما فيها جميعه”.
جبرائيل الراهب
ولما بلغ الثالثة
والعشرين من عمره، قرر الانصراف الى حياة النسك والتزهد، وأنى له ذلك وليس في حلب
الشهباء أديار ومحابس يلجأ إليها، فأدار وجهه صوب جبال لبنان ووهاده، وكان قد سبقه
إليه وبالتحديد الى قنوبين وادي البطاركة الموارنة ثلاثة من أصدقائه هم: جبريل
حوا، وعبد الله قرالي ويوسف التبن، وطلبوا من البطريرك اسطفان الدويهي تأسس
الرهبانية المارونية، فاستجاب لطلبهم بعد أن وهبهم دير مرت موراً في اهدن، فأقاموا
به، وأخذوا في العمل.
انتظم جبريل في السلك
الرهباني وانقطع الى كل الرياضات الروحية والجسدية، كأعمال الأمانة، وأفعال
التواضع والتفرغ للصلاة والاشغال اليدوية والعقلية وغيرها من الفضائل التي اهلته
أن يرتقي الى مقام الكهنوت في عام 1697.
معلم للاولاد في زغرتا
ولما هبت رياح الفرقة
والانقسام بين المؤسسين للجمعية، فضل جبرائيل الانسحاب من الرهبانية وكاد يدخل
الرهبنة اليسوعية ثم عدل عن ذلك الى تعليم الأحداث في قرية زغرتا. وحين سكنت
العاصفة بين أهل البيت وعاد الانتظام في سير الرهبانية عاد فرحات الى عش سعادته.
ثم عين رئيساً لدير مار اليشع.
وفي أثناء رئاشته لدير
مار اليشع وصلته دعوة لزيارة روما، فلباها، وكانت فرصة ليتول في بعض البلدان
الغربية لتوسيع معارفه. زار متاحف رومية وقصورها وانتقل الى اسبانيا ليتفقد ما فيها
من آثار العرب الناطقة بعظم فضلهم، فرأى منها ما رأى وحصل على بعض المخطوطات وقفل
عائداً الى جبل لبنان، وفور وصوله الى ارض الاباء والاجداد دخل محبسه ماري بيشاي
التي هي أول مناسك الرهبانية، والكائنة قرب دير قزحيا وفيها عكف على الزهد والقنوت
والدرس والمطالعة والتأمل والتصنيف.
تنظيم شؤون الرهبنة
لم يستمتع الراهب جبريل
بطعم العزلة والانفراد في محبسته، واضطر للعودة الى دير مار اليشع النبي، لينصرف
بالتالي الى تنظيم شؤون رهبانيته وتحديث قوانينها وأنظمتها. والى جانب ذلك كان
يعمل في تنقيح الكتب الدينية ويهذبها لتكون في متناول اخوته الرهبان.
واعظ في دمشق
وفي عام 1719 طلب منه
رؤساؤه أن يتوجه الى دمشق لاعمال الرسالة، وقام بوظيفته أحسن قيام، وهو أول من
أجرى طريقة الوعظ في كل يوم جمعة من الصيام الكبير على آلام السيد المسيح عند
الغروب.
أسقف حلب
وتقديراً لعمله ونشاطه
وقداسته، كافأه البطريرك يعقوب عواد بترفيعه الى درجة الاسقفية بتاريخ 29 تموز من
العام 1725 واتخذ اسم جرمانوس بدلاً من جبريل، تيمناً بالقديس جرمانوس بطريرك
الاسقفية. ثم توجه الى حلب، فانتهى اليها في 8 كانون الاول سنة 1725 وقد ألقي فيها
من ضروب التظاهرات الدينية والمدنية ما شجعه على اقتحام المصاعب وركوب الاخطار.
حركة واسعة في الترجمة
استهل المطران جرمانوس
فرحات حياته الاسقفية في حلب بتوسيع نطاق الدروس في المدرسة المارونية. ومن ثم قام
بحركة واسعة في الترجمة العربية. فنقل الى لغة الضاد المزامير والأناجيل والكتب
الطقسية المارونية، فعرفت الكنيسة على يده فصاحة العرب. وقد ازره في حركة النقل
هذه لفيف من العلماء الموارنة، وقد وصفت هذه الحركة بأنها حلقة جديدة وامتداد
لحركة الأولى التي قام بها الكتّاب النصارى في العهود العباسية.
لغوي كبير
تتوزع مؤلفات المطران
جرمانوس في ثلاثة اتجاهات: دينية وفلسفية ولغوية، ولئن قام بعضهم وعارضه أو جادله
في ما جاء في كتبه الدينية والفلسفية، فالجميع مهما اختلفت مذاهبهم ونزعاتهم
وتباينت اراؤهم يقرون له بطول الباع بتأليفه اللغوية التي سدت ثلمة كبيرة في
اللغة، وعنها أخذ الكثيرون في أول عصر الانبعاث.
مخطوطة عند جورج جرداق
روى لي الصديق جورج جرداق
بعد زيارة قام بها لمكتبة “الازهر” في القاهرة: اني وجدت كتاب “بحث المطالب”
للمطران جرمانوس فرحات يحتل ابرز واجهة فيها”. وأكثر من ذلك يضيف جرداق نقلا عن
ناظر المكتبة والمشرف عليها: ان الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية كان يلجأ
إليه كلما واجهته مشكلة لغوية، وقيل بأنه نصح بتعليمه على طلاب المدارس، لأنه افضل
مؤلف صدر في موضوعه.
أصلح بين سيبويه والكسائي
وشهرة هذا الكتاب تعود الى ان المطران فرحات وضع حلاً
للمشكلة القائمة بين اللغويين في العربية. كلنا يعلم الخلاف الحاصل بين سيبويه
وزميله الكسائي، وكيف انقسم اتباعها الى حزبين: حزب الكوفيين وحزب البصريين وكل
منهم ينقص ما يقره الآخر. فإذا قال أتباع سيبويه ان الفعل مشتق من المصدر خالفهم
أتباع الكسائي وقالوا المصدر مشتق من الفعل. وإذا جاز احدهما تقديم الخبر على
المبتدأ حرمه ومنعه الثاني. والتهوا بهذه الترهات عن الحقائق، وتعلقوا بالعرض دون
الجوهر وظلوا على هذه الحالة حتى اواخر القرن السابع حتى جاء المطران فرحات ووضع
كتابه “بحث المطالب” فوفق بين النظريتين ورتب القواعد وبوبها ونسقها على طريقة
سهلة المآخذ. وقد فقد هذا الكتاب، غير أن فقده لم يثبط همة المؤلف وطموحه فأعاد
الكرة ووضع الكتاب بين أيدي الطلبة، ومنه استقى المؤلفون جميع معلوماتهم واتبعوا
طريقته.
المطران الشاعر
ويبقى
أن نشير كذلك ولو خطفاً الى المطران جرمانوس الشاعر، الرقيق الأسلوب، اللطيف
العبارات الصوفي النزعة. اخذ عليه بعض النقدة وقوعه في هفوات، كانت ولم تزل شائعة
عند أكبر الشعراء قديماً وحديثاً، كتسكين المحرك، وتحريك الساكن ومد المقصور
وتخفيف المشدد، وتثقيل المخفف. وهل يستطيع تجنب كل الهفوات اللفظية من بلغت
مؤلفاته 12 مجلداً بين تأليف وتعرب وتصحيح واختصار خصوصاً إذا كان راهباً ورئيساً
ثم
أسقفاً في آخر أيامه؟
عاش المطران جرمانوس
فرحات واحداً وستين عاماً قضى منها ثلاثين متشحاً الاسكيم الرهباني والسبعة أعوام
الاخيرة امضاها قابضاً على عصا الرعاية وقائماً بأعباء الاسقفية الى أن توفاه الله
في اليوم التاسع من تموز سنة 1732، في حلب الشهباء.
ألبير
خوري
المراجع
أسباب النهضة العربية بيروت 1926
النهضة الأدبية في لبنان
1944
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق