المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة
نتابع: المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة - 3 -
المبحث الثالث
دولة فلسطينية في إطار قرارات الشرعية الدولية
المطلب الأول: الطريق الصعب نحو شرعية دولية غير واضحة المعالم
إذا كان القبول بالمرحلية كمبدأ أقرته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن الخلاف استمر حول علاقة المرحلي بالاستراتيجي وآلية المفاوضات وكيفية الوصول لهذا لهدف المرحلي والصيغة التي يتم بها، وهو الأمر الذي احتدم في الساحة الفلسطينية وما زال إلى اليوم بعد توقيع اتفاقية اوسلو وما تلاها، إلا أن الاتجاه الذي غلب في بداية الأمر هو الذي فصل بين مفهوم مرحلية النضال وبين التسوية السياسية، وفي الواقع فأن كثيراً من الالتباس والغموض اكتنف تحديد الحد الفاصل بين مرحلية النضال باعتبارها سياسة تكتيكية تهدف إلى تعزيز المواقف النضالية من أجل استمرارية النضال لتحقيق الهدف الاستراتيجي وبين التسوية السياسية، بمعنى إنهاء النزاع ووضع حد له باتفاقات ومعاهدات تؤدي إلى اعتراف متبادل بين الأطراف، وإلغاء الكفاح المسلح كأسلوب لحل النزاع.
يرجع جزء من هذا الغموض إلى إحساس قادة حركة المقاومة الفلسطينية بأنه في الوقت الذي لا يمكن فيه أن يؤدي التوازن الحالي للقوى إلى تحقيق أي هدف مقبول فلسطينيا وغير متناقض مع الميثاق الوطني الفلسطيني ومقررات المجلس الوطنية وأنه إذا ما حدث أن أُجبرت دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) لتقديم تنازلات ترابية فإن هذا سيكون مقابل الاعتراف بها ووضع حد للكفاح المسلح، مع توفر هذا الإحساس فإن لا أحد من قادة المقاومة الفلسطينية كان يجرؤ آنذاك على الإعلان صراحة عن الاستعداد للاعتراف بإسرائيل نظرا للرفض الشعبي العارم لمثل هذه الخطوة، ونظرا لان مبرر وجود الثورة الفلسطينية وديمومتها قام على كونها النقيض للوجود الصهيوني. ومن هنا كَثُر الغموض في التصريحات التي تحاول أن تبلغ رسالة لإسرائيل وأمريكا تعبر عن الاستعداد للاعتراف بدولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) إذا ما قدمت تنازلات للفلسطينيين، وفي نفس الوقت تخفي هذه الرغبة عن الجماهير الفلسطينية لحين التأكد من حصول التنازل الإسرائيلي أو وجود رغبة حقيقية في تقديم هذا التنازل وهو الأمر الذي لم يحدث إلا بشكل غامض من خلال تصريحات أوروبية وأمريكية -كورقة التطمينات الأمريكية- أو من خلال تصريحات لإسرائيليين من معسكر السلام الذين ليس لهم وزن في الحياة السياسية الإسرائيلية.
ومن هذا المنطلق توالت التصريحات المطاطة والمبهمة والتي تتضمن استعدادا للاعتراف بإسرائيل مقابل دولة فلسطينية على جزء من التراب الفلسطيني كهدف نهائي للنضال الفلسطيني، وهو الأمر الذي يستشف من قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في عمان والذي تحفظت عليه فصائل فلسطينية متعددة الذي اعتبر حقوق الشعب الفلسطيني منحصرة في حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، واعتبر "أن الإطار المناسب للوصول إلى هذا الحل هو عقد مؤتمر دولي تحت راية الأمم المتحدة وعبر مجلس الأمن بمشاركة كافة الأطراف المعنية".
مع أن مرحلية النضال مبررة ومقبولة نضاليا فإنه يجب التأكيد بأن هذه المرحلية والقبول بأهداف اقل من الهدف الاستراتيجي، يفترض أن تأتي كتتويج لانتصارات جزئية تحققها قوى الثورة الذاتية أو المعسكر التقدمي العالمي، وهي في هذا تختلف عن الحلول التي تطرح لتسوية النزاع من قبل أطراف خارج قوى الثورة أو من طرف الخصم نفسه وهو الأمر الذي اتسمت به سياسة المرحلية في الساحة الفلسطينية، وأوجد الخلط والالتباس في المسيرة الفلسطينية و تباينت الاجتهادات حول تطبيق سياسة المرحلية، ذلك أن الطرف العربي الذي انضج وأوجد الخلل النسبي في ميزان القوى في حرب أكتوبر 1973 لم ينظر للمبادرات السياسية باعتبارها خطوة مرحلية نحو الهدف الاستراتيجي، بل أرادها تسوية نهائية للصراع تريحه من عبء التزامه بالقضية الفلسطينية، أو تسوية تعبر عن نظرة إقليمية واقعية وهو الأمر الذي تكشف من خلال كامب ديفيد والمشاريع التي طرحت في المنطقة والتي توجت بمؤتمر مدريد وما تلاه.
ولان الثورة الفلسطينية أرادت أن تستفيد من انتصار ليس انتصارها بالأساس، فإنها وقعت في مأزق الحلول السياسية وحاولت أطراف عربية ودولية الاستفادة من رغبة م.ت.ف. في القبول بأهداف أقل من هدفها الاستراتيجي، فمارست عليها أقسى الضغوط لانتزاع تنازلات تحرف ت.م.ف عن مسيرتها النضالية، ولتدفعها للاعتراف بالأمر الواقع تحت شعار الواقعية.
لقد منح تواجد الثورة الفلسطينية في لبنان هامشا واسعا من المناورة أو التكتيك السياسي، بحيث كانت تتحدث في الوقت نفسه عن الكفاح المسلح وتحرير فلسطين وعن المرحلية والقبول بسلطة على جزء من أرض فلسطين،إلا أن هذه السياسة إن كانت تحافظ على صورة المنظمة عند الجماهير كحركة تحرير ترفض التنازل والتفريط بالحقوق، إلا أنها لم تكن مقنعة أو مقبولة تماما من كل الأنظمة العربية ولا من الأطراف الأجنبية وخصوصا دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) والولايات المتحدة الأمريكية. وفي ظل هذا الموقف الغامض عملت حرب أكتوبر على نقل مركز ثقل الفعل إلى الأنظمة العربية التي وظفت نتائج أكتوبر لتثميرها سياسيا، ونشطت الدبلوماسية الأمريكية لفك الارتباط ما بين القوات الإسرائيلية من جهة والقوات المصرية والسورية من جهة أخرى، ففي يناير 1974 وبفضل جولات كسنجر المكوكية تم توقيع الاتفاق الأول على فك الارتباط على الجبهة المصرية، وفي مايو 1974 تم توقيع اتفاقية فصل القوات على الجبهة السورية، وفي سبتمبر1975 حدث اتفاق فصل القوات الثاني على الجبهة في سيناء.
كانت الاتفاقيات المشار إليها خطوة أخرى في طريق فك الارتباط ما بين القضية الفلسطينية وبعدها القومي الرسمي العربي، حيث نصت المادة الثانية من اتفاقية سيناء الثانية على تعهد الطرفين "بعدم استخدام القوة والتهديد بها أو الحصار العسكري في مواجهة الطرف الأخر "، وقد أدركت الثورة الفلسطينية الأبعاد السياسية والخطيرة لهذه الاتفاقات، ففي بيان صادر عن اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي للمنظمة حول اتفاق سيناء لفك الارتباط جاء إن هذا الاتفاق "لم يكن على الإطلاق مجرد خطوة عسكرية في إطار ما يسمى بفصل القوات بل يعد في الحقيقة اتفاق سياسي يجمد حالة الحرب مع العدو الصهيوني على جبهة واحدة. ..كما ينطوي على أخطار حقيقية تهدد السيادة القومية ومستقبل النضال القومي".
وتوالت الخطوات الدافعة بالصراع العربي-لصهيوني نحو تسوية ضمن شروط أمريكية وإسرائيلية لا تلبي حتى الشروط الدنيا للسلام العادل بالمفهوم الفلسطيني والعربي، تسوية تهدف إلى حصار الثورة الفلسطينية ولملمة الحالة الثورية الفلسطينية والعربية وتدفع بالثورة الفلسطينية إما لإعادة النظر بسياسة الرفض والتحدي التي تنتهجها وإما أن تتعرض للحصار والتصفية. وكانت اتفاقية كامب ديفيد الضربة القاصمة في البعد القومي للقضية الفلسطينية حيث وضعت الاتفاقية الثورة الفلسطينية أمام حقيقة لم يعد مجال لإخفائها وهي أن العامود الفقري للأمة العربية وقائدة نضاله التحرري القومي واكبر قوة عسكرية عربية. ...اعترفت بإسرائيل وخرجت من ساحة المواجهة العسكرية، فلم تكن الاتفاقية تعني فقط خروج مصر من ساحة المواجهة بل استغلت دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) الاتفاقية لتنفرد بالثورة الفلسطينية وخصوصا أن الاتفاقية جاءت في وقت كانت العلاقات متوترة ما بين المنظمة وسوريا بسبب الملف اللبناني، لقد كان لاتفاقية كامب ديفيد مفاعلها القوية والسلبية على مسارين: الأول سياسي حيث سارعت الأنظمة العربية بمباركة وضغط أمريكي إلى بلورة مبادرة سياسية تعترف بإسرائيل وبقرارات الشرعية الدولية، والثاني عسكري حيث أخذت دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) تخطط لتصفية الوجود العسكري، لـ م.ت.ف وقد تزامن الحدثان تقريبا، الأول مؤتمر فاس81 والثاني غزو لبنان 82 وهو تزامن ليس مصادفة بطبيعة الحال.
فبتنسيق أمريكي عربي مع تيار التسوية داخل الساحة الفلسطينية والعربية عقد مؤتمر فاس أو ما سمي مبادرة السلام العربية وفيها اعترفت الأنظمة العربية بوضوح بقرارات الشرعية الدولية وما استتبع ذلك من اعتراف بإسرائيل واستعداد هذه الدول بحل الصراع بالطرق السلمية. لقد شرع مؤتمر فاس الأبواب أمام نهج التسوية السلمية وكشف عما كانت الأنظمة تريده ولا تجرؤ على التصريح به أو فعله، ذلك أن غالبية الأنظمة العربية ومنذ أن وقع السادات اتفاقية كامب ديفيد وهي تريد أن تنهج نهجه وتتخلص من عبء المسؤولية تجاه شعارات ومواقف وأهداف ألزمت نفسها بها في المرحلة السابقة،ومن عبء المسؤولية تجاه الشعب الفلسطيني، إلا أن التواجد المسلح للفلسطينيين في لبنان والعمليات البطولة على الحدود وداخل الوطن كانت هي الحائل أمام السير على درب السادات وخصوصا بعد اغتياله، وكان مطلبا إسرائيليا وأمريكيا ورسميا عربيا إزالة هذا العائق. وهذا ما حدث، فما أن ضُربت الثورة في لبنان وتشتت مقاتلوها حتى فُتح الباب على مصراعيه للتسوية السياسية، وتغلغل فكر التسوية في الساحة الفلسطينية دون مواربة ولم يعد من المحرمات، ولم يعد الحديث يدور عن المفاضلة بين خيار التحرير والحرب وخيار التسوية بل ما بين التسوية السلمية العادلة والتسوية غير العادلة، ولكن هل للضعيف في معادلة الصراع أن يفرض مفهومه للعدل وللسلام؟.
المطلب الثاني: الدولة: من متاهات الشرعية الدولية إلى متاهات الشرعية التفاوضية
بعد عشرات اللقاءات والمؤتمرات والاتفاقات العلنية والسرية حول السلام، وما صاحبها من أحداث جسام كالانتفاضة الأولى وحرب الخليج الثانية وانهيار النظام الإقليمي العربي والاتحاد السوفييتي...، أجبرت أمريكا الخصوم على الجلوس علنا على طاولة المفاوضات في مدريد أولا ثم في أوسلو وتم توقيع اتفاق إعلان المبادئ بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو الاتفاق الذي قامت على أساسه منذ 1994 سلطة الحكم الذاتي في مناطق من الضفة والقطاع. وكان حديث الساعة فلسطينيا قبل مايو 1999- تاريخ نهاية المدة المحددة لاتفاق إعلان المبادئ وبداية التفاوض على قضايا الوضع النهائي -هو موضوع الدولة الفلسطينية، هل ستقوم يوم الخامس من مايو أم ستؤجل ؟وإذا قامت فكيف ستتصرف إسرائيل، وان لم تقم فكيف ستواجه السلطة الفلسطينية شعبها من يساندها منه ومن يعارضها؟ وما هي الأسانيد القانونية والإمكانات الموضوعية لقيامها ؟ وهل في بنود اتفاق أوسلو ما يدعم موقف السلطة الفلسطينية في قيام الدولة بحلول الرابع من مايو ؟ وهل هذه الدولة ستحقق السلام المنشود ؟. وحيث انه لا مواعيد مقدسة عند الإسرائيليين، وخصوصا إذا كانت هذه المواعيد تفرض عليهم التزامات تتعلق بالأرض المحتلة، فقد مر الرابع من مايو وبالتالي المدة المتفق عليها للحكم الذاتي وفشلت مفاوضات كامب ديفيد وما تلاها من اتفاقات، واندلعت الانتفاضة لتؤكد فشل المراهنة على السلام الأمريكي الإسرائيلي، ثم جاءت وثيقة تنت وتقرير ميتشل وخارطة الطريق وأخيرا خطة شارون وما زالت أسئلة كثيرة وعميقة ومعقدة تضغط على الإنسان الفلسطيني وتجعله في موقف الانتظار والترقب دون أن يستطيع لملمة أفكاره وشحذ قدراته العقلية لاتخاذ موقف وهو على يقين من سلامة هذا الموقف، والأمر لا يتعلق بالإنسان الفلسطيني أو العربي العادي بل نلمس حالة الإرباك عند القياديين الفلسطينيين الذين تتباين مواقفهم وتلتبس تصريحاتهم من كان منهم في المعارضة أو في السلطة.
إن أي نقاش وطني عقلاني حول السلطة والحكم الذاتي في هذه المرحلة يفترض أن لا يتمحور حول، مع السلطة أو ضد السلطة، بل يجب أن يكون حول عمل السلطة وكيفية تطويرها، أو بمعنى آخر التمييز ما بين السلطة الوطنية كجهاز وركن أساس لا يمكن تصور قيام دولة أو كيان سياسي بدونها من جهة وكيفية أداء السلطة لعملها ونزاهة الأشخاص القائمين بأمرها من جهة أخري.وفي هذه الحالة يفترض أن يكون إجماع وطني فلسطيني -بل وقومي عربي وإسلامي- حول مبدأ وجود سلطة وطنية فلسطينية داخل فلسطين -بغض النظر عن ممارسيها-، وحق الاختلاف حول كيفية عملها وبرامجها وأشخاصها الخ، وقد أبانت السياسة الصهيونية في عهدي باراك وشارون أنها ضد وجود سلطة وطنية فلسطينية ذات مصداقية حتى وإن كانت منبثقة عن اتفاقات أوسلو.
من الواضح أن وضع السلطة وضع لا تحسد عليه وخصوصا بعد الاجتياح الإسرائيلي للضفة في نهاية فبراير 2002، فهي ليست سلطة سياسية كاملة الصلاحيات بل سلطة مقيدة بشروط والتزامات تعرقل قيامها بمهامها كسلطة سياسية بمعنى الكلمة. ومن جهة أخرى فإن الدولة عادة ما تأتي بعد تحقق الركنيين الآخرين للدولة وهما الأرض والشعب، فهي تأتي لتمارس السيادة على الأرض والشعب، أما في الحالة الفلسطينية فقد وجدت السلطة أولا في ظروف معقدة وبصلاحيات محدودة، وينتظر منها استكمال عناصر الدولة، أي استكمال تحرير الأرض ولملمة شتات الشعب.
هذه خصوصية لا تخلو من تناقض وتعقيد ذلك أن السلطة الفلسطينية وجدت في إطار تسوية وضمن اتفاقية تكبل تحركها وتجعل كل خطوة من خطواتها وخصوصا ذات الطابع السيادي مرهونة بالموافقة الإسرائيلية والأمريكية، فيما الشعب الفلسطيني يريدها أن تقوم بمهمة مزدوجة مهمة سلطة وطنية تحريرية وسلطة سياسية تأسيسية، وهي مهمة جد صعبة إذ أخذنا بعين الاعتبار التحديات الداخلية والخارجية التي تعترض عمل السلطة. وانطلاقا من هذه الصعوبة حدث شطط في التحليل عند من تعامل مع موضوع السلطة والحكم الذاتي، بحيث أن هيمنة الأيديولوجيا والمواقف المسبقة والصراعات الحزبية جعلت مقاربات الموضوع تقع في السببية الفجة وتصدر أحكاما كلية اعتمادا على مقاربات جزئية.
إن الفهم العميق للتحولات الدولية والإقليمية يدفعنا إلى القول إن التحدي الذي يواجه الشعب الفلسطيني وهو يخوض نضالا سياسيا - وعسكريا ضمن ما هو متاح وكإمكانية يجب عدم إسقاطها - لتأسيس دولته الوطنية المستقلة لا يقل عن التحدي الذي واجهه عندما كان يتبنى استراتيجية الكفاح المسلح ضد الصهيونية والإمبريالية لتحرير وطنه، وسنكون واهمين إذ اعتقدنا أن القوى التي حالت بين الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته في مرحلة الكفاح المسلح ستساند هذا الشعب في تأسيس وطنه بالطرق السلمية، ذلك أن معارضتها لم تكن لان الشعب الفلسطيني يريد أن يُقيم دولته عن طريق الكفاح المسلح بل كانت معارضة لمبدأ قيام الدولة الفلسطينية، سواء كانت هذه القوى تتجسد بإسرائيل أو بالولايات المتحدة الأمريكية أو بدول غيرها من داخل المنطقة، وقد أثبتت الأحداث ذلك مع كامب ديفيد الثانية وقبلها، حيث رفضت دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) وأمريكا الاعتراف بدولة فلسطينية يعلنها الفلسطينيون على مناطق الحكم الذاتي، كما ترددت الدول العربية في دعم الموقف الفلسطيني بخصوص إعلان الدولة من طرف واحد حتى لا يثيروا غضب أمريكا، ولولا صمود الشعب الفلسطيني وعدم تنازله عن حقوقه لتبخر حلم الدولة.
لا شك أن حق الشعب الفلسطيني في كامل فلسطين حق لا يمارى فيه، ولكن علينا أن نعترف وأن نتعلم من التاريخ أن الشعوب لا تحيى فقط على الأهداف والشعارات كما أن الأهداف لا تتحقق بمجرد ترديد المطالبة بها ودبج الأشعار والتنظيرات حولها، ولكنها-الشعوب- تعيش في واقع وتتعامل مع واقع، ليست الإرادة الذاتية الفاعل الوحيد فيه مع أنه الفاعل الأساس أحيانا، والأهداف المشروعة إن لم تُصاحَب بممارسة عقلانية وأدوات تنفيذية ومراكمة إنجازات، فأنها ستتحول إلى أضغاث أحلام وستتآكل مشروعيتها عبر الزمن. وعليه فإن أي إنجاز على ارض الواقع مهما كان صغيرا فانه سيُبقي الأمل في النفوس متقدا وستبقى الصلة قائمة ما بين الأهداف الوطنية المشروعة من جهة وواقع الحياة اليومية والتعامل اليومي من جهة أخرى.
إن ما بين التحرير الكامل من جهة والاستسلام لمشيئة الخصم من جهة أخرى، كثير مما يمكن عمله من أجل فلسطين، سواء في إطار الواقع الجديد داخل مناطق الحكم الذاتي أو في إطار قرارات الشرعية الدولية، وفي جميع الحالات على الفلسطينيين أن يعتمدوا على أنفسهم بالدرجة الأولى، وان يضعوا حدا لحالة انتظار المنقذ القومي العربي أو الفاتح الإسلامي أو المحرر الأممي، أو انتظار تدخل العناية الإلهية لتقذف اليهود بحجارة من سيجيل تجعلهم كعصف مأكول !.ومن هنا على الفلسطينيين أن يُحسنوا إدارة معركة الحفاظ على الهوية والوطن، هذا الأخير الذي ليس هو الأرض فقط، فهذه قد تتعرض للاحتلال أو يفارقها المواطن قسرا، بل هو بالإضافة إليها، إحساس بالانتماء، وشعور بهوية، واستعداد للعطاء في كل الظروف والأحوال،والفلسطينيون اليوم في ظل استحقاقات أوسلو المؤلمة عليهم أن يؤكدوا كما كانوا دائما أنهم كالعنقاء التي تنهض من تحت الرماد فيما الاعتقاد أنها ماتت.
بناء الدولة، مسؤولية مزدوجة، مسؤولية السلطة ومسؤولية المواطن، فالمواطن الفلسطيني سواء كان مواطنا عاديا أو منتميا إلى حزب أو تنظيم، عليه أن يدرك أن تأسيس دولة أو كيان سياسي لا يكون إلا بوجود سلطة وطنية، وان أي سلطة في العالم لا بد لها من صلاحيات للقيام بمهامها بما في ذلك ممارسة القسر والإكراه، فالسلطة تقترن دائما بالقوة وتحيل إليها (لا سلطة دون تسلط)، ولكن في إطار القانون والمؤسسات وبما يخدم المصلحة الوطنية، وعلى المواطن الفلسطيني أن يعرف أيضا أن السلطة لا يمكنها أن تقوم بعملها بدون قوانين يجب أن تحُترم وبدون مؤسسات يجب أن تُصان.
وإذ كان يجوز الاختلاف حول الشأن السياسي، فلا يجوز الاختلاف حول ضرورة بناء وتأسيس الدولة، وقوى المعارضة الفلسطينية التي تتوفر على الوعي والحس الوطني مما يجعلها تميز ما بين هذين النوعين من المعارضة: معارضة ممارسات السلطة ومعارضة بناء الوطن، إن كل جهد في اتجاه بناء الإنسان الفلسطيني والمؤسسات الفلسطينية والدولة الفلسطينية هو عمل وطني وللوطن ومن الخطأ الإحجام عنه بحجة أن يجير لمصلحة تنظيم محدد أو توجه سياسي محدد، وعلى قوى المعارضة أن تربي أعضاءها على احترام مؤسسات ورموز السلطة الوطنية، وإن شاءوا يعارضوا سياساتها وبرامجها وممارسات مسئوليها، فحيث أن الشعب الفلسطيني يرفض الخضوع لسلطة الاحتلال فعليه أن يقبل بسلطة وطنية لأن ما بينهما هو الفوضى والخراب والحرب الأهلية لا سمح الله.
لم يعد خافيا على أحد أن قبول إسرائيل بحكم ذاتي فلسطيني وبسلطة فلسطينية لا يعني أنها تهيئ الوضع للاستقلال الفلسطيني، أو أنها تدرب الفلسطينيين على كيفية حكم أنفسهم بأنفسهم، بل قبلت بذلك مناورة وخوفا من أن تضطر لتقديم تنازلات أكثر، ولذا فهي وكما رأينا لن تدخر جهدا لإفشال تجربة الحكم الذاتي وستمارس سياسة الأرض المحروقة بتضييق سبل العيش أمام غالبية الشعب داخل مناطق الحكم الذاتي وإطلاق يد المستوطنين لينهبوا الأرض ويمارسوا الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني حتى يتمرد الشعب على السلطة الوطنية أو يضطر لمغادرة الوطن ومن يتبق منهم يتحولوا إلى "عرب إسرائيل" ولكن دون حقوق المواطنة. وعليه فإن الطريق أمام الفلسطينيين ما زال صعب وشاق ومهمتهم لإعادة بناء الدولة على جزء من أرض الوطن تحتاج إلى تضافر كل الجهود، جهود فلسطينيي الداخل وجهود فلسطينيي الشتات، تحتاج إلى جهود السلطة وجهود المعارضة، تحتاج إلى جهود السياسيين والمثقفين والمبدعين وكل الكفاءات التي شتتها الاحتلال أو أبعدتها الممارسات السيئة لبعض المتنفذين في السلطة الفلسطينية.
لا شك أن السلطة الفلسطينية في وضع لا تحسد عليه ذلك انه بالرغم من أن عناصر الدولة الأساسية شبه متوفرة: الأرض والشعب والسلطة – دون سيادة- بالإضافة إلى قرار التقسيم وتأييد دولي يتزايد كل يوم، إلا أن خصوصية القضية وبنود اتفاق أوسلو يجعل اعتراف إسرائيل والاعتراف الدولي المسبق -وخصوصا الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة - شرطا أساسيا لقيام الدولة الفلسطينية، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى القول إن الدولة الفلسطينية لن تقوم بمجرد الإعلان عن قيامها -حيث أُعلن عن قيامها قبل ذلك عدة مرات كان أخرها إعلان الجزائر1988، بل أن قيامها فعلا وممارستها لسيادة حقيقية على الأرض والشعب ما زال يحتاج إلى إرادة فلسطينية جماعية والى برنامج وحدة وطنية مرحلي يكثف العمل فلسطينيا وعربيا ودوليا في هذه المرحلة الدقيقة للقضية الفلسطينية،بل لا نبالغ إن قلنا إن قيامها يحتاج إلى نضال لا يقل عن النضال الذي خاضه الفلسطينيون منذ قيام الثورة إلى اليوم، ويبدو أن كثيرين من العرب والفلسطينيين لا يدركون خطورة المرحلة وأهمية قيام دولة فلسطينية مستقلة على ارض فلسطين ولو على شبر من ارض فلسطين، إن الدولة الفلسطينية اليوم وفي ظل انهيار البعد القومي للقضية وفي ظل انشغال العالم بقضايا أخرى غير القضية الفلسطينية وفي ظل التحالف الإستراتيجي المتين ما بين إسرائيل وأمريكا لم تعرفه العلاقات بين الدولتين من قبل، في ظل هذه الظروف يمكن أن تكون -بل يجب أن تكون- الدولة الفلسطينية مهمة نضالية وواجب قومي وإسلامي وإنساني.
بفعل انتفاضة الأقصى تحرك المنتظم الدولي مجددا وأصدر عديدا من القرارات التي وإن كانت لا ترق إلى طموحات الشعب الفلسطيني فإنها في ميزان القوى الراهن تعتبر إنجازا يمكن للفلسطينيين التمسك به ليقيموا عليه دولتهم المستقلة ومن أهم هذه القرارات القرار رقم 1397 بتاريخ 13/3/2002 الذي صدر عقب اجتياح إسرائيل لمناطق السلطة الفلسطينية، فلأول مرة يشير قرار صادر عن مجلس الأمن إلى أن حل النزاع في المنطقة لن يكون إلا بقيام دولتين، فلسطينية وإسرائيلية، تتعايشان بسلام جنبا إلى جنب، وقد تبع هذا القرار مواقف أوروبية وأمريكية تنطلق من نفس الرؤية.
ولكن في نفس الوقت هناك مؤشرات مقلقة تشير إلى توجه أمريكي وإسرائيلي لتغيير مفهوم المناطق المحتلة وبالتالي المناطق التي من الممكن أن تقام عليها دولة فلسطينية، وبانت هذه المؤشرات عقب الاجتياح الإسرائيلي لمنطق السلطة في الضفة وغزة نهاية فبراير 2002، حيث صدر قرار مجلس الأمن رقم 1402 الذي يدعو دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) إلى الانسحاب من مناطق السلطة، وما زالت إسرائيل تماطل في الانسحاب، إن الخوف يتأتى من أن يحل القرار الأخير محل القرار 242 وتحل (مناطق السلطة) محل (الأراضي المحتلة عام 67) أي كل الضفة الغربية بما فيها القدس، وتأكدت التخوفات مع شروع دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) بإقامة الجدار العازل مع بداية 2003، وهذا الجدار لن يترك بيد الفلسطينيين إلا حوالي 42% من مناطق الضفة مقسمة إلى ثلاثة كانتونات منعزلة عن بعضها، تتحكم إسرائيل بالطرق الرابطة بينها، ثم طرح خطة شارون للانسحاب من غزة.
لا شك أن الحديث الأمريكي والإسرائيلي عن دولة سواء ضمن خارطة الطريق أو ما ورد في وثيقة جنيف التي وقعها وفد فلسطيني ووفد إسرائيلي غير رسمي في أكتوبر 2003، يعد خطوة متقدمة للمواقف السابقة، إلا انه يجب الحذر من فهم وتفسير مفهوم الدولة، ففي الوثيقتين هناك حديث عن دولة دون سيادة ومنزوعة السلاح، وإن كانت دولة منزوعة السلاح أمراً مفهوماً ومقبولاً لمرحلة انتقالية، إلا أن ما لا يفهم وما يعد خطيرا الحديث عن دولة دون سيادة، فعدم ممارسة الحكومة –السلطة- الفلسطينية سيادة على أرض الدولة يدفع للتساؤل ولمن السيادة على الأرض؟ وهنا تبرز الخطورة، فقد يفسر الأمر بان الأرض هي ارض دولة إسرائيل والسيادة بالتالي لإسرائيل، وعليه تصبح الدولة مجرد نعت غير دقيق لحكم ذاتي ثقافي.
وبعد تنفيذ شارون لخطته بسحب الجيش من قطاع غزة في سبتمبر 2005 ،تجدد الحديث عن الدولة الفلسطينية ،ولكن هذه المرة بإيحاء أمريكي وإسرائيلي ،والمقصود بالفكرة دفع الفلسطينين بالقبول بدولة في قطاع غزة وتناسي الضفة الغربية والقدس ،ويزعم المتحمسون لهذه الفكرة بأن دولة غزة قد تكون تطبيقا لفكرة الدولة المؤقتة المنصوص عليها في خطة خارطة الطريق ،ويمكن للفلسطينيين القبول بها ثم مواصلة المفاوضات لإستعادة بقية الأراضي المحتلة.
الخلاصة
بعد ثلاث وأربعين سنة من قيام الثورة الفلسطينية المعاصرة، وبعد أربع عشرة سنوات من بداية تطبيق مسلسل التسوية في إطار اتفاقية اوسلو، وبعد ثلاث انتفاضات -انتفاضة 1987 وانتفاضة النفق ثم انتفاضة الأقصى- ، وبعد مأزق خارطة الطريق..، تأكدت حقيقة ان الصراع يدور حول الدولة الفلسطينية، تكون أو لا تكون، وموضوع الدولة مرتبط عند الفلسطينيين بالهوية والوجود، وبالتالي الصراع بالنسبة للفلسطينيين هو أن يكونوا أو لا يكونوا، اليوم هناك ما يزيد عن ثلاثة ملايين ونصف فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة – بالإضافة إلى أكثر من مليون ونصف في دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل)- وهؤلاء شعب كامل الهوية، وقد أثبت التاريخ، والتاريخ شهادة حق تبدد الزيف وأوهام الايدولوجيا، أن لا الهزائم العسكرية ولا تعاقب الزمن، يلغي هوية الشعوب أو يضعف انتمائها لأوطانها.
دولة فلسطينية في إطار قرارات الشرعية الدولية
المطلب الأول: الطريق الصعب نحو شرعية دولية غير واضحة المعالم
إذا كان القبول بالمرحلية كمبدأ أقرته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن الخلاف استمر حول علاقة المرحلي بالاستراتيجي وآلية المفاوضات وكيفية الوصول لهذا لهدف المرحلي والصيغة التي يتم بها، وهو الأمر الذي احتدم في الساحة الفلسطينية وما زال إلى اليوم بعد توقيع اتفاقية اوسلو وما تلاها، إلا أن الاتجاه الذي غلب في بداية الأمر هو الذي فصل بين مفهوم مرحلية النضال وبين التسوية السياسية، وفي الواقع فأن كثيراً من الالتباس والغموض اكتنف تحديد الحد الفاصل بين مرحلية النضال باعتبارها سياسة تكتيكية تهدف إلى تعزيز المواقف النضالية من أجل استمرارية النضال لتحقيق الهدف الاستراتيجي وبين التسوية السياسية، بمعنى إنهاء النزاع ووضع حد له باتفاقات ومعاهدات تؤدي إلى اعتراف متبادل بين الأطراف، وإلغاء الكفاح المسلح كأسلوب لحل النزاع.
يرجع جزء من هذا الغموض إلى إحساس قادة حركة المقاومة الفلسطينية بأنه في الوقت الذي لا يمكن فيه أن يؤدي التوازن الحالي للقوى إلى تحقيق أي هدف مقبول فلسطينيا وغير متناقض مع الميثاق الوطني الفلسطيني ومقررات المجلس الوطنية وأنه إذا ما حدث أن أُجبرت دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) لتقديم تنازلات ترابية فإن هذا سيكون مقابل الاعتراف بها ووضع حد للكفاح المسلح، مع توفر هذا الإحساس فإن لا أحد من قادة المقاومة الفلسطينية كان يجرؤ آنذاك على الإعلان صراحة عن الاستعداد للاعتراف بإسرائيل نظرا للرفض الشعبي العارم لمثل هذه الخطوة، ونظرا لان مبرر وجود الثورة الفلسطينية وديمومتها قام على كونها النقيض للوجود الصهيوني. ومن هنا كَثُر الغموض في التصريحات التي تحاول أن تبلغ رسالة لإسرائيل وأمريكا تعبر عن الاستعداد للاعتراف بدولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) إذا ما قدمت تنازلات للفلسطينيين، وفي نفس الوقت تخفي هذه الرغبة عن الجماهير الفلسطينية لحين التأكد من حصول التنازل الإسرائيلي أو وجود رغبة حقيقية في تقديم هذا التنازل وهو الأمر الذي لم يحدث إلا بشكل غامض من خلال تصريحات أوروبية وأمريكية -كورقة التطمينات الأمريكية- أو من خلال تصريحات لإسرائيليين من معسكر السلام الذين ليس لهم وزن في الحياة السياسية الإسرائيلية.
ومن هذا المنطلق توالت التصريحات المطاطة والمبهمة والتي تتضمن استعدادا للاعتراف بإسرائيل مقابل دولة فلسطينية على جزء من التراب الفلسطيني كهدف نهائي للنضال الفلسطيني، وهو الأمر الذي يستشف من قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في عمان والذي تحفظت عليه فصائل فلسطينية متعددة الذي اعتبر حقوق الشعب الفلسطيني منحصرة في حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، واعتبر "أن الإطار المناسب للوصول إلى هذا الحل هو عقد مؤتمر دولي تحت راية الأمم المتحدة وعبر مجلس الأمن بمشاركة كافة الأطراف المعنية".
مع أن مرحلية النضال مبررة ومقبولة نضاليا فإنه يجب التأكيد بأن هذه المرحلية والقبول بأهداف اقل من الهدف الاستراتيجي، يفترض أن تأتي كتتويج لانتصارات جزئية تحققها قوى الثورة الذاتية أو المعسكر التقدمي العالمي، وهي في هذا تختلف عن الحلول التي تطرح لتسوية النزاع من قبل أطراف خارج قوى الثورة أو من طرف الخصم نفسه وهو الأمر الذي اتسمت به سياسة المرحلية في الساحة الفلسطينية، وأوجد الخلط والالتباس في المسيرة الفلسطينية و تباينت الاجتهادات حول تطبيق سياسة المرحلية، ذلك أن الطرف العربي الذي انضج وأوجد الخلل النسبي في ميزان القوى في حرب أكتوبر 1973 لم ينظر للمبادرات السياسية باعتبارها خطوة مرحلية نحو الهدف الاستراتيجي، بل أرادها تسوية نهائية للصراع تريحه من عبء التزامه بالقضية الفلسطينية، أو تسوية تعبر عن نظرة إقليمية واقعية وهو الأمر الذي تكشف من خلال كامب ديفيد والمشاريع التي طرحت في المنطقة والتي توجت بمؤتمر مدريد وما تلاه.
ولان الثورة الفلسطينية أرادت أن تستفيد من انتصار ليس انتصارها بالأساس، فإنها وقعت في مأزق الحلول السياسية وحاولت أطراف عربية ودولية الاستفادة من رغبة م.ت.ف. في القبول بأهداف أقل من هدفها الاستراتيجي، فمارست عليها أقسى الضغوط لانتزاع تنازلات تحرف ت.م.ف عن مسيرتها النضالية، ولتدفعها للاعتراف بالأمر الواقع تحت شعار الواقعية.
لقد منح تواجد الثورة الفلسطينية في لبنان هامشا واسعا من المناورة أو التكتيك السياسي، بحيث كانت تتحدث في الوقت نفسه عن الكفاح المسلح وتحرير فلسطين وعن المرحلية والقبول بسلطة على جزء من أرض فلسطين،إلا أن هذه السياسة إن كانت تحافظ على صورة المنظمة عند الجماهير كحركة تحرير ترفض التنازل والتفريط بالحقوق، إلا أنها لم تكن مقنعة أو مقبولة تماما من كل الأنظمة العربية ولا من الأطراف الأجنبية وخصوصا دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) والولايات المتحدة الأمريكية. وفي ظل هذا الموقف الغامض عملت حرب أكتوبر على نقل مركز ثقل الفعل إلى الأنظمة العربية التي وظفت نتائج أكتوبر لتثميرها سياسيا، ونشطت الدبلوماسية الأمريكية لفك الارتباط ما بين القوات الإسرائيلية من جهة والقوات المصرية والسورية من جهة أخرى، ففي يناير 1974 وبفضل جولات كسنجر المكوكية تم توقيع الاتفاق الأول على فك الارتباط على الجبهة المصرية، وفي مايو 1974 تم توقيع اتفاقية فصل القوات على الجبهة السورية، وفي سبتمبر1975 حدث اتفاق فصل القوات الثاني على الجبهة في سيناء.
كانت الاتفاقيات المشار إليها خطوة أخرى في طريق فك الارتباط ما بين القضية الفلسطينية وبعدها القومي الرسمي العربي، حيث نصت المادة الثانية من اتفاقية سيناء الثانية على تعهد الطرفين "بعدم استخدام القوة والتهديد بها أو الحصار العسكري في مواجهة الطرف الأخر "، وقد أدركت الثورة الفلسطينية الأبعاد السياسية والخطيرة لهذه الاتفاقات، ففي بيان صادر عن اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي للمنظمة حول اتفاق سيناء لفك الارتباط جاء إن هذا الاتفاق "لم يكن على الإطلاق مجرد خطوة عسكرية في إطار ما يسمى بفصل القوات بل يعد في الحقيقة اتفاق سياسي يجمد حالة الحرب مع العدو الصهيوني على جبهة واحدة. ..كما ينطوي على أخطار حقيقية تهدد السيادة القومية ومستقبل النضال القومي".
وتوالت الخطوات الدافعة بالصراع العربي-لصهيوني نحو تسوية ضمن شروط أمريكية وإسرائيلية لا تلبي حتى الشروط الدنيا للسلام العادل بالمفهوم الفلسطيني والعربي، تسوية تهدف إلى حصار الثورة الفلسطينية ولملمة الحالة الثورية الفلسطينية والعربية وتدفع بالثورة الفلسطينية إما لإعادة النظر بسياسة الرفض والتحدي التي تنتهجها وإما أن تتعرض للحصار والتصفية. وكانت اتفاقية كامب ديفيد الضربة القاصمة في البعد القومي للقضية الفلسطينية حيث وضعت الاتفاقية الثورة الفلسطينية أمام حقيقة لم يعد مجال لإخفائها وهي أن العامود الفقري للأمة العربية وقائدة نضاله التحرري القومي واكبر قوة عسكرية عربية. ...اعترفت بإسرائيل وخرجت من ساحة المواجهة العسكرية، فلم تكن الاتفاقية تعني فقط خروج مصر من ساحة المواجهة بل استغلت دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) الاتفاقية لتنفرد بالثورة الفلسطينية وخصوصا أن الاتفاقية جاءت في وقت كانت العلاقات متوترة ما بين المنظمة وسوريا بسبب الملف اللبناني، لقد كان لاتفاقية كامب ديفيد مفاعلها القوية والسلبية على مسارين: الأول سياسي حيث سارعت الأنظمة العربية بمباركة وضغط أمريكي إلى بلورة مبادرة سياسية تعترف بإسرائيل وبقرارات الشرعية الدولية، والثاني عسكري حيث أخذت دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) تخطط لتصفية الوجود العسكري، لـ م.ت.ف وقد تزامن الحدثان تقريبا، الأول مؤتمر فاس81 والثاني غزو لبنان 82 وهو تزامن ليس مصادفة بطبيعة الحال.
فبتنسيق أمريكي عربي مع تيار التسوية داخل الساحة الفلسطينية والعربية عقد مؤتمر فاس أو ما سمي مبادرة السلام العربية وفيها اعترفت الأنظمة العربية بوضوح بقرارات الشرعية الدولية وما استتبع ذلك من اعتراف بإسرائيل واستعداد هذه الدول بحل الصراع بالطرق السلمية. لقد شرع مؤتمر فاس الأبواب أمام نهج التسوية السلمية وكشف عما كانت الأنظمة تريده ولا تجرؤ على التصريح به أو فعله، ذلك أن غالبية الأنظمة العربية ومنذ أن وقع السادات اتفاقية كامب ديفيد وهي تريد أن تنهج نهجه وتتخلص من عبء المسؤولية تجاه شعارات ومواقف وأهداف ألزمت نفسها بها في المرحلة السابقة،ومن عبء المسؤولية تجاه الشعب الفلسطيني، إلا أن التواجد المسلح للفلسطينيين في لبنان والعمليات البطولة على الحدود وداخل الوطن كانت هي الحائل أمام السير على درب السادات وخصوصا بعد اغتياله، وكان مطلبا إسرائيليا وأمريكيا ورسميا عربيا إزالة هذا العائق. وهذا ما حدث، فما أن ضُربت الثورة في لبنان وتشتت مقاتلوها حتى فُتح الباب على مصراعيه للتسوية السياسية، وتغلغل فكر التسوية في الساحة الفلسطينية دون مواربة ولم يعد من المحرمات، ولم يعد الحديث يدور عن المفاضلة بين خيار التحرير والحرب وخيار التسوية بل ما بين التسوية السلمية العادلة والتسوية غير العادلة، ولكن هل للضعيف في معادلة الصراع أن يفرض مفهومه للعدل وللسلام؟.
المطلب الثاني: الدولة: من متاهات الشرعية الدولية إلى متاهات الشرعية التفاوضية
بعد عشرات اللقاءات والمؤتمرات والاتفاقات العلنية والسرية حول السلام، وما صاحبها من أحداث جسام كالانتفاضة الأولى وحرب الخليج الثانية وانهيار النظام الإقليمي العربي والاتحاد السوفييتي...، أجبرت أمريكا الخصوم على الجلوس علنا على طاولة المفاوضات في مدريد أولا ثم في أوسلو وتم توقيع اتفاق إعلان المبادئ بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو الاتفاق الذي قامت على أساسه منذ 1994 سلطة الحكم الذاتي في مناطق من الضفة والقطاع. وكان حديث الساعة فلسطينيا قبل مايو 1999- تاريخ نهاية المدة المحددة لاتفاق إعلان المبادئ وبداية التفاوض على قضايا الوضع النهائي -هو موضوع الدولة الفلسطينية، هل ستقوم يوم الخامس من مايو أم ستؤجل ؟وإذا قامت فكيف ستتصرف إسرائيل، وان لم تقم فكيف ستواجه السلطة الفلسطينية شعبها من يساندها منه ومن يعارضها؟ وما هي الأسانيد القانونية والإمكانات الموضوعية لقيامها ؟ وهل في بنود اتفاق أوسلو ما يدعم موقف السلطة الفلسطينية في قيام الدولة بحلول الرابع من مايو ؟ وهل هذه الدولة ستحقق السلام المنشود ؟. وحيث انه لا مواعيد مقدسة عند الإسرائيليين، وخصوصا إذا كانت هذه المواعيد تفرض عليهم التزامات تتعلق بالأرض المحتلة، فقد مر الرابع من مايو وبالتالي المدة المتفق عليها للحكم الذاتي وفشلت مفاوضات كامب ديفيد وما تلاها من اتفاقات، واندلعت الانتفاضة لتؤكد فشل المراهنة على السلام الأمريكي الإسرائيلي، ثم جاءت وثيقة تنت وتقرير ميتشل وخارطة الطريق وأخيرا خطة شارون وما زالت أسئلة كثيرة وعميقة ومعقدة تضغط على الإنسان الفلسطيني وتجعله في موقف الانتظار والترقب دون أن يستطيع لملمة أفكاره وشحذ قدراته العقلية لاتخاذ موقف وهو على يقين من سلامة هذا الموقف، والأمر لا يتعلق بالإنسان الفلسطيني أو العربي العادي بل نلمس حالة الإرباك عند القياديين الفلسطينيين الذين تتباين مواقفهم وتلتبس تصريحاتهم من كان منهم في المعارضة أو في السلطة.
إن أي نقاش وطني عقلاني حول السلطة والحكم الذاتي في هذه المرحلة يفترض أن لا يتمحور حول، مع السلطة أو ضد السلطة، بل يجب أن يكون حول عمل السلطة وكيفية تطويرها، أو بمعنى آخر التمييز ما بين السلطة الوطنية كجهاز وركن أساس لا يمكن تصور قيام دولة أو كيان سياسي بدونها من جهة وكيفية أداء السلطة لعملها ونزاهة الأشخاص القائمين بأمرها من جهة أخري.وفي هذه الحالة يفترض أن يكون إجماع وطني فلسطيني -بل وقومي عربي وإسلامي- حول مبدأ وجود سلطة وطنية فلسطينية داخل فلسطين -بغض النظر عن ممارسيها-، وحق الاختلاف حول كيفية عملها وبرامجها وأشخاصها الخ، وقد أبانت السياسة الصهيونية في عهدي باراك وشارون أنها ضد وجود سلطة وطنية فلسطينية ذات مصداقية حتى وإن كانت منبثقة عن اتفاقات أوسلو.
من الواضح أن وضع السلطة وضع لا تحسد عليه وخصوصا بعد الاجتياح الإسرائيلي للضفة في نهاية فبراير 2002، فهي ليست سلطة سياسية كاملة الصلاحيات بل سلطة مقيدة بشروط والتزامات تعرقل قيامها بمهامها كسلطة سياسية بمعنى الكلمة. ومن جهة أخرى فإن الدولة عادة ما تأتي بعد تحقق الركنيين الآخرين للدولة وهما الأرض والشعب، فهي تأتي لتمارس السيادة على الأرض والشعب، أما في الحالة الفلسطينية فقد وجدت السلطة أولا في ظروف معقدة وبصلاحيات محدودة، وينتظر منها استكمال عناصر الدولة، أي استكمال تحرير الأرض ولملمة شتات الشعب.
هذه خصوصية لا تخلو من تناقض وتعقيد ذلك أن السلطة الفلسطينية وجدت في إطار تسوية وضمن اتفاقية تكبل تحركها وتجعل كل خطوة من خطواتها وخصوصا ذات الطابع السيادي مرهونة بالموافقة الإسرائيلية والأمريكية، فيما الشعب الفلسطيني يريدها أن تقوم بمهمة مزدوجة مهمة سلطة وطنية تحريرية وسلطة سياسية تأسيسية، وهي مهمة جد صعبة إذ أخذنا بعين الاعتبار التحديات الداخلية والخارجية التي تعترض عمل السلطة. وانطلاقا من هذه الصعوبة حدث شطط في التحليل عند من تعامل مع موضوع السلطة والحكم الذاتي، بحيث أن هيمنة الأيديولوجيا والمواقف المسبقة والصراعات الحزبية جعلت مقاربات الموضوع تقع في السببية الفجة وتصدر أحكاما كلية اعتمادا على مقاربات جزئية.
إن الفهم العميق للتحولات الدولية والإقليمية يدفعنا إلى القول إن التحدي الذي يواجه الشعب الفلسطيني وهو يخوض نضالا سياسيا - وعسكريا ضمن ما هو متاح وكإمكانية يجب عدم إسقاطها - لتأسيس دولته الوطنية المستقلة لا يقل عن التحدي الذي واجهه عندما كان يتبنى استراتيجية الكفاح المسلح ضد الصهيونية والإمبريالية لتحرير وطنه، وسنكون واهمين إذ اعتقدنا أن القوى التي حالت بين الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته في مرحلة الكفاح المسلح ستساند هذا الشعب في تأسيس وطنه بالطرق السلمية، ذلك أن معارضتها لم تكن لان الشعب الفلسطيني يريد أن يُقيم دولته عن طريق الكفاح المسلح بل كانت معارضة لمبدأ قيام الدولة الفلسطينية، سواء كانت هذه القوى تتجسد بإسرائيل أو بالولايات المتحدة الأمريكية أو بدول غيرها من داخل المنطقة، وقد أثبتت الأحداث ذلك مع كامب ديفيد الثانية وقبلها، حيث رفضت دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) وأمريكا الاعتراف بدولة فلسطينية يعلنها الفلسطينيون على مناطق الحكم الذاتي، كما ترددت الدول العربية في دعم الموقف الفلسطيني بخصوص إعلان الدولة من طرف واحد حتى لا يثيروا غضب أمريكا، ولولا صمود الشعب الفلسطيني وعدم تنازله عن حقوقه لتبخر حلم الدولة.
لا شك أن حق الشعب الفلسطيني في كامل فلسطين حق لا يمارى فيه، ولكن علينا أن نعترف وأن نتعلم من التاريخ أن الشعوب لا تحيى فقط على الأهداف والشعارات كما أن الأهداف لا تتحقق بمجرد ترديد المطالبة بها ودبج الأشعار والتنظيرات حولها، ولكنها-الشعوب- تعيش في واقع وتتعامل مع واقع، ليست الإرادة الذاتية الفاعل الوحيد فيه مع أنه الفاعل الأساس أحيانا، والأهداف المشروعة إن لم تُصاحَب بممارسة عقلانية وأدوات تنفيذية ومراكمة إنجازات، فأنها ستتحول إلى أضغاث أحلام وستتآكل مشروعيتها عبر الزمن. وعليه فإن أي إنجاز على ارض الواقع مهما كان صغيرا فانه سيُبقي الأمل في النفوس متقدا وستبقى الصلة قائمة ما بين الأهداف الوطنية المشروعة من جهة وواقع الحياة اليومية والتعامل اليومي من جهة أخرى.
إن ما بين التحرير الكامل من جهة والاستسلام لمشيئة الخصم من جهة أخرى، كثير مما يمكن عمله من أجل فلسطين، سواء في إطار الواقع الجديد داخل مناطق الحكم الذاتي أو في إطار قرارات الشرعية الدولية، وفي جميع الحالات على الفلسطينيين أن يعتمدوا على أنفسهم بالدرجة الأولى، وان يضعوا حدا لحالة انتظار المنقذ القومي العربي أو الفاتح الإسلامي أو المحرر الأممي، أو انتظار تدخل العناية الإلهية لتقذف اليهود بحجارة من سيجيل تجعلهم كعصف مأكول !.ومن هنا على الفلسطينيين أن يُحسنوا إدارة معركة الحفاظ على الهوية والوطن، هذا الأخير الذي ليس هو الأرض فقط، فهذه قد تتعرض للاحتلال أو يفارقها المواطن قسرا، بل هو بالإضافة إليها، إحساس بالانتماء، وشعور بهوية، واستعداد للعطاء في كل الظروف والأحوال،والفلسطينيون اليوم في ظل استحقاقات أوسلو المؤلمة عليهم أن يؤكدوا كما كانوا دائما أنهم كالعنقاء التي تنهض من تحت الرماد فيما الاعتقاد أنها ماتت.
بناء الدولة، مسؤولية مزدوجة، مسؤولية السلطة ومسؤولية المواطن، فالمواطن الفلسطيني سواء كان مواطنا عاديا أو منتميا إلى حزب أو تنظيم، عليه أن يدرك أن تأسيس دولة أو كيان سياسي لا يكون إلا بوجود سلطة وطنية، وان أي سلطة في العالم لا بد لها من صلاحيات للقيام بمهامها بما في ذلك ممارسة القسر والإكراه، فالسلطة تقترن دائما بالقوة وتحيل إليها (لا سلطة دون تسلط)، ولكن في إطار القانون والمؤسسات وبما يخدم المصلحة الوطنية، وعلى المواطن الفلسطيني أن يعرف أيضا أن السلطة لا يمكنها أن تقوم بعملها بدون قوانين يجب أن تحُترم وبدون مؤسسات يجب أن تُصان.
وإذ كان يجوز الاختلاف حول الشأن السياسي، فلا يجوز الاختلاف حول ضرورة بناء وتأسيس الدولة، وقوى المعارضة الفلسطينية التي تتوفر على الوعي والحس الوطني مما يجعلها تميز ما بين هذين النوعين من المعارضة: معارضة ممارسات السلطة ومعارضة بناء الوطن، إن كل جهد في اتجاه بناء الإنسان الفلسطيني والمؤسسات الفلسطينية والدولة الفلسطينية هو عمل وطني وللوطن ومن الخطأ الإحجام عنه بحجة أن يجير لمصلحة تنظيم محدد أو توجه سياسي محدد، وعلى قوى المعارضة أن تربي أعضاءها على احترام مؤسسات ورموز السلطة الوطنية، وإن شاءوا يعارضوا سياساتها وبرامجها وممارسات مسئوليها، فحيث أن الشعب الفلسطيني يرفض الخضوع لسلطة الاحتلال فعليه أن يقبل بسلطة وطنية لأن ما بينهما هو الفوضى والخراب والحرب الأهلية لا سمح الله.
لم يعد خافيا على أحد أن قبول إسرائيل بحكم ذاتي فلسطيني وبسلطة فلسطينية لا يعني أنها تهيئ الوضع للاستقلال الفلسطيني، أو أنها تدرب الفلسطينيين على كيفية حكم أنفسهم بأنفسهم، بل قبلت بذلك مناورة وخوفا من أن تضطر لتقديم تنازلات أكثر، ولذا فهي وكما رأينا لن تدخر جهدا لإفشال تجربة الحكم الذاتي وستمارس سياسة الأرض المحروقة بتضييق سبل العيش أمام غالبية الشعب داخل مناطق الحكم الذاتي وإطلاق يد المستوطنين لينهبوا الأرض ويمارسوا الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني حتى يتمرد الشعب على السلطة الوطنية أو يضطر لمغادرة الوطن ومن يتبق منهم يتحولوا إلى "عرب إسرائيل" ولكن دون حقوق المواطنة. وعليه فإن الطريق أمام الفلسطينيين ما زال صعب وشاق ومهمتهم لإعادة بناء الدولة على جزء من أرض الوطن تحتاج إلى تضافر كل الجهود، جهود فلسطينيي الداخل وجهود فلسطينيي الشتات، تحتاج إلى جهود السلطة وجهود المعارضة، تحتاج إلى جهود السياسيين والمثقفين والمبدعين وكل الكفاءات التي شتتها الاحتلال أو أبعدتها الممارسات السيئة لبعض المتنفذين في السلطة الفلسطينية.
لا شك أن السلطة الفلسطينية في وضع لا تحسد عليه ذلك انه بالرغم من أن عناصر الدولة الأساسية شبه متوفرة: الأرض والشعب والسلطة – دون سيادة- بالإضافة إلى قرار التقسيم وتأييد دولي يتزايد كل يوم، إلا أن خصوصية القضية وبنود اتفاق أوسلو يجعل اعتراف إسرائيل والاعتراف الدولي المسبق -وخصوصا الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة - شرطا أساسيا لقيام الدولة الفلسطينية، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى القول إن الدولة الفلسطينية لن تقوم بمجرد الإعلان عن قيامها -حيث أُعلن عن قيامها قبل ذلك عدة مرات كان أخرها إعلان الجزائر1988، بل أن قيامها فعلا وممارستها لسيادة حقيقية على الأرض والشعب ما زال يحتاج إلى إرادة فلسطينية جماعية والى برنامج وحدة وطنية مرحلي يكثف العمل فلسطينيا وعربيا ودوليا في هذه المرحلة الدقيقة للقضية الفلسطينية،بل لا نبالغ إن قلنا إن قيامها يحتاج إلى نضال لا يقل عن النضال الذي خاضه الفلسطينيون منذ قيام الثورة إلى اليوم، ويبدو أن كثيرين من العرب والفلسطينيين لا يدركون خطورة المرحلة وأهمية قيام دولة فلسطينية مستقلة على ارض فلسطين ولو على شبر من ارض فلسطين، إن الدولة الفلسطينية اليوم وفي ظل انهيار البعد القومي للقضية وفي ظل انشغال العالم بقضايا أخرى غير القضية الفلسطينية وفي ظل التحالف الإستراتيجي المتين ما بين إسرائيل وأمريكا لم تعرفه العلاقات بين الدولتين من قبل، في ظل هذه الظروف يمكن أن تكون -بل يجب أن تكون- الدولة الفلسطينية مهمة نضالية وواجب قومي وإسلامي وإنساني.
بفعل انتفاضة الأقصى تحرك المنتظم الدولي مجددا وأصدر عديدا من القرارات التي وإن كانت لا ترق إلى طموحات الشعب الفلسطيني فإنها في ميزان القوى الراهن تعتبر إنجازا يمكن للفلسطينيين التمسك به ليقيموا عليه دولتهم المستقلة ومن أهم هذه القرارات القرار رقم 1397 بتاريخ 13/3/2002 الذي صدر عقب اجتياح إسرائيل لمناطق السلطة الفلسطينية، فلأول مرة يشير قرار صادر عن مجلس الأمن إلى أن حل النزاع في المنطقة لن يكون إلا بقيام دولتين، فلسطينية وإسرائيلية، تتعايشان بسلام جنبا إلى جنب، وقد تبع هذا القرار مواقف أوروبية وأمريكية تنطلق من نفس الرؤية.
ولكن في نفس الوقت هناك مؤشرات مقلقة تشير إلى توجه أمريكي وإسرائيلي لتغيير مفهوم المناطق المحتلة وبالتالي المناطق التي من الممكن أن تقام عليها دولة فلسطينية، وبانت هذه المؤشرات عقب الاجتياح الإسرائيلي لمنطق السلطة في الضفة وغزة نهاية فبراير 2002، حيث صدر قرار مجلس الأمن رقم 1402 الذي يدعو دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) إلى الانسحاب من مناطق السلطة، وما زالت إسرائيل تماطل في الانسحاب، إن الخوف يتأتى من أن يحل القرار الأخير محل القرار 242 وتحل (مناطق السلطة) محل (الأراضي المحتلة عام 67) أي كل الضفة الغربية بما فيها القدس، وتأكدت التخوفات مع شروع دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) بإقامة الجدار العازل مع بداية 2003، وهذا الجدار لن يترك بيد الفلسطينيين إلا حوالي 42% من مناطق الضفة مقسمة إلى ثلاثة كانتونات منعزلة عن بعضها، تتحكم إسرائيل بالطرق الرابطة بينها، ثم طرح خطة شارون للانسحاب من غزة.
لا شك أن الحديث الأمريكي والإسرائيلي عن دولة سواء ضمن خارطة الطريق أو ما ورد في وثيقة جنيف التي وقعها وفد فلسطيني ووفد إسرائيلي غير رسمي في أكتوبر 2003، يعد خطوة متقدمة للمواقف السابقة، إلا انه يجب الحذر من فهم وتفسير مفهوم الدولة، ففي الوثيقتين هناك حديث عن دولة دون سيادة ومنزوعة السلاح، وإن كانت دولة منزوعة السلاح أمراً مفهوماً ومقبولاً لمرحلة انتقالية، إلا أن ما لا يفهم وما يعد خطيرا الحديث عن دولة دون سيادة، فعدم ممارسة الحكومة –السلطة- الفلسطينية سيادة على أرض الدولة يدفع للتساؤل ولمن السيادة على الأرض؟ وهنا تبرز الخطورة، فقد يفسر الأمر بان الأرض هي ارض دولة إسرائيل والسيادة بالتالي لإسرائيل، وعليه تصبح الدولة مجرد نعت غير دقيق لحكم ذاتي ثقافي.
وبعد تنفيذ شارون لخطته بسحب الجيش من قطاع غزة في سبتمبر 2005 ،تجدد الحديث عن الدولة الفلسطينية ،ولكن هذه المرة بإيحاء أمريكي وإسرائيلي ،والمقصود بالفكرة دفع الفلسطينين بالقبول بدولة في قطاع غزة وتناسي الضفة الغربية والقدس ،ويزعم المتحمسون لهذه الفكرة بأن دولة غزة قد تكون تطبيقا لفكرة الدولة المؤقتة المنصوص عليها في خطة خارطة الطريق ،ويمكن للفلسطينيين القبول بها ثم مواصلة المفاوضات لإستعادة بقية الأراضي المحتلة.
الخلاصة
بعد ثلاث وأربعين سنة من قيام الثورة الفلسطينية المعاصرة، وبعد أربع عشرة سنوات من بداية تطبيق مسلسل التسوية في إطار اتفاقية اوسلو، وبعد ثلاث انتفاضات -انتفاضة 1987 وانتفاضة النفق ثم انتفاضة الأقصى- ، وبعد مأزق خارطة الطريق..، تأكدت حقيقة ان الصراع يدور حول الدولة الفلسطينية، تكون أو لا تكون، وموضوع الدولة مرتبط عند الفلسطينيين بالهوية والوجود، وبالتالي الصراع بالنسبة للفلسطينيين هو أن يكونوا أو لا يكونوا، اليوم هناك ما يزيد عن ثلاثة ملايين ونصف فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة – بالإضافة إلى أكثر من مليون ونصف في دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل)- وهؤلاء شعب كامل الهوية، وقد أثبت التاريخ، والتاريخ شهادة حق تبدد الزيف وأوهام الايدولوجيا، أن لا الهزائم العسكرية ولا تعاقب الزمن، يلغي هوية الشعوب أو يضعف انتمائها لأوطانها.
انتهى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق