المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة
نتابع: المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة - 2 -
المبحث الثاني
من الدولة الديمقراطية على كامل فلسطين إلى السلطة الوطنية على أي جزء من ارض فلسطين.
المطلب الأول: الأسباب الموضوعية والذاتية لسياسة المرحلية
إذ كانت هزيمة العرب عام 1967 قد أعطت دفعة لاستراتيجية الكفاح المسلح ومنحت الثورة الفلسطينية الصاعدة الثقة بالنفس وباستراتيجيتها الكفاحية، فإن حرب أكتوبر 1973 عملت على إفقاد الثورة الفلسطينية شيئا من الثقة بقدرتها أو بقدرة النظام العربي الرسمي والشعبي على تحرير كامل فلسطين من خلال إستراتيجية الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية، فحرب أكتوبر وبالرغم من الانتصار العسكري النسبي الذي حققته إلا أنها أثبتت عدم القدرة ليس فقط على القضاء على إسرائيل بل عدم القدرة على استعادة الأراضي العربية المحتلة عام 1967عن طريق الحرب، ليس ذلك بسب منعة دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) وقوتها بل أيضا لاعتبارات دولية وطبيعة وعمق علاقة دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) بالولايات المتحدة، ومحدودية الالتزام السوفيتي بدعم العرب في حربهم ضد إسرائيل.
وهكذا استبقت الثورة الفلسطينية ما كانت تعتقد انه آت ويُخطط له، وتحركت مباشرة وقبل أن تبرد فوهات البنادق على مستويين: الأول تجنب محاولات تهميشها ومحاصرتها محليا وعالميا، وذلك بالعمل على تعزيز وجودها في لبنان وربط علاقات متينة مع الحركة الوطنية اللبنانية التي لم تكن علاقاتها طيبة مع سوريا، ومن جهة أخرى تليين مواقفها السياسية أو تغيير خطابها السياسي وذلك بإرسال رسائل علنية وسرية تعبر عن استعدادها لأنصاف الحلول وذلك من خلال ما سمي بسياسة المراحل أو المرحلية التي أعلن عنها في البرنامج المرحلي عام 1974.
وجدت هذه السياسة استحسانا سواء من الأنظمة العربية التي سارعت لعقد قمة عربية اعتبرت فيه م.ت.ف ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني لتعيد بذلك الأنظمة صياغة العلاقة ما بين القومي والوطني وتقديم الثاني على الأول بالزعم أن الفلسطينيين هم الذي طلبوا أن تكون المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني،هذه الخطوة مهدت الطريق أمام الأنظمة العربية لدخول سياسة التسوية السلمية دون حرج، كما أن سياسة المرحلية لقيت مباركة دولية، حيث تم استقبال أبو عمار في الجمعية العامة للأمم المتحدة وقوبِل استعداده للحل السلمي بالترحاب، وكانت عبارته (غصن الزيتون في يد والبندقية في يد) تختزل تحولا استراتيجيا في نهج الثورة الفلسطينية، واستعدادها لإعادة النظر في ثوابت سابقة، لو وجدت تجاوبا إسرائيليا أو أمريكيا آنذاك، لأنه لا يعقل أن أبو عمار ذهب إلى الأمم المتحدة لمطالبتها بالقضاء على دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) !.
ولكن هل تمكنت المنظمة من الجمع ما بين غصن الزيتون والبندقية ؟ وهل تطور الأحداث عزز من طرح منظمة التحرير ومراهناتها، أم أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن ؟.
اعتبرت الثورة الفلسطينية أن المرحلية كحلقة وسط في الطريق إلى تحقيق الهدف النهائي لا تتناقض مع استراتيجية الثورة أية ثورة ما دامت لم تتخل عن هدفها النهائي، ذلك أن السياسة الواعية والثورية الملتزمة بقضايا شعبها مطلوب منها في كل مرحلة من المراحل أن تحدد الحلقة المركزية للنضال انطلاقا من تصورها لحجم مختلف أطراف الصراع في كل مرحلة ومدى نمو القوى الذاتية للثورة وقدرتها على تحقيق الهدف الاستراتيجي والاستفادة من كل التناقضات التي يفرزها تطور الصراع،كما أن تحديد هدف مرحلي للثورة يصبح ضروريا للإجابة عن التساؤلات المطروحة في كل مرحلة أو جولة من جولات الصراع، ذلك أن الهدف النهائي مع مشروعيته وضرورة التشبث به فقد لا يمكن الوصول إليه دفعة واحدة، وقد وعت كل الثورات العالمية جدوى المرحلية في النضال والدخول في مساومات تفرضها متطلبات المرحلة دون أن يغيب عن الأنظار الهدف الاستراتيجي.فالرسول الكريم لم يجد غضاضة في توقيع معاهدات صلح والقبول بالمرحلية عندما كان المسلمون ضعفاء، وعندما تقوى المسلمون ونكث الأعداء بالمواثيق عاد المسلمون للثوابت وللأهداف الاستراتيجية، أيضا القوى الثورية التي تعتبر صراعها مع العدو صراعا مصيريا وحالة من التناقض الذي لا حل له إلا بنهاية أحد طرفي الصراع قبلت المرحلية، فقد انتقد لينين نفسه ما يروج من قول بأن المساومة مرفوضة ماركسيا، واعتبر هذا القول تافها ينبع عن ضيق الأفق ولا ينطبق على الواقع.1 ومن المعلوم أن الثورة الفيتنامية دخلت في مساومات، وقبلت بمرحلة أهدافها إلا أنها لم تتخل عن أهدافها الاستراتيجية، ذلك أن المساومة والقبول مرحليا بأهداف أقل تواضعا عن الهدف الاستراتيجي، قد لا يعبر بالضرورة عن ضعف الثورة بل عن ضعف الخصم، ويصبح على الثورة آنذاك أن تستغل هذه المرحلة لتعبئة قواها وتعزيز مواقفها استعدادا للمرحلة القادمة.
بالرغم من أن الحديث عن مرحلة أهداف النضال الفلسطيني، فرض نفسه بصورة جدية إثر حرب أكتوبر وما تمخض عنها من تطورات عسكرية وسياسية ونفسية كما سبقت الإشارة فإن المكون الفلسطيني في نهج المرحلية النضالية كان حاضرا قبل 1973، والمتمثل بالإحساس بالبون الشاسع ما بين الإمكانيات الفلسطينية وبين الأهداف الاستراتيجية للثورة الفلسطينية. وهذا الإحساس بالفرق ما بين الهدف والإمكانيات كان وراء قول عبدالناصر لياسر عرفات "كم تظن أنه يلزمكم من السنين كي تدمروا الدولة الصهيونية، وتبنوا دولة موحدة ديمقراطية على كامل فلسطين المحررة ؟ كما اخذ عبدالناصر على المقاومة الفلسطينية ممارسة سياسة غير واقعية واعتبر أن دويلة في الضفة الغربية وغزة هي أفضل من لا شيء.
ويبدو أن فكرة القبول بإقامة دولة فلسطينية على جزء من فلسطين، كانت تمثل قناعة لدى بعض الفلسطينيين حتى قبل حرب أكتوبر 1973، وما حرب أكتوبر إلا الفرصة التي اهتُبلت لتظهر هذه القناعة، فالمكون العربي في القبول بالمرحلية كان الحافز للمكون الفلسطيني ليعبر عن نفسه مكرها للحفاظ على الهوية . فقد انتقد أبو أياد، قادة الحركة الوطنية الفلسطينية السابقين لعدم قبولهم بإقامة دولة فلسطينية كما نص على ذلك قرار التقسيم لعام 1947، معتبرا أن الرفض العربي السابق للحلول الوسط نوع من السلبية والمزايدة، وان الرفض قد يكون طريقة للهروب من المشاكل والتزيي بزي النقاء العقائدي، كما يعترف أن فاروق قدومي قدم للجنة المركزية لحركة فتح بعد حرب يونيو 1967 مباشرة تقريرا يقترح فيه القبول بتأييد قيام دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة إذا أعادتهما دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) للعرب، إلا أنه لم يبث في الموضوع آنذاك.
دافع أبو أياد عن المرحلية باعتبارها سياسة واقعية تنطلق من الأخذ بعين الاعتبار موازين القوى، وتطور الأحداث والابتعاد عن الرومانسية وإن كانت رومانسية ثورية، ويعطي أبو إياد أهمية لمحدودية العمل الفدائي، ومقدرته على تحقيق الأهداف الاستراتيجية ورأى "أنه كائنا ما كانت انطلاقة وبأس حر ب العصابات ضد الدولة الصهيونية، فإنها تظل في المستقبل المنظور دولة لا تُقهر، ولهذا فإن عدم توقع المرور بمراحل مؤدية إلى الهدف الاستراتيجي الذي هو إقامة دولة ديمقراطية على كامل فلسطين أمر من قبيل الوهم والخيال"، وفي نفس سياق تبرير أبو اياد للمرحلية ودفاعه عنها، فإنه يرى أن إقامة سلطة وطنية فلسطينية تشكل ضربة قاسمة للأيدلوجية الصهيونية القائمة على رفض وجود الشعب الفلسطيني، لأن الإقرار بهذه السلطة الوطنية الفلسطينية معناه الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، ووجود شعب فلسطيني يشكك في مصداقية مجمل الأيديولوجية الصهيونية، بالإضافة إلى هذا فإن امتلاك الفلسطينيين لأية بقعة محررة سيتيح لهم مجالات ومتنفسا لتنشق نسمة الحرية والابتعاد عن أدوات القمع والوصاية العربية، ذلك أن خطورة العيش في الغربة والشتات على الشعب الفلسطيني لا تقل خطورة عن فقدان الأرض، ويعبر أبو إياد عن دهشته لرفض أطراف فلسطينية لمرحلية النضال، ففي خطاب وجهه لسكان مخيم تل الزعتر في لبنان، عندما كانت قضية السلطة المرحلية موضع بحث، وكان سكان المخيم يرفضونها قال "منذ خمسة وعشرين سنة وانتم تعيشون في المنفى، إنها خمسة وعشرون سنة من الإحباطات والمذلات والحرمان، ولكنكم تواصلون رفضكم لكل حل بالتسوية حتى ولو كان مؤقتا، أليس انه من العجيب الخارق أنكم تفضلون العيش في أرض غريبة على الإقامة في منطقة محررة من وطنكم الأصلي ؟".
وانطلاقا من نفس المكون الفلسطيني وراء القبول بالمرحلية، والمتمثل بغياب الانتصار في معركة التحرير الكامل على المدى المنظور، كانت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين سباقة في استشعار هذا الخلل الكامن بين الإمكانيات والهدف الاستراتيجي، فمنذ 1971 طالبت الجبهة الديمقراطية بأسلوب غير مباشر بضرورة المرور بالمرحلية وتحديد موقف فلسطيني يملأ الفراغ الكامن بين الإمكانيات والهدف وتجيب عن متطلبات المرحلة وتفوت الفرصة على قوى عربية تطمح للحلول محل الدور الفلسطيني، حيث رأت الجبهة الديمقراطية بأن شعار التحرير الكامل لفلسطين "بات مهددا بالتحول إلى مجرد موقف لفظي طالما بقيت الثغرة الاستراتيجية في تصور المقاومة لحربها الوطنية بمثل هذا الاتساع، فبين شعار التحرير الكامل ومعطيات الوضع الراهن للنضال الفلسطيني مرحلة وسيطة ترد الأنظمة العربية عليها بمطلب إزالة آثار العدوان على قاعدة الحل السلمي بينما تقفز المقاومة عليها بكلام يتحدث عن متابعة النضال حتى النهاية ورفض كل الحلول التصفوية والتسويات".
كانت فترة ما بعد أكتوبر 1973هي مرحلة إعطاء الأولوية للعمل السياسي على حساب العمل العسكري، وأصبح الحديث عن انسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية محتلة هو حديث الساعة ومحور النقاش السياسي والاتصالات الدبلوماسية،إلا أنه من المفيد أن نشير أن جل الحديث عن الحل السلمي والانسحاب الإسرائيلي كان مصدره الدول الأوروبية أو قرارات الأمم المتحدة أو الدول العربية أما دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) فكانت السلبية المطلقة هي التي تحكم مواقفها. ومع ذلك فإن مسألة الانسحاب أصبحت مطروحة والمراهنة على الضغط على الولايات المتحدة لتجبر إسرائيل على الانسحاب كان قاعدة أي تفاؤل بالتسوية، وكان المطلوب من الثورة الفلسطينية أن تعبر عن موقفها من هذا الموضوع، ذلك أن أي انسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة سيضع هذه الأرض أمام خيارات ثلاثة:
الأول: أن تعود الأرض المسترجعة إلى طرف عربي ويضمها إليه وخصوصا أن الأردن لم يكن يخفي مطامعه في ذلك بل كان يعتبر الضفة الغربية جزءا من المملكة الأردنية.
الثاني: أن يتقدم طرف فلسطيني من خارج م.ت.ف. لينصب نفسه ناطقا باسم الشعب الفلسطيني أو تنصبه إسرائيل أو أحد الدول العربية، وهذا أيضا مرفوض فلسطينياً.
الثالث: أن تتقدم الثورة الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني لتقيم سلطتها على أية أرض يتم تحريرها.
فضلت م.ت.ف الخيار الثالث باعتباره يرد على متطلبات المرحلة، ويقطع الطريق على المتربصين بالثورة الفلسطينية والطامعين في سلب شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني حيث أكد أبو عمار "إن قيام السلطة الوطنية لشعبنا فوق أرضه أمر حتمي ولن يفرض على شعبنا مهما كانت التحديات مشروع المملكة المتحدة تحت حكم أو وصاية أو فيدرالية أو كونفدرالية مع النظام الهاشمي. سوف تقوم السلطة الوطنية فورا فوق كل شبر فلسطيني يتم جلاء العدو عنه باتجاه تحرير بقية الأرض الفلسطينية".
المطلب الثاني: السلطة الوطنية ضرورة لتجسيد الكيانية السياسية
ولأن الثورة الفلسطينية لم تكن تملك قوة الرفض الفاعل فإن "هذا يفترض بالضرورة أن نطرح موقفا ملموسا وطنيا وثوريا كفيلا بإحباط كافة الحلول الاستسلامية التصفوية "وفي نفس الوقت الإجابة على متطلبات المرحلة الذي يتحدد بـ "أننا نناضل من أجل دحر الاحتلال الصهيوني وتصفيته عن الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967، وفي الوقت ذاته تمكين شعبنا الفلسطيني في جميع الأراضي التي يتم تحريرها وانسحاب العدو منها ومن تقرير مصيره بنفسه على هذه الأراضي وإقامة سلطته الوطنية الفلسطينية المستقلة عليها".
وفي هذا السياق انتقدت الجبهة الديمقراطية الذين يطرحون شعارات لا تتناسب مع واقع المرحلة والإمكانيات الذاتية والذين يسترون عجزهم وراء شعار التحرير الكامل ولا يقبلون بمرحلية النضال، ذلك أن مهمة التحرير مهمة عربية ولا تقتصر على الشعب الفلسطيني وحده. وفي ظل عدم القدرة العربية على التحرير أو غياب الإرادة، يجب أن لا يختزل النضال الفلسطيني بحيث يصبح فقط "عامل تثوير وتأجيج لنضال الجماهير العربية" أو يفرض على الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني الانتظار حتى تتبدل موازين القوى، بل يتحتم أن يبرز الشرط الفلسطيني لتحقيق الانتصار والشرط الفلسطيني في ظل الظروف الحالية كما ترى الديمقراطية يتحدد بـ "تعبئة كامل الطاقات الثورية للشعب الفلسطيني بتوفير قاعدة ارتكاز ثابتة ومحررة في المناطق التي تقيم فيها غالبية الشعب على أرض وطنه".
انطلاقاً من كل هذه المستجدات وعلى قاعدة هذه المكونات /المتغيرات الفلسطينية والعربية والدولية، انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشر في يونيو 1974، لينظر في الموضوع وليحدد موقفا يجيب على التساؤلات المطروحة. نظرا لأن صيغة التسوية المطروحة دوليا آنذاك وهي قرار مجلس الأمم 242، كانت مرفوضة فلسطينيا وحتى لا يلتبس الأمر ويُقرن الإقرار بالمرحلية بقرار242 المرفوض لكونه يتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين، فقد جاء قرار المجلس الوطني الفلسطيني بالقبول بالهدف المرحلي مقترنا بتأكيد رفض قرار 242 مع توضيح أسباب هذا الرفض حيث جاء في قرارات المجلس الوطني المذكور:
1- تأكيد موقف منظمة التحرير السابق من قرار 242 الذي يطمس الحقوق الوطنية والقومية لشعبنا ويتعامل مع قضية شعبنا كمشكلة لاجئين، ولذا يرفض المجلس التعامل مع هذا القرار على هذا الأساس في أي مستوى من مستويات التعامل العربية والدولية بما في ذلك مؤتمر جنيف.
2- تناضل م.ت.ف. بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها، وهذا يستدعي إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله.
3- تناضل منظمة التحرير ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة والتنازل عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وحقه في تقرير مصيره فوق ترابه الوطني.
4- إن أية خطوة تحريرية تتم هي لمتابعة تحقيق استراتيجية م.ت.ف. في إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المنصوص عليها في قرارات المجالس الوطنية السابقة.
يلاحظ أن قرارات المجلس الوطني أعلاه، شددت على إضفاء صفات ثورية على السلطة الوطنية التي ستقام، من منطلق أنها ستأتي تتويجا للنضال بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح، أي أنها لن تكون منحة من أحد، بالرغم من أن حرب أكتوبر لم تحرر أرضا ليقام عليها سلطة وطنية بل أنها مهدت الطريق لتسوية سياسية، والثورة الفلسطينية لم تكن في وضع يسمح لها بتحرير الأرض بل إن العدو أصبح يتحرك بيسر خارج فلسطين ليغتال القيادات ويدمر المؤسسات الفلسطينية، أيضا فأن نفس المادة لا تتحدث عن دولة بل عن (سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة)، كما إنها لا تحدد حدودا واضحة لهذه الدولة –السلطة- فهي ستقام "على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها"!، وهذه السلطة أيضا لن تقام حالا بل تتطلب "إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله"، ويرفض المجلس الوطني أن تكون السلطة الوطنية نتيجة تسوية أو قبول بالأمر الواقع، فهي لن تكن نتيجة تفاوض مع العدو أو الصلح معه أو الاعتراف به، وأخيرا فإن هذه السلطة المقاتلة هي مرتكز للاستمرار في النضال من أجل إقامة الدولة الديمقراطية العلمانية.
ويبدو أن تشدد المجلس الوطني الفلسطيني في تحديد مواصفات الهدف المرحلي، كان متأثرا بحدة المعارضة التي كانت تواجه به سياسة المرحلية، وخصوصا من قبل التنظيمات التي شكلت لاحقا "جبهة الرفض"1 والمدعومة من أطراف عربية -وخصوصاً العراق- الذي اعتبر القبول بالسلطة الوطنية كهدف مرحلي في ظل موازين القوى المتواجدة هو بمثابة القبول بالحل السلمي وتخليا عن أهداف التحرير الكامل، وقد تزعم معسكر الرفض الفلسطيني الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
انطلقت الجبهة الشعبية في رفضها لمشروع السلطة الوطنية من تحليل علمي لنتائج حرب أكتوبر وطبيعة القوى الفاعلة وتصوراتها للتسوية، فترى أن موضوع التسوية بعد أكتوبر ليس حتميا، وحتى لو كان هناك تسوية، تتساءل الجبهة ألا يمكن للعامل الذاتي المحلي الفلسطيني العربي أن يوقف قطار التسوية المتناقضة مع مصالح الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة؟ وهي ترى أن هذا ممكن والحل الثوري في ظل وجود تسوية هو محاربة وإجهاض هذا التسوية.كما فندت الجبهة الشعبية الزعم الشائع بأن التسوية بعد حرب أكتوبر أصبحت على الأبواب، معتمدة في ذلك على التناقضات الواسعة بين وجهة النظر الإسرائيلية ووجهة النظر العربية حتى لو كانت متمثلة بوجهة نظر السادات، وترى أن هذا التناقض بين وجهتي النظر يشكل عقبة حقيقية في وجه التسوية، وتضيف إلى هذا وجود تباعد ما بين الصيغة السوفيتية للحل والصيغة الأمريكية، وهي ترى انه حتى في حالة افتراض أن السوفيت اخضعوا وجهات النظر الأمريكية والإسرائيلية لتصوراتهم للحل، فما هو سقف الموقف السوفيتي؟.
انتقدت الجبهة الشعبية سذاجة الذين يرون أن الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة مؤكد وقريب المنال بحيث أن المطروح أمام الثورة أحد خيارين: إما أن تترك هذه الأراضي ليحكمها الملك حسين وإما أن تقيم عليها الثورة سلطة وطنية! وترى لو أن الموضوع بهذه البساطة فإنه من الطبيعي اختيار الحل الثاني، إلا أن الجبهة الشعبية ترى أن الخطأ يكمن في القول بأن الحل السلمي سيتمخض عنه انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة، ذلك أن إسرائيل إن قررت الانسحاب فإنه "لا يمكن أن يتم إلا لسلطة رجعية أو سلطة مستسلمة.
"ومن نفس المنطلق طرحت الجبهة الشعبية - القيادة العامة موقفها من نهج المرحلية، فترى أن الرفض لا يوجه أساسا للسلطة الوطنية أو لمرحلية النضال، ولكن الانتقاد منصب أساسا على الشروط والصيغة التي عليها ستقام هذه الدولة، ذلك أن المرفوض هو السلطة الوطنية التي تتمخض عن تسوية سياسية وكبديل عن حرب التحرير، ويؤكد أحمد جبريل - الأمين العام للمنظمة -"إن طرح شعار السلطة الوطنية خاصة بعد حرب أكتوبر هو طرح مرتبط بالتسوية الأمريكية التي تهدف إلى إنهاء الصراع العربي- الصهيوني لصالح تثبيت الوجود الصهيوني في الأراضي العربية، وهنا تكمن الخطورة لان طرح الشعار بعد حرب تشرين جعله مرتبطا بشكل مباشر بنقطتين مركزيتين نحن نرفضهما تماما وهما: المشاركة في مؤتمر جنيف وتمرير التسوية الأمريكية ونجاحها" .
ويبدو أن الأحداث عززت من طرح الجبهة الشعبية وجبهة الرفض عموما، حول نقطة واحدة هي أن الوضع الدولي والعربي بعد حرب أكتوبر لم يؤد إلى انسحاب إسرائيلي من جميع الأراضي العربية المحتلة، حيث أن الواقع أظهر محدودية التسوية المطروحة ووهم المراهنة على الضغوط الدولية أو على إنسانية أمريكا، أو قوة الضغط الاقتصادي العربي، ومع ذلك تبقى إيجابية تحديد سياسة مرحلية آنذاك لتقوم بوظيفة المناورة السياسية والتكتيك الضروري لحشد أكبر عدد من الأصدقاء وتجنب ما يحاك ضد الثورة، وليس باعتبارها استراتيجية تدفع المقاومة الفلسطينية للانجرار إلى المناورات الأمريكية التي تلوح للعرب ما بين الفينة والأخرى بمشاريع وهمية لتنتزع منهم التنازل تلو التنازل دون تحقيق أي إنجاز فعلي، إلا أن ما يؤخذ على قوى المعارضة إنها لم تشق طريقا بديلا واعتبرت أن التمسك بالمبادئ والثوابت الأساسية أهم من أي إنجاز صغير يعيد بعض الحقوق وتتجاهل هذه المنظمات ان من لا ستطيع تحقيق القليل لا يمكنه تحقيق الكثير.
ويبدو أن الجبهة الشعبية نفسها اعترفت بجدوى تبني الهدف المرحلي وهذا ما أكده جورج حبش في كلمته أمام المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السادسة عشر في الجزائر حيث جاء فيها "نحن نقول نعم لبرنامجنا الوطني المرحلي، الذي اقر في الدورة الرابعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني ونقول نعم كذلك لميثاقنا الفلسطيني الذي آمل من مجلسنا هذا أن يعلن تشبثا به وببرنامجنا المرحلي".
لقد تأكد فيما بعد أن الأخذ بسياسة المرحلية لم يكن مجرد مناورة أو تكتيك كما حاول البعض تصويرها، بل كانت تعبر عن استعداد حقيقي للتعامل مع نهج التسوية السياسية، ذلك أن مقررات المجلس الوطني الفلسطيني اللاحقة تخلت عن كثير من الشروط التي وضعتها للهدف المرحلي -السلطة الوطنية المقاتلة- بل إنها لم تعد تَقرن الهدف المرحلي بالهدف الاستراتيجي باعتبار الأول قاعدة ارتكاز نحو الوصول للثاني، وفيما بعد حذفت كلمة مرحلية عند الحديث عن الهدف الفلسطيني الذي أصبح "إقامة دولة فلسطينية مستقلة" وهذا ما ظهر جليا في مقررات المجالس الوطنية ابتداء من الدورة الثالثة عشر، فالفقرة الحادية عشر من البيان السياسي لتلك الدورة دعت لمواصلة النضال الفلسطيني "من أجل استعادة الحقوق الوطنية لشعبنا وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة فوق ترابه الوطني"، وفي تحديد مجال الحقوق الفلسطينية التي على المنظمة السعي لتحقيقها، عرفتها بأنها الحقوق التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ سنة 1974 وخاصة القرار 3236 وقد اعتبرت قرارات هذه الدورة أول تحول واضح في مفهوم الحقوق الفلسطينية من حقوق تاريخية إلى حقوق مستمدة من الشرعية الدولية أو تجمع بينهم.
تكررت نفس الصياغات لهدف النضال الفلسطيني باعتباره إقامة دولة فلسطينية مستقلة دون تحديد كون هذه الدولة هي مجرد هدف مرحلي ودون ذكر الهدف الاستراتيجي - الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل التراب الفلسطيني، ويبدو أنه كلما تدهور الوضع العربي وضعفت قوة الفعل العربية وتأزمت علاقات الثورة الفلسطينية بالأنظمة العربية، كلما كانت م.ت.ف أكثر استعدادا لتليين مواقفها وتخفيف شروطها لتصبح أكثر قبولا عند الرأي العام العالمي ولتبقى في واجهة الأحداث وتبقي الكرة دائما في شباك الخصم، وخصوصا بعد معركة بيروت وانتظار الأعداء أن تكتمل الحلقة وأن يؤدي الانحسار العسكري للمنظمة لإنهائها سياسيا، إلا أن المنظمة وبالرغم من الانتقادات الشديدة لسياستها بعد بيروت اثبت قدرتها على الولادة من جديد من خلال تقديمها لتصورات سياسية وأقدامها على خطوات عملية من خلال نسج علاقات جديدة مع أطراف نبذت سابقاً -الأردن ومصر-، مع ما صاحب هذه العلاقات والتحولات من جدل واسع في الساحة الفلسطينية.
ففي الدورة السادسة عشر للمجلس الوطني الفلسطيني يلاحظ أن البيان الختامي للمجلس لم يتطرق إلى قرار 242 أو يندد به وهو ما دأبت قرارات المجلس السابقة على فعله، آما تصور المجلس للحل فهو يتم عن طريق عقد مؤتمر دولي، ونلاحظ هنا أن المجلس يتحدث عن حل للقضية الفلسطينية وليس مجرد مبادرة سياسية وكانت صياغة المجلس لأهداف النضال الفلسطيني في تلك الدورة على الشكل التالي "يرى المجلس أن إيجاد حل عادل لقضية فلسطين والشرق الأوسط لابد وأن يقوم على أساس ضمان حقوقنا الوطنية في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية فوق ترابنا الوطني الفلسطيني، كما يرى أن الإطار المناسب للوصول إلى هذا الحل، هو عقد مؤتمر دولي تحت راية الأمم المتحدة وعبر مجلس الأمن بمشاركة كافة الأطراف المعنية بما فيها م.ت.ف على قدم المساواة، وعلى أساس قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بقضية فلسطين ويؤكد في هذا الصدد رفضه لاتفاقيات كامب ديفيد والحكم الذاتي ومبادرة الرئيس الأمريكي ريغان والمشاريع والقرارات التي لا تضمن حقنا في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة".
إن أهم ما يثير الانتباه في هذا البيان -مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المرحلة والحصار المفروض على الثورة الفلسطينية- أنه إذا كان هدف تحرير كامل فلسطين متضمن في القرارات السابقة للمجالس الوطنية بما فيها دورة الجزائر، من خلال نص التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني بما فيها حق العودة وتقرير المصير والدولة الفلسطينية والذي يعني ضمنيا وجود حقوق أخرى غير الدولة الفلسطينية، فإننا نجد صياغة البيان الأخير حصرت الحقوق الفلسطينية بحق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا التبدل في الصياغة له معناه، وخصوصا إذا ربطناه بما يليه عند الحديث عن "حل" للقضية تشارك فيه كافة الأطراف المعنية.
يتبــــــــع
المبحث الثاني
من الدولة الديمقراطية على كامل فلسطين إلى السلطة الوطنية على أي جزء من ارض فلسطين.
المطلب الأول: الأسباب الموضوعية والذاتية لسياسة المرحلية
إذ كانت هزيمة العرب عام 1967 قد أعطت دفعة لاستراتيجية الكفاح المسلح ومنحت الثورة الفلسطينية الصاعدة الثقة بالنفس وباستراتيجيتها الكفاحية، فإن حرب أكتوبر 1973 عملت على إفقاد الثورة الفلسطينية شيئا من الثقة بقدرتها أو بقدرة النظام العربي الرسمي والشعبي على تحرير كامل فلسطين من خلال إستراتيجية الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية، فحرب أكتوبر وبالرغم من الانتصار العسكري النسبي الذي حققته إلا أنها أثبتت عدم القدرة ليس فقط على القضاء على إسرائيل بل عدم القدرة على استعادة الأراضي العربية المحتلة عام 1967عن طريق الحرب، ليس ذلك بسب منعة دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) وقوتها بل أيضا لاعتبارات دولية وطبيعة وعمق علاقة دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) بالولايات المتحدة، ومحدودية الالتزام السوفيتي بدعم العرب في حربهم ضد إسرائيل.
وهكذا استبقت الثورة الفلسطينية ما كانت تعتقد انه آت ويُخطط له، وتحركت مباشرة وقبل أن تبرد فوهات البنادق على مستويين: الأول تجنب محاولات تهميشها ومحاصرتها محليا وعالميا، وذلك بالعمل على تعزيز وجودها في لبنان وربط علاقات متينة مع الحركة الوطنية اللبنانية التي لم تكن علاقاتها طيبة مع سوريا، ومن جهة أخرى تليين مواقفها السياسية أو تغيير خطابها السياسي وذلك بإرسال رسائل علنية وسرية تعبر عن استعدادها لأنصاف الحلول وذلك من خلال ما سمي بسياسة المراحل أو المرحلية التي أعلن عنها في البرنامج المرحلي عام 1974.
وجدت هذه السياسة استحسانا سواء من الأنظمة العربية التي سارعت لعقد قمة عربية اعتبرت فيه م.ت.ف ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني لتعيد بذلك الأنظمة صياغة العلاقة ما بين القومي والوطني وتقديم الثاني على الأول بالزعم أن الفلسطينيين هم الذي طلبوا أن تكون المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني،هذه الخطوة مهدت الطريق أمام الأنظمة العربية لدخول سياسة التسوية السلمية دون حرج، كما أن سياسة المرحلية لقيت مباركة دولية، حيث تم استقبال أبو عمار في الجمعية العامة للأمم المتحدة وقوبِل استعداده للحل السلمي بالترحاب، وكانت عبارته (غصن الزيتون في يد والبندقية في يد) تختزل تحولا استراتيجيا في نهج الثورة الفلسطينية، واستعدادها لإعادة النظر في ثوابت سابقة، لو وجدت تجاوبا إسرائيليا أو أمريكيا آنذاك، لأنه لا يعقل أن أبو عمار ذهب إلى الأمم المتحدة لمطالبتها بالقضاء على دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) !.
ولكن هل تمكنت المنظمة من الجمع ما بين غصن الزيتون والبندقية ؟ وهل تطور الأحداث عزز من طرح منظمة التحرير ومراهناتها، أم أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن ؟.
اعتبرت الثورة الفلسطينية أن المرحلية كحلقة وسط في الطريق إلى تحقيق الهدف النهائي لا تتناقض مع استراتيجية الثورة أية ثورة ما دامت لم تتخل عن هدفها النهائي، ذلك أن السياسة الواعية والثورية الملتزمة بقضايا شعبها مطلوب منها في كل مرحلة من المراحل أن تحدد الحلقة المركزية للنضال انطلاقا من تصورها لحجم مختلف أطراف الصراع في كل مرحلة ومدى نمو القوى الذاتية للثورة وقدرتها على تحقيق الهدف الاستراتيجي والاستفادة من كل التناقضات التي يفرزها تطور الصراع،كما أن تحديد هدف مرحلي للثورة يصبح ضروريا للإجابة عن التساؤلات المطروحة في كل مرحلة أو جولة من جولات الصراع، ذلك أن الهدف النهائي مع مشروعيته وضرورة التشبث به فقد لا يمكن الوصول إليه دفعة واحدة، وقد وعت كل الثورات العالمية جدوى المرحلية في النضال والدخول في مساومات تفرضها متطلبات المرحلة دون أن يغيب عن الأنظار الهدف الاستراتيجي.فالرسول الكريم لم يجد غضاضة في توقيع معاهدات صلح والقبول بالمرحلية عندما كان المسلمون ضعفاء، وعندما تقوى المسلمون ونكث الأعداء بالمواثيق عاد المسلمون للثوابت وللأهداف الاستراتيجية، أيضا القوى الثورية التي تعتبر صراعها مع العدو صراعا مصيريا وحالة من التناقض الذي لا حل له إلا بنهاية أحد طرفي الصراع قبلت المرحلية، فقد انتقد لينين نفسه ما يروج من قول بأن المساومة مرفوضة ماركسيا، واعتبر هذا القول تافها ينبع عن ضيق الأفق ولا ينطبق على الواقع.1 ومن المعلوم أن الثورة الفيتنامية دخلت في مساومات، وقبلت بمرحلة أهدافها إلا أنها لم تتخل عن أهدافها الاستراتيجية، ذلك أن المساومة والقبول مرحليا بأهداف أقل تواضعا عن الهدف الاستراتيجي، قد لا يعبر بالضرورة عن ضعف الثورة بل عن ضعف الخصم، ويصبح على الثورة آنذاك أن تستغل هذه المرحلة لتعبئة قواها وتعزيز مواقفها استعدادا للمرحلة القادمة.
بالرغم من أن الحديث عن مرحلة أهداف النضال الفلسطيني، فرض نفسه بصورة جدية إثر حرب أكتوبر وما تمخض عنها من تطورات عسكرية وسياسية ونفسية كما سبقت الإشارة فإن المكون الفلسطيني في نهج المرحلية النضالية كان حاضرا قبل 1973، والمتمثل بالإحساس بالبون الشاسع ما بين الإمكانيات الفلسطينية وبين الأهداف الاستراتيجية للثورة الفلسطينية. وهذا الإحساس بالفرق ما بين الهدف والإمكانيات كان وراء قول عبدالناصر لياسر عرفات "كم تظن أنه يلزمكم من السنين كي تدمروا الدولة الصهيونية، وتبنوا دولة موحدة ديمقراطية على كامل فلسطين المحررة ؟ كما اخذ عبدالناصر على المقاومة الفلسطينية ممارسة سياسة غير واقعية واعتبر أن دويلة في الضفة الغربية وغزة هي أفضل من لا شيء.
ويبدو أن فكرة القبول بإقامة دولة فلسطينية على جزء من فلسطين، كانت تمثل قناعة لدى بعض الفلسطينيين حتى قبل حرب أكتوبر 1973، وما حرب أكتوبر إلا الفرصة التي اهتُبلت لتظهر هذه القناعة، فالمكون العربي في القبول بالمرحلية كان الحافز للمكون الفلسطيني ليعبر عن نفسه مكرها للحفاظ على الهوية . فقد انتقد أبو أياد، قادة الحركة الوطنية الفلسطينية السابقين لعدم قبولهم بإقامة دولة فلسطينية كما نص على ذلك قرار التقسيم لعام 1947، معتبرا أن الرفض العربي السابق للحلول الوسط نوع من السلبية والمزايدة، وان الرفض قد يكون طريقة للهروب من المشاكل والتزيي بزي النقاء العقائدي، كما يعترف أن فاروق قدومي قدم للجنة المركزية لحركة فتح بعد حرب يونيو 1967 مباشرة تقريرا يقترح فيه القبول بتأييد قيام دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة إذا أعادتهما دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) للعرب، إلا أنه لم يبث في الموضوع آنذاك.
دافع أبو أياد عن المرحلية باعتبارها سياسة واقعية تنطلق من الأخذ بعين الاعتبار موازين القوى، وتطور الأحداث والابتعاد عن الرومانسية وإن كانت رومانسية ثورية، ويعطي أبو إياد أهمية لمحدودية العمل الفدائي، ومقدرته على تحقيق الأهداف الاستراتيجية ورأى "أنه كائنا ما كانت انطلاقة وبأس حر ب العصابات ضد الدولة الصهيونية، فإنها تظل في المستقبل المنظور دولة لا تُقهر، ولهذا فإن عدم توقع المرور بمراحل مؤدية إلى الهدف الاستراتيجي الذي هو إقامة دولة ديمقراطية على كامل فلسطين أمر من قبيل الوهم والخيال"، وفي نفس سياق تبرير أبو اياد للمرحلية ودفاعه عنها، فإنه يرى أن إقامة سلطة وطنية فلسطينية تشكل ضربة قاسمة للأيدلوجية الصهيونية القائمة على رفض وجود الشعب الفلسطيني، لأن الإقرار بهذه السلطة الوطنية الفلسطينية معناه الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، ووجود شعب فلسطيني يشكك في مصداقية مجمل الأيديولوجية الصهيونية، بالإضافة إلى هذا فإن امتلاك الفلسطينيين لأية بقعة محررة سيتيح لهم مجالات ومتنفسا لتنشق نسمة الحرية والابتعاد عن أدوات القمع والوصاية العربية، ذلك أن خطورة العيش في الغربة والشتات على الشعب الفلسطيني لا تقل خطورة عن فقدان الأرض، ويعبر أبو إياد عن دهشته لرفض أطراف فلسطينية لمرحلية النضال، ففي خطاب وجهه لسكان مخيم تل الزعتر في لبنان، عندما كانت قضية السلطة المرحلية موضع بحث، وكان سكان المخيم يرفضونها قال "منذ خمسة وعشرين سنة وانتم تعيشون في المنفى، إنها خمسة وعشرون سنة من الإحباطات والمذلات والحرمان، ولكنكم تواصلون رفضكم لكل حل بالتسوية حتى ولو كان مؤقتا، أليس انه من العجيب الخارق أنكم تفضلون العيش في أرض غريبة على الإقامة في منطقة محررة من وطنكم الأصلي ؟".
وانطلاقا من نفس المكون الفلسطيني وراء القبول بالمرحلية، والمتمثل بغياب الانتصار في معركة التحرير الكامل على المدى المنظور، كانت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين سباقة في استشعار هذا الخلل الكامن بين الإمكانيات والهدف الاستراتيجي، فمنذ 1971 طالبت الجبهة الديمقراطية بأسلوب غير مباشر بضرورة المرور بالمرحلية وتحديد موقف فلسطيني يملأ الفراغ الكامن بين الإمكانيات والهدف وتجيب عن متطلبات المرحلة وتفوت الفرصة على قوى عربية تطمح للحلول محل الدور الفلسطيني، حيث رأت الجبهة الديمقراطية بأن شعار التحرير الكامل لفلسطين "بات مهددا بالتحول إلى مجرد موقف لفظي طالما بقيت الثغرة الاستراتيجية في تصور المقاومة لحربها الوطنية بمثل هذا الاتساع، فبين شعار التحرير الكامل ومعطيات الوضع الراهن للنضال الفلسطيني مرحلة وسيطة ترد الأنظمة العربية عليها بمطلب إزالة آثار العدوان على قاعدة الحل السلمي بينما تقفز المقاومة عليها بكلام يتحدث عن متابعة النضال حتى النهاية ورفض كل الحلول التصفوية والتسويات".
كانت فترة ما بعد أكتوبر 1973هي مرحلة إعطاء الأولوية للعمل السياسي على حساب العمل العسكري، وأصبح الحديث عن انسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية محتلة هو حديث الساعة ومحور النقاش السياسي والاتصالات الدبلوماسية،إلا أنه من المفيد أن نشير أن جل الحديث عن الحل السلمي والانسحاب الإسرائيلي كان مصدره الدول الأوروبية أو قرارات الأمم المتحدة أو الدول العربية أما دولة الإحتلال الصهيوني (إسرائيل) فكانت السلبية المطلقة هي التي تحكم مواقفها. ومع ذلك فإن مسألة الانسحاب أصبحت مطروحة والمراهنة على الضغط على الولايات المتحدة لتجبر إسرائيل على الانسحاب كان قاعدة أي تفاؤل بالتسوية، وكان المطلوب من الثورة الفلسطينية أن تعبر عن موقفها من هذا الموضوع، ذلك أن أي انسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة سيضع هذه الأرض أمام خيارات ثلاثة:
الأول: أن تعود الأرض المسترجعة إلى طرف عربي ويضمها إليه وخصوصا أن الأردن لم يكن يخفي مطامعه في ذلك بل كان يعتبر الضفة الغربية جزءا من المملكة الأردنية.
الثاني: أن يتقدم طرف فلسطيني من خارج م.ت.ف. لينصب نفسه ناطقا باسم الشعب الفلسطيني أو تنصبه إسرائيل أو أحد الدول العربية، وهذا أيضا مرفوض فلسطينياً.
الثالث: أن تتقدم الثورة الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني لتقيم سلطتها على أية أرض يتم تحريرها.
فضلت م.ت.ف الخيار الثالث باعتباره يرد على متطلبات المرحلة، ويقطع الطريق على المتربصين بالثورة الفلسطينية والطامعين في سلب شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني حيث أكد أبو عمار "إن قيام السلطة الوطنية لشعبنا فوق أرضه أمر حتمي ولن يفرض على شعبنا مهما كانت التحديات مشروع المملكة المتحدة تحت حكم أو وصاية أو فيدرالية أو كونفدرالية مع النظام الهاشمي. سوف تقوم السلطة الوطنية فورا فوق كل شبر فلسطيني يتم جلاء العدو عنه باتجاه تحرير بقية الأرض الفلسطينية".
المطلب الثاني: السلطة الوطنية ضرورة لتجسيد الكيانية السياسية
ولأن الثورة الفلسطينية لم تكن تملك قوة الرفض الفاعل فإن "هذا يفترض بالضرورة أن نطرح موقفا ملموسا وطنيا وثوريا كفيلا بإحباط كافة الحلول الاستسلامية التصفوية "وفي نفس الوقت الإجابة على متطلبات المرحلة الذي يتحدد بـ "أننا نناضل من أجل دحر الاحتلال الصهيوني وتصفيته عن الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967، وفي الوقت ذاته تمكين شعبنا الفلسطيني في جميع الأراضي التي يتم تحريرها وانسحاب العدو منها ومن تقرير مصيره بنفسه على هذه الأراضي وإقامة سلطته الوطنية الفلسطينية المستقلة عليها".
وفي هذا السياق انتقدت الجبهة الديمقراطية الذين يطرحون شعارات لا تتناسب مع واقع المرحلة والإمكانيات الذاتية والذين يسترون عجزهم وراء شعار التحرير الكامل ولا يقبلون بمرحلية النضال، ذلك أن مهمة التحرير مهمة عربية ولا تقتصر على الشعب الفلسطيني وحده. وفي ظل عدم القدرة العربية على التحرير أو غياب الإرادة، يجب أن لا يختزل النضال الفلسطيني بحيث يصبح فقط "عامل تثوير وتأجيج لنضال الجماهير العربية" أو يفرض على الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني الانتظار حتى تتبدل موازين القوى، بل يتحتم أن يبرز الشرط الفلسطيني لتحقيق الانتصار والشرط الفلسطيني في ظل الظروف الحالية كما ترى الديمقراطية يتحدد بـ "تعبئة كامل الطاقات الثورية للشعب الفلسطيني بتوفير قاعدة ارتكاز ثابتة ومحررة في المناطق التي تقيم فيها غالبية الشعب على أرض وطنه".
انطلاقاً من كل هذه المستجدات وعلى قاعدة هذه المكونات /المتغيرات الفلسطينية والعربية والدولية، انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشر في يونيو 1974، لينظر في الموضوع وليحدد موقفا يجيب على التساؤلات المطروحة. نظرا لأن صيغة التسوية المطروحة دوليا آنذاك وهي قرار مجلس الأمم 242، كانت مرفوضة فلسطينيا وحتى لا يلتبس الأمر ويُقرن الإقرار بالمرحلية بقرار242 المرفوض لكونه يتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين، فقد جاء قرار المجلس الوطني الفلسطيني بالقبول بالهدف المرحلي مقترنا بتأكيد رفض قرار 242 مع توضيح أسباب هذا الرفض حيث جاء في قرارات المجلس الوطني المذكور:
1- تأكيد موقف منظمة التحرير السابق من قرار 242 الذي يطمس الحقوق الوطنية والقومية لشعبنا ويتعامل مع قضية شعبنا كمشكلة لاجئين، ولذا يرفض المجلس التعامل مع هذا القرار على هذا الأساس في أي مستوى من مستويات التعامل العربية والدولية بما في ذلك مؤتمر جنيف.
2- تناضل م.ت.ف. بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها، وهذا يستدعي إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله.
3- تناضل منظمة التحرير ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة والتنازل عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وحقه في تقرير مصيره فوق ترابه الوطني.
4- إن أية خطوة تحريرية تتم هي لمتابعة تحقيق استراتيجية م.ت.ف. في إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المنصوص عليها في قرارات المجالس الوطنية السابقة.
يلاحظ أن قرارات المجلس الوطني أعلاه، شددت على إضفاء صفات ثورية على السلطة الوطنية التي ستقام، من منطلق أنها ستأتي تتويجا للنضال بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح، أي أنها لن تكون منحة من أحد، بالرغم من أن حرب أكتوبر لم تحرر أرضا ليقام عليها سلطة وطنية بل أنها مهدت الطريق لتسوية سياسية، والثورة الفلسطينية لم تكن في وضع يسمح لها بتحرير الأرض بل إن العدو أصبح يتحرك بيسر خارج فلسطين ليغتال القيادات ويدمر المؤسسات الفلسطينية، أيضا فأن نفس المادة لا تتحدث عن دولة بل عن (سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة)، كما إنها لا تحدد حدودا واضحة لهذه الدولة –السلطة- فهي ستقام "على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها"!، وهذه السلطة أيضا لن تقام حالا بل تتطلب "إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله"، ويرفض المجلس الوطني أن تكون السلطة الوطنية نتيجة تسوية أو قبول بالأمر الواقع، فهي لن تكن نتيجة تفاوض مع العدو أو الصلح معه أو الاعتراف به، وأخيرا فإن هذه السلطة المقاتلة هي مرتكز للاستمرار في النضال من أجل إقامة الدولة الديمقراطية العلمانية.
ويبدو أن تشدد المجلس الوطني الفلسطيني في تحديد مواصفات الهدف المرحلي، كان متأثرا بحدة المعارضة التي كانت تواجه به سياسة المرحلية، وخصوصا من قبل التنظيمات التي شكلت لاحقا "جبهة الرفض"1 والمدعومة من أطراف عربية -وخصوصاً العراق- الذي اعتبر القبول بالسلطة الوطنية كهدف مرحلي في ظل موازين القوى المتواجدة هو بمثابة القبول بالحل السلمي وتخليا عن أهداف التحرير الكامل، وقد تزعم معسكر الرفض الفلسطيني الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
انطلقت الجبهة الشعبية في رفضها لمشروع السلطة الوطنية من تحليل علمي لنتائج حرب أكتوبر وطبيعة القوى الفاعلة وتصوراتها للتسوية، فترى أن موضوع التسوية بعد أكتوبر ليس حتميا، وحتى لو كان هناك تسوية، تتساءل الجبهة ألا يمكن للعامل الذاتي المحلي الفلسطيني العربي أن يوقف قطار التسوية المتناقضة مع مصالح الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة؟ وهي ترى أن هذا ممكن والحل الثوري في ظل وجود تسوية هو محاربة وإجهاض هذا التسوية.كما فندت الجبهة الشعبية الزعم الشائع بأن التسوية بعد حرب أكتوبر أصبحت على الأبواب، معتمدة في ذلك على التناقضات الواسعة بين وجهة النظر الإسرائيلية ووجهة النظر العربية حتى لو كانت متمثلة بوجهة نظر السادات، وترى أن هذا التناقض بين وجهتي النظر يشكل عقبة حقيقية في وجه التسوية، وتضيف إلى هذا وجود تباعد ما بين الصيغة السوفيتية للحل والصيغة الأمريكية، وهي ترى انه حتى في حالة افتراض أن السوفيت اخضعوا وجهات النظر الأمريكية والإسرائيلية لتصوراتهم للحل، فما هو سقف الموقف السوفيتي؟.
انتقدت الجبهة الشعبية سذاجة الذين يرون أن الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة مؤكد وقريب المنال بحيث أن المطروح أمام الثورة أحد خيارين: إما أن تترك هذه الأراضي ليحكمها الملك حسين وإما أن تقيم عليها الثورة سلطة وطنية! وترى لو أن الموضوع بهذه البساطة فإنه من الطبيعي اختيار الحل الثاني، إلا أن الجبهة الشعبية ترى أن الخطأ يكمن في القول بأن الحل السلمي سيتمخض عنه انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة، ذلك أن إسرائيل إن قررت الانسحاب فإنه "لا يمكن أن يتم إلا لسلطة رجعية أو سلطة مستسلمة.
"ومن نفس المنطلق طرحت الجبهة الشعبية - القيادة العامة موقفها من نهج المرحلية، فترى أن الرفض لا يوجه أساسا للسلطة الوطنية أو لمرحلية النضال، ولكن الانتقاد منصب أساسا على الشروط والصيغة التي عليها ستقام هذه الدولة، ذلك أن المرفوض هو السلطة الوطنية التي تتمخض عن تسوية سياسية وكبديل عن حرب التحرير، ويؤكد أحمد جبريل - الأمين العام للمنظمة -"إن طرح شعار السلطة الوطنية خاصة بعد حرب أكتوبر هو طرح مرتبط بالتسوية الأمريكية التي تهدف إلى إنهاء الصراع العربي- الصهيوني لصالح تثبيت الوجود الصهيوني في الأراضي العربية، وهنا تكمن الخطورة لان طرح الشعار بعد حرب تشرين جعله مرتبطا بشكل مباشر بنقطتين مركزيتين نحن نرفضهما تماما وهما: المشاركة في مؤتمر جنيف وتمرير التسوية الأمريكية ونجاحها" .
ويبدو أن الأحداث عززت من طرح الجبهة الشعبية وجبهة الرفض عموما، حول نقطة واحدة هي أن الوضع الدولي والعربي بعد حرب أكتوبر لم يؤد إلى انسحاب إسرائيلي من جميع الأراضي العربية المحتلة، حيث أن الواقع أظهر محدودية التسوية المطروحة ووهم المراهنة على الضغوط الدولية أو على إنسانية أمريكا، أو قوة الضغط الاقتصادي العربي، ومع ذلك تبقى إيجابية تحديد سياسة مرحلية آنذاك لتقوم بوظيفة المناورة السياسية والتكتيك الضروري لحشد أكبر عدد من الأصدقاء وتجنب ما يحاك ضد الثورة، وليس باعتبارها استراتيجية تدفع المقاومة الفلسطينية للانجرار إلى المناورات الأمريكية التي تلوح للعرب ما بين الفينة والأخرى بمشاريع وهمية لتنتزع منهم التنازل تلو التنازل دون تحقيق أي إنجاز فعلي، إلا أن ما يؤخذ على قوى المعارضة إنها لم تشق طريقا بديلا واعتبرت أن التمسك بالمبادئ والثوابت الأساسية أهم من أي إنجاز صغير يعيد بعض الحقوق وتتجاهل هذه المنظمات ان من لا ستطيع تحقيق القليل لا يمكنه تحقيق الكثير.
ويبدو أن الجبهة الشعبية نفسها اعترفت بجدوى تبني الهدف المرحلي وهذا ما أكده جورج حبش في كلمته أمام المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السادسة عشر في الجزائر حيث جاء فيها "نحن نقول نعم لبرنامجنا الوطني المرحلي، الذي اقر في الدورة الرابعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني ونقول نعم كذلك لميثاقنا الفلسطيني الذي آمل من مجلسنا هذا أن يعلن تشبثا به وببرنامجنا المرحلي".
لقد تأكد فيما بعد أن الأخذ بسياسة المرحلية لم يكن مجرد مناورة أو تكتيك كما حاول البعض تصويرها، بل كانت تعبر عن استعداد حقيقي للتعامل مع نهج التسوية السياسية، ذلك أن مقررات المجلس الوطني الفلسطيني اللاحقة تخلت عن كثير من الشروط التي وضعتها للهدف المرحلي -السلطة الوطنية المقاتلة- بل إنها لم تعد تَقرن الهدف المرحلي بالهدف الاستراتيجي باعتبار الأول قاعدة ارتكاز نحو الوصول للثاني، وفيما بعد حذفت كلمة مرحلية عند الحديث عن الهدف الفلسطيني الذي أصبح "إقامة دولة فلسطينية مستقلة" وهذا ما ظهر جليا في مقررات المجالس الوطنية ابتداء من الدورة الثالثة عشر، فالفقرة الحادية عشر من البيان السياسي لتلك الدورة دعت لمواصلة النضال الفلسطيني "من أجل استعادة الحقوق الوطنية لشعبنا وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة فوق ترابه الوطني"، وفي تحديد مجال الحقوق الفلسطينية التي على المنظمة السعي لتحقيقها، عرفتها بأنها الحقوق التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ سنة 1974 وخاصة القرار 3236 وقد اعتبرت قرارات هذه الدورة أول تحول واضح في مفهوم الحقوق الفلسطينية من حقوق تاريخية إلى حقوق مستمدة من الشرعية الدولية أو تجمع بينهم.
تكررت نفس الصياغات لهدف النضال الفلسطيني باعتباره إقامة دولة فلسطينية مستقلة دون تحديد كون هذه الدولة هي مجرد هدف مرحلي ودون ذكر الهدف الاستراتيجي - الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل التراب الفلسطيني، ويبدو أنه كلما تدهور الوضع العربي وضعفت قوة الفعل العربية وتأزمت علاقات الثورة الفلسطينية بالأنظمة العربية، كلما كانت م.ت.ف أكثر استعدادا لتليين مواقفها وتخفيف شروطها لتصبح أكثر قبولا عند الرأي العام العالمي ولتبقى في واجهة الأحداث وتبقي الكرة دائما في شباك الخصم، وخصوصا بعد معركة بيروت وانتظار الأعداء أن تكتمل الحلقة وأن يؤدي الانحسار العسكري للمنظمة لإنهائها سياسيا، إلا أن المنظمة وبالرغم من الانتقادات الشديدة لسياستها بعد بيروت اثبت قدرتها على الولادة من جديد من خلال تقديمها لتصورات سياسية وأقدامها على خطوات عملية من خلال نسج علاقات جديدة مع أطراف نبذت سابقاً -الأردن ومصر-، مع ما صاحب هذه العلاقات والتحولات من جدل واسع في الساحة الفلسطينية.
ففي الدورة السادسة عشر للمجلس الوطني الفلسطيني يلاحظ أن البيان الختامي للمجلس لم يتطرق إلى قرار 242 أو يندد به وهو ما دأبت قرارات المجلس السابقة على فعله، آما تصور المجلس للحل فهو يتم عن طريق عقد مؤتمر دولي، ونلاحظ هنا أن المجلس يتحدث عن حل للقضية الفلسطينية وليس مجرد مبادرة سياسية وكانت صياغة المجلس لأهداف النضال الفلسطيني في تلك الدورة على الشكل التالي "يرى المجلس أن إيجاد حل عادل لقضية فلسطين والشرق الأوسط لابد وأن يقوم على أساس ضمان حقوقنا الوطنية في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية فوق ترابنا الوطني الفلسطيني، كما يرى أن الإطار المناسب للوصول إلى هذا الحل، هو عقد مؤتمر دولي تحت راية الأمم المتحدة وعبر مجلس الأمن بمشاركة كافة الأطراف المعنية بما فيها م.ت.ف على قدم المساواة، وعلى أساس قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بقضية فلسطين ويؤكد في هذا الصدد رفضه لاتفاقيات كامب ديفيد والحكم الذاتي ومبادرة الرئيس الأمريكي ريغان والمشاريع والقرارات التي لا تضمن حقنا في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة".
إن أهم ما يثير الانتباه في هذا البيان -مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المرحلة والحصار المفروض على الثورة الفلسطينية- أنه إذا كان هدف تحرير كامل فلسطين متضمن في القرارات السابقة للمجالس الوطنية بما فيها دورة الجزائر، من خلال نص التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني بما فيها حق العودة وتقرير المصير والدولة الفلسطينية والذي يعني ضمنيا وجود حقوق أخرى غير الدولة الفلسطينية، فإننا نجد صياغة البيان الأخير حصرت الحقوق الفلسطينية بحق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا التبدل في الصياغة له معناه، وخصوصا إذا ربطناه بما يليه عند الحديث عن "حل" للقضية تشارك فيه كافة الأطراف المعنية.
يتبــــــــع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق