بحث هذه المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات دين. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دين. إظهار كافة الرسائل

2014-07-16

الإمام أحمد بن حنبل/ إمام الإتباع.


الإمام أحمد بن حنبل/ إمام الإتباع.
قليل من الناس من ينال الخلود بعلمه وعقله وهو حي يسعى على قدمين ...
ففي حياة الإمام أحمد ذاع علمه واشتهرت مواقفه ويروى أن أحمد سعيد الرازي وهو أحد شيوخ الإمام احمد قال عنه - وهو شاب ( ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا أعلم بفقهه من أحمد بن حنبل).
وكان الإمام الشافعي أحد شيوخ الإمام أحمد وحين غادر الشافعي بغداد إلى مصر واستقر بها قال الشافعي لتلميذه حرملة المصري "خرجت من بغداد وما خلفت بها أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل".

حياة الإمــــــــام
عام 164هـ ولد أحمد بن حنبل بمدينه بغداد وكانت أمه حاملا به حين عادت من مدينة "مرو" بوسط آسيا إلى مدينة بغداد.
وأحمد بن حنبل عربي شيباني من جهتين معا: أبوه وأمه... وقبيلة شيبان التي ينتسب إليها
أحمد قبيلة ربعيه (نسبة إلى بني ربيعه) عدنانية وقبيلة شيبان كانت أبرز القبائل الربعية.
وكانت منازل شيبان بالبصرة بعد إنشاء عمر بن الخطاب لها سنة 16 هـ وكانت أسره أحمد وأسرة أمه مقيمتين ببيداء البصرة.
وكان عبد الملك بن سوادة بن هند من رجلاً من وجوة شيبان، وجداً لأسرة أحمد ويستضيف قبائل العرب عندما ينزلون البصرة.

وكان لآل شيبان بالبصرة مسجد هو مسجد "مازن" ولقد اعتاد أحمد أن يصلى فيه كلما نزل إلى البصرة ويقول لمن يسأله إنه مسجد أبائى.
والجد الأقرب لأحمد هو "حنبل بن هلال" وكان هذا الجد قد انتقل بأسرته إلى خرسان حين صار واليا في العهد الأموى ولقد انضم هذا الجد إلى صفوف الداعين ضد بني أميه.

وأبو أحمد هو "محمد بن حنبل" وكان جنديا بالجيش العباسي ويقال إنه كان قائدا يرتدى زى الغزاة فيما وراء الحدود الإسلامية ولقد مات هذا الأب شابا وعمره ثلاثون سنة.
وعم أحمد كان من عيون الولاة في بغداد يرسل إليهم بالأخبار ليعلم بها الخليفة العباسي وكان أحمد يتورع وهو في صغره عن مشاركة عمه في عمله وكان عمه قد صار عليه وصيا إثر وفاه أبيه.
نشأ أحمد يتيما مثلما نشأ شيخه الشافعي يتيما... فلم ير أحمد أباه ولا جده وكان على أمه وأسرة أبيه القيام على تربيته. ولحسن حظ أحمد فقد كان له من ميراث أبيه ببغداد... منزل يسكنه مع أمه ومنزل آخر به حوانيت (دكاكين) يدر عليه عائدا يتيح له كفافا من العيش فاستغنى بهذا العائد عما في أيدى الناس ووجد المأوى.

ودفع أحمد يتمه وشرف نسبه وحرمانه من ترف العيش وقناعته ونزوعه للتقوى إلى أن يكون سامي النفس وأن يكرس مواهبه من ذكاء العقل إلى طلب العلم.

وحفظ أحمد القرآن الكريم ثم أخذ يتردد على الديوان ليتمرن على الكتابة والتحرير.

وكان أحمد وهو صبى صغير محل ثقة الرجال والنساء الذين ذهب أبناؤهم أو أخواتهم أو أباؤهم إلى ساحات القتال فقد كانوا يستكتبونه وهو لا يزال صغيرا ببغداد رسائل ذويهم المقاتلين فيكتبها لهم ويجيبون إليه بالردود فيقرأاها عليهم.
ومنذ الصبا كانت في أحمد رجولة وصبر وجد وقدرة على احتمال ما يكره بروح من التقوى... ولقد دفعت هذه الروح (الهيثم بن جميل) إلى أن يقول عن أحمد "إن عاش هذا الفتى فسيكون حجه على أهل زمانه".

وفى بغداد اتجه أحمد إلى طلب العلم وكانت بغداد آنذاك منارة لعلوم الدين واللغة والرياضة والفلسفة والتصوف... واختار أحمد علم الحديث، وبه بدا ثم أردفه بطلب الفقه. وبدأت مسيره أحمد في طلب الحديث ببغداد بين عام 179 هـ، 186 هـ ثم توالت أسفاره في طلب الحديث خارج بغداد.
وكتب أحمد نحوا من ثلاثة آلاف حديث عن الحج وبعض التفسير وكتاب القضاء وكتبا أخرى صغيرة من كتب (أبواب) الحديث.
ولقد توالت رحلات أحمد في طلب الحديث خلال عمره وبينها خمس رحلات إلى البصرة وخمس رحلات إلى الحجاز... وفى أولى رحلاته إلى مكة التقى بالشافعي وعمره 24 سنة حين كان يؤدى فريضة الحج لأول مرة ماشيا على قدميه من بغداد إلى مكة.
وفى هذه الرحلات كان أحمد معنيا بتدوين كل ما يسمعه من أحاديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) وأثار أصحابه ولا يعتمد على ذاكرته وحدها.
وحين كان أحمد يحدث الناس بالحديث لم يكن يحدثهم من ذاكرته وحدها خشيه أن يضل وينسى وإنما كان يحدثهم بما كتبه ونقله حرصا على التقوى والدقة مع أنه كان كثير الحفظ قوى الذاكرة.
ومع تعلم أحمد للحديث سماعا وحفظا وتدوينا كان يتعلم الاستنباط والتحري وفهم النصوص وغاياتها ويطلب لقاء الفقهاء وكطلبه للقاء المحدثين... وكان الإمام الشافعي هو أشهر من التقى به أحمد وتعلم على يديه التخريج الفقهي وأصول الاستنباط للأحكام ومناهجه.
ولقد جمع ابن حنبل في رحلة حياته فتاوى أصحابه مع جمعه للأحاديث ومعانيها الفقهيه.... فالتقى بذلك الحديث والفقه معا في شخص أحمد بن حنبل ومسنده ومذهبه كإمام.
في سن الأربعين جلس أحمد بن حنبل للتحديث والفتوى بمساجد بغداد ومساجد المدائن الإسلامية التي يرتحل إليها في الوقت نفسه طلبا لمزيد من العلم... فكان في وقت واحد عالما وطالب علم.

وبدأ أحمد مجلسه العلمي كإمام في بغداد سنة 204 هـ وهى السنة التي توفى فيها الإمام الشافعي بالقاهرة فلم يستسغ احمد أن يجلس للتحديث والفتوى وبعض من شيوخه الكبار حي يحدث ويفتى.
ولم يحدْ احمد في مجالسه وحياته على السواء عن إتباع السنة فهو يفعل كل ما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يفعله ولا يفعل ما لم يكن يفعله.

ولم يكتم أحمد طوال حياته عن احد علما ولا حديثا لأن الله تعالى نهى عن كتمان العلم.... ولأن الدين يوجب إفشاء أحاديث الرسول ونشرها.

للدرس والإفتــــــاء

فقد كان الازدحام على درسه شديدا ولقد بلغ عدد المستمعين إلى درسه في المجلس الواحد خمسة آلاف.

ومجلس أحمد كان مجلسا يسوده الوقار والتواضع واطمئنان النفس… وطوال أربعين عاما لم يقل أحمد فيها أحاديث من ذاكرته إلا مائه حديث وإذا سئل في موضوع فقهي يضطر إلى استنباط حكم فيها لم يسمح لتلاميذه أن يدونوا استنباطه أو ينقلوه عنه وكان أبغض الأشياء لديه أن يرى فتوى له مكتوبة.
وقد عاش أحمد بن حنبل حياة فقيرة يؤثر خصاصة العيش على أن يكون ذا مال لا يعرف انه حلال… أو فيه منه العطاء، ويعمل بيديه ليكسب عيشه وينسخ كتابا أو يؤجر نفسه في عمل يعمله حين ينقطع به الطريق في سفر ولا مال معه مؤثرا العمل على أن يقبل عطاء من احد يعجز عن رده في زمن قريب.
كان أحمد إذن يؤثر تعب الجسم على تعب النفس ويؤثر أن تكون يده العليا ولا يأخذ عطاء ويفي بسداد ما اقترضه ويعانى مكاسب العيش لكي يكون حرا وهو إمام يشار إليه بالبنان.
كان الخليفة المأمون صاحبا للمعتزلة ومن بينهم اختار وزراءه وأصحابه وكان يقول مثلما يقولون… ومن بين ما يقولونه في مسائل العقائد في علم الكلام أن القرآن الكريم مخلوق ومحدث ولقد أراد المأمون من أحمد بن حنبل أن يؤيد هذا الكلام بأن القرآن مخلوق ومحدث فأبى أحمد ذلك القول وأصر على قوله بان القرآن كلام الله فكانت محنته محنة مدوية استمرت في عهد المأمون وفى عهدي المعتصم والواثق من بعده ومحنة لقي فيها العذاب وسجن وعذب في كل يوم طوال ثماني وعشرين شهرا كان أحمد يضرب بالسياط إلى أن يغمى عليه وحين يئس معذبوه رحموه وأطلقوا سراحه وأعادوه إلى بيته لا يقوى على السير وقد انتصر بتقاه وهزم أصحاب السياط.
ومنع أحمد بن حنبل من خروجه من بيته والصلاة في المسجد طوال خمس سنوات من سنة 225 هـ إلى سنة 232 هـ والى أن مات الخليفة الواثق.
وجاء المتوكل بعد الواثق فأوقف الاضطهاد وحارب الاعتزال وعندئذ عاد أحمد عزيزا مكرما إلى التدريس والتحديث في المسجد وفى غير المسجد.
تتلمذ أحمد بن حنبل على يد الشيخ "هشيم" وهو بخارى الأصل وقد لازمه أحمد نحوا من خمس سنوات إلى سن العشرين من عمره وفى هذه السنوات تكونت النواة الأولى في علم أحمد بالحديث.
أما الشيخ الثاني بعد وفاه "هشيم" هو الإمام "الشافعي" وقد التقى به أحمد في مكة وأعجب أحمد بعقل الشافعي الفقهي وأخذ عنه "الفقه".
لم يكتب أحمد بن حنبل إلا الحديث.. ولم يكتب أحمد كتابا في الفقه يمكن أن يعد أصلا ومرجعا… ولكن له أبوابا متناثرة مكتوبة في الفقه فيها فهم للنصوص القرآنية والأحاديث وليس فيها رأى مبتدع ولا قياس… من هذه الأبواب رسالة في الصلاة ورسالتين في المناسك ورسالة كتبها إلى (إمام مسجد) صلى أحمد وراءه فأساء في صلاته… وكلها كتب حديث فى موضوعات فقهيه وفى مجال العبادات لا المعاملات.
ولأحمد رسائل أخرى يرد بها على الزنادقة والجهمية ويبين فيها مذهبه في فهم القرآن.

وكان مذهب أحمد من بعده قويا ووجد أرضا نما فيها بأمور ثلاثة: بأصوله وفتاويه وبالتخريج فيه وبرجاله من الحنابلة الذين أبقوا على باب الاجتهاد في المذهب الحنبلي مفتوحا.
وقد ترك أحمد للفقهاء جميعا حنابلة وغير حنابلة حصادا من نصوص الحديث والآثار وحصادا من فهمه لهذه النصوص يرتكز عليها ويلجأ إليها سائر الفقهاء عندما يفتون بالمصالح المرسلة وعندما يفتون بالقياس والرأى حين لا يجدون نصا من كتاب أو سنه.
وأتباع مذهب أحمد من العامة قليلون إلى يومنا لأنه كان آخر المذاهب الأربعة وجودا ولأن هؤلاء الأتباع صاروا متعصبين بسبب المحنة الكبيرة التي نزلت بأحمد ولأنهم كانوا متشددين في التمسك بما جاء عن أحمد في الفروع الفقهية. ولأنهم بسبب هذا التعصب فرضوا أنفسهم محتسبين متزمتين على الخاصة والعامة والأسواق ولأن السلطان والناس حاربوه لتعصب معتنقيه من العامة.
وقد انتشر المذهب الحنبلي أول انتشاره في العراق ثم ضعف بالعراق بسبب فتن التعصب التي أثارها أتباعه ولم يظهر المذهب الحنبلي في مصر إلا في القرن السابع الهجري وبين قله قليلة… إلى أن انتشر في العصر الحاضر بين بلاد الحجاز وفى نجد التي اتبع فيها النجديون المذهب الوهابي وهو صدى لمذهب بن تيميه وهو بدوره صدى وامتداد للمذهب الحنبلي.

حُســـــن الخاتـــمة

ومرض الإمام وتسامع الناس من أطراف بغداد وضواحيها وما حولها بمرض الإمام فاقبلوا عليه يعودونه.
وأمر أولاده أن يوضئوه فجعلوا يوضئونه وأشار إليهم أن يخللوا أصابعه وهو آخذ في ذكر الله تعالى حتى إذا أكملوا وضوءه فاضت روحه.
كانت وفاته يوم الجمعة في الثاني عشر من ربيع الأول سنه إحدى وأربعين ومائتين... وله من العمر سبع وسبعون سنة.
وحضر غسله حوالي مائه من بيت الخلافة من بني هاشم وأخذوا يقبلون ما بين عينيه ويدعون له ويترحمون عليه.

وخرج بنعشه من الخلائق ما لا يحصى عددهم حتى قدرهم بعضهم بثمانمائة ألف من الرجال وستين ألفا من النساء وقيل أكثر من ذلك.
وفى ذلك دليل على تقدير الناس له وحبهم إياه وحزنهم عليه.
المرجع : من كتاب أئمة الإسلام الأربعة...لسليمان فياض

الإمام الشافعي في وضع علم "أصول الفقه"


الإمام الشافعي في وضع علم "أصول الفقه"

الإمام الشافعي له أثر فيما يتعلق بتكوين العلم الاسلامى...ولما كان وصف الأثر العلمي للإمام يستدعى تصوير شخصيته التي صدر عنها هذا الأثر نتحدث عن قسمين:
ما يتعلق بالشافعى في خاصة نفسه من نشأته وسيرته.
ما يتعلق بأثر الشافعي في وضع علم (أصول الفقه).

أولا: نشأة الشافعي وسيرته:
إن الفقيه الشافعي رضي الله عنه هو: "محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مره بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانه".

يجتمع مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في عبد مناف بن قصي ...
والنبى(صلى الله عليه وسلم) "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف".
فالنبي (صلى الله عليه وسلم) هاشمي والشافعي مطلبي وهاشم والمطلب إخوان ابنا عبد مناف.

منشأه رضي الله عنه:
خرج والد الشافعي رضي الله عنه من المدينة مهاجراً يفر من الظلم أو الفقر أو كليهما وأقام في غزة زمنا مع زوجة... وولد الشافعي سنة 150 هـ وبعد ولادته رضي الله عنه بقليل توفى والده... وفى نفس عام مولده توفى أبو حنيفة كما ذكر بن حجر وغيره.

وبمناسبة ذلك التوقيت هناك مزحة بين أصحاب الشافعية وأصحاب الحنفية. فأصحاب الحنفية يقولون "كان إمامكم مخفيا حتى ذهب إمامنا". وأصحاب الشافعية يردون بقولهم "لما ظهر إمامنا هرب إمامكم". وهكذا يمزح المتفقهون.

وأرجح الروايات تقول إن أم الشافعي هي "فاطمة بنت عبد الله المحض بن الحسن المثني بن الحسن بن على" وهذه السيدة التي يختلفون في نسبها ويختلفون في اسمها هي التي كفلت طفلها يتيما غريبا فقيرا ولم تزل ترعاه بعنايتها وتتولاه بهديها حتى أصبح بين المسلمين إماما.

وعندما بلغ الشافعي سنتين حملته أمه إلى مكة لينشأ بين قومه في قريش وذكر إن الشافعي رضي الله عنه كان في أول الزمان فقيرا، كان منزله بمكة في شعب الخيف.

وتعلم القرآن كله لسبع سنين – وقيل لما ختم القرآن دخل المسجد ليجالس العلماء.

وكان الشافعي يجيد حفظ القرآن وتدبره ويكثر من تلاوته وكان يختم القرآن في كل شهر ثلاثون ختمة وفى شهر رمضان ستين ختمة – ختمة بالليل وختمة بالنهار.

ويروى أنه كان يقرئ للناس في المسجد الحرام وهو ابن ثلاث عشر سنة وكان حسن الصوت في القراءة.

صفاته
نعت أحدهم الشافعي لبعض ملوك الشام بأنه كان رضي الله عنه طويلا سائل الخدين – قليل لحم الوجه – طويل العنق – طويل القصب – اسمر – خفيف العارضين – يخضب لحيته بالحناء الحمراء القانية – حسن الصوت – عظيم العقل – حسن الوجه – حسن الخلق – مهيبا – فصيحا – من أذرب الناس لساناً إذا اخرج لسانه بلغ أنفه.

وبسبب حسن وجه وحسن خُلقه أحبه أهل مصر من الفقراء والنبلاء والأعيان ووصفوه أهل مصر بقولهم " قدم رجل من قريش وشاهدناه وهو يصلى فما رأينا أحسن صلاة منه ولا أحسن وجها وعندما يتكلم ما رأينا أحسن كلاما منه فافتتنا به ".

وكان إذا تكلم كأن صوته جرس من حسنه. وقال بعضهم إذا كنا نريد البكاء "يقولون بنا نذهب إلى هذا الفتى المطلبى" الذي يقرا القرآن فإذا أتيناه استفتح القرآن حتى يتساقط الناس بين يديه ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته...فإذا رأى ذلك أمسك...وكان الشافعي واسع العلم بالتفسير حتى قيل عنه انه إذا اخذ في التفسير كأنه شاهد التنزيل.

ويظهر أن الشافعي كان يعرف جياد الخيل ولعله كان من فرسانها وكان الشافعي متأثرا في خلقه بالرياضة البدنية التي شغف بها منذ الصغر فكان جسمه جسم رياضيين وكان خلقه خلق الرياضيين.

وكان لديه منذ طفولته نهم في شيئين: في الرمي وطلب العلم. تزوج الشافعي "حميدة" بنت نافع بن عنبسه بن عمرو بن عثمان بن عفان. فولدت له "أبا عثمان محمدا" وكان قاضيا لمدينه حلب "فاطمة وزينب".

ثانيا: ما يتعلق بأثر الشافعي في وضع علم "أصول الفقه"
قال الشافعي " وخرجت من مكة بعد أن بلغت. فلزمت نزيلا بالبادية أتعلم كلامها وآخذ اللغة .
يقول الرازي اعلم أن المتقدمين من أئمة اللغة والمتأخرين منهم اعترفوا للشافعي بالتقدم في علم اللغة واقروا له بكمال الفصاحة.
تفقه الشافعي أول أمره على مسلم بن خالد الزنجي مفتى مكة وبعدها قال مسلم للشافعي "أفت يا أبا عبد الله فقد آن لك أن تفتى وكان الشافعي حينئذ دون عشرين سنة".

ثم رحل الشافعي إلى المدينة ليطلب العلم على "مالك بن أنس" فقرأ الموطأ على مالك بعد أن حفظه عن ظهر قلب في مدة يسيرة وأقام بالمدينة إلى أن توفى مالك... تلقى الشافعي في المدينة عن غير مالك كإبراهيم بن أبى يحي...وخرج الشافعي إلى اليمن بعد موت مالك.

قال الشافعي: لما مات مالك كنت فقيرا فاتفق أن والى اليمن قَدم المدينة فكلمه بعضهم أن اصحبه لليمن وذهبت معه واستعملني في أعمال كثيرة وكاد الشافعي يُشغل بهذا العمل عن العلم وانتبه لهذا.

ثم بعد اليمن قدم الشافعي إلى بغداد فأقام سنتين واشتغل بالتدريس والتأليف ومن أشهر كتبه كتاب (الحجة) واشتهر الشافعي في العراق- رحمه الله- وسار ذكره في الأفاق واعترف بفضله الموافقون والمخالفون واستفاد منه الصغار والكبار من الأئمة والأحبار من أهل الحديث والفقه... ورجع كثير منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه.

ومن أاخذ عنهم الشافعي في العراق (وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاس ابو سفيان الكوفي الحافظ)، (وحماد بن أسامة الهاشمي الكوفي) وغيرهم.

الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث

ولكنى نفهم هذا لابد أن نذكر الفقه من عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى عهد الشافعي.
كان التشريع في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) يقوم على الوحي من الكتاب والسنة وعلى الرأى من النبي ومن اهل النظر والاجتهاد من أصحابه بدون تنازع ولا شقاق بينهم.

ومضى عهد النبي عليه الصلاة والسلام وجاء بعده عهد الخلفاء الراشدين ولم يكن يفتى منهم إلا حمله القرآن الذين كتبوه وقرأوه وفهموا وجوه دلالته وناسخه ومنسوخه وكانوا يسمون "بالقراء".

ثم كان عصر بني أميه وتكاثر الممارسون للقراءة والكتابة من العرب ودخلت في دين الله أمم ليست أميه... هنالك استعمل لفظ العلم للدلالة على حفظ القرآن ورواية السنن والآثار وسمى أهل هذا الشأن "بالعلماء".

واستعمل لفظ "الفقه" للدلالة على استنباط الأحكام " الشرعية وسمى أهل هذا الشأن "بالفقهاء".

ولما انقرض عهد الصحابة انتقل أمر " الفُتيا والعلم بالأحكام" إلى الموالى إلا قليلا.

وصارت كتابة العلم أمرا لازما... وجاء عهد العباسيين وشجع الخلفاء الحركة العلمية وأمدوها بسلطانهم فكان طبيعيا إن تنتعش العلوم الدينية في ظلهم.

وفى صدر العهد العباسى انقسم الفقه إلى طريقتين:
طريقة أهل الرأى والقياس وهم أهل العراق.
طريقة أهل الحديث وهم أهل الحجاز.

فلما أقام الشافعي في العراق زمنا غير قصير ودرس في كتب أهل الرأى وفى الوقت نفسه أن الشافعي كان متأثرا بمذهب أهل الحديث.
وبوضع الشافعي مذهبه القديم في بغداد كان في جل أمره ردا على مذهب أهل الرأي وكان قريبا إلى مذهب أهل الحديث.
وكان غرض الشافعي في وضع أصول الفقه إن يقرب الشقة بين أهل الرأي وأهل الحديث ويمهد للوحدة التي دعا إليها الإسلام.
ثم خرج الشافعي إلى مكة وعاد إلى بغداد مرة أخرى وقام بها أشهرا ثم خرج إلى مصر في عام 198 هـ.
ويقال إن الشافعي رضي الله عنه قدم إلى مصر سنة 199 ـ في أول خلافه المأمون وكان سبب قدومه لمصر إن العباس بن عبد الله استصحبه فصحبه وكان العباس هذا خليفة لأبيه على مصر.

وليس معنى ذلك أن الشافعي إنما خرج إلى مصر لمجرد الرغبة في مصاحبه الوالي فقد كان يتشوق إلى مصر من قبل.

وإذا كان الشافعي قد خرج إلى مصر يلتمس نشر مذهبه فهو إنما أراد إن يلتمس لأرائه ميدانا جديدا بعد إن أدرك النصر في الحجاز والعراق.
وصنف كتبه الجديدة كلها بمصر وسار ذكره في البلدان وقصده الناس من الشام والعراق واليمن وسائر النواحي للأخذ عنه وسماع كتبه الجديدة.

ثم خرج من مصر للعراق وأقام بها شهرا ثم عاد لمصر وأقام بها إلى أن مات سنة 204 هـ .
وكان في آخر عمره عليلا شديد العلة في البواسير وبسببه أصيب بنزيف مستمر ومن أسباب موت الشافعي ما بذله من جهد عنيف في السنين الأربع التي أقامها بمصر ما بين التأليف والتدريس والمناظرة وسعيه في بث مذهبه و مدافعه كيد خصومه.
قال الربيع تلميذه: أقام الشافعي ههنا أربع سنين فأملى ألفا وخمسمائة ورقه، وخرج كتاب "الأم" ألفى ورقه وكتاب السنن وأشياء كثيرة كلها في مده أربع سنين وكان عليلا شديد العلة.

وكان يلازم الاشتغال بالتدريس والإفاده في جامع عمرو. وكان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح فيجيئه أهل القرآن فيسألونه. فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه عن معانيه وتفسيره... فإذا ارتفعت الشمس قاموا واستوت الحلقة للمناظرة والمذاكرة فإذا ارتفع النهار تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والشعر والنحو حتى يقرب انتصاف النهار ثم ينصرف إلى منزله.
وقد يكون هذا الجلوس المتوالي فى الجامع من أسباب ما أصيب به الإمام من مرض.

الإمام الشافعى فى مصر
هبط الإمام الشافعي مصر ومعه تلميذه أبو بكر الحميدى وسأله بعض الأكابر أن ينزل عنده فقال: أريد أن أنزل عن أخوالي من الأزد (قبيلة أمه) فذلك درس في الوفاء تعلمه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما هاجر إلى المدينة فنزل عند أخواله بني النجار.

وبعد وفود الإمام إلى مصر تم التعارف بينه وبين السيدة نفيسة رضي الله عنها وتوثقت بينهما الصلات وقد ربط بينهما نزوع إلى خدمة العقيدة الإسلامية وحرصهما على رفع منارها كل بطريقته وأسلوبه.

وكانت دار السيدة كريمة الدارين بمثابة الجزيرة المطمئنة القائمة وسط بحر صاخب متلاطم الأمواج.

وقد اعتاد أن يزورها وهو في طريقه إلى حلقات درسه في مسجد الفسطاط وفى طريق عودته إلى داره وفى غير ذلك من الأوقات.

وكان من عادته إذا ذهب لزيارتها صحبه بعض أصحابه ومع جلال قدر الإمام الشافعي وعلو درجته فانه إذا ذهب إليها سألها الدعاء متلمسا بركاتها.

وقد سمع منها أحاديث جدها المصطفى عليه السلام... وإذا أصابه مرض جعله يتخلف عن زيارتها أرسل رسولا من تلاميذه فيقرئها سلامة ويقول لها: "أن ابن عمك الشافعي مريض ويسألك الدعاء".

فترفع بطرفها إلى السماء وتدعو له فلا يرجع رسوله إلا وقد عوفى الإمام من مرضه.

ولما مرض مرضه الأخير أرسل لها على عادته يلتمس منها الدعاء فقالت للقاصد " متعه الله بالنظر إلى وجهه الكريم" وسأله الإمام الشافعي ماذا قالت له السيدة نفيسة رضي الله عنها فقال له ما قالت فعلم انه ميت وأوصى أن تصلى عليه فلما توفى سنة أربعة ومائتين مروا به على بيتها فصلت عليه مأمومة.

وكان الذي صلى بها إماما أبو يعقوب الويطى احد أصحابه رضي الله عنه.

وكان مرور جنازة الإمام الشافعي على بيتها بأمر "السري أمير مصر" لأنها سألته في ذلك إنفاذا لوصية الإمام الشافعي رضي الله عنه لأنها لم تتمكن من الخروج إلى جنازته لضعفها من كثرة العبادة.

وقد قال بعض الصالحين ممن حضر جنازته أن الله قد غفر لكل من صلى على الشافعي بالشافعي ... وغفر للشافعي بصلاة السيدة نفيسة عليه رضي الله عنهما.

ومات الشافعي فقيرا ولم يبلغ من العمر أكثر من 54 سنة ودفن بالقرافة الصغرى بمصر رحم الله الشافعي ورضي عنه.

وجاء ذكر الشافعي بعد وفاته في مجلس فقالت السيدة نفسية تمتدحه وتترحم عليه (رحم الله الشافعي فقد كان رجلا يحسن الوضوء) وقالت عنه أيضا "كان الإمام الشافعي صبورا بكل ما في الصبر من معنى يتلقى الشدائد بقلب ثابت ويسعى هادئا ليزيل ما ألم به معتمدا على الله حق الاعتماد ومتوكلا عليه حق التوكل ... شاكرا ما ابتلاه ضارعا أن يكشف عنه الضر مستبشراً باجر من عند الله بقدر ما يتحمل من آلام ويظل هكذا دون أدنى ضجر أو ملل حتى يزيل الله ما نزل به وحينئذ يصلى لله شاكرا فهو عند الابتلاء كان شكورا... وعند دفع الضر كان من الشاكرين".

ترجمة المرحوم الشيخ / مصطفى عبد الرازق.

الإمام مالك بن أنس ( إمام أهل السنة )


الإمام مالك بن أنس ( إمام أهل السنة )
مقدمة
لا احد يعطى صوره صادقه وحية عن أحد مثل معاصريه ومريديه من العلماء والتلاميذ من رفاق العلم وأهل العلم وطلاب العلم... وشهادات هؤلاء تضع مالكا في مرتبه الإمام، فهو في الذروة من العلم بالسنة، وهو في الذروة من العلم بالفقه، فقد بلغ فيه درجة جعلته فقيه الحجاز الأوحد وهو بين المحدثين إمام.
ويُعد مِن أول من دون علم الحديث في كتابه (الموطأ)... أول صحيح مجموع مدون للحديث، وهو بين الفقهاء ثاقب النظر يجمع في فقهه بين الإلتزام بنصوص القرآن والسنة، وفتاوى الصحابة ومراعاة مصالح الناس في كل فتاواه... بل إنه الفقيه المحدث كان اشد الفقهاء مراعاة للمصالح الدنيوية للناس في فقهه.

شهادة العلماء له:
قال سفيان بن عُيينة: رحم الله مالكا ما كان أشد إنتقاءه للرجال وما نحن عند مالك... إنما كنا نتتبع آثار مالك، فهو لا يبلغ من الحديث إلا حديثا صحيحا، ولا يحدث إلا عن ثقات الناس... وما أرى المدينة إلا ستخرب بعد مالك بن أنس.
وقال الليث بن سعد إمام أهل مصر: علم مالك علم تُقي... أمان لمن أخذ عنه من الأنام.
وقال الإمام الشافعي: إذ جاءك الأثر عن مالك فَشُدّ به، وإذا جاء الخبر فمالك النجم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم، ولم يبلغ احد في العلم مبلغ مالك لحفظه وإتقانه وصيانته... ومن أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك.
وقال الإمام احمد بن حنبل: مالك سيد من سادات أهل العلم وهو إمام في الحديث والفقه ومن مثل مالك متبع لآثار من مضى مع عقل وأدب.

نشأة مالك بن انس
ولد الإمام مالك بن أنس أبو عامر الاصبحى اليمنى سنة 93هـ وأمه هي "العالية بنت شريك الأزدية" فهو عربي الأب والأم.
ذهب جده الأعلى (أبو عامر) إلى المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقر بها... وتزوج من بني تميم، فربط بينه وبين بني تميم حلف وثقته علاقة الصهر.
وفى المدينة نشأ مالك بن أنس في بيت اشتغل بعلم الأثر وفى بيئة كلها للأثر والحديث، وكان آل بيته مشتغلين بعلم الحديث وأستطلاع آثار السلف وأخبار الصحابة وفتاويهم.
فجِد مالك كان من كبار التابعين وعلمائهم... وأسرة الإمام مالك من الأسر المشهورة بالعلم... وكان لمالك أخ اسمه النُضر يكبره عمراً، يلازم العلماء ويتلقى العلم عليهم، وقد أفاد مالك منه كثيرا في نشأته ولشهرة أخيه دونه آنذاك... كان الناس يعرفون مالكا بأخى النضر فلما ذاع صيت مالك العلمي بين شيوخه وأهل المدينة صار الناس يعرفون النُضرر بأنه اخو مالك.
وفى المدينة حفظ مالك القرآن الكريم وتوجه من بعده إلى حفظ الحديث تحرضه عليه أسرته ويشجعه على الحفظ مناخ المدينة العلمي ... ويروى انه طلب من أهله ان يأذنوا له بالذهاب إلى مجالس العلماء ليكتب عنهم العلم ويدرسه على أيديهم وفى طريق عودته لمنزله ينتهي من حفظ ما تلقاه من علم.
ويروى أن الفقيه "إبن هرمز" قال يوما لخادمته وقد سمعا طرقا على الباب انظري من بالباب – وفتحت الخادمة فلم ترى إلا مالكا فرجعت وأخبرته قائلة "ما وجدت بالباب غير ذلك الأشقر". فقال لها "ادعيه للدخول فذلك عالم الناس"... وقد تأثر الإمام مالك بشخصية الإمام ابن هرمز تأثرا شديدا.
وقد جاء فى بعض الروايات أن السبب الأول فى إكثار الإمام مالك من قول لا أدرى التى كان يجيب بها عما لايعلم هو أنه كان يقتدى بابن هرمز.
ولم يدخر مالك في طلبه للعلم مالا، فلقد نقض سقف بيته وباع خشبه ليتمكن من مواصلة العلم وعاش زمنا في بيت بلا سقف وتعلم بهذا الإصرار.

وقد تلقى أحاديث الرسول صلى الله عله وسلم متتبعا من أجله رواة الحديث في المدينة ومنتقيا الثقات في رواية الحديث.
في المسجد النبوي إتخذ مالك له مجلسا للدرس والإفتاء وهو يدور حول الأربعين من عمره فجلس فى مجلس التابعين وقد صار له حظ كبير من العلم وكان في مجلسه إجلال واحترام وتوقير يحرص هو عليها ويحرص على أن ينالها من الناس ويحرص على أن يسأل شيوخه عن حسن مجلسه في نظر الناس.
وكان لمالك في المدينة مجلسان:
مجلس في المسجد النبوي الشريف: في المكان الذي كان يجلس فيه عمر بن الخطاب للشورى والحكم والقضاء، وهو المكان نفسه الذي كان يجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومجلس في مسكنه: وكان يسكن في دار عبد الله بن مسعود، وفى المجلسين كان مالك يقتفى أثر عمر، وأثر عبد الله بن مسعود ويتأثر بهما يؤثر في فتاواه أن يكون متبعا لا مبتدعا.
ولم يلازم مالك المسجد النبوي في درسه طول حياته... فقد لزم بدرسه مجلسه في بيته عندما مرض بسلس البول وانقطع عن الخروج إلى الناس وعن عقد مجلس علمه في المسجد النبوي لكنه لم ينقطع عن الخروج للصلاة في المسجد.... ولم ينقطع عن الحديث والعلم والدرس والفتوى في بيته.... يشهد الصلوات، والجمعة،والجنائز، ويعود المرضى، ويقضى الحقوق، ويسارع بالعودة إلى بيته.

ولقد عاش مالك طويلا فقارب بعمره التسعين سنة... واجبره مرضه في السنوات الأخيرة من حياته على ملازمة بيته فلا يغادره لاى سبب... فلم يبيح طوال حياته لأحد إنه مريض بمرض سلس البول إلا في لحظة وداعه للدنيا لمن حوله في لحظة الوداع هذه قال "لولا أنى في أخر يوم ما أخبرتكم – مرضى سلس بول وكرهت أن آتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير وضوء – وكرهت أن أذكر علتي فأشكو ربى".

شخصية الإمام مالك
كان مالك منذ صباه حافظة تعي، وصبورا ومثابرا ومخلصا في طلب العلم وصاحب فراسة نفاذه وهيبة ووقار واكتسب الصفتين الأخيرتين في كهولته.
آية حفظه انه كان يسمع في المجلس الواحد نيفا (بضع) وأربعين حديثا مرة واحدة فيحفظها وهو يكتبها عن شيخه... ولقد بلغت أصول أحاديثه المكتوبة أثنى عشر ألف حديث من حديث أهل المدينة كان يحفظها حديثا حديثا برواياتها ولم يحدث مالك طلابه إلا بنحو من ثلثها أو ربعها فهي التي صحت عنده.
كان مالك يقول أنى لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ما اتفق لي فيها رأى إلى الآن, وربما وردت على مسألة فاسهر فيها عامة ليلتي ... وكان إذا سئل عن مسألة قال للسائل : انصرف حتى انظر فينصرف ويتردد (مالك مفكرا) فيها فحدثناه في ذلك التأجيل فبكى وقال " إنى أخاف الله ... ومن أحب أن يجيب عن مسالة فليعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصة في الآخرة".

شكل الإمام مالك
كان مالك من أحسن الناس وجها وأحلاهم عينا وأنقاهم بياضا وأتمهم طولا في جودة بدن كان طويلا جسيما عظيم الهامة أبيض الرأس واللحية شديد البياض في لونه أعين (واسع العينين) حسن الصورة، أشم الأنف عظيم اللحية تبلغ لحيته صدره في سعة وطول وكان يأخذ أطراف شاربه ولا يحلقه ولا يخفيه وكان يترك لشاربه سبلتين طويلتين ويفتل شاربه إذا أهمه أمر.
كان أنس والد مالك صانعا للنبال... لكن مالكا لم يأخذ صنعه أبيه فقد إتجه لطلب العلم وهو حدث صغير، وشارك أخاه النضر بأربعمائة دينار في تجارة البز (الحرير) وكان مالك يبيع معه ويتجر ومن هذه الدنانير الأربعمائة كان يعيش هو وأسرته ويعانى شظف العيش إلى أن أقبلت عليه الدنيا بهدايا فقيه مصر: الليث بن سعد وهدايا الخلفاء من بني العباس.
ففي كل عام كان الليث بن سعد وكان من أغنياء مصر يرسل إلى صديقه الفقيه مالك ابن انس بحمل مائة بعير من خيرات مصر... وبين الحين والحين كان الخلفاء العباسيون يرسلون إليه بالهدايا فتقبلها من المنصور ومن المهدي ومن الهادي والرشيد ولم يكن مالك من المتزهدين في أموال الخلفاء ولم يشك في أخذها كما كان يشك أبو حنيفة لكن مالكا كان يتعفف أن يأخذ ممن دونهم إلا من صديق زاده الله من نعمته.
ويبدو أن مالكا كان يقبل هدايا الخلفاء وعطاياهم على مضض فهو يعرف أنها وسيلة اختبار من الخلفاء للعلماء وعرف أن أموالهم فيها شيء يريب ولذلك كان مالك ينهى غيره عن قبول هذه الهدايا خشية إلا تكون له مثل نيته في دفع حاجته وسد حاجة المحتاجين وأيواء الطلاب الفقراء .
في المسجد النبوي وفى بيته كان درس مالك في أول أمره ثم صار درسه في بيته وحده وفي الحالتين كان مالك يلتزم في درسه الوقار والسكينة والبعد عن لغو القول... ضاربا بذلك المثل لطلاب العلم الجالسين من حوله وكان يقول لطلابه:
من آداب العالم ألا يضحك إلا مبتسماً.

حق على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية... وان يكون متبعا لآثار من مضى وينبغي لأهل العلم أن يخلوا أنفسهم من المزاح وبخاصة إذا ذكروا العلم.
ولقد اخذ أبو حنيفة نفسه بهذا النهج أكثر من خمسين سنة... ولم يأخذ احد عليه لغوا في قول أو مزحة أو تندر بنادرة فمالك كان يعرف التبسط مع طلاب العلم وأصدقائه حين لا يكون في حال درس فإذا اخذ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيبنا كلامه وكأنه ما عرفنا ولا عرفناه .
كان مالك يدخل مغتسلهٍ فيغتسل ويتطيب ويلبس ثيابا جديدة ويضع على رأسه ساجه (لباس رأس كلباس الملوك) ويتعمم ويوضع العود ويخرج إلى القائمين الذين أتوا إليه من المشرق والمغرب كان العلماء وطلاب العلم يفدون إلى مالك لسماع الحديث ويعرفهم حكم المسائل التي يسألون عنها من الكتاب والسنة.
ولقد ازدحمت على بابه الوفود خاصة في مواسم الحج وبسبب هذا الازدحام صار له في تلك المواسم حاجب كالملوك وحراس من تلاميذه ومريديه (يشبهون الشرطة الخاصة اليوم).
وفى الحديث كان مالك يحث أصحابه على أن يحفظوا ويكتبوا ما حفظوه فقد ينسى العقل وتضعف الذاكرة لكنه في الفتاوى لم يكن يحرض أصحابه على كتابة فتاوى ولم يكن يمنعهم منها بل قد يستنكر أحيانا أن يكتبوا عنه كل شيء قائلا لمن يكتب:( لا تكتبها فإنى لا أدرى أأثبت عليها غدا أم لا).
وهو نفسه ما كان يقوله أبو حنيفة لتلاميذه حين تكون الفتوى ظنا أو استحسانا لرأى ولم تكن قاطعة بنص من كتاب أو سنة أو إجماع للصحابة... وكان مالك يستنكر سب الصحابة ويعتبر ذلك جرما كبيرا ويرى إنه إن ساد في بلدهً سب أصحاب من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وجب الخروج منها – ولا ينبغي الإقامة في أرض يكون العمل فيها بغير الحق والسب للسلف"، ومع نهى مالك عن سب الصحابة كان يمتنع عن المفاضلة بينهم خشية أن تؤدى المفاضلة إلى المنازعة وانتقاص أقدار بعضهم.

شيوخ وتلاميذ مالك

ولمالك كان شيوخ و كان له تلاميذ، وتلاميذ تلاميذه.

وتلاميذ مالك وتلاميذهم كانوا هم نقلهً فقهه والواضعون لأصوله فلم يضع مالك لفقهه أصولا مثلما فعل الشافعي من بعده ومن هؤلاء التلاميذ: ابن وهب وعبد الرحمن بن القاسم وأسد بن الفرات وغيرهم.
تلاميذ تلاميذ مالك: سحنون وعبد الملك بن حبيب العتيبى ولهولاء التلاميذ كتب في الفقه المالكي أمهات هي المدونة والواضحة والعتبية والموازية والمدونة دونها أسد، وشرحها سحنون، وراجعها ابن القاسم، وقد تلقاها العلماء المالكيون بالقبول.
وشيوخ مالك المباشرون كانوا سبعة تلقوا علمهم عن ثمانية شيوخ وهؤلاء تلقوا علمهم عن أعلام الصحابة في العلم.

وشيوخ مالك المباشرون هم: ابن هرمز، وأبو الزناد ،وربيعة الرأى، والأنصارى، ونافع، وبحر العلم بن شهاب الذي نهى علمه عن سعيد ابن المسيب وأبو سلمة وغيرهم.
وشيوخ مالك كانوا فريقين: فريق اخذ عنه الفقه والرأى وفريق اخذ عنه الحديث.

واخطر ما استند إليه مالك من أصول بعد القرآن والسنة هو في المصالح المرسلة فالفقه الاسلامى في جملته أساسة مصالح الأمة فما هو مصلحة فيه مطلوب للناس جاءت الأدلة بطلبه... وما هو ضرر منهي عنه تضافرت الأدلة على منعه. فالمصالح المرسلة تعنى سد الذرائع، فوسيلة المحرم محرم، ووسيلة الواجب واجبة، ومآلات الأفعال إليه إن إتجهت نحو المصالح مطلوبة، وإذا عارضتها محرمة، فالدنيا تقوم على مصالح العباد وعلى القسطاس والعدل والقصد الحسن والوسيلة الحسنة.

ومالك يرجع بالنظر إلى الواقع لا إلى المقاصد في الأخذ بالمصالح المرسلة فغاية المصالح تكون في دورانها وجوداً وعدماً مع الواقع وما يقتضيه... وأصول مالك الفقهيه مرنة تخضع عام النص للتخصيص، ومطلق النص للتقييد، وتحقق المصلحة من أقرب طريق، وتجعلها أساسا في الإستدلال... مثل سد الذرائع والأخذ بالعرف، رفعا للحرج، ودفعا للمشقة كلها أصول يكمل بعضها بعضا من القرآن الكريم إلى الأخذ بالعرف والعادات الحسنة.
وبمذهب مالك إختص أهل المغرب والأندلس، منذ أن كان يرحلون للحج إلى مكة وللزيارة للمدينة وقد انتشر هذا المذهب بالبصرة والحجاز وتونس وصقلية والسودان وساد فترة من الزمان في مصر إلى أن غلب عليها المذهب الشافعي.
لمرونة المذهب المالكي كثر الإجتهاد في أصحاب مالك فكانوا (بين مجتهدين منتسبين) هم أصحاب الوجوه الذين لهم حق مخالفة مالك في الفتوى في الفروع و(مجتهدين مخرجين) (وليس لهم حق مخالفة) مالك في الفتوى في الفروع ولهم حق الترجيح فقط (ومجتهدين نفسيين) (وليس لهم حق الفتوى عند البعض ولهم حق الفتوى عند البعض الأخر عند الضرورة).
المرجع : من كتاب أئمة الإسلام الأربعة...لسليمان فياض

الإمام أبو حنيفة النعمان... إمام أهل الرأي

الإمام أبو حنيفة النعمان... إمام أهل الرأي
مقدمة:
في رأي الشيخ الإمام محمد أبو زهرة أن تاريخ الفقه الإسلامي لم يعرف إماما في الفقه كثر مادحوه و كثُر ناقدوه مثل الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه لأنه كان فقيها مستقلا سلك في تفكيره الإجتهادي مسلكا مستقلا ...
و لكن تاريخ الفقه الإسلامي و بعد أن إستوت مذاهبه و مدارسه أنصف أبا حنيفة فقيه العراق من كيد معاصريه له، بين الناس، و عند السلطان، و من افتراء الكذب عليه بعد وداعه للدنيا.
وقال عنه معاصريه إن أبا حنيفة كان رجلا فقيها معروفا بالفقه، واسع المال، معروفاً بالأفضال علي كل من يطيف به، صبورا علي تعلم العلم بالليل و النهار، حسن الصوت، قليل الكلام حتى يُسأل عن شيء من الفقه... تفتح و يسيل كالوادي وتسمع له دويا و جهاره بالكلام .
و قال عنه معاصروه (مليح بن وكيع ) كان أبو حنيفة عظيم الأمانة و كان يؤثر رضا ربه ولو أخذته السيوف .

و أبو حنيفة وصفه معاصره تلميذه الورع التقي (عبد الله بن المبارك ) بأنه (مُخ العلم ).
و روي التاريخ عن الأمام مالك أن أبا حنيفة وضع ثلاثا و ثمانين ألف مسألة في الفقه الإسلامي، منها ثماني و ثلاثون ألف مسألة ( هي) أصل في العبادات... و خمس و أربعون ألف مسألة (هي) أصل في المعاملات .
هذا هو الأمام ((أبو حنيفة النعمان )) الذي منحته الأجيال لقب ((الإمام الأعظم )) فكيف عاش أو كيف كانت نظرته في فقه الإسلام ... ؟
ولد أبو حنيفة النعمان في سنة 80 من الهجرة النبوية، بالكوفة أبوه فارسي النسب إسمه- ثابت بن زوطي – كان جده زوطي من أهل كابل و هي مدينة بأفغانستان التي كانت تابعة لفارس و قد أُسر جده عند فتح العرب لبلاد فارس ثم أسلم و أُعتق ثم ولد أبو حنيفة النعمان حراً ومن قبله ولد أبوه حراً .
إذن كان أبو حنيفة من الموالي (غير العرب ) و الموالي في زمانه كانوا هم حملة الفقه و لهذه الظاهرة أسباب:
فالعرب في عصر الدولة الأموية كانت لهم السيادة و السلطان و كان عليهم الحرب و النزال فشُغلوا عن الدرس و البحث ... و تقدم الموالي حيث كانوا ينتسبون إلي أمم عريقة ذات ثقافات و علوم و بفقدانهم سلطانهم في بلادهم فقد لجأوا إلي العلم و المعرفة... يدفعهم في ذلك حرمانهم للوصول إلي الكمال و بلغوا في العلم و سيطروا به علي الفكر العربي الإسلامي تاركين للعرب الغُلب المادي و كان أبو حنيفة النعمان واحداً من الموالي .
و بالكوفة نشأ أبو حنيفة و بها تربي في بيت أبيه تاجر الحرير، الموسر، و المسلم الحسن الإسلام ، و كان أبوه ثابت قد التقي و هو صغير بالكوفة بالإمام علي بن أبي طالب رضى الله عنه و رأي ثابت أباه زوطي و قد و ضع الإمام علي رضي الله عنه كفه علي رأس أبيه و دعا له بالبركة فيه و في ذريته .
و في سن الصبا حفظ أبو حنيفة القرآن الكريم و اخذ قراءته للقرآن عن عاصم احد القراء السبعة... و أشع عقله في مجتمع يعيش فيه العرب و السريان و الفرس وأبناء خراسان و بلاد ما وراء النهر و تلتقي فيه فلسفة اليونان بحكمة الفرس و تتحاور فيه في العقائد مذاهب النصرانية و أراء الشيعة و الخوارج و المعتزلة ولقد راح ابو حنيفة يُجادل دفاعا عن الإسلام مع المجادلين و ينازل أصحاب الأهواء بفطرته السليمة المستقيمة .

و في سن الصبا و إلي سن الثانية و العشرين من عمره كان ابو حنيفة النعمان يشتغل بتجارة الحرير مثل أبيه ... و بجانب ذلك كان يحضر حلقات العلم في المسجد في بعض الأحيان النادرة مثل عامة المسلمين إلي أن إستوقفه يوما الفقيه (إبراهيم الشعبي ) و قد رأي فيه ذكاء و لمح وراء ذكاءه عقلا علميا و قد نصحه الفقيه بقوله (لا تغفل و عليك بالنظر في العلم و مُجالسة العلماء فاني أري فيك يقظة و حركة ) .
و وقعت نصيحة الشعبي موقعا طيبا من قلب أبي حنيفة و ترك أمر متجره إلي شريكه و اكتفي بمراجعته و الإشراف علي عمله من خلال ذلك الشريك و يفرغ جل وقته للتردد علي حلقات العلم... كان عُمر أبو حنيفة النعمان حين جلس إلي أستاذه حماد بن سليمان في مسجد الكوفة إثنين و عشرين عاما و قد عرف قدراً من النحو و الأدب و الشعر والحديث و قدراً اكبر في علم الكلام و استفاد بعد أن صار فقيها من قدرة علماء الكلام في المناقشة و الحوار و الجدل و ضرب المتشابهات في القياس... عليماً في فهمه لأصول الدين، و مجادلته لأهل الفرق حين يدخلون عليه مسجد الكوفة و هو منصرف إلي الفقه ابتغاء إحراجه و تكفيره في أصول الإعتقاد ولزم أبو حنيفة أستاذه حماد ملازمة تامة حتى مات بعد ثماني عشر سنة.
و مع ملازمة أبي حنيفة لحماد فقد جلس إلي غيره من الفقهاء و المحدثين و خصوصا التابعين الذين اتصلوا بالصحابة و كانوا ممتازين في الفقه و الاجتهاد فتلقي عنهم فقه عمر بن الخطاب و فقه عبد الله بن مسعود و فقه عبد الله بن عباس تلقاه عن أصحابهم من العرب و الموالي .
وكان أبو حنيفة كثير الرحلة إلي بيت الله الحرام حاجاً و لذلك كان يلتقي في مكة و المدينة بالعلماء و منهم كثيرون من التابعين و كان لقاؤه بهم لقاءً علميا يروي عنهم الأحاديث و يذاكرهم الفقه و يدارسهم ما عنده من طرائف وكانوا من مدارس مختلفة .

و لما توفي حماد أستاذ أبي حنيفة عام 120 هـ و كان أبو حنيفة في سن الأربعين وإثر وفاته أجلسه تلاميذ حماد و رفاقه في مجلس شيخه و شيخهم بمسجد الكوفة، و راح أبو حنيفة يدارس تلاميذه من الرفاق السابقين و القادمين الجدد ما يعرض له ولهم من فتاوي فقد كان يؤثر مشاركة الغير له في البحث عن الحق ويقيس الأشياء بأشباهها، و الأمثال بأمثالها، بعقل قوي و منطق سديد حتى وضع بهم و معهم الطريقة الفقهية التي اشتق منها المذهب الحنفي (طريقة القياس و الرأي ) .

لم يكد ابو حنيفة النعمان يجلس في مجلس شيخه حماد بمسجد الكوفة فقيها مفتيا حتى قامت ثورات العلويين ضد الأمويين و كانت عواطف أبي حنيفة كإنسان و فقيه مع العلويين المضطهدين من بني أمية و استغرقت هذه الثورات عشر سنوات عاني فيها العلويين من الأمويين العذاب و تكبد فيها الأمويين من العلويين المشاق و كانت ثورات يؤازرها العلماء و الفقهاء في السر بالمال و في العلن بالتأييد، و اشتدت الفتن و نال أبو حنيفة قسطا من الظلم وسُجن و جُلد ثم أفرج عنه و أعد نفسه و أهل بيته ودوابه للرحيل لسفر طويل ليلا إلي مكة و كان هروبه في سنة 130 هـ .
أقام أبو حنيفة بمكة ست سنوات و لحق به تلاميذه الحريصون علي علمه و الأخذ عنه ولم يستقر أبو حنيفة في الكوفة إلا في زمن أبي جعفر المنصور سنة136 هـ حين استقرت الأحوال بالعراق .
في عهد الخليفة المنصور صار أبو حنيفة عزيزا عليه، يدنيه منه و يعلي مكانته عنده و يرفع قدره في مجلسه، ويحاول بين حين و أخر أن يعطيه العطايا الجزيلة و لكن أبا حنيفة لم يكن يري أن يقبل الفقهاء هدايا الخلفاء و لذلك كان يرد عطاء المنصور و هداياه في رفق و حيلة سواء جاءت من المنصور بطريق مباشراً أو غير مباشر .
و انتهت أيام الصفو بين أبي حنيفة و المنصور حين سجن المنصور عبد الله العلوي.
و ظهرت تباشير هذه النهاية في الكلام القليل الناقم علي العباسيين الذي كان يخرج من شفتي أبي حنيفة بين الحين و الحين و يكشف عن ولائه لأبناء علي بن أبي طالب خاصة .

شخصية الفقيه :
توصف شخصية الفقيه بصفات تجعله في الذروة بين العلماء فقد كان من طراز الرجال الذين يسيطرون علي مشاعرهم ممن لاتعبث بهم الكلمات العارضة ولا تبعدهم عن الحق العبارات النابية.
وأية ضبط أبي حنيفة لنفسه و سيطرته علي مشاعره أن حية سقطت في حجره و هو جالس في مسجد الكوفة فتفرق الناس لسقوطها من حوله و لكنه استمر في حديثه و نحاها بيده و كأنها ليست حية بها سم زعاف .
وآية سيطرته علي مشاعره انه كان يناقش مسألة أفتي فيها واعظ العراق الحسن البصري فقال أبو حنيفة:
"أخطأ الحسن ".
فانبري له رجل من بين الجالسين قائلا له في تعصب:
أأنت تقول أخطأ الحسن يا ابن الزانية ؟
ولم يتغير وجه أبي حنيفة و لم يؤاخذ الرجل علي حدته و قال مؤكدا في هدوء :
والله أخطأ الحسن وأصاب عبد الله بن مسعود.
ثم قال أبو حنيفة :
اللهم من ضاق بنا صدره فأن قلوبنا تتسع له.
و كان أبو حنيفة مستقلا في تفكيره فلم يكن يأخذ بفكره غيره إلا بعد أن يعرضها علي عقله... و لم يكن يخضع عقله كفقيه إلا لنص من كتاب أو سنة أو فتوي مجمع عليها من الصحابة.
عاش أبو حنيفة في عصرين كانت البلاد الإسلامية تموج فيهما بمسائل في الفكر الديني عقيدة و فقها و سياسة و علما وحياة اجتماعية... تموج بحضارات أمم و علومها و بشعوب مختلفة العادات والتقاليد و الأعراف و بفتن الصراع الديني بين السنة و الشيعة و الخوارج و الصراع الاجتماعي بين الأمويين و العلويين والعباسيين ثم بين العباسيين و العلويين و بعقائد هؤلاء و هؤلاء و سياستهم و بفقه هؤلاء و هؤلاء يتوقف الفقه هنا عند آراء السلف و يتجدد هناك عند أهل الرأي.

و كان علي" أبي حنيفة" أن يتمثل حصاد ذلك كله خاصة ما يتصل بالفقه الإسلامي عند أهل الحديث و عند أهل الرأي فلسوف يكون فقيها مفتيا، و الإفتاء في الفقه مرحلة عليا لا ينالها إلا الصابرون في طلب العلم و لايبلغها إلا من أحاط علما بحياة الناس و سياسة الناس و معتقداتهم.
و فقه أبي حنيفة بالعراق يعتمد علي مصادر من الكتاب و السنة وفقه الصحابة و القياس و الاستحسان و العُرف علي حين كان معاصره الإمام (مالك بن أنس ) يأخذ بالكتاب و السنة و فقه الصحابة و عمل أهل المدينة و القياس والاستحسان و المصالح المرسلة.
و لقد أُتهم أبو حنيفة في حياته و بعد وفاته بمخالفة السنة و لقد نفي أبو حنيفة عن نفسه هذه التهمة و يقول (إنا نأخذ أولا بكتاب الله ثم السنة ثم بأقضية الصحابة و نعمل بما يتفقون عليه فان اختلفوا قسنا حكماً علي حكم بجامع العلة بين المسألتين حتى يتضح المعني ) .
و فقه أبي حنيفة كان يميل إلي إطلاق الحرية الشخصية في الملك و المال و الوقف وولاية المرأة لأمر زواجها بنفسها بشرط الكفاءة.
و فقه أبي حنيفة به فروع تكشف عن عقليته كتاجر خبير بالأسواق يُقسم وقته بين التجارة و الفقه و العبادة قسمة عادلة في أخذه بالاستحسان في المعاملات و في عنايته بأحكام عقود البيوع علي أساس من الأمانة و حفظ الحقوق .
عاش أبو حنيفة خمسين سنة من حياته في العصر الأموي، و عشرين سنة في العصر العباسي لم يتوقف طوالها عن الإشتغال بالتجارة منذ أن شب عن الطوق إلي أن لقي وجه ربه .
لم يكتب أبو حنيفة أقواله الفقهية بيده بل قام بتدوينه تلاميذه و كانوا يقرأون عليه أقواله في الفروع و يبوبوها في كتب و يضيفون إليها في مؤلفاتهم و أقوالهم في الفقه الحنفي .
و من تلاميذ أبي حنيفة كان أبو يوسف و محمد بن الحسن الشيباني و علي الرازي و غيرهم كانوا من فرسان الفقه الحنفي في الطبقة الأولي من العلماء الأحناف .

و بعد رحيل أبي حنيفة عن الدنيا اكتسب مذهبه نفوذاً في الدولة العباسية من وقت أن صار تلميذه أبو يوسف قاضياً للقضاة في عهود الخلفاء العباسين ( المهدي – الهادي – الرشيد ) و شاع في أكثر البقاع الإسلامية في مصر و الشام و بلاد الروم و العراق و ما وراء النهر و في الهند و الصين حيث لا منافس له و لا مز احم .

و قد بدأ مذهب أبي حنيفة يكتسب نفوذه في أول أمره بسبب اختيار الخلفاء للقضاة من أئمته و المجتهدين فيه ثم تجاوز هذا النفوذ الرسمي له بنشاط علمائه فيه و عملهم علي نشره.
المرجع: من كتاب أئمة الإسلام الأربعة...لسليمان فياض

من قصص الأنبياء / محمد عليه السلام


من قصص الأنبياء / محمد عليه السلام

نبذة:

النبي الأمي العربي، من بني هاشم، ولد في مكة بعد وفاة أبيه عبد الله بأشهر قليلة، توفيت أمه آمنة وهو لا يزال طفلا، كفله جده عبد المطلب ثم عمه أبو طالب، ورعى الغنم لزمن، تزوج من السيدة خديجة بنت خويلد وهو في الخامسة والعشرين من عمره، دعا الناس إلى الإسلام أي إلى الإيمان بالله الواحد ورسوله، بدأ دعوته في مكة فاضطهده أهلها فهاجر إلى المدينة حيث اجتمع حوله عدد من الأنصار عام 622 م فأصبحت هذه السنة بدء التاريخ الهجري، توفي بعد أن حج حجة الوداع.

سيرته:

بهذا النبي الكريم ختم الله سبحانه وتعالى سلسلة هداة البشرية من الأنبياء. وقد تم تناول السيرة النبوية الشريفة بشكل مفصل.

ويوجد بالموقع قسم متعمق يختص بالسيرة النبوية المطهّرة.. ونلخص هنا بعض المعلومات:

أسمائه صلى الله عليه وسلم
وكلها نعوت ليست أعلاما محضة لمجرد التعريف ، بل أسماء مشتقة من " - ص 85 -" صفات قائمة به توجب له المدح والكمال .
فمنها محمد ، وهو أشهرها ، وبه سمي في التوراة صريحا كما بيناه بالبرهان الواضح في كتاب " جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام " وهو كتاب فرد في معناه لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها ، بينا فيه الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه ، وصحيحها من حسنها ومعلولها ، وبينا ما في معلولها من العلل بيانا شافيا ، ثم أسرار هذا الدعاء وشرفه وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد ، ثم مواطن الصلاة عليها ومحالها ، ثم الكلام في مقدار الواجب منها ، واختلاف أهل العلم فيه وترجيح الراجح وتزييف المزيف ، ومخبر الكتاب فوق وصفه .
والمقصود أن اسمه محمد في التوراة صريحا بما يوافق عليه كل عالم من مؤمني أهل الكتاب .
ومنها محمد ، وهو الاسم الذي سماه به المسيح لسر ذكرناه في ذلك الكتاب .
ومنها : المتوكل ، ومنها الماحي ، والحاشر ، والعاقب ، والمقفي ، ونبي التوبة ، ونبي الرحمة ، ونبي الملحمة ، والفاتح ، والأمين .
ويلحق بهذه الأسماء : الشاهد ، والمبشر ، والبشير ، والنذير ، والقاسم ، والضحوك ، والقتال ، وعبد الله ، والسراج المنير ، وسيد ولد آدم ، وصاحب لواء الحمد ، وصاحب المقام المحمود ، وغير ذلك من الأسماء ؛ لأن أسماءه إذا كانت أوصاف مدح فله من كل وصف اسم ، لكن ينبغي أن يفرق بين الوصف المختص به أو الغالب عليه ويشتق له منه اسم ، وبين الوصف المشترك فلا يكون له منه اسم يخصه .
" - ص 86 -" وقال جبير بن مطعم : سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء ، فقال : ( : أنا محمد ، وأنا محمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، والعاقب الذي ليس بعده نبي ) .

وأسماؤه صلى الله عليه وسلم نوعان :
أحدهما : خاص لا يشاركه فيه غيره من الرسل ، كمحمد ، وأحمد ، والعاقب ، والحاشر ، والمقفي ، ونبي الملحمة .
والثاني : ما يشاركه في معناه غيره من الرسل ولكن له منه كماله ، فهو مختص بكماله دون أصله ، كرسول الله ، ونبيه ، وعبده ، والشاهد ، والمبشر ، والنذير ، ونبي الرحمة ، ونبي التوبة .
وأما إن جعل له من كل وصف من أوصافه اسم تجاوزت أسماؤه المائتين ، كالصادق ، والمصدوق ، والرءوف الرحيم ، إلى أمثال ذلك . وفي هذا قال من قال من الناس : إن لله ألف اسم ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم ، قاله أبو الخطاب بن دحية ، ومقصوده الأوصاف .
وكلها نعوت ليست أعلاما محضة لمجرد التعريف ، بل أسماء مشتقة من " - ص 85 -" صفات قائمة به توجب له المدح والكمال .
فمنها محمد ، وهو أشهرها ، وبه سمي في التوراة صريحا كما بيناه بالبرهان الواضح في كتاب " جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام " وهو كتاب فرد في معناه لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها ، بينا فيه الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه ، وصحيحها من حسنها ومعلولها ، وبينا ما في معلولها من العلل بيانا شافيا ، ثم أسرار هذا الدعاء وشرفه وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد ، ثم مواطن الصلاة عليها ومحالها ، ثم الكلام في مقدار الواجب منها ، واختلاف أهل العلم فيه وترجيح الراجح وتزييف المزيف ، ومخبر الكتاب فوق وصفه .
والمقصود أن اسمه محمد في التوراة صريحا بما يوافق عليه كل عالم من مؤمني أهل الكتاب .
ومنها محمد ، وهو الاسم الذي سماه به المسيح لسر ذكرناه في ذلك الكتاب .
ومنها : المتوكل ، ومنها الماحي ، والحاشر ، والعاقب ، والمقفي ، ونبي التوبة ، ونبي الرحمة ، ونبي الملحمة ، والفاتح ، والأمين .
ويلحق بهذه الأسماء : الشاهد ، والمبشر ، والبشير ، والنذير ، والقاسم ، والضحوك ، والقتال ، وعبد الله ، والسراج المنير ، وسيد ولد آدم ، وصاحب لواء الحمد ، وصاحب المقام المحمود ، وغير ذلك من الأسماء ؛ لأن أسماءه إذا كانت أوصاف مدح فله من كل وصف اسم ، لكن ينبغي أن يفرق بين الوصف المختص به أو الغالب عليه ويشتق له منه اسم ، وبين الوصف المشترك فلا يكون له منه اسم يخصه .
" - ص 86 -" وقال جبير بن مطعم : سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء ، فقال : ( : أنا محمد ، وأنا محمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، والعاقب الذي ليس بعده نبي ) .
وأسماؤه صلى الله عليه وسلم نوعان :
أحدهما : خاص لا يشاركه فيه غيره من الرسل ، كمحمد ، وأحمد ، والعاقب ، والحاشر ، والمقفي ، ونبي الملحمة .
والثاني : ما يشاركه في معناه غيره من الرسل ولكن له منه كماله ، فهو مختص بكماله دون أصله ، كرسول الله ، ونبيه ، وعبده ، والشاهد ، والمبشر ، والنذير ، ونبي الرحمة ، ونبي التوبة .
وأما إن جعل له من كل وصف من أوصافه اسم تجاوزت أسماؤه المائتين ، كالصادق ، والمصدوق ، والرءوف الرحيم ، إلى أمثال ذلك . وفي هذا قال من قال من الناس : إن لله ألف اسم ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم ، قاله أبو الخطاب بن دحية ، ومقصوده الأوصاف .

في نسبه صلى الله عليه وسلم

وهو خير أهل الأرض نسبا على الإطلاق ، فلنسبه من الشرف أعلى ذروة ، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك ، ولهذا شهد له به عدوه إذ ذاك أبو سفيان بين يدي ملك الروم ، فأشرف القوم قومه ، وأشرف القبائل قبيلته ، وأشرف الأفخاذ فخذه .
فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
إلى هاهنا معلوم الصحة متفق عليه بين النسابين ، ولا خلاف فيه البتة ، وما فوق " عدنان " مختلف فيه . ولا خلاف بينهم أن " عدنان " من ولد إسماعيل " - ص 71 -" عليه السلام ، وإسماعيل : هو الذبيح " - إسماعيل أم إسحاق - " على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول : هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم ، فإن فيه : إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره ، وفي لفظ : وحيده ، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده ، والذي غر أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم : اذبح ابنك إسحاق ، قال : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم لأنها تناقض قوله : اذبح بكرك ووحيدك ، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف وأحبوا أن يكون لهم ، وأن يسوقوه إليهم ويحتازوه لأنفسهم دون العرب ، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله . وكيف يسوغ أن يقال : إن الذبيح إسحاق ، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب ، فقال تعالى عن الملائكة : إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى : ( لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) [ هود : 70 - 71 ] فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها ولد ثم يأمر بذبحه ، ولا ريب أن يعقوب رضي الله عنه داخل في البشارة ، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد ، وهذا ظاهر الكلام وسياقه .
فإن قيل : لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان " يعقوب " مجرورا عطفا على " - ص 72 -" إسحاق ، فكانت القراءة ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) أي : ويعقوب من وراء إسحاق . قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشرا به ؛ لأن البشارة قول مخصوص ، وهي أول خبر سار صادق . وقوله تعالى : ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) جملة متضمنة لهذه القيود ، فتكون بشارة ، بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية . ولما كانت البشارة قولا كان موضع هذه الجملة نصبا على الحكاية بالقول ، كأن المعنى : وقلنا لها : من وراء إسحاق يعقوب ، والقائل إذا قال : بشرت فلانا بقدوم أخيه وثقله في أثره لم يعقل منه إلا بشارته بالأمرين جميعا . هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة ، ثم يضعف الجر أمر آخر وهو ضعف قولك : مررت بزيد ومن بعده عمرو ، ولأن العاطف يقوم مقام حرف الجر ، فلا يفصل بينه وبين المجرور ، كما لا يفصل بين حرف الجر والمجرور . ويدل عليه أيضا أن الله سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة ( الصافات ) قال : ( فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ) [ الصافات : 103 - 111 ] . ثم قال تعالى : ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ) [ الصافات : 112 ] . فهذه بشارة من الله تعالى له شكرا على صبره على ما أمر به ، وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول ، بل هو كالنص فيه .
فإن قيل : فالبشارة الثانية وقعت على نبوته ، أي لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوة .
قيل : البشارة وقعت على المجموع : على ذاته ووجوده ، وأن يكون نبيا ، ولهذا نصب " نبيا " على الحال المقدر ، أي : مقدرا نبوته ، فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل ، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة ، هذا محال من الكلام ، بل إذا وقعت البشارة على نبوته فوقوعها على وجوده أولى وأحرى .
" - ص 73 -"
وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها ، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه ، وإقامة لذكر الله ، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه ، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل ، وكان النحر بمكة من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا ، ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة .
وأيضا فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليما ؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه . ولما ذكر إسحاق سماه عليما ، فقال تعالى : ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون ) الذاريات : 24 - 25 ] إلى أن قال : ( قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم ) [ الذاريات : 28 ] وهذا إسحاق بلا ريب لأنه من امرأته ، وهي المبشرة به ، وأما إسماعيل فمن السرية ، وأيضا فإنهما بشرا به على الكبر واليأس من الولد ، وهذا بخلاف إسماعيل ، فإنه ولد قبل ذلك .
وأيضا فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده ، وإبراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبة من قلبه بمحبته ، والله تعالى قد اتخذه خليلا ، والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة ، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها ، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل ، فأمره بذبح المحبوب ، فلما أقدم على ذبحه وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة ، فلم يبق في الذبح مصلحة ، إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس عليه ، فقد حصل المقصود فنسخ الأمر وفدي الذبيح ، وصدق الخليل الرؤيا ، وحصل مراد الرب .
" - ص 74 -" ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار إنما حصل عند أول مولود ، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول ، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الأمر بذبحه ، وهذا في غاية الظهور .
وأيضا فإن سارة امرأة الخليل صلى الله عليه وسلم غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة ، فإنها كانت جارية ، فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة " سارة " فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها " هاجر " وابنها ويسكنها في أرض مكة لتبرد عن " سارة " حرارة الغيرة ، وهذا من رحمته تعالى ورأفته ، فكيف يأمره سبحانه بعد هذا أن يذبح ابنها ويدع ابن الجارية بحاله ، هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وجبره لها ، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية ، بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية ، فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها ، وتتبدل قسوة الغيرة رحمة ، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها ، وأن الله لا يضيع بيتا هذه وابنها منهم ، وليري عباده جبره بعد الكسر ، ولطفه بعد الشدة ، وأن عاقبة صبر " هاجر " وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين ، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة ، وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره . قال تعالى : ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) [ القصص : 5 ] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
ولنرجع إلى المقصود من سيرته صلى الله عليه وسلم وهديه وأخلاقه لا خلاف أنه ولد صلى الله عليه وسلم بجوف مكة ، وأن مولده كان عام الفيل " - الرسول عليه السلام - " ، وكان أمر الفيل تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته ، وإلا فأصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كتاب ، وكان دينهم خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك ؛ لأنهم كانوا عباد أوثان فنصرهم الله على " - ص 75 -" أهل الكتاب نصرا لا صنع للبشر فيه ، إرهاصا وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة ، وتعظيما للبيت الحرام .
واختلف في وفاة أبيه عبد الله ، هل توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل " - عبد الله أبو الرسول - " ، أو توفي بعد ولادته ؟ على قولين : أصحهما : أنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل .
والثاني : أنه توفي بعد ولادته بسبعة أشهر . ولا خلاف أن أمه ماتت بين مكة والمدينة " بالأبواء " منصرفها من المدينة من زيارة أخواله ، ولم يستكمل إذ ذاك سبع سنين .
وكفله جده عبد المطلب ، وتوفي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمان سنين " - جد الرسول - " ، وقيل : ست ، وقيل : عشر ، ثم كفله عمه أبو طالب ، واستمرت كفالته له ، فلما بلغ ثنتي عشرة سنة خرج به عمه إلى الشام ، وقيل : كانت سنه تسع سنين ، وفي هذه الخرجة رآه بحيرى الراهب وأمر عمه ألا يقدم به إلى الشام خوفا عليه من اليهود ، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة ، ووقع في كتاب الترمذي وغيره أنه بعث معه بلالا ، وهو من الغلط الواضح ، فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا ، وإن كان فلم يكن مع عمه ولا مع أبي بكر . وذكر البزار في " مسنده " هذا الحديث ولم يقل : وأرسل معه عمه بلالا ، ولكن قال : رجلا .
فلما بلغ خمسا وعشرين سنة خرج إلى الشام في تجارة ، فوصل إلى " - ص 76 -" " بصرى " ثم رجع فتزوج عقب رجوعه خديجة بنت خويلد ، وقيل تزوجها وله ثلاثون سنة ، وقيل إحدى وعشرون ، وسنها أربعون ، وهي أول امرأة تزوجها ، وأول امرأة ماتت من نسائه ، ولم ينكح عليها غيرها ، وأمره جبريل أن يقرأ عليها السلام من ربها .
ثم حبب الله إليه الخلوة والتعبد لربه ، وكان يخلو بـ " غار حراء " يتعبد فيه الليالي ذوات العدد ، وبغضت إليه الأوثان ودين قومه ، فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك .
فلما كمل له أربعون ، أشرق عليه نور النبوة وأكرمه الله تعالى برسالته ، وبعثه إلى خلقه واختصه بكرامته ، وجعله أمينه بينه وبين عباده . ولا خلاف أن مبعثه صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين ، واختلف في شهر المبعث . فقيل : لثمان مضين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل ، هذا قول الأكثرين ، وقيل : بل كان ذلك في رمضان ، واحتج هؤلاء بقوله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) [ البقرة : 185 ] قالوا : أول ما أكرمه الله " - ص 77 -" تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن ، وإلى هذا ذهب جماعة منهم يحيى الصرصري حيث يقول في نونيته :
وأتت عليه أربعون فأشرقت شمس النبوة منه في رمضان

والأولون قالوا : إنما كان إنزال القرآن في رمضان جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة ، ثم أنزل منجما بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة .
وقالت طائفة : أنزل فيه القرآن ، أي في شأنه وتعظيمه وفرض صومه .
وقيل : كان ابتداء المبعث في شهر رجب .
وكمل الله له من مراتب الوحي مراتب عديدة :
إحداها :
الرؤيا الصادقة ، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح .
الثانية : ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله ، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ) .
" - ص 78 -"
الثالثة : أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلا فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له ، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانا .
الرابعة : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس ، وكان أشده عليه ، فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد ، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها . ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ " - ص 79 -" زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها .
الخامسة : أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها ، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه ، وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في [ النجم : 7 ، 13 ] .
السادسة : ما أوحاه الله وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها .
السابعة : كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك ، كما كلم الله موسى بن عمران ، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعا بنص القرآن ، وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء .
وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة ، وهي تكليم الله له كفاحا من غير حجاب ، وهذا على مذهب من يقول : إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه تبارك وتعالى ، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف ، وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعا للصحابة .

من قصص الأنبياء / عيسى عليه السلام


من قصص الأنبياء / عيسى عليه السلام

نبذة:

مثل عيسى مثل آدم خلقه الله من تراب وقال له كن فيكون، هو عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وهو الذي بشر بالنبي محمد، آتاه الله البينات وأيده بروح القدس وكان وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين، كلم الناس في المهد وكهلا وكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا، ويبرئ الأكمه والأبرص ويخرج الموتى كل بإذن الله، دعا المسيح قومه لعبادة الله الواحد الأحد ولكنهم أبوا واستكبروا وعارضوه، ولم يؤمن به سوى بسطاء قومه، رفعه الله إلى السماء وسيهبط حينما يشاء الله إلى الأرض ليكون شهيدا على الناس.

سيرته:

الحديث عن نبي الله عيسى عليه السلام، يستدعي الحديث عن أمه مريم، بل وعن ذرية آل عمران هذه الذرية التي اصطفاها الله تعالى واختارها، كما اختار آدم ونوحا وآل إبراهيم على العالمين.

آل عمران أسرة كريمة مكونة من عمران والد مريم، وامرأة عمران أم مريم، ومريم، وعيسى عليه السلام؛ فعمران جد عيسى لأمه، وامرأة عمران جدته لأمه، وكان عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه، وكانت زوجته امرأة عمران امرأة صالحة كذلك، وكانت لا تلد، فدعت الله تعالى أن يرزقها ولدا، ونذرت أن تجعله مفرغا للعبادة ولخدمة بيت المقدس، فاستجاب الله دعاءها، ولكن شاء الله أن تلد أنثى هي مريم، وجعل الله تعالى كفالتها ورعايتها إلى زكريا عليه السلام، وهو زوج خالتها، وإنما قدر الله ذلك لتقتبس منه علما نافعا، وعملا صالحا.

كانت مريم مثالا للعبادة والتقوى، وأسبغ الله تعالى عليها فضله ونعمه مما لفت أنظار الآخرين، فكان زكريا عليه السلام كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا، فيسألها من أين لك هذا، فتجيب: (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ).

كل ذلك إنما كان تمهيدا للمعجزة العظمى؛ حيث ولد عيسى عليه السلام من هذه المرأة الطاهرة النقية، دون أن يكون له أب كسائر الخلق، واستمع إلى بداية القصة كما أوردها القرآن الكريم، قال تعالى:

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (42) (آل عمران)

بهذه الكلمات البسيطة فهمت مريم أن الله يختارها، ويطهرها ويختارها ويجعلها على رأس نساء الوجود.. هذا الوجود، والوجود الذي لم يخلق بعد.. هي أعظم فتاة في الدنيا وبعد قيامة الأموات وخلق الآخرة.. وعادت الملائكة تتحدث:

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) (آل عمران)

ولادة عيسى عليه السلام:

كان الأمر الصادر بعد البشارة أن تزيد من خشوعها، وسجودها وركوعها لله.. وملأ قلب مريم إحساس مفاجئ بأن شيئا عظيما يوشك أن يقع.. ويروي الله تعالى في القرآن الكريم قصة ولادة عيسى عليه السلام فيقول:

وَاذكُر فِى الكِتَابِ مَريَمَ إِذِ انتَبَذَت مِن أَهلِهَا مَكَاناً شَرقِياً (16) فَاتخَذَت مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرسَلنَا إِلَيهَا رُوحَنَا فَتَمَثلَ لَهَا بَشَراً سَوِياً (17) قَالَت إِني أَعُوذُ بِالرحمَـنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِياً (18) قَالَ إِنمَا أَنَا رَسُولُ رَبكِ لأهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِياً (19) قَالَت أنى يَكُونُ لِى غُلامٌ وَلَم يَمسَسنِى بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِياً (20) قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبكَ هُوَ عَلَى هَينٌ وَلِنَجعَلَهُ ءايَةً للناسِ وَرَحمَةً منا وَكَانَ أَمراً مقضِياً (21) (مريم)

جاء جبريل –عليه السلام- لمريم وهي في المحراب على صورة بشر في غاية الجمال. فخافت مريم وقالت: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا) أرادت أن تحتمي في الله.. وسألته هل هو إنسان طيب يعرف الله ويتقيه.

فجاء جوابه ليطمئنها بأنه يخاف الله ويتقيه:(قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا)

اطمئنت مريم للغريب، لكن سرعان ما تذكّرت ما قاله (لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) استغربت مريم العذراء من ذلك.. فلم يمسسها بشر من قبل.. ولم تتزوج، ولم يخطبها أحد، كيف تنجب بغير زواج!! فقالت لرسول ربّها: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا)

قال الروح الأمين: (كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا)

استقبل عقل مريم كلمات الروح الأمين.. ألم يقل لها إن هذا هو أمر الله ..؟ وكل شيء ينفذ إذا أمر الله.. ثم أي غرابة في أن تلد بغير أن يمسسها بشر..؟ لقد خلق الله سبحانه وتعالى آدم من غير أب أو أم، لم يكن هناك ذكر وأنثى قبل خلق آدم. وخلقت حواء من آدم فهي قد خلقت من ذكر بغير أنثى.. ويخلق ابنها من غير أب.. يخلق من أنثى بغير ذكر.. والعادة أن يخلق الإنسان من ذكر وأنثى.. العادة أن يكون له أب وأم.. لكن المعجزة تقع عندما يريد الله تعالى أن تقع.. عاد جبريل عليه السلام يتحدث: (إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ)

زادت دهشة مريم.. قبل أن تحمله في بطنها تعرف اسمه.. وتعرف أنه سيكون وجيها عند الله وعند الناس، وتعرف أنه سيكلم الناس وهو طفل وهو كبير.. وقبل أن يتحرك فم مريم بسؤال آخر.. نفخ جبريل عليه السلام في جيب مريم –الجيب هو شق الثوب الذي يكون في الصدر- فحملت فورا.

ومرت الأيام.. كان حملها يختلف عن حمل النساء.. لم تمرض ولم تشعر بثقل ولا أحست أن شيئا زاد عليها ولا ارتفع بطنها كعادة النساء.. كان حملها به نعمة طيبة. وجاء الشهر التاسع.. وفي العلماء من يقول إن الفاء تفيد التعقيب السريع.. بمعنى أن مريم لم تحمل بعيسى تسعة أشهر، وإنما ولدته مباشرة كمعجزة..

خرجت مريم ذات يوم إلى مكان بعيد.. إنها تحس أن شيئا سيقع اليوم.. لكنها لا تعرف حقيقة هذا الشيء.. قادتها قدماها إلى مكان يمتلئ بالشجر.. والنخل، مكان لا يقصده أحد لبعده.. مكان لا يعرفه غيرها.. لم يكن الناس يعرفون أن مريم حامل.. وإنها ستلد.. كان المحراب مغلقا عليها، والناس يعرفون أنها تتعبد فلا يقترب منها أحد..

جلست مريم تستريح تحت جذع نخلة؛ لم تكن نخلة كاملة، إنما جذع فقط، لتظهر معجزات الله سبحانه وتعالى لمريم عند ولادة عيسى فيطمئن قلبها.. وراحت تفكر في نفسها.. كانت تشعر بألم.. وراح الألم يتزايد ويجيء في مراحل متقاربة.. وبدأت مريم تلد..

فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) (مريم)

إن ألم الميلاد يحمل لنفس العذراء الطاهرة آلاما أخرى تتوقعها ولم تقع بعد.. كيف يستقبل الناس طفلها هذا..؟ وماذا يقولون عنها..؟ إنهم يعرفون أنها عذراء.. فكيف تلد العذراء..؟ هل يصدق الناس أنها ولدته بغير أن يمسسها بشر..؟ وتصورت نظرات الشك.. وكلمات الفضول.. وتعليقات الناس.. وامتلأ قلبها بالحزن..

وولدت في نفس اللحظة من قدر عليه أن يحمل في قلبه أحزان البشرية.. لم تكد مريم تنتهي من تمنيها الموت والنسيان، حتى نادها الطفل الذي ولد:

فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) (مريم)

نظرت مريم إلى المسيح.. سمعته يطلب منها أن تكف عن حزنها.. ويطلب منها أن تهز جذع النخلة لتسقط عليها بعض ثمارها الشهية.. فلتأكل، ولتشرب، ولتمتلئ بالسلام والفرح ولا تفكر في شيء.. فإذا رأت من البشر أحدا فلتقل لهم أنها نذرت للرحمن صوما فلن تكلم اليوم إنسانا.. ولتدع له الباقي..

لم تكد تلمس جذعها حتى تساقط عليها رطب شهي.. فأكلت وشربت ولفت الطفل في ملابسها.. كان تفكير مريم العذراء كله يدور حول مركز واحد.. هو عيسى، وهي تتساءل بينها وبين نفسها: كيف يستقبله اليهود..؟ ماذا يقولون فيه..؟ هل يصدق أحد من كهنة اليهود الذين يعيشون على الغش والخديعة والسرقة..؟ هل يصدق أحدهم وهو بعيد عن الله أن الله هو الذي رزقها هذا الطفل؟ إن موعد خلوتها ينتهي، ولا بد أن تعود إلى قومها.. فماذا يقولون الناس؟

مواجهة القوم:

كان الوقت عصرا حين عادت مريم.. وكان السوق الكبير الذي يقع في طريقها إلى المسجد يمتلئ بالناس الذي فرغوا من البيع والشراء وجلسوا يثرثرون. لم تكد مريم تتوسط السوق حتى لاحظ الناس أنها تحمل طفلا، وتضمه لصدرها وتمشي به في جلال وبطئ..

تسائل أحد الفضوليين: أليست هذه مريم العذراء..؟ طفل من هذا الذي تحمله على صدرها..؟

قال أحدهم: هو طفلها.. ترى أي قصة ستخرج بها علينا..؟

وجاء كهنة اليهود يسألونها.. ابن من هذا يا مريم؟ لماذا لا تردين؟ هو ابنك قطعا.. كيف جاءك ولد وأنت عذراء؟

يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) (مريم)

الكلمة ترمي مريم بالبغاء.. هكذا مباشرة دون استماع أو تحقيق أو تثبت.. ترميها بالبغاء وتعيرها بأنها من بيت طيب وليست أمها بغيا.. فكيف صارت هي كذلك؟ راحت الاتهامات تسقط عليها وهي مرفوعة الرأس.. تومض عيناها بالكبرياء والأمومة.. ويشع من وجهها نور يفيض بالثقة.. فلما زادت الأسئلة، وضاق الحال، وانحصر المجال، وامتنع المقال، اشتد توكلها على ذي الجلال وأشارت إليه..

أشارت بيدها لعيسى.. واندهش الناس.. فهموا أنها صائمة عن الكلام وترجو منهم أن يسألوه هو كيف جاء.. تساءل الكهنة ورؤساء اليهود كيف يوجهون السؤال لطفل ولد منذ أيام.. هل يتكلم طفل في لفافته..؟!

قالوا لمريم: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا).

قال عيسى:

قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) (مريم)

لم يكد عيسى ينتهي من كلامه حتى كانت وجوه الكهنة والأحبار ممتقعة وشاحبة.. كانوا يشهدون معجزة تقع أمامهم مباشرة.. هذا طفل يتكلم في مهده.. طفل جاء بغير أب.. طفل يقول أن الله قد آتاه الكتاب وجعله نبيا.. هذا يعني إن سلطتهم في طريقها إلى الانهيار.. سيصبح كل واحد فيهم بلا قيمة عندما يكبر هذا الطفل.. لن يستطيع أن يبيع الغفران للناس، أو يحكمهم عن طريق ادعائه أنه ظل السماء على الأرض، أو باعتباره الوحيد العارف في الشريعة.. شعر كهنة اليهود بالمأساة الشخصية التي جاءتهم بميلاد هذا الطفل.. إن مجرد مجيء المسيح يعني إعادة الناس إلى عبادة الله وحده.. وهذا معناه إعدام الديانة اليهودية الحالية.. فالفرق بين تعاليم موسى وتصرفات اليهود كان يشبه الفرق بين نجوم السماء ووحل الطرقات.. وتكتم رهبان اليهود قصة ميلاد عيسى وكلامه في المهد.. واتهموا مريم العذراء ببهتان عظيم.. اتهموها بالبغاء.. رغم أنهم عاينوا بأنفسهم معجزة كلام ابنها في المهد.

وتخبرنا بعض الروايات أن مريم هاجرت بعيسى إلى مصر، بينما تخبرنا روايات أخرى بأن هجرتها كانت من بيت لحم لبيت المقدس. إلا أن المعروف لدينا هو أن هذه الهجرة كانت قبل بعثته.

معجزاته:

كبر عيسى.. ونزل عليه الوحي، وأعطاه الله الإنجيل. وكان عمره آنذاك -كما يرى الكثير من العلماء- ثلاثون سنة. وأظهر الله على يديه المعجزات. يقول المولى عزّ وجل في كتابه عن معجزات عيسى عليه السلام:

وَيُعَلمُهُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَالتورَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسرائيلَ أني قَد جِئتُكُم بِآيَةٍ من ربكُم أَنِي أَخلُقُ لَكُم منَ الطينِ كَهَيئَةِ الطيرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيرًا بِإِذنِ اللهِ وَأُبرِىْ الأكمَهَ والأبرَصَ وَأُحي المَوتَى بِإِذنِ اللهِ وَأُنَبئُكُم بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدخِرُونَ فِى بُيُوتِكُم إِن فِي ذلِكَ لآيَةً لكُم إِن كُنتُم مؤمِنِينَ (49) وَمُصَدقًا لمَا بَينَ يَدَي مِنَ التورَاةِ وَلأحِل لَكُم بَعضَ الذِي حُرمَ عَلَيكُم وَجِئتُكُم بِآيَةٍ من ربكُم فَاتقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِن اللهَ رَبي وَرَبكُم فَاعبُدُوهُ هَـذَا صِراطٌ مستَقِيمٌ (51) (آل عمران)

فكان عيسى –عليه السلام- رسولا لبني إسرائيل فقط. ومعجزاته هي:

علّمه الله التوراة.

يصنع من الطين شكل الطير ثم ينفخ فيه فيصبح طيرا حيّا يطير أمام أعينهم.

يعالج الأكمه (وهو من ولد أعمى)، فيمسح على عينيه أمامهم فيبصر.

يعالج الأبرص (وهو المرض الذي يصيب الجلد فيجعل لونه أبيضا)، فيسمح على جسمه فيعود سليما.

يخبرهم بما يخبئون في بيوتهم، وما أعدّت لهم زوجاتهم من طعام.

وكان –عليه السلام- يحيي الموتى.

إيمان الحواريون:

جاء عيسى ليخفف عن بني إسرائيل بإباحة بعض الأمور التي حرمتها التوراة عليهم عقابا لهم. إلا أن بني إسرائيل –مع كل هذه الآيات- كفروا. قال تعالى:

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) (آل عمران)

وقال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) (الصف)

قيل أن عدد الحواريين كان سبعة عشر رجلا، لكن الروايات الأرجح أنهم كانوا اثني عشر رجلا. آمن الحواريون، لكن التردد لا يزال موجودا في نفوسهم. قال الله تعالى قصة هذا التردد:

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (115) (المائدة)

استجاب الله عز وجل، لكنه حذّرهم من الكفر بعد هذه الآية التي جاءت تلبية لطلبهم. نزلت المائدة، وأكل الحواريون منها، وظلوا على إيمانهم وتصديقهم لعيسى –عليه السلام- إلا رجل واحد كفر بعد رفع عيسى عليه السلام.

رفع عيسى عليه السلام:

لما بدأ الناس يتحدثون عن معجزات عيسى عليه السلام، خاف رهبان اليهود أن يتبع الناس الدين الجديد فيضيع سلطانهم. فذهبوا لمَلك تلك المناطق وكان تابعا للروم. وقالوا له أن عيسى يزعم أنه مَلك اليهود، وسيأخذ المُلك منك. فخاف المَلك وأمر بالبحث عن عيسى –عليه السلام- ليقتله.

جاءت روايات كثيرة جدا عن رفع عيسى –عليه السلام- إلى السماء، معظمها من الإسرائيليات أو نقلا عن الإنجيل. وسنشير إلى أرجح رواية هنا.

عندما بلغ عيسى عليه السلام أنهم يريدون قتله، خرج على أصحابه وسألهم من منهم مستعد أن يلقي الله عليه شبهه فيصلب بدلا منه ويكون معه في الجنة. فقام شاب، فحنّ عليه عيسى عليه السلام لأنه لا يزال شابا. فسألهم مرة ثانية، فقام نفس الشاب. فنزل عليه شبه عيسى عليه السلام، ورفع الله عيسى أمام أعين الحواريين إلى السماء. وجاء اليهود وأخذوا الشبه وقتلوه ثم صلبوه. ثم أمسك اليهود الحواريين فكفر واحد منهم. ثم أطلقوهم خشية أن يغضب الناس. فظل الحواريون يدعون بالسر. وظل النصارى على التوحيد أكثر من مئتين سنة. ثم آمن أحد ملوك الروم واسمه قسطنطين، وأدخل الشركيات في دين النصارى.

يقول ابن عباس: افترق النصارى ثلاث فرق. فقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء. وقالت طائفة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه. وقلت طائفة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء ثم رفعه الله إليه. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا –صلى الله عليه وسلم- فذلك قول الله تعالى: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ).

وقال تعالى عن رفعه:

وَقَولِهِم إِنا قَتَلنَا المَسِيحَ عِيسَى ابنَ مَريَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبهَ لَهُم وَإِن الذِينَ اختَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَك منهُ مَا لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ إِلا اتبَاعَ الظن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَل رفَعَهُ اللهُ إِلَيهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِن من أَهلِ الكِتَابِ إِلا لَيُؤمِنَن بِهِ قَبلَ مَوتِهِ وَيَومَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيهِم شَهِيداً (159) (النساء)

لا يزال عيسى –عليه السلام- حيا. ويدل على ذلك أحاديث صحيحة كثيرة. والحديث الجامع لها في مسند الإمام أحمد:

حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا يحيى، عن ابن أبي عروبة قال: ثنا قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة،: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأنبياء إخوة لعلات، دينهم واحد وأمهاتهم شتى، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وأنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل بين ممصرتين، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، و يعطل الملل حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب، وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الإبل مع الأسد جميعاً، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا يضر بعضهم بعضاً، فيمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يتوفى، فيصلي عليه المسلمون و يدفنونه.)

(مربوع) ليس بالطويل وليس بالقصير، (إلى الحمرة والبياض) وجهه أبيض فيه احمرار، (سبط) شعره ناعم، (ممصرتين) عصاتين أو منارتين وفي الحديث الآخر ينزل عند المنارة البيضاء من مسجد دمشق.

وفي الحديث الصحيح الآخر يحدد لنا رسولنا الكريم مدة مكوثه في الأرض فيقول: (فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى، و يصلي عليه المسلمون).

لا بد أن يذوق الإنسان الموت. عيسى لم يمت وإنما رفع إلى السماء، لذلك سيذوق الموت في نهاية الزمان.

ويخبرنا المولى عز وجل بحوار لم يقع بعد، هو حواره مع عيسى عليه السلام يوم القيامة فيقول:

وَإِذ قَالَ اللهُ يا عِيسَى ابنَ مَريَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلناسِ اتخِذُونِي وَأُميَ إِلَـهَينِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَن أَقُولَ مَا لَيسَ لِي بِحَق إِن كُنتُ قُلتُهُ فَقَد عَلِمتَهُ تَعلَمُ مَا فِى نَفسِي وَلاَ أَعلَمُ مَا فِى نَفسِكَ إِنكَ أَنتَ عَلامُ الغُيُوبِ (116) مَا قُلتُ لَهُم إِلا مَا أَمَرتَنِي بِهِ أَنِ اعبُدُوا اللهَ رَبي وَرَبكُم وَكُنتُ عَلَيهِم شَهِيداً ما دُمتُ فِيهِم فَلَما تَوَفيتَنِي كُنتَ أَنتَ الرقِيبَ عَلَيهِم وَأَنتَ عَلَى كُل شَىء شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذبهُم فَإِنهُم عِبَادُكَ وَإِن تَغفِر لَهُم فَإِنكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (118) (المائدة)

هذا هو عيسى بن مريم عليه السلام، آخر الرسل قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

من قصص الأنبياء / يحيى عليه السلام


من قصص الأنبياء / يحيى عليه السلام

نبذة:

ابن نبي الله زكريا، ولد استجابة لدعاء زكريا لله أن يرزقه الذرية الصالحة فجعل آية مولده أن لا يكلم الناس ثلاث ليال سويا، وقد كان يحيى نبيا وحصورا ومن الصالحين ، كما كان بارا تقيا ورعا منذ صباه.

سيرته:

ذكر خبر ولادة يحيى عليه السلام في قصة نبي الله زكريا. وقد شهد الحق عز وجل له أنه لم يجعل له من قبل شبيها ولا مثيلا، وهو النبي الذي قال الحق عنه: (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا)..

ومثلما أوتي الخضر علما من لدن الله، أوتي يحيي حنانا من لدن الله، والعلم مفهوم، والحنان هو العلم الشمولي الذي يشيع في نسيجه حب عميق للكائنات ورحمة بها، كأن الحنان درجة من درجات الحب الذي ينبع من العلم.

ولقد كان يحيي في الأنبياء نموذجا لا مثيل له في النسك والزهد والحب الإلهي.. هو النبي الناسك. كان يضيء حبا لكل الكائنات، وأحبه الناس وأحبته الطيور والوحوش والصحاري والجبال، ثم أهدرت دمه كلمة حق قالها في بلاط ملك ظالم، بشأن أمر يتصل براقصة بغي.

فضل يحيى عليه السلام:

يذكر العلماء فضل يحيي ويوردون لذلك أمثلة كثيرة. كان يحيي معاصرا لعيسى وقريبه من جهة الأم (ابن خالة أمه)..

وتروي السنة أن يحيي وعيسى التقيا يوما.

فقال عيسى ليحيي: استغفر لي يا يحيي.. أنت خير مني.

قال يحيي: استغفر لي يا عيسى. أنت خير مني.

قال عيسى: بل أنت خير مني.. سلمت على نفسي وسلم الله عليك.

تشير القصة إلى فضل يحيي حين سلم الله عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.

ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه يوما فوجدهم يتذاكرون فضل الأنبياء.

قال قائل: موسى كليم الله.

وقال قائل: عيسى روح الله وكلمته.

وقال قائل: إبراهيم خليل الله.

ومضى الصحابة يتحدثون عن الأنبياء، فتدخل الرسول عليه الصلاة والسلام حين رآهم لا يذكرون يحيي. أين الشهيد ابن الشهيد؟ يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب. أين يحيي بن زكريا؟

نشأته:

ولد يحيي عليه السلام.. كان ميلاده معجزة.. فقد جاء لأبيه زكريا بعد عمر طال حتى يئس الشيخ من الذرية.. وجاء بعد دعوة نقية تحرك بها قلب النبي زكريا.

ولد يحيي عليه السلام فجاءت طفولته غريبة عن دنيا الأطفال.. كان معظم الأطفال يمارسون اللهو، أما هو فكان جادا طوال الوقت.. كان بعض الأطفال يتسلى بتعذيب الحيوانات، وكان يحيي يطعم الحيوانات والطيور من طعامه رحمة بها، وحنانا عليها، ويبقى هو بغير طعام.. أو يأكل من أوراق الشجر أو ثمارها.

وكلما كبر يحيي في السن زاد النور في وجهه وامتلأ قلبه بالحكمة وحب الله والمعرفة والسلام. وكان يحيي يحب القراءة، وكان يقرأ في العلم من طفولته.. فلما صار صبيا نادته رحمة ربه: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا).

صدر الأمر ليحيي وهو صبي أن يأخذ الكتاب بقوة، بمعنى أن يدرس الكتاب بإحكام، كتاب الشريعة.. رزقه الله الإقبال على معرفة الشريعة والقضاء بين الناس وهو صبي.. كان أعلم الناس وأشدهم حكمة في زمانه درس الشريعة دراسة كاملة، ولهذا السبب آتاه الله الحكم وهو صبي.. كان يحكم بين الناس، ويبين لهم أسرار الدين، ويعرفهم طريق الصواب ويحذرهم من طريق الخطأ.

وكبر يحيي فزاد علمه، وزادت رحمته، وزاد حنانه بوالديه، والناس، والمخلوقات، والطيور، والأشجار.. حتى عم حنانه الدنيا وملأها بالرحمة.. كان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب، وكان يدعو الله لهم.. ولم يكن هناك إنسان يكره يحيي أو يتمنى له الضرر. كان محبوبا لحنانه وزكاته وتقواه وعلمه وفضله.. ثم زاد يحيي على ذلك بالتنسك.

وكان يحيي إذا وقف بين الناس ليدعوهم إلى الله أبكاهم من الحب والخشوع.. وأثر في قلوبهم بصدق الكلمات وكونها قريبة العهد من الله وعلى عهد الله..

وجاء صباح خرج فيه يحيي على الناس.. امتلأ المسجد بالناس، ووقف يحيي بن زكريا وبدأ يتحدث.. قال: إن الله عز وجل أمرني بكلمات أعمل بها، وآمركم أن تعملوا بها.. أن تعبدوا الله وحده بلا شريك.. فمن أشرك بالله وعبد غيره فهو مثل عبد اشتراه سيده فراح يعمل ويؤدي ثمن عمله لسيد غير سيده.. أيكم يحب أن يكون عبده كذلك..؟ وآمركم بالصلاة لأن الله ينظر إلى عبده وهو يصلي، ما لم يلتفت عن صلاته.. فإذا صليتم فاخشعوا.. وآمركم بالصيام.. فان مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك جميل الرائحة، كلما سار هذا الرجل فاحت منه رائحة المسك المعطر. وآمركم بذكر الله عز وجل كثيرا، فان مثل ذلك كمثل رجل طلبه أعداؤه فأسرع لحصن حصين فأغلقه عليه.. وأعظم الحصون ذكر الله.. ولا نجاة بغير هذا الحصن.

مواجهة الملك:

كان أحد ملوك ذلك الزمان طاغية ضيق العقل غبي القلب يستبد برأيه، وكان الفساد منتشرا في بلاطه.. وكان يسمع أنباء متفرقة عن يحيي فيدهش لأن الناس يحبون أحدا بهذا القدر، وهو ملك ورغم ذلك لا يحبه أحد.

وكان الملك يريد الزواج من ابنة أخيه، حيث أعجبه جمالها، وهي أيضا طمعت بالملك، وشجعتها أمها على ذلك. وكانوا يعلمون أن هذا حرام في دينهم. فأرد الملك أن يأخذ الإذن من يحيى عليه السلام. فذهبوا يستفتون يحيى ويغرونه بالأموال ليستثني الملك.

لم يكن لدى الفتاة أي حرج من الزواج بالحرام، فلقد كانت بغيّ فاجرة. لكن يحيى عليه السلام أعلن أمام الناس تحريم زواج البنت من عمّها. حتى يعلم الناس –إن فعلها الملك- أن هذا انحراف. فغضب الملك وأسقط في يده، فامتنع عن الزواج.

لكن الفتاة كانت لا تزال طامعة في الملك. وفي إحدى الليالي الفاجرة أخذت البنت تغني وترقص فأرادها الملك لنفسهن فأبت وقالت: إلا أن تتزوجني. قال: كيف أتزوجك وقد نهانا يحيى. قالت: ائتني برأس يحيى مهرا لي. وأغرته إغراء شديدا فأمر في حينه بإحضار رأس يحيى له.

فذهب الجنود ودخلوا على يحيى وهو يصلي في المحراب. وقتلوه، وقدموا رأسه على صحن للملك، فقدّم الصحن إلى هذه البغيّ وتزوجها بالحرام.

2014-07-15

من قصص الأنبياء / زكريا عليه السلام


من قصص الأنبياء / زكريا عليه السلام

نبذة:

عبد صالح تقي أخذ يدعو للدين الحنيف، كفل مريم العذراء، دعا الله أن يرزقه ذرية صالحة فوهب له يحيى الذي خلفه في الدعوة لعبادة الله الواحد القهار.

سيرته:

امرأة عمران:


في ذلك العصر القديم.. كان هناك نبي.. وعالم عظيم يصلي بالناس.. كان اسم النبي زكريا عليه السلام.. أما العالم العظيم الذي اختاره الله للصلاة بالناس، فكان اسمه عمران عليه السلام.

وكان لعمران زوجته لا تلد.. وذات يوم رأت طائرا يطعم ابنه الطفل في فمه ويسقيه.. ويأخذه تحت جناحه خوفا عليه من البرد.. وذكرها هذا المشهد بنفسها فتمنت على الله أن تلد.. ورفعت يديها وراحت تدعو خالقها أن يرزقها بطفل..

واستجابت لها رحمة الله فأحست ذات يوم أنها حامل.. وملأها الفرح والشكر لله فنذرت ما في بطنها محررا لله.. كان معنى هذا أنها نذرت لله أن يكون ابنها خادما للمسجد طوال حياته.. يتفرغ لعبادة الله وخدمة بيته.

ولادة مريم:

وجاء يوم الوضع ووضعت زوجة عمران بنتا، وفوجئت الأم! كانت تريد ولدا ليكون في خدمة المسجد والعبادة، فلما جاء المولود أنثى قررت الأم أن تفي بنذرها لله برغم أن الذكر ليس كالأنثى.

سمع الله سبحانه وتعالى دعاء زوجة عمران، والله يسمع ما نقوله، وما نهمس به لأنفسنا، وما نتمنى أن نقوله ولا نفعله.. يسمع الله هذا كله ويعرفه.. سمع الله زوجة عمران وهي تخبره أنها قد وضعت بنتا، والله أعلم بما وضعت، الله.. هو وحده الذي يختار نوع المولود فيخلقه ذكرا أو يخلقه أنثى.. سمع الله زوجة عمران تسأله أن يحفظ هذه الفتاة التي سمتها مريم، وأن يحفظ ذريتها من الشيطان الرجيم.

ويروي الإمام مسلم في صحيحه: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ إِلاَّ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ». ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).

كفالة زكريا لمريم:

أثار ميلاد مريم بنت عمران مشكلة صغيرة في بداية الأمر.. كان عمران قد مات قبل ولادة مريم.. وأراد علماء ذلك الزمان وشيوخه أن يربوا مريم.. كل واحد يتسابق لنيل هذا الشرف.. أن يربي ابنة شيخهم الجليل العالم وصاحب صلاتهم وإمامهم فيها.

قال زكريا: أكفلها أنا.. هي قريبتي.. زوجتي هي خالتها.. وأنا نبي هذه الأمة وأولاكم بها.

وقال العلماء والشيوخ: ولماذا لا يكفلها أحدنا..؟ لا نستطيع أن نتركك تحصل على هذا الفضل بغير اشتراكنا فيه.

ثم اتفقوا على إجراء قرعة. أي واحد يكسب القرعة هو الذي يكفل مريم، ويربيها، ويكون له شرف خدمتها، حتى تكبر هي وهي تخدم المسجد وتتفرغ لعبادة الله، وأجريت القرعة.. وضعت مريم وهي مولودة على الأرض، ووضعت إلى جوارها أقلام الذين يرغبون في كفالتها، وأحضروا طفلا صغيرا، فأخرج قلم زكريا..

قال زكريا: حكم الله لي بأن أكفلها.

قال العلماء والشيوخ: لا.. القرعة ثلاث مرات.

وراحوا يفكرون في القرعة الثانية.. حفر كل واحد اسمه على قلم خشبي، وقالوا: نلقي بأقلامنا في النهر.. من سار قلمه ضد التيار وحده فهو الغالب.

وألقوا أقلامهم في النهر، فسارت أقلامهم جميعا مع التيار ما عدا قلم زكريا.. سار وحده ضد التيار.. وظن زكريا أنهم سيقتنعون، لكنهم أصروا على أن تكون القرعة ثلاث مرات. قالوا: نلقي أقلامنا في النهر.. القلم الذي يسير مع التيار وحده يأخذ مريم. وألقوا أقلامهم فسارت جميعا ضد التيار ما عدا قلم زكريا. وسلموا لزكريا، وأعطوه مريم ليكفلها.. وبدأ زكريا يخدم مريم، ويربيها ويكرمها حتى كبرت..

كان لها مكان خاص تعيش فيه في المسجد.. كان لها محراب تتعبد فيه.. وكانت لا تغادر مكانها إلا قليلا.. يذهب وقتها كله في الصلاة والعبادة.. والذكر والشكر والحب لله..

وكان زكريا يزورها أحيانا في المحراب.. وكان يفاجأه كلما دخل عليها أنه أمام شيء مدهش.. يكون الوقت صيفا فيجد عندها فاكهة الشتاء.. ويكون الوقت شتاء فيجد عندها فاكهة الصيف.

ويسألها زكريا من أين جاءها هذا الرزق..؟

فتجيب مريم: إنه من عند الله..

وتكرر هذا المشهد أكثر من مرة.

دعاء زكريا ربه:

كان زكريا شيخا عجوزا ضعف عظمه، واشتعل رأسه بالشعر الأبيض، وأحس أنه لن يعيش طويلا.. وكانت زوجته وهي خالة مريم عجوزا مثله ولم تلد من قبل في حياتها لأنها عاقر.. وكان زكريا يتمنى أن يكون له ولد يرث علمه ويصير نبيا ويستطيع أن يهدي قومه ويدعوهم إلى كتاب الله ومغفرته.. وكان زكريا لا يقول أفكاره هذه لأحد.. حتى لزوجته.. ولكن الله تعالى كان يعرفها قبل أن تقال.. ودخل زكريا ذلك الصباح على مريم في المحراب.. فوجد عندها فاكهة ليس هذا أوانها.

سألها زكريا: (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا)؟!

مريم: (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ).

قال زكريا في نفسه: سبحان الله.. قادر على كل شيء.. وغرس الحنين أعلامه في قلبه وتمنى الذرية.. فدعا ربه.

سأل زكريا خالقه بغير أن يرفع صوته أن يرزقه طفلا يرث النبوة والحكمة والفضل والعلم.. وكان زكريا خائفا أن يضل القوم من بعده ولم يبعث فيهم نبي.. فرحم الله تعالى زكريا واستجاب له. فلم يكد زكريا يهمس في قلبه بدعائه لله حتى نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا).

فوجئ زكريا بهذه البشرى.. أن يكون له ولد لا شبيه له أو مثيل من قبل.. أحس زكريا من فرط الفرح باضطراب.. تسائل من موضع الدهشة: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أدهشه أن ينجب وهو عجوز وامرأته لا تلد..

(قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) أفهمته الملائكة أن هذه مشيئة الله وليس أمام مشيئة الله إلا النفاذ.. وليس هناك شيء يصعب على الله سبحانه وتعالى.. كل شيء يريده يأمره بالوجود فيوجد.. وقد خلق الله زكريا نفسه من قبل ولم يكن له وجود.. وكل شيء يخلقه الله تعالى بمجرد المشيئة (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

امتلأ قلب زكريا بالشكر لله وحمده وتمجيده.. وسأل ربه أن يجعل له آية أو علامة. فأخبره الله أنه ستجيء عليه ثلاثة أيام لا يستطيع فيها النطق.. سيجد نفسه غير قادر على الكلام.. سيكون صحيح المزاج غير معتل.. إذا حدث له هذا أيقن أن امرأته حامل، وأن معجزة الله قد تحققت.. وعليه ساعتها أن يتحدث إلى الناس عن طريق الإشارة.. وأن يسبح الله كثيرا في الصباح والمساء..

وخرج زكريا يوما على الناس وقلبه مليء بالشكر.. وأراد أن يكلمهم فاكتشف أن لسانه لا ينطق.. وعرف أن معجزة الله قد تحققت.. فأومأ إلى قومه أن يسبحوا الله في الفجر والعشاء.. وراح هو يسبح الله في قلبه.. صلى لله شكرا على استجابته لدعوته ومنحه يحيي..

ظل زكريا عليه السلام يدعوا إلى ربه حتى جاءت وفاته.

ولم ترد روايات صحيحة عن وفاته عليه السلام. لكن ورايات كثير -ضعيفة- أوردت قتله على يد جنود الملك الذي قتل يحيى من قبل.

من قصص الأنبياء / عزيز عليه السلام


من قصص الأنبياء / عزيز عليه السلام

نبذة:

من أنبياء بني إسرائيل، أماته الله مئة عام ثم بعثه، جدد الدين لبني إسرائيل وعلمهم التوراة بعد أن نسوها.

سيرته:

مرت الأيام على بني إسرائيل في فلسطين، وانحرفوا كثير عن منهج الله عز وجل. فأراد الله أن يجدد دينهم، بعد أن فقدوا التوراة ونسوا كثيرا من آياتها، فبعث الله تعالى إليهم عزيرا.

أمر الله سبحانه وتعالى عزيرا أن يذهب إلى قرية. فذهب إليها فوجدها خرابا، ليس فيها بشر. فوقف متعجبا، كيف يرسله الله إلى قرية خاوية ليس فيها بشر. وقف مستغربا، ينتظر أن يحييها الله وهو واقف! لأنه مبعوث إليها. فأماته الله مئة عام. قبض الله روحه وهو نائم، ثم بعثه. فاستيقظ عزير من نومه.

فأرسل الله له ملكا في صورة بشر: (قَالَ كَمْ لَبِثْتَ).

فأجاب عزير: (قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). نمت يوما أو عدة أيام على أكثر تقدير.

فرد الملك: (قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ). ويعقب الملك مشيرا إلى إعجاز الله عز وجل (فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ) أمره بأن ينظر لطعامه الذي ظل بجانبه مئة سنة، فرآه سليما كما تركه، لم ينتن ولم يتغير طعمه او ريحه. ثم أشار له إلى حماره، فرآه قد مات وتحول إلى جلد وعظم. ثم بين له الملك السر في ذلك (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ). ويختتم كلامه بأمر عجيب (وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) نظر عزير للحمار فرأى عظامه تتحرك فتتجمع فتتشكل بشكل الحمار، ثم بدأ اللحم يكسوها، ثم الجلد ثم الشعر، فاكتمل الحمار أمام عينيه.

يخبرنا المولى بما قاله عزير في هذا الموقف: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

سبحان الله أي إعجاز هذا.. ثم خرج إلى القرية، فرآها قد عمرت وامتلأت بالناس. فسألهم: هل تعرفون عزيرا؟ قالوا: نعم نعرفه، وقد مات منذ مئة سنة. فقال لهم: أنا عزير. فأنكروا عليه ذلك. ثم جاءوا بعجوز معمّرة، وسألوها عن أوصافه، فوصفته لهم، فتأكدوا أنه عزير.

فأخذ يعلمهم التوراة ويجددها لهم، فبدأ الناس يقبلون عليه وعلى هذا الدين من جديد، وأحبوه حبا شديدا وقدّسوه للإعجاز الذي ظهر فيه، حتى وصل تقديسهم له أن قالوا عنه أنه ابن الله (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ).

واستمر انحراف اليهود بتقديس عزير واعتباره ابنا لله تعالى –ولا زالوا يعتقدون بهذا إلى اليوم- وهذا من شركهم لعنهم الله.

من قصص الأنبياء / اليسع عليه السلام


من قصص الأنبياء / اليسع عليه السلام

نبذة:

من العبدة الأخيار ورد ذكره في التوراة كما ذكر في القرآن مرتين ، ويذكر أنه أقام من الموت إنسانا كمعجزة.

سيرته:

من أنبياء الله تعالى، الذين يذكر الحق أسمائهم ويثني عليهم، ولا يحكي قصصهم.. نبي الله تعالى اليسع.

قال تعالى في سورة (ص): وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ

وقال جل جلاله في سورة (الأنعام) : وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ

جاء في تاريخ الطبري حول ذكر نسبة أنه اليسع بن أخطوب ويقال أنه ابن عم إلياس النبي عليهما السلام ، وذكر الحافظ ابن عساكر نسبة على الوجه الآتي: اسمه أسباط بن عدي بن شوتلم بن أفرائيم بن يوسف الصديق عليه السلام وهو من أنبياء بني إسرائيل، وقد أوجز القرآن الكريم عن حياته فلم يذكر عنها شيئاً وإنما اكتفى بعده في مجموعة الرسل الكرام الذي يجب الإيمان بهم تفصيلاً.

قام بتبليغ الدعوة بعد انتقال إلياس إلى جوار الله فقام يدعو إلى الله مستمسكاً بمنهاج نبي الله إلياس وشريعته وقد كثرت في زمانه الأحداث والخطايا وكثر الملوك الجبابرة فقتلوا الأنبياء وشردوا المؤمنين فوعظهم اليسع وخوفهم من عذاب الله ولكنهم لم يأبهوا بدعوته ثم توفاه الله وسلط على بني إسرائيل من يسومهم سوء العذاب كما قص علينا القرآن الكريم. ويذكر بعض المؤرخين أن دعوته في مدينة تسعى بانياس إحدى مدن الشام، ولا تزال حتى الآن موجودة وهي قريبة من بلدة اللاذقية والله أعلم.

وأرجح الأقوال أن اليسع هو اليشع الذي تتحدث عنه التوراة.. ويذكر القديس برنابا أنه أقام من الموت إنسانا كمعجزة.

اليسع وذو الكفل:

ويروي بعض العلماء قصة حدثت في زمن اليسع عليه السلام.

فيروى أنه لما كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس فقال: من يتقبل لي بثلاث استخلفه: يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب. فقام رجل تزدريه العين، فقال: أنا، فقال: أنت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟ قال: نعم. لكن اليسع -عليه السلام- ردّ الناس ذلك اليوم دون أن يستخلف أحدا. وفي اليوم التالي خرج اليسع -عليه السلام- على قومه وقال مثل ما قال اليوم الأول، فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال أنا. فاستخلف اليسع ذلك الرجل.

فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان، فأعياهم ذلك. فقال دعوني وإياه فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام الليل والنهار، إلا تلك النّومة فدقّ الباب. فقال ذو الكفل: من هذا؟ قال: شيخ كبير مظلوم. فقام ذو الكفل ففتح الباب. فبدأ الشيخ يحدّثه عن خصومة بينه وبين قومه، وما فعلوه به، وكيف ظلموه، وأخذ يطوّل في الحديث حتى حضر موعد مجلس ذو الكفل بين الناس، وذهبت القائلة. فقال ذو الكفل: إذا رحت للمجلس فإنني آخذ لك بحقّك.

فخرج الشيخ وخرج ذو الكفل لمجلسه دون أن ينام. لكن الشيخ لم يحضر للمجلس. وانفض المجلس دون أن يحضر الشيخ. وعقد المجلس في اليوم التالي، لكن الشيخ لم يحضر أيضا. ولما رجع ذو الكفل لمنزله عند القائلة ليضطجع أتاه الشيخ فدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فاتني؟ فقال الشيخ: إنهم اخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا لي نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني. فقال ذو الكفل: انطلق الآن فإذا رحت مجلسي فأتني.

ففاتته القائلة، فراح مجلسه وانتظر الشيخ فلا يراه وشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعنَّ أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق عليّ النوم. فقدم الشيخ، فمنعوه من الدخول، فقال: قد أتيته أمس، فذكرت لذي الكفل أمري، فقالوا: لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحداً يقربه. فقام الشيخ وتسوّر الحائط ودخل البيت ودق الباب من الداخل، فاستيقظ ذو الكفل، وقال لأهله: ألم آمركم ألا يدخل علي أحد؟ فقالوا: لم ندع أحدا يقترب، فانظر من أين دخل. فقام ذو الكفل إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه؟ وإذا الرجل معه في البيت، فعرفه فقال: أَعَدُوَّ اللهِ؟ قال: نعم أعييتني في كل شيء ففعلت كل ما ترى لأغضبك.

فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به!