الإمام مالك بن أنس ( إمام أهل السنة )
مقدمة
لا احد يعطى صوره صادقه وحية عن أحد مثل معاصريه ومريديه من العلماء والتلاميذ من رفاق العلم وأهل العلم وطلاب العلم... وشهادات هؤلاء تضع مالكا في مرتبه الإمام، فهو في الذروة من العلم بالسنة، وهو في الذروة من العلم بالفقه، فقد بلغ فيه درجة جعلته فقيه الحجاز الأوحد وهو بين المحدثين إمام.
ويُعد مِن أول من دون علم الحديث في كتابه (الموطأ)... أول صحيح مجموع مدون للحديث، وهو بين الفقهاء ثاقب النظر يجمع في فقهه بين الإلتزام بنصوص القرآن والسنة، وفتاوى الصحابة ومراعاة مصالح الناس في كل فتاواه... بل إنه الفقيه المحدث كان اشد الفقهاء مراعاة للمصالح الدنيوية للناس في فقهه.
شهادة العلماء له:
قال سفيان بن عُيينة: رحم الله مالكا ما كان أشد إنتقاءه للرجال وما نحن عند مالك... إنما كنا نتتبع آثار مالك، فهو لا يبلغ من الحديث إلا حديثا صحيحا، ولا يحدث إلا عن ثقات الناس... وما أرى المدينة إلا ستخرب بعد مالك بن أنس.
وقال الليث بن سعد إمام أهل مصر: علم مالك علم تُقي... أمان لمن أخذ عنه من الأنام.
وقال الإمام الشافعي: إذ جاءك الأثر عن مالك فَشُدّ به، وإذا جاء الخبر فمالك النجم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم، ولم يبلغ احد في العلم مبلغ مالك لحفظه وإتقانه وصيانته... ومن أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك.
وقال الإمام احمد بن حنبل: مالك سيد من سادات أهل العلم وهو إمام في الحديث والفقه ومن مثل مالك متبع لآثار من مضى مع عقل وأدب.
نشأة مالك بن انس
ولد الإمام مالك بن أنس أبو عامر الاصبحى اليمنى سنة 93هـ وأمه هي "العالية بنت شريك الأزدية" فهو عربي الأب والأم.
ذهب جده الأعلى (أبو عامر) إلى المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقر بها... وتزوج من بني تميم، فربط بينه وبين بني تميم حلف وثقته علاقة الصهر.
وفى المدينة نشأ مالك بن أنس في بيت اشتغل بعلم الأثر وفى بيئة كلها للأثر والحديث، وكان آل بيته مشتغلين بعلم الحديث وأستطلاع آثار السلف وأخبار الصحابة وفتاويهم.
فجِد مالك كان من كبار التابعين وعلمائهم... وأسرة الإمام مالك من الأسر المشهورة بالعلم... وكان لمالك أخ اسمه النُضر يكبره عمراً، يلازم العلماء ويتلقى العلم عليهم، وقد أفاد مالك منه كثيرا في نشأته ولشهرة أخيه دونه آنذاك... كان الناس يعرفون مالكا بأخى النضر فلما ذاع صيت مالك العلمي بين شيوخه وأهل المدينة صار الناس يعرفون النُضرر بأنه اخو مالك.
وفى المدينة حفظ مالك القرآن الكريم وتوجه من بعده إلى حفظ الحديث تحرضه عليه أسرته ويشجعه على الحفظ مناخ المدينة العلمي ... ويروى انه طلب من أهله ان يأذنوا له بالذهاب إلى مجالس العلماء ليكتب عنهم العلم ويدرسه على أيديهم وفى طريق عودته لمنزله ينتهي من حفظ ما تلقاه من علم.
ويروى أن الفقيه "إبن هرمز" قال يوما لخادمته وقد سمعا طرقا على الباب انظري من بالباب – وفتحت الخادمة فلم ترى إلا مالكا فرجعت وأخبرته قائلة "ما وجدت بالباب غير ذلك الأشقر". فقال لها "ادعيه للدخول فذلك عالم الناس"... وقد تأثر الإمام مالك بشخصية الإمام ابن هرمز تأثرا شديدا.
وقد جاء فى بعض الروايات أن السبب الأول فى إكثار الإمام مالك من قول لا أدرى التى كان يجيب بها عما لايعلم هو أنه كان يقتدى بابن هرمز.
ولم يدخر مالك في طلبه للعلم مالا، فلقد نقض سقف بيته وباع خشبه ليتمكن من مواصلة العلم وعاش زمنا في بيت بلا سقف وتعلم بهذا الإصرار.
وقد تلقى أحاديث الرسول صلى الله عله وسلم متتبعا من أجله رواة الحديث في المدينة ومنتقيا الثقات في رواية الحديث.
في المسجد النبوي إتخذ مالك له مجلسا للدرس والإفتاء وهو يدور حول الأربعين من عمره فجلس فى مجلس التابعين وقد صار له حظ كبير من العلم وكان في مجلسه إجلال واحترام وتوقير يحرص هو عليها ويحرص على أن ينالها من الناس ويحرص على أن يسأل شيوخه عن حسن مجلسه في نظر الناس.
وكان لمالك في المدينة مجلسان:
مجلس في المسجد النبوي الشريف: في المكان الذي كان يجلس فيه عمر بن الخطاب للشورى والحكم والقضاء، وهو المكان نفسه الذي كان يجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومجلس في مسكنه: وكان يسكن في دار عبد الله بن مسعود، وفى المجلسين كان مالك يقتفى أثر عمر، وأثر عبد الله بن مسعود ويتأثر بهما يؤثر في فتاواه أن يكون متبعا لا مبتدعا.
ولم يلازم مالك المسجد النبوي في درسه طول حياته... فقد لزم بدرسه مجلسه في بيته عندما مرض بسلس البول وانقطع عن الخروج إلى الناس وعن عقد مجلس علمه في المسجد النبوي لكنه لم ينقطع عن الخروج للصلاة في المسجد.... ولم ينقطع عن الحديث والعلم والدرس والفتوى في بيته.... يشهد الصلوات، والجمعة،والجنائز، ويعود المرضى، ويقضى الحقوق، ويسارع بالعودة إلى بيته.
ولقد عاش مالك طويلا فقارب بعمره التسعين سنة... واجبره مرضه في السنوات الأخيرة من حياته على ملازمة بيته فلا يغادره لاى سبب... فلم يبيح طوال حياته لأحد إنه مريض بمرض سلس البول إلا في لحظة وداعه للدنيا لمن حوله في لحظة الوداع هذه قال "لولا أنى في أخر يوم ما أخبرتكم – مرضى سلس بول وكرهت أن آتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير وضوء – وكرهت أن أذكر علتي فأشكو ربى".
شخصية الإمام مالك
كان مالك منذ صباه حافظة تعي، وصبورا ومثابرا ومخلصا في طلب العلم وصاحب فراسة نفاذه وهيبة ووقار واكتسب الصفتين الأخيرتين في كهولته.
آية حفظه انه كان يسمع في المجلس الواحد نيفا (بضع) وأربعين حديثا مرة واحدة فيحفظها وهو يكتبها عن شيخه... ولقد بلغت أصول أحاديثه المكتوبة أثنى عشر ألف حديث من حديث أهل المدينة كان يحفظها حديثا حديثا برواياتها ولم يحدث مالك طلابه إلا بنحو من ثلثها أو ربعها فهي التي صحت عنده.
كان مالك يقول أنى لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ما اتفق لي فيها رأى إلى الآن, وربما وردت على مسألة فاسهر فيها عامة ليلتي ... وكان إذا سئل عن مسألة قال للسائل : انصرف حتى انظر فينصرف ويتردد (مالك مفكرا) فيها فحدثناه في ذلك التأجيل فبكى وقال " إنى أخاف الله ... ومن أحب أن يجيب عن مسالة فليعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصة في الآخرة".
شكل الإمام مالك
كان مالك من أحسن الناس وجها وأحلاهم عينا وأنقاهم بياضا وأتمهم طولا في جودة بدن كان طويلا جسيما عظيم الهامة أبيض الرأس واللحية شديد البياض في لونه أعين (واسع العينين) حسن الصورة، أشم الأنف عظيم اللحية تبلغ لحيته صدره في سعة وطول وكان يأخذ أطراف شاربه ولا يحلقه ولا يخفيه وكان يترك لشاربه سبلتين طويلتين ويفتل شاربه إذا أهمه أمر.
كان أنس والد مالك صانعا للنبال... لكن مالكا لم يأخذ صنعه أبيه فقد إتجه لطلب العلم وهو حدث صغير، وشارك أخاه النضر بأربعمائة دينار في تجارة البز (الحرير) وكان مالك يبيع معه ويتجر ومن هذه الدنانير الأربعمائة كان يعيش هو وأسرته ويعانى شظف العيش إلى أن أقبلت عليه الدنيا بهدايا فقيه مصر: الليث بن سعد وهدايا الخلفاء من بني العباس.
ففي كل عام كان الليث بن سعد وكان من أغنياء مصر يرسل إلى صديقه الفقيه مالك ابن انس بحمل مائة بعير من خيرات مصر... وبين الحين والحين كان الخلفاء العباسيون يرسلون إليه بالهدايا فتقبلها من المنصور ومن المهدي ومن الهادي والرشيد ولم يكن مالك من المتزهدين في أموال الخلفاء ولم يشك في أخذها كما كان يشك أبو حنيفة لكن مالكا كان يتعفف أن يأخذ ممن دونهم إلا من صديق زاده الله من نعمته.
ويبدو أن مالكا كان يقبل هدايا الخلفاء وعطاياهم على مضض فهو يعرف أنها وسيلة اختبار من الخلفاء للعلماء وعرف أن أموالهم فيها شيء يريب ولذلك كان مالك ينهى غيره عن قبول هذه الهدايا خشية إلا تكون له مثل نيته في دفع حاجته وسد حاجة المحتاجين وأيواء الطلاب الفقراء .
في المسجد النبوي وفى بيته كان درس مالك في أول أمره ثم صار درسه في بيته وحده وفي الحالتين كان مالك يلتزم في درسه الوقار والسكينة والبعد عن لغو القول... ضاربا بذلك المثل لطلاب العلم الجالسين من حوله وكان يقول لطلابه:
من آداب العالم ألا يضحك إلا مبتسماً.
حق على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية... وان يكون متبعا لآثار من مضى وينبغي لأهل العلم أن يخلوا أنفسهم من المزاح وبخاصة إذا ذكروا العلم.
ولقد اخذ أبو حنيفة نفسه بهذا النهج أكثر من خمسين سنة... ولم يأخذ احد عليه لغوا في قول أو مزحة أو تندر بنادرة فمالك كان يعرف التبسط مع طلاب العلم وأصدقائه حين لا يكون في حال درس فإذا اخذ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيبنا كلامه وكأنه ما عرفنا ولا عرفناه .
كان مالك يدخل مغتسلهٍ فيغتسل ويتطيب ويلبس ثيابا جديدة ويضع على رأسه ساجه (لباس رأس كلباس الملوك) ويتعمم ويوضع العود ويخرج إلى القائمين الذين أتوا إليه من المشرق والمغرب كان العلماء وطلاب العلم يفدون إلى مالك لسماع الحديث ويعرفهم حكم المسائل التي يسألون عنها من الكتاب والسنة.
ولقد ازدحمت على بابه الوفود خاصة في مواسم الحج وبسبب هذا الازدحام صار له في تلك المواسم حاجب كالملوك وحراس من تلاميذه ومريديه (يشبهون الشرطة الخاصة اليوم).
وفى الحديث كان مالك يحث أصحابه على أن يحفظوا ويكتبوا ما حفظوه فقد ينسى العقل وتضعف الذاكرة لكنه في الفتاوى لم يكن يحرض أصحابه على كتابة فتاوى ولم يكن يمنعهم منها بل قد يستنكر أحيانا أن يكتبوا عنه كل شيء قائلا لمن يكتب:( لا تكتبها فإنى لا أدرى أأثبت عليها غدا أم لا).
وهو نفسه ما كان يقوله أبو حنيفة لتلاميذه حين تكون الفتوى ظنا أو استحسانا لرأى ولم تكن قاطعة بنص من كتاب أو سنة أو إجماع للصحابة... وكان مالك يستنكر سب الصحابة ويعتبر ذلك جرما كبيرا ويرى إنه إن ساد في بلدهً سب أصحاب من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وجب الخروج منها – ولا ينبغي الإقامة في أرض يكون العمل فيها بغير الحق والسب للسلف"، ومع نهى مالك عن سب الصحابة كان يمتنع عن المفاضلة بينهم خشية أن تؤدى المفاضلة إلى المنازعة وانتقاص أقدار بعضهم.
شيوخ وتلاميذ مالك
ولمالك كان شيوخ و كان له تلاميذ، وتلاميذ تلاميذه.
وتلاميذ مالك وتلاميذهم كانوا هم نقلهً فقهه والواضعون لأصوله فلم يضع مالك لفقهه أصولا مثلما فعل الشافعي من بعده ومن هؤلاء التلاميذ: ابن وهب وعبد الرحمن بن القاسم وأسد بن الفرات وغيرهم.
تلاميذ تلاميذ مالك: سحنون وعبد الملك بن حبيب العتيبى ولهولاء التلاميذ كتب في الفقه المالكي أمهات هي المدونة والواضحة والعتبية والموازية والمدونة دونها أسد، وشرحها سحنون، وراجعها ابن القاسم، وقد تلقاها العلماء المالكيون بالقبول.
وشيوخ مالك المباشرون كانوا سبعة تلقوا علمهم عن ثمانية شيوخ وهؤلاء تلقوا علمهم عن أعلام الصحابة في العلم.
وشيوخ مالك المباشرون هم: ابن هرمز، وأبو الزناد ،وربيعة الرأى، والأنصارى، ونافع، وبحر العلم بن شهاب الذي نهى علمه عن سعيد ابن المسيب وأبو سلمة وغيرهم.
وشيوخ مالك كانوا فريقين: فريق اخذ عنه الفقه والرأى وفريق اخذ عنه الحديث.
واخطر ما استند إليه مالك من أصول بعد القرآن والسنة هو في المصالح المرسلة فالفقه الاسلامى في جملته أساسة مصالح الأمة فما هو مصلحة فيه مطلوب للناس جاءت الأدلة بطلبه... وما هو ضرر منهي عنه تضافرت الأدلة على منعه. فالمصالح المرسلة تعنى سد الذرائع، فوسيلة المحرم محرم، ووسيلة الواجب واجبة، ومآلات الأفعال إليه إن إتجهت نحو المصالح مطلوبة، وإذا عارضتها محرمة، فالدنيا تقوم على مصالح العباد وعلى القسطاس والعدل والقصد الحسن والوسيلة الحسنة.
ومالك يرجع بالنظر إلى الواقع لا إلى المقاصد في الأخذ بالمصالح المرسلة فغاية المصالح تكون في دورانها وجوداً وعدماً مع الواقع وما يقتضيه... وأصول مالك الفقهيه مرنة تخضع عام النص للتخصيص، ومطلق النص للتقييد، وتحقق المصلحة من أقرب طريق، وتجعلها أساسا في الإستدلال... مثل سد الذرائع والأخذ بالعرف، رفعا للحرج، ودفعا للمشقة كلها أصول يكمل بعضها بعضا من القرآن الكريم إلى الأخذ بالعرف والعادات الحسنة.
وبمذهب مالك إختص أهل المغرب والأندلس، منذ أن كان يرحلون للحج إلى مكة وللزيارة للمدينة وقد انتشر هذا المذهب بالبصرة والحجاز وتونس وصقلية والسودان وساد فترة من الزمان في مصر إلى أن غلب عليها المذهب الشافعي.
لمرونة المذهب المالكي كثر الإجتهاد في أصحاب مالك فكانوا (بين مجتهدين منتسبين) هم أصحاب الوجوه الذين لهم حق مخالفة مالك في الفتوى في الفروع و(مجتهدين مخرجين) (وليس لهم حق مخالفة) مالك في الفتوى في الفروع ولهم حق الترجيح فقط (ومجتهدين نفسيين) (وليس لهم حق الفتوى عند البعض ولهم حق الفتوى عند البعض الأخر عند الضرورة).
المرجع : من كتاب أئمة الإسلام الأربعة...لسليمان فياض
مقدمة
لا احد يعطى صوره صادقه وحية عن أحد مثل معاصريه ومريديه من العلماء والتلاميذ من رفاق العلم وأهل العلم وطلاب العلم... وشهادات هؤلاء تضع مالكا في مرتبه الإمام، فهو في الذروة من العلم بالسنة، وهو في الذروة من العلم بالفقه، فقد بلغ فيه درجة جعلته فقيه الحجاز الأوحد وهو بين المحدثين إمام.
ويُعد مِن أول من دون علم الحديث في كتابه (الموطأ)... أول صحيح مجموع مدون للحديث، وهو بين الفقهاء ثاقب النظر يجمع في فقهه بين الإلتزام بنصوص القرآن والسنة، وفتاوى الصحابة ومراعاة مصالح الناس في كل فتاواه... بل إنه الفقيه المحدث كان اشد الفقهاء مراعاة للمصالح الدنيوية للناس في فقهه.
شهادة العلماء له:
قال سفيان بن عُيينة: رحم الله مالكا ما كان أشد إنتقاءه للرجال وما نحن عند مالك... إنما كنا نتتبع آثار مالك، فهو لا يبلغ من الحديث إلا حديثا صحيحا، ولا يحدث إلا عن ثقات الناس... وما أرى المدينة إلا ستخرب بعد مالك بن أنس.
وقال الليث بن سعد إمام أهل مصر: علم مالك علم تُقي... أمان لمن أخذ عنه من الأنام.
وقال الإمام الشافعي: إذ جاءك الأثر عن مالك فَشُدّ به، وإذا جاء الخبر فمالك النجم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم، ولم يبلغ احد في العلم مبلغ مالك لحفظه وإتقانه وصيانته... ومن أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك.
وقال الإمام احمد بن حنبل: مالك سيد من سادات أهل العلم وهو إمام في الحديث والفقه ومن مثل مالك متبع لآثار من مضى مع عقل وأدب.
نشأة مالك بن انس
ولد الإمام مالك بن أنس أبو عامر الاصبحى اليمنى سنة 93هـ وأمه هي "العالية بنت شريك الأزدية" فهو عربي الأب والأم.
ذهب جده الأعلى (أبو عامر) إلى المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقر بها... وتزوج من بني تميم، فربط بينه وبين بني تميم حلف وثقته علاقة الصهر.
وفى المدينة نشأ مالك بن أنس في بيت اشتغل بعلم الأثر وفى بيئة كلها للأثر والحديث، وكان آل بيته مشتغلين بعلم الحديث وأستطلاع آثار السلف وأخبار الصحابة وفتاويهم.
فجِد مالك كان من كبار التابعين وعلمائهم... وأسرة الإمام مالك من الأسر المشهورة بالعلم... وكان لمالك أخ اسمه النُضر يكبره عمراً، يلازم العلماء ويتلقى العلم عليهم، وقد أفاد مالك منه كثيرا في نشأته ولشهرة أخيه دونه آنذاك... كان الناس يعرفون مالكا بأخى النضر فلما ذاع صيت مالك العلمي بين شيوخه وأهل المدينة صار الناس يعرفون النُضرر بأنه اخو مالك.
وفى المدينة حفظ مالك القرآن الكريم وتوجه من بعده إلى حفظ الحديث تحرضه عليه أسرته ويشجعه على الحفظ مناخ المدينة العلمي ... ويروى انه طلب من أهله ان يأذنوا له بالذهاب إلى مجالس العلماء ليكتب عنهم العلم ويدرسه على أيديهم وفى طريق عودته لمنزله ينتهي من حفظ ما تلقاه من علم.
ويروى أن الفقيه "إبن هرمز" قال يوما لخادمته وقد سمعا طرقا على الباب انظري من بالباب – وفتحت الخادمة فلم ترى إلا مالكا فرجعت وأخبرته قائلة "ما وجدت بالباب غير ذلك الأشقر". فقال لها "ادعيه للدخول فذلك عالم الناس"... وقد تأثر الإمام مالك بشخصية الإمام ابن هرمز تأثرا شديدا.
وقد جاء فى بعض الروايات أن السبب الأول فى إكثار الإمام مالك من قول لا أدرى التى كان يجيب بها عما لايعلم هو أنه كان يقتدى بابن هرمز.
ولم يدخر مالك في طلبه للعلم مالا، فلقد نقض سقف بيته وباع خشبه ليتمكن من مواصلة العلم وعاش زمنا في بيت بلا سقف وتعلم بهذا الإصرار.
وقد تلقى أحاديث الرسول صلى الله عله وسلم متتبعا من أجله رواة الحديث في المدينة ومنتقيا الثقات في رواية الحديث.
في المسجد النبوي إتخذ مالك له مجلسا للدرس والإفتاء وهو يدور حول الأربعين من عمره فجلس فى مجلس التابعين وقد صار له حظ كبير من العلم وكان في مجلسه إجلال واحترام وتوقير يحرص هو عليها ويحرص على أن ينالها من الناس ويحرص على أن يسأل شيوخه عن حسن مجلسه في نظر الناس.
وكان لمالك في المدينة مجلسان:
مجلس في المسجد النبوي الشريف: في المكان الذي كان يجلس فيه عمر بن الخطاب للشورى والحكم والقضاء، وهو المكان نفسه الذي كان يجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومجلس في مسكنه: وكان يسكن في دار عبد الله بن مسعود، وفى المجلسين كان مالك يقتفى أثر عمر، وأثر عبد الله بن مسعود ويتأثر بهما يؤثر في فتاواه أن يكون متبعا لا مبتدعا.
ولم يلازم مالك المسجد النبوي في درسه طول حياته... فقد لزم بدرسه مجلسه في بيته عندما مرض بسلس البول وانقطع عن الخروج إلى الناس وعن عقد مجلس علمه في المسجد النبوي لكنه لم ينقطع عن الخروج للصلاة في المسجد.... ولم ينقطع عن الحديث والعلم والدرس والفتوى في بيته.... يشهد الصلوات، والجمعة،والجنائز، ويعود المرضى، ويقضى الحقوق، ويسارع بالعودة إلى بيته.
ولقد عاش مالك طويلا فقارب بعمره التسعين سنة... واجبره مرضه في السنوات الأخيرة من حياته على ملازمة بيته فلا يغادره لاى سبب... فلم يبيح طوال حياته لأحد إنه مريض بمرض سلس البول إلا في لحظة وداعه للدنيا لمن حوله في لحظة الوداع هذه قال "لولا أنى في أخر يوم ما أخبرتكم – مرضى سلس بول وكرهت أن آتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير وضوء – وكرهت أن أذكر علتي فأشكو ربى".
شخصية الإمام مالك
كان مالك منذ صباه حافظة تعي، وصبورا ومثابرا ومخلصا في طلب العلم وصاحب فراسة نفاذه وهيبة ووقار واكتسب الصفتين الأخيرتين في كهولته.
آية حفظه انه كان يسمع في المجلس الواحد نيفا (بضع) وأربعين حديثا مرة واحدة فيحفظها وهو يكتبها عن شيخه... ولقد بلغت أصول أحاديثه المكتوبة أثنى عشر ألف حديث من حديث أهل المدينة كان يحفظها حديثا حديثا برواياتها ولم يحدث مالك طلابه إلا بنحو من ثلثها أو ربعها فهي التي صحت عنده.
كان مالك يقول أنى لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ما اتفق لي فيها رأى إلى الآن, وربما وردت على مسألة فاسهر فيها عامة ليلتي ... وكان إذا سئل عن مسألة قال للسائل : انصرف حتى انظر فينصرف ويتردد (مالك مفكرا) فيها فحدثناه في ذلك التأجيل فبكى وقال " إنى أخاف الله ... ومن أحب أن يجيب عن مسالة فليعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصة في الآخرة".
شكل الإمام مالك
كان مالك من أحسن الناس وجها وأحلاهم عينا وأنقاهم بياضا وأتمهم طولا في جودة بدن كان طويلا جسيما عظيم الهامة أبيض الرأس واللحية شديد البياض في لونه أعين (واسع العينين) حسن الصورة، أشم الأنف عظيم اللحية تبلغ لحيته صدره في سعة وطول وكان يأخذ أطراف شاربه ولا يحلقه ولا يخفيه وكان يترك لشاربه سبلتين طويلتين ويفتل شاربه إذا أهمه أمر.
كان أنس والد مالك صانعا للنبال... لكن مالكا لم يأخذ صنعه أبيه فقد إتجه لطلب العلم وهو حدث صغير، وشارك أخاه النضر بأربعمائة دينار في تجارة البز (الحرير) وكان مالك يبيع معه ويتجر ومن هذه الدنانير الأربعمائة كان يعيش هو وأسرته ويعانى شظف العيش إلى أن أقبلت عليه الدنيا بهدايا فقيه مصر: الليث بن سعد وهدايا الخلفاء من بني العباس.
ففي كل عام كان الليث بن سعد وكان من أغنياء مصر يرسل إلى صديقه الفقيه مالك ابن انس بحمل مائة بعير من خيرات مصر... وبين الحين والحين كان الخلفاء العباسيون يرسلون إليه بالهدايا فتقبلها من المنصور ومن المهدي ومن الهادي والرشيد ولم يكن مالك من المتزهدين في أموال الخلفاء ولم يشك في أخذها كما كان يشك أبو حنيفة لكن مالكا كان يتعفف أن يأخذ ممن دونهم إلا من صديق زاده الله من نعمته.
ويبدو أن مالكا كان يقبل هدايا الخلفاء وعطاياهم على مضض فهو يعرف أنها وسيلة اختبار من الخلفاء للعلماء وعرف أن أموالهم فيها شيء يريب ولذلك كان مالك ينهى غيره عن قبول هذه الهدايا خشية إلا تكون له مثل نيته في دفع حاجته وسد حاجة المحتاجين وأيواء الطلاب الفقراء .
في المسجد النبوي وفى بيته كان درس مالك في أول أمره ثم صار درسه في بيته وحده وفي الحالتين كان مالك يلتزم في درسه الوقار والسكينة والبعد عن لغو القول... ضاربا بذلك المثل لطلاب العلم الجالسين من حوله وكان يقول لطلابه:
من آداب العالم ألا يضحك إلا مبتسماً.
حق على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية... وان يكون متبعا لآثار من مضى وينبغي لأهل العلم أن يخلوا أنفسهم من المزاح وبخاصة إذا ذكروا العلم.
ولقد اخذ أبو حنيفة نفسه بهذا النهج أكثر من خمسين سنة... ولم يأخذ احد عليه لغوا في قول أو مزحة أو تندر بنادرة فمالك كان يعرف التبسط مع طلاب العلم وأصدقائه حين لا يكون في حال درس فإذا اخذ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيبنا كلامه وكأنه ما عرفنا ولا عرفناه .
كان مالك يدخل مغتسلهٍ فيغتسل ويتطيب ويلبس ثيابا جديدة ويضع على رأسه ساجه (لباس رأس كلباس الملوك) ويتعمم ويوضع العود ويخرج إلى القائمين الذين أتوا إليه من المشرق والمغرب كان العلماء وطلاب العلم يفدون إلى مالك لسماع الحديث ويعرفهم حكم المسائل التي يسألون عنها من الكتاب والسنة.
ولقد ازدحمت على بابه الوفود خاصة في مواسم الحج وبسبب هذا الازدحام صار له في تلك المواسم حاجب كالملوك وحراس من تلاميذه ومريديه (يشبهون الشرطة الخاصة اليوم).
وفى الحديث كان مالك يحث أصحابه على أن يحفظوا ويكتبوا ما حفظوه فقد ينسى العقل وتضعف الذاكرة لكنه في الفتاوى لم يكن يحرض أصحابه على كتابة فتاوى ولم يكن يمنعهم منها بل قد يستنكر أحيانا أن يكتبوا عنه كل شيء قائلا لمن يكتب:( لا تكتبها فإنى لا أدرى أأثبت عليها غدا أم لا).
وهو نفسه ما كان يقوله أبو حنيفة لتلاميذه حين تكون الفتوى ظنا أو استحسانا لرأى ولم تكن قاطعة بنص من كتاب أو سنة أو إجماع للصحابة... وكان مالك يستنكر سب الصحابة ويعتبر ذلك جرما كبيرا ويرى إنه إن ساد في بلدهً سب أصحاب من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وجب الخروج منها – ولا ينبغي الإقامة في أرض يكون العمل فيها بغير الحق والسب للسلف"، ومع نهى مالك عن سب الصحابة كان يمتنع عن المفاضلة بينهم خشية أن تؤدى المفاضلة إلى المنازعة وانتقاص أقدار بعضهم.
شيوخ وتلاميذ مالك
ولمالك كان شيوخ و كان له تلاميذ، وتلاميذ تلاميذه.
وتلاميذ مالك وتلاميذهم كانوا هم نقلهً فقهه والواضعون لأصوله فلم يضع مالك لفقهه أصولا مثلما فعل الشافعي من بعده ومن هؤلاء التلاميذ: ابن وهب وعبد الرحمن بن القاسم وأسد بن الفرات وغيرهم.
تلاميذ تلاميذ مالك: سحنون وعبد الملك بن حبيب العتيبى ولهولاء التلاميذ كتب في الفقه المالكي أمهات هي المدونة والواضحة والعتبية والموازية والمدونة دونها أسد، وشرحها سحنون، وراجعها ابن القاسم، وقد تلقاها العلماء المالكيون بالقبول.
وشيوخ مالك المباشرون كانوا سبعة تلقوا علمهم عن ثمانية شيوخ وهؤلاء تلقوا علمهم عن أعلام الصحابة في العلم.
وشيوخ مالك المباشرون هم: ابن هرمز، وأبو الزناد ،وربيعة الرأى، والأنصارى، ونافع، وبحر العلم بن شهاب الذي نهى علمه عن سعيد ابن المسيب وأبو سلمة وغيرهم.
وشيوخ مالك كانوا فريقين: فريق اخذ عنه الفقه والرأى وفريق اخذ عنه الحديث.
واخطر ما استند إليه مالك من أصول بعد القرآن والسنة هو في المصالح المرسلة فالفقه الاسلامى في جملته أساسة مصالح الأمة فما هو مصلحة فيه مطلوب للناس جاءت الأدلة بطلبه... وما هو ضرر منهي عنه تضافرت الأدلة على منعه. فالمصالح المرسلة تعنى سد الذرائع، فوسيلة المحرم محرم، ووسيلة الواجب واجبة، ومآلات الأفعال إليه إن إتجهت نحو المصالح مطلوبة، وإذا عارضتها محرمة، فالدنيا تقوم على مصالح العباد وعلى القسطاس والعدل والقصد الحسن والوسيلة الحسنة.
ومالك يرجع بالنظر إلى الواقع لا إلى المقاصد في الأخذ بالمصالح المرسلة فغاية المصالح تكون في دورانها وجوداً وعدماً مع الواقع وما يقتضيه... وأصول مالك الفقهيه مرنة تخضع عام النص للتخصيص، ومطلق النص للتقييد، وتحقق المصلحة من أقرب طريق، وتجعلها أساسا في الإستدلال... مثل سد الذرائع والأخذ بالعرف، رفعا للحرج، ودفعا للمشقة كلها أصول يكمل بعضها بعضا من القرآن الكريم إلى الأخذ بالعرف والعادات الحسنة.
وبمذهب مالك إختص أهل المغرب والأندلس، منذ أن كان يرحلون للحج إلى مكة وللزيارة للمدينة وقد انتشر هذا المذهب بالبصرة والحجاز وتونس وصقلية والسودان وساد فترة من الزمان في مصر إلى أن غلب عليها المذهب الشافعي.
لمرونة المذهب المالكي كثر الإجتهاد في أصحاب مالك فكانوا (بين مجتهدين منتسبين) هم أصحاب الوجوه الذين لهم حق مخالفة مالك في الفتوى في الفروع و(مجتهدين مخرجين) (وليس لهم حق مخالفة) مالك في الفتوى في الفروع ولهم حق الترجيح فقط (ومجتهدين نفسيين) (وليس لهم حق الفتوى عند البعض ولهم حق الفتوى عند البعض الأخر عند الضرورة).
المرجع : من كتاب أئمة الإسلام الأربعة...لسليمان فياض
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق