بحث هذه المدونة الإلكترونية

2014-05-09

قرى فلسطينية مهجرة أوراق في التاريخ الشفوي،رشا ابوزيتون،عبد الحميد الفراني،أنوار مرعي


أوراق في التاريخ الشفوي، رشا ابو زيتون، عبد الحميد الفراني، أنوار مرعي
أوراق في التأريخ الشفوي: قرى فلسطينية مهجرة 2008

يحتوي هذا الإصدار على الأوراق الثلاث الفائزة في جائزة العودة للعام 2008 في حقل التاريخ الشفوي، وهي على التوالي:

- "قرية صبارين"للباحثة رشا أبو زيتون الحائزة على المرتبة الأولى في جائزة العودة في حقل التاريخ الشفوي للعام 2008، وهي باحثة في مجال التاريخ الشفوي من مواليد طولكرم.

"قرية حمامة"للباحث عبد الحميد الفراني الحائز على المرتبة الثانية في جائزة العودة في حقل التاريخ الشفوي للعام 2008، وهو من قطاع غزة , ماجستير في التاريخ الإسلامي , ويعمل حاليا كمحاضر بقسم التاريخ والآثار في الجامعة الإسلامية.
- "قرية أبو كشك"للباحثة أنوار مرعي الحائزة على المرتبة الثالثة في جائزة العودة في حقل التاريخ الشفوي للعام 2008 عن بحثها "أبو كشك" وهي تسكن حاليا في مدينة صيدا- طولكرم وتعمل كمدرسة لمادة الجغرافيا.

وقد جاء هذا الإصدار التزاما من مركز بديل بتعهداته المبينة في شروط جائزة العودة الخاصة بحقل التاريخ الشفوي والتي تقضي طباعة ونشر الأوراق الفائزة في الجوائز الثلاث الأولى. وحيث يدرك مركز بديل أن البحث في مواضيع التاريخ الشفوي ذو طبيعة خاصة بما لها من حساسية عالية كونها تتصل بشكل مباشر بأشخاص الرواة، والمروي عنهم، وبوقائع مستمدة من الذاكرة وغيرها، فقد آثر مركز بديل بناء على توصيات أعضاء لجنة التحكيم على قصر عملية التحرير على الجوانب الشكلية والفنية قدر الإمكان.

اضغط هنا لتحميل نسخة مجانية من هذا الاصدار كملف PDF

قرى فلسطينية مُهجَّرة أوراق في التاريخ الشفوي، رشا ابو زيتون، رشاد المدني، مليحة طعمة


قرى فلسطينية مُهجَّرة أوراق في التاريخ الشفوي،
رشا ابو زيتون، رشاد المدني، مليحة طعمة

مركز بديل 2009
المحتـــــــوى :
الحرم - سيدنا علي : للباحثة رشا ابو زيتون
أسدود - للباحث رشاد المدني
الكفرين - للباحثة مليحة طعمة

لتحميل البحث إضغط هنا

التحول الديموغرافي القسري في فلسطين

التحول الديموغرافي القسري في فلسطين

د. يوسف كامل إبراهيم
* تمهيد
أخذ الصراع العربي– الصهيوني منذ بدايته صراعاً على الأرض والسكان، وكان وما يزال الهدف الأساس للحركة الصهيونية أولاً، وإسرائيل لاحقا، هو الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من أرض فلسطين واستعمارها بأكبر عدد ممكن من المستوطنين اليهود القادمين في موجات متلاحقة من المهاجرين، بل إن المقياس الأهم لرصد مدى نجاح الصهيونية في مشروعها الاستعماري في فلسطين، يتلخص في نسبة الأراضي التي استولت عليها منذ بداية نشاطها، ومدى قدرتها على اجتذاب المهاجرين اليهود ونجاحها في استيعابهم وتوطينهم في فلسطين، وعلى هذا الأساس فإن العاملين الجغرافي (الأرض) والديموغرافي تبقى لهما الكلمة الأخيرة في الصراع الذي تخوضه الصهيونية في فلسطين، وما الممارسات الإسرائيلية على الأرض متمثلة في تهجير الفلسطينيين تهجيراً قسرياً من قراهم ومدنهم وانتزاع الأرض من أصحابها الأصليين و السيطرة عليها بكافة الوسائل والطرق، حيث لم يستطيع اليهود إعلان دولتهم إلا بعد أن اكتمل العدد الكافي من المهاجرين إلى فلسطين، ومن هنا بدأ الصراع يظهر على الأرض و أخذ في نهايته شكل الصراع الجغرافي والديموغرافي.

تعتبر الدراسات والأبحاث التي تتناول الحراك الديموغرافى للشعب الفلسطيني من أهم الدراسات نظراً للواقع الديموغرافي الذي ارتبط بالواقع السياسي الذي تعرض فيه الشعب الفلسطيني للإبادة والتهجير وتبعاً للأطماع اليهودية في فلسطين، والتي تركزت أساساً في المحاولات الحثيثة لخلق وجود يهودي قسري فيها، وتبعاً لذلك شهد التطور الديموغرافي والاجتماعي للشعب الفلسطيني اتجاهات غير طبيعية، حيث كان لعامل الهجرة اليهودية إلى فلسطين وطرد العرب أصحاب الأرض الأصليين من وطنهم أثراً مباشراً في تلك التطورات.

فعندما صدر وعد بلفور عام 1917 وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني من عام 1918 حتى عام 1948، حيث تم تقديم التسهيلات اللازمة لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبدأ اليهود بالتدفق بالآلاف وارتفع عددهم من حوالي عشرة آلاف شخص في منتصف القرن التاسع عشر إلى ما يقرب من 62,5 ألف شخص عند بداية الانتداب البريطاني، وإلى ما يقرب من ستمائة وخمسين ألف شخص عند نهاية الانتداب المذكور عام 1948، وبذلك ارتفعت نسبة اليهود إلى مجموع عدد السكان في فلسطين من 8.3% عام 1919 إلى 31.5% في 15 أيار عام 1948.

* بدايات التغيير الجغرافي والديموغرافي:
لقد كان أول تقدير لعدد سكان فلسطين في القرن العشرين في فترة الحكم العثماني، حيث أعلن في عام 1914 و هي السنة التي نشبت فيها الحرب العالمية الأولى. وقدر عدد سكان فلسطين ب689.275 نسمة منهم 8% من اليهود. وبعد خضوع فلسطين للانتداب البريطاني أصبح عدد سكان فلسطين حسب التقدير الرسمي 673.000، منهم 521.000 من المسلمين، و 67.000 من اليهود، و 78.000 من المسيحيين، و 7000 من المذاهب الأخرى، وقد نجم عن نكبة فلسطين أن قسمت فلسطين إلى ثلاث مناطق جغرافية:-

1. الأراضي التي احتلها اليهود بعد حرب عام 1948، وقد شغلت 76.7% من مساحة فلسطين.
2. الضفة الغربية و تشغل 22% من مساحة فلسطين.
3. قطاع غزة و يشغل 1.3% من مساحة فلسطين.

و لم يكتف العدو الصهيوني بأن تبقى رقعة دولتهم على أراضي 1948 (خريطة رقم 1)، وإنما قاموا بالعدوان على أراضي الضفة الغربية و قطاع غزة في العام 1967، و قاموا باحتلالها، و بذلك أصبحت فلسطين جميعها تحت السيطرة اليهودية وعلى أثر هذا العدوان الجديد نزح العديد من سكان الضفة الغربية و قطاع غزة، وانخفض عدد السكان في الضفة الغربية إلى 581.700 نسمة، كما انخفض عدد السكان في قطاع غزة إلى 937.6 ألف نسمة، بينما كان عددهم قبل العام 1967 حوالي 650000 تضاعف خلال الثلاثين سنة تحت الاحتلال.

وللوقوف على صورة المتغيرات الديمغرافية ومدى أثر الهجرة عليها، نرى أن المجموع الكلي لعدد السكان في فلسطين عام 1986 (جميع الديانات) قد بلغ 5.6 مليون نسمة، منهم 3,5 مليون نسمة من اليهود أي ما نسبته حوالي 63% من المجموع الكلي، والباقي من الفلسطينيين أي ما نسبته 37% من المجموع الكلي، يقيم منهم في الضفة الغربية و قطاع غزة حوالي 26% من إجمالي سكان فلسطين، بينما يقيم الباقي داخل دولة إسرائيل، حيث بلغت نسبتهم 11% من إجمالي الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية.

و مع حلول عام 1998 بلغ المجموع الكلي لعدد السكان على أرض فلسطين التاريخية 8.09 مليون نسمة، منهم 5.50 مليون نسمة من سكان دولة الاغتصاب الصهيوني أي ما نسبته حوالي 67.9% منهم حوالي 17% من الفلسطينيين أو ما يطلق عليهم فلسطينيو الداخل (48)، والباقي من الفلسطينيين أي ما نسبته 32.1% من المجموع الكلي، يقيم منهم في الضفة الغربية 1.596.442 نسمة، وحوالي 1.000.175 مليون نسمة في قطاع غزة، وخلال الإحدى عشر عام الماضية استطاعت إسرائيل المحافظة على الميزان الديموغرافى لصالحها على الرغم من ارتفاع نسبة النمو السكاني في الجانب الفلسطيني، ويرجع ذلك إلى موجات الهجرة في هذه السنوات.

* ملامح التغيير الجغرافي والديموغرافي:

اليهود وفلسطين قبل 1948:

إن عملية التمييز بين الاستيطان اليهودي وحركة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني يفرضه تحليل العوامل المختلفة، التي مكنت اليهود من الهجرة إلى فلسطين وإقامة المستوطنات ونشوء نوع من التعايش بينهم وبين سكان البلاد الأصليين من العرب في مرحلة الانتداب البريطاني، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل منها تاريخ العلاقات الحسنة بين العرب واليهود الذي يخلو من الاضطهاد والتعصب، وعدم وجود أهداف سياسية للاستيطان اليهودي في مرحلته الأولى قبل عام 1897، فقد كان جزءاً من حركة الهجرات اليهودية التي خرجت من دول أوروبا الشرقية وشملت مختلف بلاد العالم فلم يكن لليهود أي علاقة بأرض فلسطين إلا علاقة الترحال والتنقل، حيث لا يوجد أي سند تاريخي يؤكد أن هذه الأرض كانت ذات هيمنة يهودية في فترات زمنية طويلة، وإنما كانت هناك باستمرار أحداث مرتبطة باليهود وقعت في هذه الأرض ومن خلال التوراة، نجد أن العبرانيين الأوائل هاجروا إلى أرض كنعان ولم يستقروا في مكان واحد.

* سكان فلسطين قبل النكبة:

لقد بدأ التغلغل اليهودي في فلسطين والعمل على شراء الأراضي في ظل الحماية للامتيازات الأجنبية، إلا أن البدايات الأولى لشراء اليهود أراضي في فلسطين كانت في عام 1855 على يد السير موشي مونتفيوري زمن السلطان عبد المجيد (1839-1861)، حيث أصدر السلطان فرماناً سمح بموجبه لمنتفيوري بشراء أرض في فلسطين، فاشترى أرضاً بالقرب من القدس وقد أقيم عليها فيما بعد الحي اليهودي المعروف بحي مونتفيوري، وفي عام 1870 أنشأت جمعية الأليانس الإسرائيلية مستوطنة (مكفية إسرائيل) على مساحة من الأرض قدرت بحوالي 2600دونم استأجرت من الحكومة العثمانية لمدة 99 سنة من أراضي قرية يازور القريبة من مدينة يافا لصالح وزير العدل الفرنسي كريمو شاولنرنتر، ومنذ عام 1870 حتى العام 1914 امتلك اليهود 420,600دونم اشتريت من غير عرب فلسطين.

ونظراً لطبيعة الحال خلال الفترة الأخيرة للحكم العثماني فقد سعت المنظمات الصهيونية المنبثقة عن الحركة الصهيونية، مثل الصندوق القومي اليهودي، والمصرف اليهودي للمستعمرات، وشركة تطوير أراضي فلسطين، فقد عملت جميعها جاهدة لتمويل التسلل اليهودي إلى فلسطين عبر هجرات مكثفة، أما بالنسبة لمجموعات الهجرة اليهودية إلى فلسطين من سنة 1882 حتى 1948 فيذكر السير موسى مونتفيورى أن عدد اليهود الذين كانوا يعيشون في فلسطين عند زيارته لها في العام 1839 قدر بحوالي ستة آلاف نسمة معظمهم من أصل أسباني، مقابل ما يقارب 300 ألف عربي، أي نسبة اليهود لم تتعد 2% من مجموع سكان فلسطين وبالنسبة لسكان فلسطين، إبان فترة الحكم العثماني لها، فإن المعلومات الإحصائية المتوافرة عن سكان فلسطين خلال الفترة (1542-1916) قليلة ونادرة، ونتج ذلك بسبب اهتمام السلطات العثمانية بالإحصاءات، كان ينحصر في خدمة أغراض التجنيد فقط، فهي لم تكن تبوب البيانات التي تجمعها في جداول منظمة، كما أنها غالباً لم تكن تنشرها، غير أنها قامت في عام 1914 بإجراء حصر للسكان، استمر العمل به لعدة شهور وأسفر عن تقدير مجموع سكان فلسطين في ذلك العام بحوالي (689) ألفاً، ولكن لم تنشر بيانات تفصيلية عن توزيعاتهم وخصائصهم السكانية. وإذا اعتمدنا الرقم (40) ألف يهودي كانوا يقيمون في فلسطين في عام 1914، بناءً على ما أشرنا إليه في مكان آخر من دراستنا، فإن نسبة اليهود من إجمالي سكان فلسطين في العام المذكور لا تتعدى (5,8) في المائة من إجمالي السكان المقدر من قبل السلطات العثمانية، والملاحظ أن زخم الهجرة اليهودية لم يكن كبيراً إلى فلسطين في فترة الاحتلال العثماني خاصة بعد انطلاقة الحركة الصهيونية بشكل رسمي ومنظم بعد مؤتمر بال في نهاية آب 1897، وبالتالي لم يكن للتسلل اليهودي دوراً مؤثراً بشكل نوعي على اتجاهات النمو السكاني في فلسطين، بَيْدَ أن فترة الانتداب البريطاني كانت ذهبية للحركة الصهيونية لتحقيق شعاراتها الإستراتيجية في فلسطين.

مجموعة من الباحثين الفلسطينيين في الوطن العربي. معهد البحوث و الدراسات العربية، القاهرة، 1978 ص 50.
من خلال الجدول السابق يتضح صورة الواقع الديموغرافي الفلسطيني ومدى التحول الذي أصاب المجموعات السكانية، فقد مثل الفلسطينيون ما نسبته 88.8% (أنظر الشكل 1) من إجمالي سكان فلسطين وذلك في العام 1922، في حين لم تصل نسبة اليهود إلا 11.2% من إجمالي السكان، وظلت نسبة الفلسطينيين في تناقص مستمر حتى وصلت نسبتهم من إجمالي السكان حوالي 69.8% عشية إعلان دولة الاغتصاب الصهيوني، وارتفعت نسبة اليهود إلى حوالي 30.2% من إجمالي السكان في نفس العام، وترجع الزيادة الكبيرة في نسبة اليهود إلى موجات الهجرة التي تركزت في السنوات التي سبقت إعلان دولة اليهود على أرض فلسطين.

نبيل السهلي، التحولات الديموغرافية للشعب الفلسطيني، صامد الاقتصادي، عمان العدد 120، ص103 .
من خلال الجدول السابق يتضح مدى دور الهجرة اليهودية إلى فلسطين في تحول الميزان الديموغرافى لصالح اليهود، حيث بدأت أفواج الهجرة من العام 1880، حيث بلغ حجم المهاجرين اليهود إلى فلسطين في الموجه الأولى في الفترة ما بين 1880-1903 حوالي 25000 مهاجر يهودي، والجدير بالذكر أن حياة اليهود في فلسطين في تلك الفترة كانت تعكس ظلالاً قاتمة إذ كان لا يذهب إليها من اليهود إلا كبار السن، الذين يرغبون في قضاء آخر أيامهم في القدس وخير وصف لحياتهم تلك ما جاء على لسان القنصل الأمريكي في القدس عام 1878 إذ يقول: (( ويهود القدس خاصة، فقراء كسالى، ضعاف العقول والأجسام، ويبدوا أن القدس محطة يتلاقى فيها اليهود المتعصبون المشوهون والعجائز، ليعيشوا هنا على الشحاذة والإحسان، وليقضوا بقية العمر ينوحون أمام حائط المبكى))، وارتفع عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين ليصل إلى 34 ألف مهاجر في الفترة 1904-1914، وقد كانت الفترة التي سبقت إعلان الدولة 1932-1939 التي شهدت أكبر موجة هجرة إلى فلسطين، حيث وصل أكثر من 224 ألف مهاجر، وترجع أسباب تدفق هذا العدد من المهاجرين إلى:-

أولاً: ظهور الحركة النازية في ألمانيا وتزايد اضطهاد اليهود، وقد كشف بعض الكتاب اليهود من أمثال (ألفرد ليلينتال)عن أن الصهاينة اتصلوا بالنازيين وشجعوهم على هذه السياسية حتى يبرروا إقامة الدولة وليس هذا بمستغرب على الصهيونية، حيث اشتركت في عمليات الاضطهاد بألمانيا بعد الحرب لاضطرار اليهود الهجرة إلى فلسطين.

ثانياً: أثّرت الأزمات الاقتصادية في أوروبا على هجرة كثير من اليهود إلى فلسطين، كما أدت الأحوال الاقتصادية في أمريكا إلى التشدد في تطبيق القيود المفروضة على الهجرة إليها، ويتضح ذلك من الأماكن التي قدم منها المهاجرون، حيث مثل اليهود البولنديون نصف الموجة الخامسة، وكذلك من خلال التكوين الاثنولوجي للموجة الخامسة فإن أكثر من 90% من مهاجريها كانوا من اليهود الأوربيين الذين شملوا عدداً كبيراً من أصحاب المهن الحرة والعمال المهرة المتخصصين، ففي الفترة من 1935-1939 هاجر إلى فلسطين حوالي 1000 طبيب و500 مهندس، وكان ذلك استعدادا من الصهيونية لوضع أسس إعلان دولتهم.

أما بالنسبة للموجة السادسة فقد حاولت بريطانيا التقرب إلى العرب، وأصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض في 17مايو سنة 1939، وترجع أهميته إلى أنه للمرة الأولى حدد رقماً نهائياً للهجرة فقامت الحركة الصهيونية بنقل مركز الثقل الصهيوني إلى الولايات المتحدة، وتركز النشاط الصهيوني في نيويورك وعقد مؤتمر بلتيمور في شهر مايو سنة 1942 وحدد نقاط ثلاثة:-

1- فتح باب الهجرة دون قيود وتحت إشراف الوكالة اليهودية.
2- تكوين فرقة يهودية تقاتل إلى جانب الحلفاء، لها علمها الخاص مما يؤكد حق الصهيونية في تأسيس دولة تصبح فيما بعد عضواً في الأمم المتحدة.
3- تحويل فلسطين إلى كومنولث يهودي.
مما سبق يتضح وبشكل جلي، أن موجات الهجرة اليهودية ساهمت وبشكل مباشر في التغيير القسري للميزان الديموغرافي لصالح اليهود، كما ساهمت هذه الهجرة في تغيير جغرافي.
تطور عدد سكان فلسطين في النصف الأول من القرن الحالي 1914-1948.

من خلال أول تقدير سكاني جرى في فلسطين عام 1914، فقد قدر سكان فلسطين أيام الحكم العثماني عام 1914 بحوالي 689 ألف، منهم 634 ألف من العرب، و 55 ألف من اليهود أي أن نسبة اليهود كانت تبلغ في ذلك العام 8% من مجموع السكان، ومع بداية الاحتلال البريطاني بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين بالتصاعد مما أدى إلى زيادة نسبة اليهود فارتفعت إلى 9% في العام 1920، ووصلت إلى 10,6 % في عام 1921.

من خلال الجدول السابق يتضح أن إجمالي عدد السكان في فلسطين بلغ 775.689 نسمة حسب تقديرات الحكومة العثمانية والتي أشار إليها كل من لوك وهيث، حيث شكل السكان العرب ما نسبته 92 % من إجمالي السكان، في حين شكل اليهود ما نسبته 8%، حيث بلغ عددهم 142. 55 نسمة، لكن ما يؤخذ على هذه الأرقام و الأعداد بأنها تقديرية ولم تكن إحصائيات رسمية.

ولأول مرة في تاريخ فلسطين الحديث جرى تعداد للسكان في فلسطين الانتداب، ثم اتبع بتعداد ثان عام 1931. وقد حالت ظروف بعدئذ دون إجراء تعداد ثالث حتى عام 1948، حيث وضعت تقديرات لعدد السكان حتى ذلك العام بلغ عدد سكان فلسطين عام 1922 نحو 752,388 نسمة، ولم يجري في فلسطين أي تعداد رسمي قبل العام 1922، وحسب هذا التعداد فقد بلغ إجمالي سكان فلسطين 752.388 نسمة، بلغت نسبة السكان العرب من هذا الإجمالي 89%، في حين ازدادت نسبة اليهود عما كانت عليه في العام 1914 إلى 11% من إجمالي السكان وذلك بزيادة مقدارها 3%، أما حسب إحصاء 1931 فقد بلغ السكان في فلسطين 1.035.821 نسمة، تناقصت فيه نسبة السكان العرب إلى 84% من إجمالي السكان، في حين زادت نسبة السكان من اليهود إلى 16% من إجمالي السكان، أما حسب تقديرات حكومة الانتداب البريطاني والتي قد أشار إليها مصطفى مراد الدباغ في مجلدات ( بلادنا فلسطين)، فقد بلغ إجمالي السكان في فلسطين 1.363.387 نسمة، شكل العرب ما نسبته 69%، في حين شكل اليهود 31% من إجمالي السكان.
ومما سبق يتضح أن نسبة الزيادة في سكان فلسطين كانت لصالح اليهود، في حين كان هناك تناقص في نسبة الزيادة بالنسبة للسكان العرب. أما في أيار سنة 1948 فقد قدر عدد سكان فلسطين 2.065.000 نسمة، منهم 1.415.000 نسمة من العرب و 650.000 نسمة من اليهود، حيث شكل العرب ما نسبته 68.5 %من إجمالي السكان وشكل اليهود ما نسبته 31.5% من إجمالي السكان، ويرجع التناقص في نسبة تمثيل السكان الفلسطينيين لصالح زيادة نسبة السكان اليهود نتيجة الخلل الذي أصاب مكونات النمو الغير طبيعية وخاصة موجات الهجرة اليهودية المكثفة إلى فلسطين.

* مكونات النمو السكاني:
من خلال دراسة مكونات النمو السكاني في فلسطين، يتضح بأن سكان فلسطين ازداد بين عامي 1922/1944 ما نسبته 131.4%، حيث ساهمت الزيادة الطبيعية بنسبة 63% من الزيادة العامة للسكان، في حين ساهم صافي الهجرة بنسبة 37% من الزيادة العامة، وتفاوتت نسبة ازدياد السكان حسب الفئة الدينية ما بين عامي 1922/1944، إذ حقق اليهود أعلى نسبة زيادة سكانية (536,1%) في حين حقق المسيحيون زيادة سكانية نسبتها 90% بينما لم يحقق المسلمون سوى نسبة 80%، ويقدر النعماني السيد بالاستناد إلى بيانات تعداد 1945 الذي أجرته حكومة الانتداب وتعداد اليهود في إسرائيل عام 1948، إن نسبة النمو في السكان اليهود بلغت بين هذين التاريخيين 16.8% سنويا، وأن نسبة الزيادة غير الطبيعية – بالهجرة– 95,2%، وهو ما يوضح مدى أهمية الدور الذي لعبته الهجرة اليهودية في عملية بناء المجتمع.

يتضح مما سبق مدى العلاقة بين نسبة الزيادة السكانية لكل من اليهود والمسيحيين و المسلمين ومساهمة صافي الهجرة في هذه الزيادة السكانية، فقد ساهم صافي الهجرة بنسبة 74% عند اليهود و29% عند المسيحيين، في حين ساهم صافي الهجرة بنسبة 4% من الزيادة العددية للمسلمين وعلى العكس من ذلك فقد كانت نسبة مساهمة الزيادة الطبيعية أعلاها عند المسلمين 96%، و عند المسيحيين 71%، و لليهود 26%.

ويرجع سبب تفوق اليهود على العرب من حيث معدلات الزيادة السكانية إلى سلطة الانتداب البريطاني التي فتحت أبواب فلسطين على مصرعيها أمام الهجرة اليهودية القادمة من الخارج، وقد ساهم تدفق المهاجرين اليهود إلى فلسطين إلى الإخلال بمعدلات الزيادة السكانية لدى الفئات الدينية. ونتج عن ذلك تناقص نسبة المواطنين العرب من مسلمين ومسيحيين خلال فترة الانتداب من 89% إلى 67% من إجمالي سكان فلسطين، وتزايد نسبة السكان اليهود من 11% إلى 33% تقريبا من إجمالي السكان. وبمعنى آخر فإن العرب الذين كانوا يؤلفون تسعة أعشار سكان فلسطين في بداية فترة الانتداب البريطاني أصبحوا يؤلفون نحو ثلثي سكان فلسطين في نهاية تلك الفترة، وأن اليهود الذين كانوا يمثلون عشر سكان فلسطين في بداية الانتداب أصبحوا يمثلون ثلث السكان في النهاية، ولا يعني ذلك أن نقلل من شأن مساهمة الزيادة الطبيعية في نمو سكان فلسطين.

ومن خلال ما سبق يتضح مدى أهمية مساهمة الزيادة الطبيعية في نمو سكان فلسطين، ففي خلال الفترة (1922-1944) بلغ معدل الزيادة الطبيعية للمواطنين العرب 26 في الألف، وتراوح ما بين 31 في الألف عند المسلمين، و21 في الألف عند المسيحيين. أما اليهود فكان معدل زيادتهم الطبيعية خلال الفترة نفسها 20 في الألف. وفي أواخر الانتداب وبالذات خلال الفترة (1942-1946) بلغ معدل الزيادة الطبيعية عند كل من العرب واليهود 27 في الألف و21 في الألف على التوالي، وبلغ معدل المواليد عند كل من العرب واليهود 50 في الألف و 40 في الألف على التوالي، بينما كان معدل الوفيات عند كل من العرب واليهود 23 في الألف و19 في الألف على التوالي، وكان كل من العرب واليهود يقبلون على الزواج المبكر إذ وصل متوسط الزواج للمرأة إلى دون العشرين سنة، وللرجل إلى دون الرابعة والعشرين سنة، وارتفعت بين السكان نسبة البالغين من العمر من الشباب سن (15-45) سنة من الذكور والإناث فوصلت عند المواطنين العرب إلى 56,7% من مجموع العرب، وعند اليهود إلى حوالي 60% من مجموع اليهود. أما معدلات الخصوبة عند السكان فإنها كانت مرتفعة، إذ بلغ معدل ما تنجبه المرأة 6 أطفال بالنسبة لفلسطين عامة، و 7 أطفال بالنسبة للعرب، ومن خلال الجدول السابق يتضح أن أعلى معدل للمواليد الخام كان في العام 1925، حيث بلغ المعدل 46.6 بالألف في حين بلغ أدنى معدل 42.1 بالألف و ذلك في العام 1945، و في نفس الفترة التي بلغ فيها أعلى معدل للمواليد الخام أيضاً بلغ معدل الوفيات الخام أعلى معدل له في العام 1925، حيث بلغ 23.8 بالألف في حين أدنى معدل للوفيات كان في العام 1945، حيث بلغ المعدل 14.2 بالألف، في نفس الوقت الذي نرى فيه أن أدنى معدل للزيادة الطبيعية كان في العام 1925، حيث بلغ معدل الزيادة الطبيعية 22.8، في الوقت الذي بلغ أعلى معدل للزيادة الطبيعية في 1945، حيث بلغ معدل الزيادة 27.9 بالألف، وبالرجوع إلى المعدلات للمواليد و الوفيات وما ينتج عنها من معدل للزيادة الطبيعية، نرى أن معدل الزيادة الطبيعية لليهود عند مقارنته مع معدل نموهم نجد أن الفارق كبير جداً مما يعكس مدى تأثير الهجرة في زيادتهم، و يدل على أن الزيادة الطبيعية لم تكن العامل الرئيسي في تزايد اليهود بل الهجرة القادمة إلى فلسطين، وبالرجوع إلى مصادر زيادة السكان فإننا نرى أن الزيادة الطبيعية كانت تساهم بنسبة 99.6% من زيادة المسلمين، و بنسبة 64% من زيادة المسيحيين، وبنسبة 89% من زيادة الدروز، أما اليهود فقد بلغت نسبة مساهمة الزيادة الطبيعية في نموهم 27% فقط، بينما كانت الهجرة تساهم بنسبة 73%، وأهم ما يمكن ملاحظته من خلال الجدول السابق انخفاض معدل الوفيات في أوساط اليهود مقارنة مع معدلات الوفيات عند المسلمين والمسيحيين والدروز.

يتضح مدى التغير الكبير الذي طرأ على موجات تدفق الهجرة اليهودية إلى فلسطين فقد شهدت السنوات ما بين 1921-1929 أدنى تدفق لها، في حين كانت السنوات ما بين 1930-1940 أعلى السنوات التي تدفق خلالها اليهود إلى فلسطين، وقد كان لذلك أبعاده الجغرافية، حيث يرتبط الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين بالهجرة اليهودية التي تغذي هذا الاستعمار بالمستعمرين الغرباء من اليهود، كما يرتبط أيضا بالأرض الفلسطينية التي يقوم عليها الاستعمار مستفيداً من مواردها المائية والزراعية، حيث تركز الاستعمار منذ بدايته في الأراضي ذات التربة الجيدة الأمر الذي سهل عليه إدخال الزراعة الكثيفة والمختلطة، وعلى ذلك لم يكن اليهود عام 1918 يملكون إلا 650 ألف دونم أو ما نسبته 2% من إجمالي مساحة اليابسة البالغة (26 مليون دونم)، وقد حصل اليهود خلال فترة الانتداب على أراض أوصلت ما يملكونه عند انتهاء الانتداب في مايو 1948 ما يقرب من 2,1 مليون دونم أو ما نسبته 8% من مساحة اليابسة في فلسطين.

وقد بلغت نسبة ما امتلكه اليهود من أرض زراعية في أواخر فترة الانتداب 20% من مجموع الأراضي الزراعية في فلسطين، هذا وقد بلغت مساحة الأراضي الزراعية التي استولى عليها اليهود والتي كانوا قد اشتروها من الملاك الغائبين (المقيمين خارج فلسطين) 625 ألف دونم، وقد نتج عن تسرب هذه المساحات من الأراضي الزراعية طرد 2746 أسرة عربية من 22 قرية في سهل مرج بن عامر، وطرد أكثر من 15 ألف مواطن من الحولة، وطرد ألوف آخرين من أراضي الساخنة وغور بيسان وطلعون والزبيدات والمنسي، وفي فترة الانتداب تضاعف عدد المستعمرات الصهيونية من 47 مستعمرة في العام 1914 إلى 274 مستعمرة في العام 1946، أي بزيادة معدلها 7 مستعمرات في العام الواحد على مدى 32 عاماً.

* الهجرة اليهودية وأثرها في تغيير الميزان الديموغرافي خلال فترة الانتداب البريطاني:

لم يكن الحديث عن موجات الهجرة إلى فلسطين من أجل رصد أعداد موجات الهجرة هذه وأعداد المهاجرين، وإنما كان من الضروري التطرق إلى أي مدى أثرت هذه الهجرة على الواقع الديموغرافي في فلسطين حتى قيام دولة اليهود في العام 1948، وهل كانت هذه الهجرة عشوائية؟؟ أم كانت هجرة نوعية مقصودة قبل قيام الدولة، فقد هاجر اليهود إلى فلسطين خلال فترة الانتداب في أربعة أفواج رئيسية كان مجموع أفرادها نحو 482.900 مهاجر وذلك بمتوسط بلغ 16.440 مهاجر في السنة، وقد أثرت مجموعة من التغيرات الداخلية والخارجية على حركة الهجرة وحجمها، بحيث أن المتوسط كان يتفاوت من فترة إلى أخرى، وكانت الفترة (1919-1923) قد شهدت متوسط هجرة بلغت 7 آلاف مهاجر سنوياً، وارتفع هذا المتوسط ليصل إلى 24.600 مهاجر سنوياً خلال الفترة (1924-1931)، ووصل المتوسط إلى أعلى مستوى له خلال الفترة (1932-1939) عندما بلغ 57.100 مهاجر في السنة، أما الفترة (1940-1948) فقد شهدت هجرة يهودية قادمة إلى فلسطين بلغ متوسطها السنوي 34.900 مهاجراً، ويلاحظ من خلال استعراض موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين اعتماد الحركة الصهيونية على الهجرة كمصدر أساسي لتحقيق حلم الحركة الصهيونية بإقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين، وذلك بالتغيير القسري للواقع الديموغرافي لصالحهم، وذلك استعداداً لإقامة الدولة وخوض المعركة.

ومن حيث نوعية المهاجرين، فإن البيانات والدراسات تشير إلى أن السلطات الإسرائيلية تعنى باختيار المهاجرين كماً ونوعاً حسب الاحتياجات المرحلية لإقامة الدولة من الناحية الاقتصادية والعسكرية. فقد ساهمت الهجرة ليس فقط في سد النقص في القوى العاملة الفنية وذات المؤهلات العالية بل كذلك في إنعاش عدد من الصناعات الأساسية في إسرائيل، وكذلك إنعاش قطاع البناء والتشييد، بالإضافة إلى ما يصطحبه المهاجرون معهم من رؤوس أموال كبيرة وخبرات عالية فموجات الهجرة التي بدأت مع بداية العام 1882 استمرت حتى العام 1903، عرفت هذه الهجرة بـ (هجرة الريادة) وهي هجرة أفراد منتقين ذوي مواصفات معينة في حين عرفت بعد ذلك بالهجرة الجماعية والتي هدفها حشد أكبر عدد ممكن من اليهود في فلسطين، وفيما يتعلق بالتوزيع النوعي فإن نسبة هجرة الذكور قد تراوحت بين 52.3% و 50% من مجموع المهاجرين، إن هذا التوازن النوعي للهجرة اليهودية هي حالة نادرة في تاريخ الهجرات الدولية والتي تفوق فيها نسبة الذكور بصورة كبيرة، كما اتخذت السلطات الإسرائيلية جملة إجراءات استهدفت رفع نسبة مشاركة المرأة في النشاط الاقتصادي لتقرير مساواتها بالرجل منذ عام 1951، ودفعها للمشاركة في دفع عجلة التنمية الاقتصادية وعدم جعلها عاطلة عن العمل وخاصة في ظل الاستعداد لإقامة دولتهم، ومن الطبيعي أن تنعكس طبيعة هذه الهجرة الانتقائية على وضع المجتمع اليهودي، بحيث تتهيأ الفرصة لمزيد من حالات الزواج ولارتفاع في معدلات الخصوبة والاتجاه نحو استقلال الأرض والاستفادة من مواردها.

هذا بالنسبة للناحية النوعية للهجرة، أما بالنسبة للجانب الكمي فقد استطاعت الهجرة أن تعوض الدولة اليهودية عن النقص في معدل النمو الطبيعي للسكان وأن تحقق التوازن الكمي بين السكان العرب واليهود في مرحلة من المراحل حتى استقرت الأوضاع واستطاعت السلطات الإسرائيلية تشريد عدد كبير من الفلسطينيين، وبالتالي قلب الميزان الديموغرافي القسري لصالح اليهود في فلسطين، وأن هذا الواقع خلق من اليهود التمسك العنيد في مفاوضات السلام الحالية على عدم عودة جميع اللاجئين ومن انحدر منهم، وذلك رغبة منهم لعدم التخفيف من الهوة بين عدد اليهود المتواجدين في فلسطين والفلسطينيين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل الأراضي التي احتلت في العام 1948، كما تسعى السلطات الإسرائيلية دائماً لعدم السماح بالهجرة المعاكسة، وتفرض القوانين التي تعيق من هجرة اليهود من دولة إسرائيل إلى الدول الأوروبية أو أي دولة أخرى، إلا أن موجات الهجرة الوافدة تباينت من فترة إلى أخرى، فعلى سبيل المثال انخفض عدد المهاجرين إلى إسرائيل على أثر حرب 1973 من 33478 عام 1973 إلى 16800 مهاجر من الاتحاد السوفيتي عام 1974، ومن 4393 إلى 2782 مهاجر من الولايات المتحدة الأمريكية.

غير أن الأمر الأكثر خطورة بالنسبة لإسرائيل يتمثل في حركة النزوح عن إسرائيل (الهجرة المعاكسة) فقد قدرت الجهات الرسمية في إسرائيل أن عدد الذين نزحوا عن إسرائيل للفترة 1970/1975 بلغ 100 ألف نازح.
وتؤكد الدراسات حقيقة ميل معدل الهجرة إلى التناقص، على الرغم من أن السلطات الإسرائيلية تعلن عن حاجتها إلى ما لا يقل عن 100 ألف مهاجر سنوياً.

غير أن ما يصل إليها أقل من ذلك بكثير، ففي السنوات التي بلغت فيها الهجرة ذروتها وهي 1972/1973 بصورة خاصة لم يتجاوز معدل الهجرة عن 55 ألف مهاجر في السنة، انخفض هذا المعدل إلى 20 ألف بعد حرب 1973 ثم عاود للارتفاع على ضوء موجة الهجرة مع نهاية سنوات السبعينيات، حيث وصل إلى 38 ألف مهاجر 1979، ولكن مع بداية الثمانينيات بدأ معدل الهجرة إلى إسرائيل بالانخفاض وبدأت ظاهرة (الهجرة المعاكسة) من إسرائيل، حيث بدأت بنسبة 8% حتى 60% عام 1978 إلى 65/70% عام 1979 وإلى 75% عام 1980، وقد أكد رئيس الوزراء الحالي لدولة الاغتصاب الصهيوني( إسرائيل )(أرئيل شارون)، حيث قال سنعمل على استقدام مليون مهاجر يهودي خلال 13 سنة القادمة من جميع أنحاء العالم مشيراً إلى أن إحدى أولوياته هي دعوة نصف مليون يهودي يعيشون في أمريكا الجنوبية لمغادرة بلدهم والهجرة إلى إسرائيل، ورداً على سؤال لمعرفة من أين سيأتي المليون يهودي هذا، أجاب إنه يفكر أولاً وقبل أي شيء باليهود الذين يقيمون في دول أمريكا اللاتينية، وأضاف إنه يعيش 230 ألف يهودي في الأرجنتين في وضع اقتصادي صعب للغاية، و130 ألف في البرازيل، و50 ألف في المكسيك وغيرهم في فنزويلا ودول أخرى.

مما سبق اتضح وبشكل قاطع التغيير الديموغرافي القسري الذي حصل على أرض فلسطين ومدى مساهمة الهجرة الوافدة أو العكسية إلى فلسطين في هذا التغير القسري على أرض فلسطين، وإلى جانب ذلك فقد كانت السلطات الإسرائيلية قد استخدمت مجموعة من الأساليب التي تخدم مطامعهم في الوصول إلى واقع ديموغرافي لصالح اليهود في فلسطين، ومن بين هذه الوسائل والأساليب التي استخدمتها السلطات الإسرائيلية أسلوب التهجير وتدمير القرى وكانت هذه عبارة عن سياسة مرسومة هدفت السلطات الإسرائيلية من خلال تطبيقها إلى الوصول إلى أغلبية سكانية فلسطينية بأسلوب قسري وقهري.

الميزان الديموغرافي خلال فترة الانتداب البريطاني:
من خلال دراسة مكونات النمو السكاني في فلسطين يتضح أن عدد المواطنين العرب ازداد من 668,258 نسمة عام 1922 إلى 1,210,922 نسمة عام 1944، وذلك بزيادة نسبتها 81,3%، بينما ازداد عدد اليهود من 83,790 نسمة إلى 528,702 نسمة خلال الفترة نفسها، وذلك بزيادة قدرت نسبتها 536,1% وقد ساهمت الزيادة الطبيعية بنسبة 83% من النمو العددي للمواطنين العرب، بينما ساهم صافي الهجرة بنسبة 17% من نموهم العددي. وعلى النقيض من ذلك ساهمت كل من الزيادة الطبيعية وصافي الهجرة بنسبتي 26% و 74% على التوالي من النمو العددي لليهود في فلسطين.

وبالرجوع إلى الأسباب التي أدت إلى ذلك نرى إنه كان لسياسة بريطانيا المتحيزة تماماً مع اليهود ضد العرب في تنفيذ وعد بلفور السبب المباشر، ومن خلال انتدابها على فلسطين مدة ثلاثين عاماً وفتح أبواب فلسطين أمام تدفق أفواج المهاجرين اليهود. ونتج عن تلك السياسة انخفاض نسبة المواطنين العرب من 89% من إجمالي سكان فلسطين عام 1922 إلى 67% عام 1948. ونتج عنها أيضاً ارتفاع نسبة اليهود في فلسطين من 11% إلى 33% تقريباً من إجمالي سكان فلسطين خلال الفترة نفسها، وبمعنى آخر فإن المواطنين العرب الذين كانوا يؤلفون تسعة أعشار سكان فلسطين في بداية فترة الانتداب البريطاني أصبحوا يؤلفون نحو ثلثي سكان فلسطين في نهاية تلك الفترة، وأن اليهود الذين كانوا يمثلون عُشر سكان فلسطين في بداية الانتداب أصبحوا يمثلون ثُلث السكان في نهايته.
ولقد ظل اليهود يشكلون خطراً ديموغرافياً على المواطنين العرب معتمدين على سلاح الهجرة اليهودية إلى فلسطين أساساً، وعلى الزيادة الطبيعية بصورة ثانوية. ففي منتصف القرن التاسع عشر قُدر عدد اليهود بحوالي عشرة آلاف نسمة، وفي العام 1914 قُدر عددهم في فلسطين بحوالي 85 ألف يهودي، وهبط عددهم إلى 56 ألف يهودي خلال الحرب العالمية الأولى وأخذوا يزدادون عدداً ونسبة خلال فترة الانتداب، إذ ازدادت نسبتهم من 11,1% في عام 1922 إلى 17,7% في عام 1931، وإلى حوالي 28% في عام 1936، وإلى حوالي 31,5 في عام 1943، وإلى حوالي 33% في عام 1948.

ولقد انعكس التوزيع الجغرافي لكل من العرب واليهود في أقضية فلسطين على تفاوت معدلات نمو سكان هذه الأقضية. وخلال الفترة (1922-1931) نما عدد سكان الأقضية التي تضم نسبة عالية من اليهود بنسبة 54%، بينما كانت نسبة نمو سكان الأقضية التي تضم نسبة منخفضة من اليهود حوالي 15% خلال الفترة نفسها وكانت هذه النسبة من نمو السكان للفترة (1931-1944) حوالي 49% و 36% على التوالي، وكان هذا التفاوت واضحاً بين الأقضية الشرقية التي تضم نسبة عالية من المواطنين العرب والأقضية الساحلية الغربية التي تضم نسبة عالية من اليهود. ففي الأقضية الشرقية ازداد عدد السكان خلال الفترتين (1922-1931) و (1931-1944) بنسبة 15% و 30% على التوالي. وفي الأقضية الساحلية الغربية ازداد عدد السكان خلال الفترتين نفسيهما بنسبة 45% و 52% على التوالي. وتشتمل الأقضية الداخلية على أقضية بئر السبع (إقليم صحراوي) والخليل وبيت لحم والقدس ورام الله وطولكرم ونابلس وجنين(إقليم جبلي). وتشتمل الأقضية الساحلية على أقضيه غزة ويافا والرملة وحيفا وعكا (إقليم سهل ساحلي).

ولم تفلح الصهيونية خلال فترة الانتداب البريطاني في تحسين الميزان الديموغرافي لصالح اليهود، فإنها عجزت عن تحقيق ميزان أرضي لصالحهم. فالتواطؤ البريطاني – الصهيوني نجح في جلب اليهود إلى فلسطين وفي رفع نسبتهم إلى حوالي ثُلث سكان البلاد، ولكنه عجز عن رفع نسبة ما امتلكه اليهود من أراضٍ في فلسطين إلى أكثر من 8% من مساحة البلاد ونتيجةً لهذا الوضع المتناقض عملت الصهيونية وبمساعدة من بريطانيا، عام 1948 على اغتصاب نحو 79% من مساحة فلسطين لإقامة كيانها العدواني.

* أساليب اليهود في التغيير القسري للميزان الديموغرافي في فلسطين لعام 1948:
فمن خلال الشعار الذي رفعته الحركة الصهيونية والذي ينادي بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين التي كانوا يعتبرونها (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، يتضح بأن هدف اليهود كان من البداية إظهار فلسطين على أنها أرض بدون سكان وبدون شعب يقطنها، وقد تبلورت أهدافهم في تصفية الشعب الفلسطيني وإبادته معتمدين في ذلك أساليب كثيرة تصب جميعها في سياسة موحدة ألا وهي سياسة التهجير وهي عملية مقصودة هدفها طرد السكان الأصليين ليحل محلهم سكان آخرون، كما هي عملية استبدال سكان بسكان آخرين. وقد اتبعت أساليب وأشكال مختلفة للضغط على الفلسطينيين لترك قراهم ومدنهم من خلال مذابح كان أشهرها مذبحة دير ياسين، وذلك بهدف الوصول إلى واقع ديموغرافي جديد داخل فلسطين يكون لصالح اليهود المغتصبين. وقد تم تسجيل 5 مذابح في الوسط و 5 في الجنوب و 24 مذبحة في الجليل.

وفي الفترة التي سبقت إعلان اليهود لدولتهم في العام 1948، وما تلاها أقدمت العصابات الصهيونية على القيام بعدد من المذابح إلى جانب إتباع أسلوب الترحيل الجماعي والإبعاد، وذلك استكمالاً لأهدافهم التي رسموها لأنفسهم لخلق واقع ديموغرافي جديد هدفه خلق أكثرية يهودية على أرض فلسطين والأمثلة على ذلك:-
1- طرد السلطات الإسرائيلية الكثير من أهالي المجدل والخصاص وعسقلان والجاعونة وعشرات القرى المجاورة.
2- طرد السلطات الإسرائيلية أهالي 13 قرية من قرى المثلث في عام 1951.
3- دمرت إسرائيل بعد قيامها 478 قرية من أصل 585 قرية عربية.
4- دمرت السلطات الإسرائيلية 135 قرية من الجليل من أصل 210 قرية وشرد سكانها.
5- إبعاد السلطات الإسرائيلية بعد قيامها مباشرة 35 ألف فلسطيني من سكان النقب إلى كل من الأردن وسيناء.

الآثار الجغرافية والديموغرافية للممارسات الصهيونية:
ونتيجة للممارسات الصهيونية فقد انخفضت نسبة السكان العرب من 52% بعد قيام إسرائيل مباشرة إلى 17.9% في العام 1949 وإلى 12.9%عام 1950، أما بعد حرب عام 1967 فقد كان الأمر مختلفاً فقد تم إعلان قيام دولة إسرائيل في العام 1948، أما في العام 1967 فقد كان هدف هذه الحرب الاستيلاء على ما تبقى من أرض فلسطين والتي لم تستطع السلطات الصهيونية السيطرة عليها في الأعوام الأولى لإعلان دولتهم، وقد نتج عن هذه الحرب تشريد وتهجير ما يقرب من 400 ألف فلسطيني من الضفة الغربية ونحو 50 ألف من قطاع غزة، واستمرت عملية التهجير بعد ذلك فيما بين نهاية عام 1967 وعام 1979 فقد بلغ عدد الذين هجروا ونزحوا من الضفة الغربية وقطاع غزة نحو 354 ألف مواطن وذلك بمعدل سنوي 29,500 فلسطيني.

مما سبق يتضح لنا أن عمليات التهجير للفلسطينيين لم تكن هجرة طوعية، وإنما كانت عبارة عن سياسة اتبعتها السلطات الإسرائيلية للوصول إلى أغلبية وتفوق ديموغرافي قسري وغير طبيعي في فلسطين.

* قراءة ديموغرافية مستقبلية:
على الرغم من الممارسات الصهيونية والآثار الجغرافية والديموغرافية المترتبة عن ذلك، إلا أن الوجود اليهودي المنتشر على أرض فلسطين التاريخية سيصبح لا يشكل أغلبية في العام 2006، حيث أن الفلسطينيين سيصبحون على تساوي مع اليهود، ومن المتوقع في السنوات القادمة أن يكون التفوق للفلسطينيين.

ملاحظة/
أعداد المستوطنين لا يتم إضافتها إلى إجمالي عدد اليهود لأنهم بالطبع محسوبون على إجمالي عدد اليهود في دولة إسرائيل.

من (1999-2006) تقديرات الباحث على أساس ثبات الزيادة السنوية (للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة = 176.159 نسمة سنويا / للفلسطينيين داخل إسرائيل= 34500 نسمة سنويا / لليهود = 83.500 نسمة سنويا).

الزيادة في أعداد اليهود لم تأخذ بالحسبان موجات الهجرة اليهودية الجماعية التي قد تأتي إلى فلسطين.
لم يتم تقدير أعداد المستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة لأن ذلك مرتبط بالظروف السياسية.

من خلال الجدول السابق يتضح أن الميزان الديموغرافي سيكون في صالح الفلسطينيين في العام 2006، بغض النظر عن مكان وجودهم سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة أو في داخل إسرائيل، فسيصل عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية في العام 2006 حوالي 5.467.472 فلسطيني في نفس الوقت الذي سيكون فيه عدد اليهود على أرض فلسطين التاريخية5.453.100 يهودي، ويرجع هذا التفوق للفلسطينيين إلى الزيادة الطبيعية في حين أن الزيادة السكانية عند اليهود كانت تعتمد وبشكل مباشر على المهاجرين القادمين من جميع أقطار العالم.

نستنتج مما سبق أن الهجرة الفلسطينية الواسعة وبهذا الحجم الكبير كانت نتيجة التهجير القسري وممارسات العصابات الصهيونية، مقابل قدوم آلاف اليهود من جميع أقطار العالم للاستقرار في فلسطين وعلى الرغم من ممارسات العصابات الصهيونية إلا أن الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية سيكون لهم الأغلبية خلافاً لما خططت له الحركة الصهيونية.

نتائج:
1- أهمية الدراسات الجغرافية والديموغرافية التي من خلالها يتم معرفة مجموع وتوزيع الشعب الفلسطيني ومكونات النمو للفلسطينيين واليهود كطرفي صراع.
2- تأثر الشعب الفلسطيني بالسياسات السكانية الإجلائية والإحلالية التي طالت أكثر من 5.3مليون فلسطيني هم مجموع اللاجئين والنازحين، ويشكلون ما نسبته 69%من أجمالي الشعب الفلسطيني.
3- أن الشعب الفلسطيني يعتبر مجتمعاً فتياً بسبب ارتفاع معدلات المواليد وارتفاع نسبة صغار السن.
4- أن الشعب الفلسطيني سيصل إلى حالة توازن ديموغرافي مع اليهود مع حلول العام 2006 على الرغم من موجات الهجرة اليهودية.
5- اعتماد المجتمع الإسرائيلي على الهجرة الوافدة في نموه مقابل اعتماد المجتمع الفلسطيني على المواليد.
6- اتباع الصهيونية نهج التهجير القسري أو ما يعرف بالنهج الاجلائي والاحلالي.

توصيـات:
1- دعوة جميع المثقفين والباحثين وخاصة الجغرافيين والديموغرافيين وعلماء الاجتماع إلى تسليط الضوء على موضوع الصراع الديموغرافي لما له من أهمية من كشف فضائح الصهيونية وممارساتها المستمرة حتى يومنا هذا.
2- ضرورة تسليط الأضواء على الجانب الديموغرافي والجغرافي لجميع التجمعات السكانية الفلسطينية ووضع الحقائق والأرقام لتوضيح اتجاهات التطور والنمو السكاني للشعب الفلسطيني.
3- دعوة جميع مراكز الأبحاث لتسليط الضوء على البعد الجغرافي والديموغرافي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأهمية وحدة الشعب الفلسطيني في مقاومته وصموده أمام التحديات الصهيونية التي مازلنا نشهد فصولها من مصادرة للأرض واقتلاع للإنسان الفلسطيني وجذب مزيد منم يهود العالم.

من الذاكرة الفلسطينية: محمود علي حسين يوسف: صحيح صارلنا 63 سنة طالعين من بلادنا، لكن عندي أمل نرجع ونشوفها


من الذاكرة الفلسطينية: محمود علي حسين يوسف: صحيح صارلنا 63 سنة طالعين من بلادنا، لكن عندي أمل نرجع ونشوفها

يبدأ الحاج محمود علي حسين يوسف، من مواليد 1933 مزقة حطين، قضاء طبرية؛ من عشيرة عرب المواسي، الذي يعيش مؤقتاً في مخيم "خان الشيخ" حديثه قائلاً: قريتنا (مزقة حطين) قرية صغيرة، تقع على تلة اسمها "مزقة"، بالقرب من قرية حطين التاريخية. تبعد عن مدينة طبرية ما بين (15 إلى 20 كم). تحيط بـ"مزقة حطين" قرى: الوعرة السودا، وعيلبون، ودير حنا؛ ومناطق: سيبانة، وسهل البطوف.

ويتابع: أما عشيرتنا؛ فهي "عشيرة عرب المواسي" الفلسطينية، وهي من العشائر الكبيرة، وتكاد تكون الأكبر في الجليل الفلسطيني. تتألف العشيرة من عدة حمائل وعوائل تعود جميعها إلى العشيرة الأم. ومن هذه العوائل: العوايدة، والزهران، والعيسات، والبطاطخة، وغيرها من الفروع الأخرى. وكانت تتوزع مساكن العشيرة ومضاربها في مناطق: مزقة حطين، والوعرة السودا، ووادي الحمام.

بعد وعد بلفور

كانت تحيط بقريتنا كُبّانيات يهودية عديدة منها: "كنصار" و"المجدل" و"تل ناحوم"، وقد ربطتنا بتلك (الكُبّانيات اليهودية) علاقة جيدة في البداية؛ لأن أغلب سكانها كانوا يهوداً عرباً فلسطينيين؛ لا أجانب؛ فعاداتهم هي عاداتنا، وكانوا يفلحون الأرض ويزرعونها مثلنا، ويلبسون لباسنا الشعبي (الحطة والعقال)؛ حتى إن البعض منهم كان يتمسك ببعض العادات التي تُعَدّ من أساس عاداتنا، كضيافة القهوة المرة. وكنا نستضيفهم ويستضيفوننا، وكان بيننا وبينهم تبادل على مختلف المستويات. وظلت العلاقة هكذا، حتى جاء اليهود الغربيون بعد وعد بلفور، واستوطنوا بلادنا.

طبعاً، لما جاء اليهود الوافدون؛ كانوا يأتون خفية أو بمساعدة الإنكليز، الذين فتحوا لهم المعسكرات وسلّحوهم ودربوهم تدريباً جيداً، كل ذلك؛ ليسهل عليهم الانقضاض على أهل القرى والمدن الفلسطينية.

وعندما أتمّ الانتداب البريطاني مهمته؛ انسحب ليترك البلاد لليهود ليعيثوا فيها فساداً. وأذكر أن العرب في طبرية، شعروا بما يحاك لهم، ووعوا الدور الذي يقوم فيه الإنكليز؛ فهاجموا مركز البوليس في المدينة؛ ولم يكن الرد على ذلك من الإنكليز؛ بل كان من اليهود مباشرة؛ حيث بدأوا يهاجمون القرى الفلسطينية ويحرقونها ويهدمونها على أصحابها؛ للضغط على أهالي تلك القرى للخروج والهجرة إلى مناطق أخرى.

قبل النكبة

جيش الإنقاذ عندنا، اللي كان على رأس كتائبه "أديب الشيشكلي" من سورية، و"وصفي التل" من الأردن، كان كلما يرجّع قرية محتلة، يوقفوا القتال ويقولوا: هدنة. ارجعوا يا عرب مطرح ما كنتوا" ييجي ثاني يوم اليهود ويحتلوا تلك القرية، ويعملوا هدنة ويبقوا فيها. وكل ذلك بأمر الملك عبد الله "قائد الجيوش العربية آنذاك". وهكذا ظل اليهود يوخذوا فلسطين؛ قطعة قطعة، قرية قرية، مدينة مدينة.

معاركنا مع اليهود كانت تصير تقريباً كل يوم في منطقة جبل الطاقية، وكل يوم كنا نوقع في صفوفهن إصابات.
وفي يوم؛ كان أحمد النادر (أحد أفراد عشيرة المواسي في المزقة) عامل غدا لأهل البلد؛ بمناسبة مجيئه ولد بعد عشر سنين من الانتظار، وأقام الغذاء على ذاك الجبل، وكان يوم سبت، واليهود ما كانوا يأتوا إلى الجبل. وعندما بدأوا ينزلوا الغداء؛ وما حسينا إلا الدبابات بدأت تطوق البلد، وبعدين دخلوا البلد واعتقلوا ست وثلاثين شاب. وما كان فيهم واحد عمره فوق الأربعين سنة. واقتادوهم في الدبابات إلى قرية مغار حزور. وهناك بدأوا يفرزوهن، ويتشاوروا عليهم، ويصنفوهم: هذا إعدام؛ وهذا مؤبد؛ وهذا كذا. وانتقوا 17 شابًا منهم؛ وحكموا عليهم بالإعدام؛ و12 أو 13 مؤبد؛ والباقي لا أدري ما هي أحكامهم. وقام الصهاينة بإعدام الشباب، والمعتقلين اخذوا إلى سجنين في "تلحوم" و"طبرية"، ولم يبقوا طويلاً هناك؛ حيث هربوا بمساعدة يهود يمنيين كانوا يحرسوهم؛ ووصل هؤلاء إلى سورية بسلام.

علمنا نحن أبناء العشيرة بما حصل، وذلك من شاب حضر إعدام الشباب، هو محمد أبو السعود؛ فقام بعض الرجال بالبحث عن جثث الشهداء في منطقة تسمى باب الدورات (كانت تبعد عن عيلبون مسافة كيلو ونصف) (كما وصفها لنا الشاب محمد). وعندما وصلنا هناك؛ لم نجد أحدًا من الشهداء. ووسعنا دائرة البحث؛ وإذا بأحد الشباب السبعة عشر ملقى تحت شجرة، ومضمخ بدمائه؛ فتعرفنا إليه؛ وكان اسمه "سعد محمد ديب" (أبو سودي)؛ والمفاجأة أنه رغم الإصابات الكثيرة التي كانت في جسده؛ كان لا يزال حياً، وكان ضخم الجثة، طوله يتجاوز 180 سم، وقد كسرت رجلاه ويداه؛ ولم نستطع حمله معنا؛ بسبب كسوره والطريق الخطرة. عدنا إلى الأراضي السورية حيث الأراضي التي هُجِّر إليها أبناء العشيرة، وأخبرناهم بما رأينا.

في اليوم الثاني؛ أخذ بعض الرجال فرساً، وذهبوا إلى مكان سعد ووضعوه في خرج الفرس، وجاؤوا به إلى سوريا. أما باقي الشهداء؛ فقد علمنا بعد ذلك أن أهالي عيلبون من المسيحيين الفلسطينيين، نقلوا جثثهم إلى مغارة قريبة من القرية، وقاموا بإغلاقها بالحجارة والطين.

نتيجة للمجزرة

طبعاً بعد هذه المجزرة المروعة؛ غادر أبناء العشيرة القرية، وخرجنا بأبنائنا إلى الجولان السوري، وبقينا هناك مدة سنة كاملة، نقلتنا بعدها الحكومة السورية إلى مخيمات: "خان دنون"، و"خان الشيح".

من خلال هذه المسيرة من التشرد والمرارة والألم والعذاب، وبعد ثلاث وستين سنة من فراق قريتنا؛ أما آن لنا أن نرتاح، وأن نعود إلى أراضينا؟ يقولون لنا: صار عندكم بيوت وعمارات خارج فلسطين انسوا بلادكوا. وأنا بقول: والله لو كان عنّا قصور لنتركها ونقعد على الحجار، بس بأرضنا؛ ببلادنا. وأنا بعتقد إنه ما في فلسطيني بتتوفر له الرجعة وما بيرجع.

واليهود إذا اعتمدنا انو يسمحوا إلنا بالرجعة، ما راح نرجع؛ لأنو أصلاً الفلسطينيين اللي بقوا هناك لو طالع بإيدين اليهود لطالعوهن من زمان، وأنا إذا بدّي أرجع ما برجع، إلا إلى قريتي "مزقه حطين" مش غيرها. والضفة الغربية والقطاع أرضنا؛ بس يا دوبها واسعة أبناءها.

الأمل موجود

صحيح إنو صارلنا 63 سنة طالعين من بلادنا؛ بس لليوم ولبكرة عندي أمل إنو نرجع ونشوفها؛ لأنه إيماني بربنا كبير إنو ينصفنا ويرجّع إلنا حقنا؛ واللي ما بدو يرجع على بلده، بكون فقد ضميره ومبادئه.
وأنا قناعتي: فلسطين بترجع لما يتوحدوا العرب على كلمة واحدة، ويضعوا نصب أعينهم إنو ما يحرر فلسطين إلا المقاومة، متسلحين بإيمان بأنوا النصر من عند ربنا؛ ليس من عند غيره.

قسم التوثيق والتاريخ الشفوي/ تجمع واجب

من الذاكرة الفلسطينية: محمد يوسف محظية: أتمنى أن أرجع إلى قريتي )الملّاحة(، ولو زاحفاً، وحتى لو افترشت الأرض والتحفت السماء


من الذاكرة الفلسطينية: محمد يوسف محظية: أتمنى أن أرجع إلى قريتي )الملّاحة(، ولو زاحفاً، وحتى لو افترشت الأرض والتحفت السماء

محمد الباش - دمشق

لم تغب عن باله يوماً؛ فهي حاضرة في وجدانه وفكره؛ يحدث عنها في حله وترحاله؛ يصف البيت والحاكورة، يتذكر جلساته في فسحة الدار، يتشوق لرؤيتها ليسبح في نهرها البارد، ويشرب من بركتها، ويسير في سهلها الأخضر، ويقبل ترابها الأكثر خصوبة في العالم؛ هذه هي حال الحاج محمد يوسف محظية، ابن قرية "الملاحة" (إحدى قرى سهل الحولة).

التقينا الحاج محمد يوسف محظية، في مخيم "دنون" فبث لنا كل هذه الشجون:

وصف القرية

قريتنا (الملاّحة) قرية وادعة جميلة وصغيرة، ترتبط بعلاقات وطيدة مع باقي القرى المحيطة بها. ليس بجانبنا (كُبّانِيَات) يهودية، وأقربها تبعد عن قريتنا 7 كم؛ أي لا توجد أي كوبانية على أراضي القرية أو ملاصقة لها. ومن هذه الكُبّانِيَات: الحارة، وجاحولا (التي أقيمت على أراضي قرية جاحولا العربية)، وزبيد الحارة، ونجمة الصبح. وهذه الكُبّانِيَات كان بعدها يراوح عن القرية ما بين 7 إلى 15 كم.

كان يسكن هذه الكُبّانِيَات يهود شرقيون؛ وجزء منهم كانوا فلسطينيين، وكانت علاقتنا بهم كعلاقة القرى العربية المجاورة؛ أي علاقة حسنة يسود فيها التعاون. وكنا نستعين بهم ويستعينون بنا أثناء زراعة الأرض وفلاحتها، وحين الحصاد. وكانوا عندما احتدمت المعركة بيننا وبين العصابات الصهيونية؛ ينصحوننا بعدم الخروج من قرانا، وكانوا يتهمونهم بالكفر، فيقولون لنا: (هؤلاء كفار أتوا من روسيا وبولونيا ليأخذوا قراكم ومدنكم).

منذ أن حلّ الإنكليز في أرضنا واحتلوها عنوة؛ كان للشعب الفلسطيني موقف حازم من هذا الاحتلال؛ فقاومه بكل الوسائل التي أتيحت له، فكانت له مواقف ووقائع مشرفة بذلك. ومما أذكره من أحداث ومشاركة؛ تلك الهبات والثورات في قريتنا:

مشاركة في ثورة الـ36

انخرط أبناء الملّاحة في ثورة الـ36 (ثورة القسام). وممن أذكرهم من الثوار: ثلاثة شبان اشتركوا في معارك الثورة في القرى المجاورة، وهؤلاء هم: شقيقي (علي محظية، أبو يوسف)، وأبو علي الشاويش وياسين الرميّض. وكان من مهمات هؤلاء شراء السلاح من سورية؛ وذهبوا لذلك الأمر عدة مرات. وقد طوردوا وتخفوا في الجبال القريبة من قرانا. وأذكر أن أبي وأخي اعتقلا ودخلا السجن؛ بتهمة التعامل مع الثوار.

كانت دوريات الإنكليز حين تدخل قريتنا، كما باقي القرى؛ تجمع أهل البلد جميعاً في ساحة القرية، ويقوم الجنود بتخريب محتويات البيوت؛ تحت حجة التفتيش عن الأسلحة والثوار، ومن ثم يعتقلون الشباب لإرهاب الأهالي جميعاً. ومرة، -وقد كنت صغيراً- أتذكر أنهم دخلوا بيت عمي، وكانت عنده كميات من مادة الدخان(التبغ)، فجمعوها وأحرقوها، وكسروا محتويات البيت.

أحداث النكبة

في أحداث الـ48؛ كنت أكبر سناً وأكثر وعياً؛ فبعد قرار التقسيم عام1947، أدرك شعبنا الفلسطيني ما يحاك له من مؤامرات كان هدفها في النهاية إخراجنا من أو قريتنا (الملاّحة). كان أهل البلد مدركين ذلك، لكن لم يكن لديهم حيلة، لا المال ولا السلاح ولا الدعم؛ إلا أنهم كان لديهم إجماع على عدم مغادرة القرية تحت أي ظرف كان.

بدأت عصابات "الهاغاناة" الصهيونية تتحرش بقرانا؛ وكان هذا التحرش على شكل هجمات متفرقة. لكن بعدها؛ تطورت فأصبحت مركزة ومؤذية، وصلت إلى حد ارتكاب المجازر، ودخلت على أثرها الجيوش العربية ممثلة بـ"جيش الإنقاذ"، وتمركزت وحدة منه بجانب قريتنا (الملّاحة)، وتحديداً على مرتفعات "قرية النبي يوشع" المجاورة.

أبناء القرية تفاءلوا بذلك، وقالوا: جاء المدد، وتوقعوا من هذا الجيش تسليحهم والمدافعة عنهم. وفوجئ الجميع بما قدموه للقرية، وقد تلخص هذا الدعم بطلبهم من أهل القرية الخروج من القرية؛ لأن جيش الإنقاذ ينوي سحق اليهود؛ وطلبوا منا الخروج جمعة زمان؛ لأنه بعدها سيعيدهم الجيش إلى قريتهم معززين مكرمين.

وأمام ضغط ضربات اليهود، وقصفهم لقريتنا والقرى المجاورة بقذائف الهاون، وأمام سماع أخبار الفظائع التي ارتكبت في مجزرتي دير ياسين، والخصاص المجاورة لنا في سهل الحولة؛ وأمام قلة السلاح بل انعدامه لدينا، وأمام تعهد جيش الإنقاذ، وإصراره على خروجنا؛ تحت ذريعة أنهم خائفون علينا؛ خرج أبناء قريتنا من القرية، وسقطت القرية من دون قتال يذكر، وكان ذلك، على ما أعتقد، بتاريخ 25 أيار 1948.


التغريبة

خرجت أنا وأمي وأخي إلى لبنان، ومررنا أثناء ذلك بقرية "ديشوم" الفلسطينية، ومن ثم "المالكية"، والتقينا بكثير من العائلات الفلسطينية من قريتنا ومن القرى المجاورة. وكان الكثير منهم حفاة. تجاوزنا بعدها الحدود اللبنانية متجهين إلى قرية "بليدا" اللبنانية، وبقينا هناك فترة من الزمن؛ لاحقتنا بعدها العصابات الصهيونية، فغادرنا المنطقة إلى "برعشيت"، ومنها أكملنا الطريق إلى سوريا، وكان ذلك في شهر أيلول من عام 1948.

في سوريا نزلنا في قرية الدرباشية الواقعة على الحدود الفلسطينية السورية، وهي تبعد عن الحدود 2 كم فقط، وأقمنا فيها عدة أشهر، حصلت خلالها مناوشات عدة بين الصهاينة والجيش السوري، اضطررنا على أثرها إلى الانتقال إلى منطقة "سحم الجولان"، وبقينا فيها حتى عام 1950. وقتها؛ قاموا بتسجيلنا كلاجئين فلسطينيين. وأذكر أن الموظف (وهو من مدينة صفد) سألنا عن أعمارنا، ومن لم يكن يعرف، كان يقدّر عمره تقديراً.

بعد ذلك انتقلنا إلى منطقة "الكسوة" في ريف دمشق، وبقينا فيها حتى عام 1955؛ العام الذي انتقلنا فيه إلى مخيم "خان دنون"، الذي نعيش فيه حتى الآن.

أمل وإصرار على العودة

اليوم، بعد مرور ثلاثة وستين عاماً على خروجي من الملاّحة؛ لم أنس يوماً بيتنا الذي ما زلت أذكره تماماً: الغرفتان وبوايكة الدواب الثلاث (الزرائب) وفسحة الدار. أذكره وأذكر كل من كان يجلس فيه من أعمامي وجيراننا، إضافة إلى أمي وأبي وأخي. أتمنى أن أرجع إليه، ولو زاحفاً؛ أرجع إليه لو التحفت السماء وافترشت الأرض.

الوطن غالٍ يا أولادي. إني أتشوق إلى رؤية قريتي (الملاّحة) ونهرها البارد، وبركة المربط، والحلفا والبابير والجواميس؛ أتشوق لرؤية سهل الحولة الأخضر وترابه الأخصب من أراضي هذا العالم. والله لو أعطوني شوالات من المال، لما بدلت ذلك بحفنة تراب من أرضنا الطاهرة الزكية.

والله إنه ليحدوني الأمل وأنا في هذا العمر، أن أراها قبل أن أموت. وأنا متأكد أن العودة ليست بعيدة؛ لكن ينبغي أن نكون جميعاً على قلب رجل واحد، ونجاهد بالسلاح وبالمقاومة؛ عندها؛ ترجع فلسطين إن شاء الله.

الملّاحة:

قرية فلسطينية من قرى سهل الحولة في قضاء صفد. بلغ عدد سكانها عام 1948، حسب مصادر أبناء القرية، 1100 نسمة؛ بينما تشير المصادر الرسمية لعام 1945 إلى أن العدد لم يتجاوز 890 نسمة، بمن فيهم "عرب الزبيد".

تبعد قرية الملاّحة عن مدينة صفد قرابة 15 كم. وهي تقع في الشمال الشرقي لتلك المدينة، على الطريق العام الذي يربط سهل الحولة بصفد. تحيط بقرية الملاحة قرى: جاحولا، والعلمانية، وعرب الزبيد، وديشوم؛ جبال قرية "النبي يوشع". يقسم النهر المسمى "نهر البارد" القرية إلى قسمين: شمالي وجنوبي.

من عائلات القرية: الخطايبة، العزازمة، البراهمة، العباس، محظية،الحميدان، الدامس، الهندي (عبد العال)، وغيرها من عائلات القرية.
مساحة قرية الملاحة 2168 دونماً، ويعمل أبناؤها في الصيد النهري وصناعة الحصر والزراعة والرعي.

المصدر: مجلة العودة العدد ــ الواحد والخمسون 2011

من الذاكرة الفلسطينية: خميس جرادات غادرت فلسطين جسداً بلا روح


من الذاكرة الفلسطينية: خميس جرادات غادرت فلسطين جسداً بلا روح

فايز أبو عيد – دمشق
الشوق، الحنين، عشق الوطن، الغربة؛ هي عناوين لا يمكنك تجاوزها وأنت تحاور من أدمن حب فلسطين حتى باتت تعشّش في ثنايا شرايينه؛ هي خبزه اليومي. محال أن يمر يوم دون أن يبكي على ضياع الأرض والوطن. إنه اللاجئ الفلسطيني ابن قرية "الزنغرية" (خميس جرادات) (أبو غصاب)، من مواليد عام 1933، الذي خرج من بلده مكرهاً، ولكن قلبه بقي معلقاً بها.

أبو غصاب كان لنا حديث معه عن شوقه وحنينه للعودة إلى الوطن: بعد غربة دامت أكثر من أربعة وستين عاماً؛ أصبح هذا الفتى شيخاً، لكن صورة وطنه لا تزال ماثلة أمامه، وحلمه بالعودة إلى فلسطين ما فتئ يكبر يوماً بعد يوم.

الرحيل
حب الإنسان لوطنه لا يعادله شيء في الوجود، وقد لاحظت ذلك من خلال حديثك عن يوم هجرتك من فلسطين، كنت تتمنى الموت قبل أن تجبر على مغادرتها، حبذا لو تحدثنا عن يوم رحيلك عن أرض الوطن.

لا أدري ماذا أقول؛ فلساني عاجز عن وصف تلك المشاعر والأحاسيس التي راودتني في تلك اللحظات؛ فعندما غادرت فلسطين، غادرتها جسداً بلا روح؛ لأن روحي تركتها تهيم في محراب عشقها. خرجت منها وأنا لا أعرف بأي اتجاه أسير.

كنت بين الفينة والفينة؛ أنظر خلفي لأرى فلسطين تغيب عني شيئاً شيئاً. في ذلك الوقت؛ خالجني إحساس بالمرارة والغربة، وشعور بالذل والهوان، كان الموت عندي أهون من أن أخرج من أرض الوطن ذليلاً مكسور الجناح، لقد كان يوم خروجي من فلسطين من أقسى أيام حياتي على الإطلاق، ما زالت صورته تلوح أمامي ولا تفارق خيالي.

الغربة

الإنسان من دون وطن وعائلة ينتمي إليها، لا يمكن أن يحيا بسلام وأمان؛ فهل تحدثنا عن غربتك خارج وطنك؟
"من لا وطن له لا حياة له"، بهذه العبارة يمكن أن ألخص لك غربتي خارج وطني؛ دائماً يشعر الإنسان خارج وطنه بأنه مسلوب الحرية، يعيش على الذكريات والشوق والحنين، هذا الحنين إلى الوطن، يبقى مثل نار متقدة داخل الإنسان، لا يطفؤها إلا بعودته إلى وطنه وبيته وأرضه.

فأنا، بعد مرور أربعة وستين عاماً على مأساتي، التي تمثلت بخروجي من فلسطين، لا أعرف معنى الاستقرار؛ لأن استقراري الوحيد هو في عودتي إلى أرض الوطن؛ وغير ذلك أعدّه ضرباً من المحال.
واأسفاه على كل ورقة زيتون لم ترها عيني قبل خروجي من وطني، وعلى كل عشبة، وحجر، وكل شجرة لم أتلمسها بيدي قبل مغادرتي فلسطين. فعندما أعود (وأقول أعود رغم كبر سني؛ لأن الأمل يراودني بأن العودة قريبة)؛ فإنني سأعانق جميع الأشياء فيها؛ لأنها جزء من دمي وكياني وحياتي.

الحديث عن الوطن له نكهته الخاصة؛ والحديث عن هجرة الوطن حديث له طعم أشد مرارة من طعم الحنظل؛ لأن الإنسان عندما يتذكر وطنه يتذكره بكل ما فيه من حلاوة ومرارة، يتذكر وديانه وسهوله وجباله؛ وهذه الذكريات لا يمكن محوها من الذاكرة، فمن هنا يأتي طعم المرارة والعلقم.

النهوض مرة أخرى

العزيمة والإصرار هما الدافعان إلى تحمل أية محنة مهما كانت. وعلى هذا الأساس كان الشعب الفلسطيني يقاتل عدوه؛ ولكن هذا القتال في البداية لم يكن منظماً؛ وإنما جاء بدافع حب الوطن، فهلا تحدثنا عن بدايات الثورة الفلسطينية.

العواطف الجياشة، وحب الوطن، والحماسة هي الدوافع الأساسية التي كانت تحرك الشبان الفلسطينيين لقتال العدو الصهيوني.

رغم الأسلحة الخفيفة وغير المتطورة التي كنا نحملها، إلا أننا كنا نقاتل عن جيش كامل، ويكفي أننا كنا نحمل في داخلنا حب فلسطين. وهذه العزيمة والإصرار على القتال لم يكونا ليحميانا من اختراقات العدو الصهيوني لصفوفنا؛ لأننا كنا نقاتل بالحماسة لا بالتنظيم؛ فكل جماعة كانت تقاتل العدو وحدها تريد أن تخرجه من أرض فلسطين. بهذه الروح والعواطف كان الشاب الفلسطيني قد بدأ ثورته، وهذه الثورة حققت في ما بعد له عدة مكاسب، وكان أولها اعتراف العالم بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.

الغربة والجيل الجديد

برأيك، ما مدى ارتباط الأجيال الجديدة، التي ولدت خارج فلسطين بأرضها؟

إن ارتباط الأجيال الجديدة بوطنها يقع على عاتق الأهالي؛ لأن الأهل وحدهم قادرون على غرس حب الوطن في قلب الطفل منذ ولادته، وبدورهم يعلمونه القيم العربية الأصيلة والروح الثائرة على العدو. على هذا الأساس، كان للتوعية المنظمة دور مهم في تحديد اتجاهات الشباب وميولهم؛ فأنا وصلت إلى درجة اعتقدت فيها أن الشباب الفلسطيني في هذا العصر لا يعرف ماذا يريد، وأنه قد ابتعد تدريجاً عن قضاياه الوطنية، وعزوت السبب في ذلك إلى تلك الطفرة التقنية والتكنولوجية التي باتت سمة العصر؛ لكن هذا الاعتقاد زال تماماً؛ بعد أن شاهدت بأم عيني ماذا فعل هؤلاء الشباب في مسيرة العودة الأولى والثانية، التي قدموا فيها أرواحهم رخيصة من أجل العودة إلى تراب فلسطين. وأنا أقول لك بكل ثقة: بأننا بتنا للعودة أقرب من أي وقت مضى؛ لأننا أمام جيل أثبت أنه متمسك بحقه في العودة إلى فلسطين، مهما كلفه ذلك من تضحيات.

الداخل والخارج

في هذا الإطار، ما هو التعاون الذي يمكن أن يكون بين شعبنا في داخل الأراضي المحتلة وخارجها، لنتمكن من طرد الكيان الصهيوني؟
إن مقولة "شعب الداخل"، و"شعب الخارج"، هذه مقولة غير مقبولة؛ لأننا شعب واحد، مهما اختلفت الأوطان التي نعيش فيها حالياً، فالجميع يحمل المصير نفسه، وينتمي إلى فلسطين؛ فهذه العبارة قيلت؛ حتى يفصلوا القضية عن محورها الأساسي.

أما في مجال التعاون مع أهلنا الذين يعيشون داخل الأراضي المحتلة، والذين يعيشون خارجها؛ فيجب على كل فرد أن يشارك ويسهم ويقدم روحه في سبيل تحرير هذه الأرض المقدسة. وهذه التضحية لا تأتي إلا من طريق التنسيق والتعاون المنظم ما بين الداخل والخارج؛ فالمطلوب من أبناء الشعب الفلسطيني الآن، التكاتف والتلاحم ونبذ الخلافات وتوجيه بوصلتهم نحو كيفية العمل على مقاومة هذا الغاصب بكل الطرق والأساليب، لتعريته أمام العالم، ومن ثم طرده من فلسطين.

حلم العودة

يبدو أن فلسطين بالنسبة إليك هي امتداد لأحلامك وآمالك التي هي جزء من آمال الشعب الفلسطيني وأحلامه، وهذا ما ظهر جلياً من خلال مشاركتك في مسيرة العودة الأولى والثانية، فما هي كلمتك للحالمين بالعودة إلى أرض الوطن؟

فلسطين تعيش في عقلي ووجداني، لم أنسها يوماً قط؛ فمن عاش فيها يعرف ما تعنيه كلماتي. أتمنى أن أعود إليها، وأعيش ولو في ظل حجر من أحجار قريتي (الزنغرية). أتمنى أن ألمس تراب فلسطين وأتنسم هواءها؛ ففلسطين تسكن بداخلي، وتشكل لدي هاجساً دائماً؛ فهي حاضرة في كل أحاديثي وحركاتي وتصرفاتي؛ لذلك، عندما علمت بأن هناك مسيرة للزحف إلى حدود فلسطين؛ لملمت بعض أغراضي وأشيائي، وحملت مفتاح بيتي وكواشين أرضنا في الزنغرية، وذهبت، رغم مرضي، مع الزاحفين للمشاركة في مسيرة العودة الأولى يوم 2011/5/15، ودخلت مجدل شمس؛ والثانية يوم 2011/6/5، وكلي أمل بأن أعود إليها. وعندما وصلنا إلى أرض الجولان تنسمت هواء فلسطين، وعادت بي الذكريات إلى أجمل أيام عشتها فيها، ولم أدر بنفسي إلا وأنا مع هؤلاء الشباب نقتحم الحدود، ونقتلع السياج الشائك، ونتصدى لرصاصات هذا الغاصب اللعين بصدورنا، وكأننا بعثنا من الرماد المحترق عنقاء جديدة يجمعنا حب فلسطين، ويوحدنا أمل العودة إليها، وكأن لسان حالنا يقول للعالم: إن من كان له أذنان فليسمع؛ ومن له عينان فليرَ؛ فنحن عن حق العودة لن نتخلى، وبكل ذرة من تراب فلسطين متمسكون.

أخيراً أقول: إن من عاش في فلسطين وتنسم عبق أرضها وبياراتها،لا يمكن أن ينساها أبداً؛ فأنا رغم مرور أربع وستين سنة على اغتصاب فلسطين، عندي يقين تام بأن فلسطين ستعود إلينا؛ ولهذا تركت وصيتي لأولادي وأحفادي بأن أدفن في تراب فلسطين؛ أو أن ينقلوا عظامي إليها ويدفنوها في قرية الزنغرية عندما تتحرر.

المصدر: مجلة العودة ــ العدد /56/ شهر أيار/ 2012

من الذاكرة الفلسطينية: الحاجة فاطمة الخضراء: الأمل موجود وكبير، فلسطين راح ترجع


من الذاكرة الفلسطينية: الحاجة فاطمة الخضراء: الأمل موجود وكبير، فلسطين راح ترجع

أحمد الباش: دمشق
بكلمات عامية بسيطة، عبّرت الحاجة فاطمة الخضراء، ابنة صفد، عن أملها الكبير بالعودة إلى فلسطين. التقيناها في مخيم اليرموك حيث تعيش مؤقتاً بانتظار تحقق الأمل والحلم الذي راودها منذ خروجها من فلسطين؛ فكان هذا اللقاء الذي حاولنا ألا نغيّر في كلماته البسيطة والعامية.

صفد وحاراتها
حارات صفد عديدة و(كتيرة)، وكانت كلها مرصوفة بالحجر. وهذه الحارات هي: حارة الألعة (القلعة)، وحارة الصواوين، وحارة الجورة، وحارة الأكراد، وحارة الوطا، وحارة السوق، وحارة النصارى. وكنا إحنا ساكنين بحارة الصواوين؛ بالإضافة إلى هذه الحارات؛ كان يوجد عندنا حارة تسمى "حارة اليهود"، وهي حارة قديمة، سكانها من اليهود الفلسطينيين، وكانت حارة كبيرة، وكانت علاقتنا مع أبناء هاي الحارة (منيحة)، ومثل كل الحارات الأخرى؛ وكنا نشتري من دكاكينهم ويشتروا من دكاكينّا. وكان اليهود في صفد مشهورين ببيع القماش والملاحف والألبسة، وحتى تجهيز العروس كنا نجهزها من عندهم؛ لأنو كنا نجد كل شي عندهم. ووصلت علاقتنا فيهن لدرجة إنو واحد من بيت سعد الدين تجوز يهودية من تلك الحارة، وكانت تعمل خياطة، وبعد ما تجوزها أسلمت؛ فكانت صفد مثالاً للتآخي بين كل الأديان.

وأذكر أن عمي العبد كان محبوباً لدى اليهود، وكانوا يكنّون له كل الاحترام، لأنه كان ما يفرق بين الفلسطينيين من مسيحيين أو يهود أو مسلمين. وكان اليهود يشتكوا عنده على اللي يؤذيهم، وكان يحق الحق؛ وكان اليهود عندنا يتكلموا العربية مثلنا، وما سمعتهم ولا مرة بتكلموا غير ذلك.

وعد بلفور المشؤوم

لكن من يوم ما أعطاهم هالغدّار (بلفور البريطاني) الوعد، بأن يحتلوا فلسطين؛ بلّشنا (بدأنا) نشوف وجوه غريبة في بلادنا. طبعاً، شعبنا رفض وعد بلفور، وبدا يقاتل الإنكليز واليهود اللي عم بيجو (الذين بدءوا بالهجرة) على فلسطين؛ وفي عام 1929 قامت ثورة، واستشهد فيها من صفد: فؤاد حجازي، ورفقاته (عطا الزير، ومحمد جمجوم)؛ وثارت وقتها صفد وهاجموا على أثرها حي اليهود؛ وأصيب عمي (أبو زوجي) بطلقة إنكليزية في فخذه في الشريان (الثخين) وظل ينزف يوم وليلة، وما قدروا أهلنا يسعفوه؛ لأنو ممنوع التجول، وممنوع يتعالج في المستشفيات؛ لأنو يا بيعتقلوه يا بيقتلوه؛ وظل في البيت حتى فارق الحياة (كما رووها لي أهلي). ولما مات؛ إجو بدهن يدفنوه، ما استطاعوا يدفنوه بالمقبرة الجديدة؛ لأنو ما كانوا يقدروا يوصلوها؛ فدفنوه فوق والده في المقبرة القديمة.

وتطورت الأحداث بعدين؛ ومرة كنت في المدرسة، وحصلت اشتباكات بين العرب من أهالي صفد وعصابات اليهود المدعومين من الإنكليز؛ فلم نكن نستطيع العودة إلى بيوتنا، إلا ومعانا الشرطة اللي وصّلت كل طالب أو طالبة لحاراتها وبيتها.

بهالفترة كان الحي اليهودي في صفد قد امتلأ بالمقاتلين اليهود، وتحصنوا (منيح)؛ وكانوا عاملين في بيوتهن طاقات ومنها يقنصوا الفلسطينيين، وكانوا عم بعدّوا حالهم للمعركة الكبيرة.

قرار التقسيم

بعد قرار التقسيم عام 1947؛ هجم أهل صفد على الحي اليهودي؛ رداً على القرار؛ ومن يومها أخذ أبناء صفد يتسلحوا (كتير)، وصارت في عنا حراسات بالليل والنهار.

في نيسان عام 1948، سمعنا عن "مجزرة دير ياسين"، والفظائع إللي قاموا فيها العصابات الصهيونية بالقرية. وبصفد بعد هذه الأخبار؛ بدأت معنويات الناس تنهار، وبدا العجز ظاهراً على وجوه الناس.

والسلاح بذكر لما كان يجينا بتكون البارودة فرنسية، والطلقات إنكليزية؛ أو يبعثولنا بواريد إنكليزية والطلق فرنسي؛ وتصبح البارودة كالخشبة بإيد المدافع عن المدينة، إضافة إلى الفشك الخربان (الفاسد).

وصار الناس يقولوا: شوفوا اليهود صار عندهن طيارات ودبابات وأسلحة كتير، وإحنا ما عنا غير هالبارودة. شو بدها تساوي؟ أخوتي كان عندهن بارودة واحدة يداولوها بينهن، والفشك اللي عندهن خلص. وبدأ الناس بعد هالمجزرة تخرج من المدينة. وبذكر يوم ما طلعنا؛ كانت الدنيا برد، وكنت لابسة فستان صوف اشتغلتوا على إيدي، وكنت لابسة الملاية الصفدية، والعباية تبع جوزي (أبو سمير)؛ وهدول الأواعي (الألبسة) اللّي طلعت فيهن من فلسطين وطلعتهم معي من صفد. وكنت أقول لجوزي: بس لو أطلعلي غيار واحد مع اللي لابسيتهن. يقولّي: شو... إحنا رايحين نشم الهوى! إحنا طالعين يومين وراجعين، ولا توخذي شي معاكي. حتى بذّكّر إنو قلينا السمكات وحطيناهم بالنملية (خزانة الأكل)، وما خلاني جوزي أطلِع حتى الأكل معي.

التغريبة:

وطلعنا من صفد: أنا، وجوزي، وأخوته؛ وظلت هناك خواته الثنتين وأولادهن وأمه. ومن صفد طلعنا على قرية السموعي، ونمنا ليلة فيها، وكانت القرية عالية ومشرفة على حارة اليهود بصفد. وكنا نشوف حارة اليهود وهي ضاوية وكأنها نهار؛ بينما نحن قطعت الكهرباء عندنا.

وفي صباح اليوم التالي؛ طلعنا بالسيارات على منطقة "بنت جبيل" اللبنانية، ومنها إلى قرية "خان أرنبة" الموجودة في الأراضي السورية، وهناك كان أبو سمير (جوزي) بعرف واحد من بيت (مريود)؛ فسأل عنو رجل من بيت السعدي من القرية، وأخذنا الرجل، وما رضي إلاّ ينزلنا عندوا، وكنا بالسيارة وقتها؛ ثلاثين شخص (نسوان، ورجال، وولاد)، وكلّنا من بيت الخضراء؛ وكان في ورانا (خلفنا) سيارتين أخريات، وبتنا (ونمنا) بـ"خان أرنبة" ليلتين؛ وبعدين راحوا رجال العيلة، واستأجروا بيوت في مدينة القنيطرة، وراحوا سكنوا هناك، وبقيت أنا وأبو سمير بخان أرنبة؛ لأنو صحابه ما خلوه يروح؛ وبقينا هناك حوالي أسبوع؛ وبعدين جاء أخوي وأخذنا على القنيطرة، واستأجرنا هناك غرفة، وقعدنا تقريباً شهر؛ وبعدين الحكومة السورية قالت إلنا: كلّ اللاجئين لازم ينزلوا عالشام، وإجينا وقتها على "دوما" في ريف دمشق، وأعطونا بيوت هناك وقعدنا فيها قرابة سبع سنين.

بعد رحلة العذاب؛ حصل أبو سمير على سفرة على السعودية، ورحنا أنا وإياه، وقعدنا خمس سنين. رجعنا بعدها لدوما، وسجلنا أسماءنا بوكالة الغوث (الأونروا).

الحنين إلى صفد

وبعد هالعمر، وبعد ثلاثة وستين سنة من التعب والشقا والعذاب والتشرد والقهر، بعد كل هذا؛ ما زلت أحنّ لصفد، أحنّ للبيت الذي خرجت منه، واللي عمروا ما راح من بالي، بتذكروا وكأنه قدام عيني، الغرفة اللي كانت أكبر من غرف اليوم بثلاث مرات، وبتذكّر الشباكين وتحتهم المصطبة اللي كنا نجتمع عليها عند العصر وعند غروب الشمس ونسهر تحت ضو القمر، ونشم هوا بلادنا.

صحيح زي ما خبرنا ابن أخت زوجي: إنو اليهود هدموا بيتنا؛ لأنو عمي كان مع الثوار واستشهد معهم؛ لكن بدي أرجع لو أعيش فوق الركام؛ وأعيش وأنصب خيمة بأرضي، ولا أظل بهالبيوت. يوخذوا كل هالبيوت اللي صارت عنا بهالبلاد، بس يرجعوني على صفد. على صفد مش على غيرها، على حارة الصواوين، على أرض بيتنا اللي هدموه.

بلادنا يابنييّ حلوة! ياريت نرجعلها اليوم قبل بكرة، هاي فلسطين بلادنا، نولد فيها أجدادنا وأبو أجدادنا منذ انخلقت هالدنيا. بدنا نرجع كل واحد على مدينته وقريته وحارته.

وبالنهاية؛ قد ما طالت بدها ترجع بإذن الله، يا بنيّي، ليش بدها ترجع؟ لأنو الله وعدنا إنو ترجع، وهذا مكتوب بالقرآن في سورة الإسراء. بقول رب العالمين: وإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم، (بقلهن لليهود) وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علو تتبيرا. صدق الله العظيم. راح ترجع لما الله يريد؛ وإحنا علينا نستعد ليوم الله ينفّذ إرادته بهاليهود. والأمل موجود وكبير. راح ترجع فلسطين؛ لكن إذا أنا ما رجعت وقدرت أشوفها، أكيد أولادي أو ولاد ولادي، يشوفوها.

راجعين بإذن الله

وكلمة أخيرة بوجهها لكل أولاد شعبنا: عليكو يا ولادي بالعلم، والشهادات الكبيرة؛ علشان تعرفوا شو صاير بالدنيا، تعرفوا كيف راحت فلسطين وكيف بدها ترجع، وكيف بدها تتحرر؛ وعليكو تتمسكوا بدينكو وببلادكو؛ لأنو ربنا راح يدلكو على الطريق الصحيح.

وأُنهي كلامي برسالة بعثها واحد صفدي من أصدقاء زوجي لزوجي قال فيها:
كتبت كتاب الشوق مني إليكم
ويوم فراقكم ياما بكينا
ويوم فراقكم صعبٌ علينا
ويا فرحي إذا فيكم لقينا
قلت: يا فلسطين أين أهلك غدوا
قالوا: في سوريا صاروا لاجئينا
قلت: يا دار أين المنتهى قالت
عندما يريد رب العالمينا
سألت الله يجمعنا بكم
ونبقى في محل واحد يا ربي ساكنينا
وتمحي من الخارطة يا ربي اسم "لاجئينا"

المصدر: مجلة العودة ــ العدد / 52/ شهر 1/ 2012

من الذاكرة الفلسطينية: الحاجة فاطمة أرشيد من عرب المواسي: العصابات الصهيونية قتلت أبي، واثنين من أشقائي، وزوج أختي، وابن عمي


من الذاكرة الفلسطينية: الحاجة فاطمة أرشيد من عرب المواسي: العصابات الصهيونية قتلت أبي، واثنين من أشقائي، وزوج أختي، وابن عمي

تم اقتيادهم من المنازل وأعدموهم دون أي رادع، وادعوا بأن المواطنين في عرب المواسي يخبئون الأسلحة لدعم جهات معادية؛ أهالي القرية أعلنوا استسلامهم ورفعوا الإعلام البيضاء؛ إلا أن الجيش الصهيوني رد بالسلاح والرصاص والقتل والدماء.

في المقبرة الإسلامية، وقبالة اللوح الرخامي المنصوب على القبر الجماعي لشهداء المواسي الـ 15، وقفت سيدة في السبعينات من عمرها، وحيدة بين الرجال، والدموع تتجندل من أعلى خديها؛ وكلما ذكر الشيخ أسماء الشهداء، أشارت إلى صدرها قالت: هذا أبي، ومن ثم تنهدت ومرة أخرى قالت: هذا أخي، ومرة ثالثة وشهقت نفسها وصفعت صدرها وقالت: هذا أخي، ومرة رابعة وتنهدت وقالت: هذا ابن عمي. وأنصت الجميع من حول النصب التذكاري؛ لنسمع ما تقول، ولنعرف ما معنى "أبي وأخي مرتين، وابن عمي" فكان جوابها، وهي تكفكف دمعها:" أنها فاطمة عطية أرشيد، كيف لا يمكن لي أن أبكي، وقد شاهدنا شباب عائلتنا وهم جثث على بعضها، وقد قتلوا بدم بارد! فيومها كنت أبلغ من العمر 11 عاماً، وقد جمعوا الشباب الذين تواجدوا في البيوت واقتادوهم إلى مكان لم نعرفه، فما كان منا نحن الأطفال إلا الصراخ والبكاء؛ وكنا نسمع عن القتل والمجازر التي يتناقلها الناس من بلد إلى بلد.

في ليلة 3 تشرين ثاني؛ لم يعد أي من الشباب الذين غادروا المضارب، حتى علمنا فجر اليوم التالي أن الصهاينة قد أعدموهم بدم بارد، واتهموهم أنهم يساعدون المتمردين الفلسطينيين، ورفضوا التعاون مع اليهود؛ وقامت أمي بجمعهم وطلبت المساعدة من النساء، ودفنوا الشهداء قرب "مغارة عين ناطف" (في سهل البطوف)، وليتبين فيما بعد أن أحدا تواجد بين المجموعة؛ إلا أنه موه الجنود بأنه قتل، واسمه "سعد المواسي"؛ وبعد أن غادر الجنود؛ خرج وهو ينزف، وأكد أن الابن "معجل العطية" قد طلب من الجيش بإطلاق سراح والده (عطية حمود أرشيد) فرفضوا وقتلوهم جميعاً.

وقبل 15 عاماً قمنا بنقل رفات وعظام الشهداء بكيس، وأحضرناهم ودفناهم في قبر واحد، وأقمنا النصب التذكاري عليهم، وأوصت والدتي أن تدفن هي الأخرى بجانب والدي وشقيقَيّ (معجل، ومقبل)، وابن عمي (صالح عبد الله أرشيد)، ونايف أسعد عيسات (زوج أختي)، وهذا ما كان؛ فقد دفنا والدتي بجانب زوجها وابنيها ونسيبها".

وتقول فاطمة عطية حمود ارشيد: "الشباب لم يقتلوا أحداً، ولم يفعلوا شيئاً، سوى أنهم عرب وفلسطينيون، تم اقتيادهم من المنازل، وأعدموهم دون أي رادع، وادعوا بأن المواطنين في عرب المواسي يخبئون الأسلحة لدعم جهات معادية؛ وكانت البلد قد رفعت الإعلام البيضاء؛ دليل الاستسلام.
وعندما دخلها الجنود؛ ظن الجميع انهم سيحترمون ذلك؛ إلا أنهم سرعان ما جعلوا عليها طوقاً وبدأوا بتلاوة أسماء عدد من البلدة، كان بينهم أفراد عائلتي: والدي، واثنين من أشقائي، وابن عمي، وزوج أختي، واحد عشرة آخرين من العشيرة؛ واقتادوهم لجهة لم يعرفها أحد؛ ولم يعد منهم إلا "سعد المواسي"، الذي اخبر الجميع عما حدث معه، وكيف أنه ألقى بنفسه أرضا وكتم نفسه؛ بالرغم من إصابته، وبقي كذلك حتى جن الليل، وغادر الجنود المكان، ليحدث بأن الجنود أوقفوا الشباب صفاً واحداً وأطلقوا النار عليهم من الرشاشات.

وفي ليلة الخاتم من شهر تشرين أول؛ تم تجميع أهالي بلدة "عيلبون" في ساحة الكنيسة بالبلدة القديمة، بعد أن طلب منهم الجنود التجمع. وهناك تم طرد أهل البلدة جميعاً نحو الشمال؛ وبالمقابل كانت صرخات الأطفال تتعالى خوفاً، والنساء في حالة من الذعر من الموقف، وأبقوا على عدد من الشبان.
وبعد مضي فترة من الوقت؛ بدأوا باستدعاء الشبان، كل ثلاثة منهم على حدة، وإطلاق النيران عليهم من قبل قائد الكتيبة ليردي 14 شاباً. وحينها؛ كان الشبان الآخرين يسمعون الطلقات النارية، ولا يعرفون ما الذي يجري، ولم يعرف المهجرون شيئاً عن أبنائهم إلا بعد مضي وقت طويل ووصولهم إلى لبنان، فلم تتجاوز فترة التهجير تلك إلا عدة أسابيع بعد أن تدخلت جهات دولية، وتمت إعادة أهل البلدة إلى موطنهم.

الحاج مسعود مواسي

ويقول مسعود عطية المواسي: إن السبب الذي تذرع به اليهود باقتحام عيلبون وعرب المواسي، هو أن هناك من قام بقتل جنديين من العصابات اليهودية.

وبعد هذه المعركة سقطت عيلبون؛ فقامت سرية من المشاة بجمع سكان عيلبون؛ بتهمة قتل الجنديين من العصابات الصهيونية. وكانت بين القوة التي احتلت عيلبون، جندية قتل شقيقها في المعركة؛ فطلبت أن تنتقم لمقتل الجنديين، واحدهما أخاها؛ فقتلت أكبر عدد من العرب، تمكنت منهم (وعددهم 14 شاباً من عيلبون، كان من بينهم محمد الأسعد من حطين المجاورة)، ولم يكتفوا بقتل الـ 14 شاباً؛ بل ألقوا القبض على شباب من المواسي، واتهموهم بالتعاون مع "جيش الإنقاذ" ومساعدتهم بقتل الجنديين اليهوديين؛ فاعتقلوا 16 شاباً واقتادوهم لجهة مجهولة وأجهزوا عليهم، ما عدا واحد فقط (الذي استطاع الهرب).

ويؤكد عطية المواسي أن الجنود ادعوا أنهم فتشوا بيوت العشيرة، ووجدوا عند عطية الحمود ذخيرة الجنديين اليهوديين اللذين قتلا في اشتباك مع جيش الإنقاذ (وهذا السبب في قتلهم إياه، وابنيه (معجل، ومقبل)، وهي قصة كاذبة تم ابتداعها؛ بهدف الانتقام من عرب المواسي، لدعمهم جيش الإنقاذ.

من الذاكرة الفلسطينية الحاجّة سعاد سليمان: هناك من باع فراش بيته ليشتري قطعة سلاح. لو ملأوا الدّار ذهباً مقابل ذرة من تراب حيفا؛ ما قبلت


من الذاكرة الفلسطينية الحاجّة سعاد سليمان: هناك من باع فراش بيته ليشتري قطعة سلاح. لو ملأوا الدّار ذهباً مقابل ذرة من تراب حيفا؛ ما قبلت

أحمد الباش/دمشق
"حيفا، تلك المدينة الفاتحة ذراعيها لكل الغرباء، كانت تقف شامخة أمام أمواج البحر العاتية، تصدها عندما تشعر بالخطر، وتحتضنها عندما كانت تأمن لها". بهذه الكلمات افتتحنا لقاءنا بـ"الحاجة سعاد سليمان، المقيمة مؤقتاً في مخيم العائدين في حمص- سورية" (كما يحلو لها أن تعرف نفسها)، مؤكدة أن الإقامة مؤقتة.

البدايات
تقول الحاجة سعاد: سكنّا هناك في أحد أوديتها التاريخية والجميلة (وادي روشميا). كنا نعيش الأمن والأمان، وكنا نعرف أن للمرأة دوراً واحداً هو رعاية الزوج والأولاد، والقيام بخدمتهم وراحتهم؛ لكن الغرباء مثلما قتلوا طفولة الأطفال، قتلوا أنوثة النساء فينا؛ امتشقنا السلاح، وقمنا بالحراسة مثل الرجال في الليالي الظلماء، ودافعنا عن بيوتنا وعن أرضنا وعن عرضنا.

وتتابع: جاء إليها الغرباء من أوروبا وأمريكا. أتوا بأولاد وبنات بلا آباء ولا أمهات، قالوا لهم: إن آباءكم وأمهاتكم قتلهم العرب الفلسطينيون المسلمون؛ فربّوهم على الحقد والكراهية والعنصرية؛ وقد كانوا هم من قتل آباءهم وأمهاتهم. كل ذلك لكي يجلبوهم إلى أرض "العسل واللبن" (كما سمّوها).

وتقول: إني ما زلت أتذكرهم، حين كانوا يجمعونهم ذكوراً وإناثاً في غرفة واحدة، ويقتطعون لهم من أراضينا ويعطونهم إياها، على أنها أرض آبائهم وأجدادهم. كنت في الثانية عشرة، أو أكثر بقليل، حين وقعت مجزرتا: "الحسبة" (سوق الخضار)، و"حواسه" في حيفا.

المجازر
المشهد الأول كان في وسط مدينة حيفا: في أحد صباحاتها الجميلة؛ فرض الإنكليز واليهود حظر التجوال على سكانها لمدة ساعة فقط، امتدت من الساعة السادسة إلى الساعة السابعة صباحاً. أعطيت التعليمات بإطلاق النار على كل من يفتح باب بيته، أو حتى شباكه ليرى ما يُعَدّ لهذه المدينة الآمنة؛ كنا نسمع في الشوارع هدير الدبابات وسيارات نقل الجنود، وتمتمات لألسن غريبة. وبعد ساعة رُفع حظر التجوال، وأخذ الناس يتوافدون بكثرة على الأسواق. دخل أبناء حيفا الحسبة، ليشتروا حاجاتهم اليومية.

وعند السابعة والربع؛ أي بعد ربع ساعة فقط؛ تحول السوق ومن فيه إلى ركام وأشلاء ونهر من الدم يسيل في الشوارع؛ تفجير لم يسبقه تفجير بهذا الحجم في وسط المدينة. براميل مُلئت بالمتفجرات؛ الرؤوس والأيدي والأرجل تطايرت في كل مكان! الأحشاء تراها معلقة على أسلاك الكهرباء وتلتصق بالجدران؛ ومن بقي حياً، وقف مذهولاً أمام ما حدث، وأخذ يجمع الأشلاء وهو يصرخ.

المشهد الثاني كان في حواسة (قرب حيفا)؛ حيث تسكن بعض العائلات الفلسطينية في بيوت من التنك، وكان بعض ملاك الأراضي في تلك المنطقة، يبنون البيوت البسيطة ويؤجرونها للعمال الذين جاؤوا من القرى والبلدات البعيدة عن حيفا: في ليلة ظلماء، تسلل بعض اليهود من عصابات "الهاغاناة" إلى تلك المنطقة، وأخذوا يذبحون تلك العائلات المسالمة بالسكاكين والسلاح الأبيض، فذهب ضحية ذلك العشرات.

النكبة
وبدأت أحداث 1948م، وبدأت معها المشاهد الفظيعة تتوالى. وكان العمال يهوداً وعرباً يشتغلون في الميناء، وكان الإنكليز يوقفون الباصات في الخارج، ويفصلون الركّاب اليهود، ويركبونهم في الباصات؛ بينما يركبون الركاب العرب في الشاحنات.

وهناك؛ عند الميناء، كانت تحدث العديد من الحوادث بين أولئك العمال، حيث تبدأ بالحجارة، وتنتهي بالسلاح الأبيض والفؤوس وأدوات العمل.
قسمت حيفا في تلك الآونة إلى قسمين: أعطيت المناطق المرتفعة لليهود؛ والمناطق المنخفضة للعرب. وفي هذه المرتفعات انتشر القناصة اليهود، وبدأوا عمليات القتل والتنكيل بأبناء المدينة.

وأصبحت بعض الشوارع من الصعب المرور بها، وخاصة في الليل. وأتذكر حادثتين جرتا في تلك الأيام العصيبة:

الأولى: جرت في حارة "الغزازوة" في "وادي روشميا"، حيث جلس ثلاثة قناصين يهود، وأخذوا يطلقون النار على كل من يمر في تلك المنطقة. وبينما كان يمر بائع كاز وقاعد عم بنادي على الطنبر: كاز... كاز، وما شفنا غير أطلقوا عليه النار بالقناصة، يا حرام! إلا هو واقع على الأرض، والنساء صاروا بدهم يطولوه. وكان كل واحد يريد أن يطوله يطلقون عليه الرصاص. بعد ذلك قامت امرأة قوية رجالية وزحفت زحف على الأرض على بطنها، وشدته من رجليه وسحبته، وأدخلته بين البيوت، وما بعرف شو صار فيه بعدين.

أما الحادثة الثانية: فكان في واحد حوراني حامل كيس الطحين، ونحنا وراء بيت عمي؛ ورايح ينقلوا من مكان لآخر، وقام القناصة أطلقوا الرصاص عليه، ولا هيّة جاي في عينه، يا حرام! وما بعرف مات ولا طاب. المهم: أسعفوه إلى المستشفى.

في الطيرة
بعد تلك الحوادث المتتابعة، تركنا حيفا وذهبنا إلى قرية أبو كايد (زوجي) (قرية الطيرة) المجاورة، وقعدنا فيها حوالي الشهرين أو الثلاثة؛ وصاروا اليهود ينزلوا ويتسللوا علينا، ويرموا قنابل ويحرقوا ويفجروا البيوت المتطرفة في البلد؛ وصرنا ننام على شط البحر في بعض الأيام؛ لأنه كان هناك بعض المعسكرات للجيش الإنكليزي.

كان زوجي يعمل سائق سيارة، ينقل الخضار والفواكه من القرى إلى المدن الفلسطينية. وفي الطيرة؛ وجدنا الأهالي يعدون العدة للتصدي لليهود الصهاينة.

وكنت أنا منذ صغري (عفريتة)، قوية القلب، جريئة، لا أخاف؛ لذلك، أخذت أساعد أبو كايد في تهريب السلاح للقرية. وكنت ألبس لباس أهل المدن، وأخبئ السلاح، مثل: الرشاش أبو ستة وثلاثين طلقة، تحت ملابسي (تحت الكبوت)؛ فلا يفتشونني، ويكتفون بتفتيش أبو كايد (زوجي). كان إقبال الناس على السلاح كبيراً، "وأذكر والله العظيم إنو في ناس باعت فراش بيتها؛ حتى تشتري قطعة سلاح".

تهريب السلاح والتدرب عليه:
كان بعض الشبان يذهبون لشراء السلاح من مناطق بعيدة عبر الجبال مشياً على الأقدام، وكان أبو كايد يعلمني على السلاح كلما كان يأتي من عمله؛ وعندما يسافر بسيارته عدة أيام؛ كنت أتدرب وحدي، فأضع تنكة بين الأحجار، وأرسم عليها دائرة ونقطة في وسطها، وأطلق عليها من المسدس الذي كنت أحمله. وكنت أعرف أضرب على البارودة، وعلى الرشاش كمان، وكنت أعرف أستخدمه منيح؛ بس كانت البارودة تهدلي كتفي عندما أطلق الفشكة منها.

أعطاني أبو كايد المسدس مع 15 فشكة، وأعطاني معه مخزنين رصاص؛ وكنت أيامها أطلع حرس في الليل، وأقول لأبو كايد: "روح نام، وأنا بوقف حرس محلك؛ من شان تروح على شغلك الصبح". وكان يوصيني عندما يذهب الصبح ويقول لي: "ضعي المسدس يا مرة تحت المخدة، وكوني حذرة؛ لأن اليهود يأتوا في الليل مثل الحرامية، ويتسللوا للبيوت ويقتلوا من فيها".
لقد جعلتنا تلك الأوضاع في بلادنا كالرجال، وقد شجعنا ذلك حين كنا نرى اليهوديات في حيفا يجلسن وراء الرشاشات، مثل الرجال وندرك أننا لسنا أقل منهن شجاعة.

وفي حادثة لا زلت أذكرها حول تهريب السلاح: حصلت مع شخص اسمه "سرور" من حيفا ، وكان مرة مهرب السلاح مع الخضار مع سيارتين أخريات؛ وكان السلاح جاي من سورية وقتها، عن طريق عكا- حيفا؛ وكان هناك عملاء؛ ففسدوا عليه، فأوقف اليهود والإنكليز السيارات وفجروهم بحمولتهم.

وطلعنا من البلاد بعد ما قصفوا الطيرة بالطيران، والمدفعية، ومن البحر بالزوارق، وتشردنا وذقنا مرارة فراق الوطن، لحتى وصلنا على هالبلاد في هالمخيم.

في انتظار العودة
واليوم، بعد ثلاثة وستين سنة، ما زلت أنتظر أي لحظة لأرجع فيها إلى مدينتي، وإلى قرية زوجي وأولادي وأحفادي، ومستعدة أن أنصب شادر وأقعد هناك. أريد أن أشم رائحة التراب يلّي ريحته عطر، ويلّي ريحته بتشرح القلب، ويلّي ارتوى بدم أولاد شعبنا؛ هذا التراب اللي لما كنا نمسكوا نلاقيه رطب، وإن كان بعز الصيف؛ الندى يلي كان ينزل من الزرع في الصباح يعبي أواعينا (ثيابنا) ميّ. بلادنا يا يمّا حلوة ما في زيّها بلاد.
وأنا بقول للي بقولوا: إنو ارجعوا على الضفة أو غزة أو توطنوا بالبلاد اللي انتو فيها، أنا بقُلّْهم: بلدي حيفا وبلد زوجي وولادي الطيرة، وأنا بدي أرجع عليها، مو على غيرها.

وأنا بسأل: كيف المسلمين لليوم ساكتة ولا بتتحرك؛ واليهود عم يهدموا مقدساتنا ويمحو تاريخنا؟ أنا اليوم لما بتذكّر بلادنا وحياتنا فيها بَصْفُنْ، ولما بشوفها على التلفزيون ببكي. والله لو ملأوا الدار هذه كلها مال وذهب مقابل ذرة من تراب حيفا ما ببيعها؛ بلادنا غالية علينا.
ومثل ما إجت ساعة وقالوا لنا: امشوا اطلعوا؛ الله -سبحانه وتعالى- قادر في نهار وليلة يقول لنا: ارجعوا لفلسطين لبلادكو، والله قادر على كل شي.

المصدر: مجلة العودة العدد السابع والأربعون - السنة الرابعة آب (أغسطس) 2011 م