من الذاكرة الفلسطينية: محمود علي حسين يوسف: صحيح صارلنا 63 سنة طالعين من بلادنا، لكن عندي أمل نرجع ونشوفها
يبدأ الحاج محمود علي حسين يوسف، من مواليد 1933 مزقة حطين، قضاء طبرية؛ من عشيرة عرب المواسي، الذي يعيش مؤقتاً في مخيم "خان الشيخ" حديثه قائلاً: قريتنا (مزقة حطين) قرية صغيرة، تقع على تلة اسمها "مزقة"، بالقرب من قرية حطين التاريخية. تبعد عن مدينة طبرية ما بين (15 إلى 20 كم). تحيط بـ"مزقة حطين" قرى: الوعرة السودا، وعيلبون، ودير حنا؛ ومناطق: سيبانة، وسهل البطوف.
ويتابع: أما عشيرتنا؛ فهي "عشيرة عرب المواسي" الفلسطينية، وهي من العشائر الكبيرة، وتكاد تكون الأكبر في الجليل الفلسطيني. تتألف العشيرة من عدة حمائل وعوائل تعود جميعها إلى العشيرة الأم. ومن هذه العوائل: العوايدة، والزهران، والعيسات، والبطاطخة، وغيرها من الفروع الأخرى. وكانت تتوزع مساكن العشيرة ومضاربها في مناطق: مزقة حطين، والوعرة السودا، ووادي الحمام.
بعد وعد بلفور
كانت تحيط بقريتنا كُبّانيات يهودية عديدة منها: "كنصار" و"المجدل" و"تل ناحوم"، وقد ربطتنا بتلك (الكُبّانيات اليهودية) علاقة جيدة في البداية؛ لأن أغلب سكانها كانوا يهوداً عرباً فلسطينيين؛ لا أجانب؛ فعاداتهم هي عاداتنا، وكانوا يفلحون الأرض ويزرعونها مثلنا، ويلبسون لباسنا الشعبي (الحطة والعقال)؛ حتى إن البعض منهم كان يتمسك ببعض العادات التي تُعَدّ من أساس عاداتنا، كضيافة القهوة المرة. وكنا نستضيفهم ويستضيفوننا، وكان بيننا وبينهم تبادل على مختلف المستويات. وظلت العلاقة هكذا، حتى جاء اليهود الغربيون بعد وعد بلفور، واستوطنوا بلادنا.
طبعاً، لما جاء اليهود الوافدون؛ كانوا يأتون خفية أو بمساعدة الإنكليز، الذين فتحوا لهم المعسكرات وسلّحوهم ودربوهم تدريباً جيداً، كل ذلك؛ ليسهل عليهم الانقضاض على أهل القرى والمدن الفلسطينية.
وعندما أتمّ الانتداب البريطاني مهمته؛ انسحب ليترك البلاد لليهود ليعيثوا فيها فساداً. وأذكر أن العرب في طبرية، شعروا بما يحاك لهم، ووعوا الدور الذي يقوم فيه الإنكليز؛ فهاجموا مركز البوليس في المدينة؛ ولم يكن الرد على ذلك من الإنكليز؛ بل كان من اليهود مباشرة؛ حيث بدأوا يهاجمون القرى الفلسطينية ويحرقونها ويهدمونها على أصحابها؛ للضغط على أهالي تلك القرى للخروج والهجرة إلى مناطق أخرى.
قبل النكبة
جيش الإنقاذ عندنا، اللي كان على رأس كتائبه "أديب الشيشكلي" من سورية، و"وصفي التل" من الأردن، كان كلما يرجّع قرية محتلة، يوقفوا القتال ويقولوا: هدنة. ارجعوا يا عرب مطرح ما كنتوا" ييجي ثاني يوم اليهود ويحتلوا تلك القرية، ويعملوا هدنة ويبقوا فيها. وكل ذلك بأمر الملك عبد الله "قائد الجيوش العربية آنذاك". وهكذا ظل اليهود يوخذوا فلسطين؛ قطعة قطعة، قرية قرية، مدينة مدينة.
معاركنا مع اليهود كانت تصير تقريباً كل يوم في منطقة جبل الطاقية، وكل يوم كنا نوقع في صفوفهن إصابات.
وفي يوم؛ كان أحمد النادر (أحد أفراد عشيرة المواسي في المزقة) عامل غدا لأهل البلد؛ بمناسبة مجيئه ولد بعد عشر سنين من الانتظار، وأقام الغذاء على ذاك الجبل، وكان يوم سبت، واليهود ما كانوا يأتوا إلى الجبل. وعندما بدأوا ينزلوا الغداء؛ وما حسينا إلا الدبابات بدأت تطوق البلد، وبعدين دخلوا البلد واعتقلوا ست وثلاثين شاب. وما كان فيهم واحد عمره فوق الأربعين سنة. واقتادوهم في الدبابات إلى قرية مغار حزور. وهناك بدأوا يفرزوهن، ويتشاوروا عليهم، ويصنفوهم: هذا إعدام؛ وهذا مؤبد؛ وهذا كذا. وانتقوا 17 شابًا منهم؛ وحكموا عليهم بالإعدام؛ و12 أو 13 مؤبد؛ والباقي لا أدري ما هي أحكامهم. وقام الصهاينة بإعدام الشباب، والمعتقلين اخذوا إلى سجنين في "تلحوم" و"طبرية"، ولم يبقوا طويلاً هناك؛ حيث هربوا بمساعدة يهود يمنيين كانوا يحرسوهم؛ ووصل هؤلاء إلى سورية بسلام.
علمنا نحن أبناء العشيرة بما حصل، وذلك من شاب حضر إعدام الشباب، هو محمد أبو السعود؛ فقام بعض الرجال بالبحث عن جثث الشهداء في منطقة تسمى باب الدورات (كانت تبعد عن عيلبون مسافة كيلو ونصف) (كما وصفها لنا الشاب محمد). وعندما وصلنا هناك؛ لم نجد أحدًا من الشهداء. ووسعنا دائرة البحث؛ وإذا بأحد الشباب السبعة عشر ملقى تحت شجرة، ومضمخ بدمائه؛ فتعرفنا إليه؛ وكان اسمه "سعد محمد ديب" (أبو سودي)؛ والمفاجأة أنه رغم الإصابات الكثيرة التي كانت في جسده؛ كان لا يزال حياً، وكان ضخم الجثة، طوله يتجاوز 180 سم، وقد كسرت رجلاه ويداه؛ ولم نستطع حمله معنا؛ بسبب كسوره والطريق الخطرة. عدنا إلى الأراضي السورية حيث الأراضي التي هُجِّر إليها أبناء العشيرة، وأخبرناهم بما رأينا.
في اليوم الثاني؛ أخذ بعض الرجال فرساً، وذهبوا إلى مكان سعد ووضعوه في خرج الفرس، وجاؤوا به إلى سوريا. أما باقي الشهداء؛ فقد علمنا بعد ذلك أن أهالي عيلبون من المسيحيين الفلسطينيين، نقلوا جثثهم إلى مغارة قريبة من القرية، وقاموا بإغلاقها بالحجارة والطين.
نتيجة للمجزرة
طبعاً بعد هذه المجزرة المروعة؛ غادر أبناء العشيرة القرية، وخرجنا بأبنائنا إلى الجولان السوري، وبقينا هناك مدة سنة كاملة، نقلتنا بعدها الحكومة السورية إلى مخيمات: "خان دنون"، و"خان الشيح".
من خلال هذه المسيرة من التشرد والمرارة والألم والعذاب، وبعد ثلاث وستين سنة من فراق قريتنا؛ أما آن لنا أن نرتاح، وأن نعود إلى أراضينا؟ يقولون لنا: صار عندكم بيوت وعمارات خارج فلسطين انسوا بلادكوا. وأنا بقول: والله لو كان عنّا قصور لنتركها ونقعد على الحجار، بس بأرضنا؛ ببلادنا. وأنا بعتقد إنه ما في فلسطيني بتتوفر له الرجعة وما بيرجع.
واليهود إذا اعتمدنا انو يسمحوا إلنا بالرجعة، ما راح نرجع؛ لأنو أصلاً الفلسطينيين اللي بقوا هناك لو طالع بإيدين اليهود لطالعوهن من زمان، وأنا إذا بدّي أرجع ما برجع، إلا إلى قريتي "مزقه حطين" مش غيرها. والضفة الغربية والقطاع أرضنا؛ بس يا دوبها واسعة أبناءها.
الأمل موجود
صحيح إنو صارلنا 63 سنة طالعين من بلادنا؛ بس لليوم ولبكرة عندي أمل إنو نرجع ونشوفها؛ لأنه إيماني بربنا كبير إنو ينصفنا ويرجّع إلنا حقنا؛ واللي ما بدو يرجع على بلده، بكون فقد ضميره ومبادئه.
وأنا قناعتي: فلسطين بترجع لما يتوحدوا العرب على كلمة واحدة، ويضعوا نصب أعينهم إنو ما يحرر فلسطين إلا المقاومة، متسلحين بإيمان بأنوا النصر من عند ربنا؛ ليس من عند غيره.
قسم التوثيق والتاريخ الشفوي/ تجمع واجب
يبدأ الحاج محمود علي حسين يوسف، من مواليد 1933 مزقة حطين، قضاء طبرية؛ من عشيرة عرب المواسي، الذي يعيش مؤقتاً في مخيم "خان الشيخ" حديثه قائلاً: قريتنا (مزقة حطين) قرية صغيرة، تقع على تلة اسمها "مزقة"، بالقرب من قرية حطين التاريخية. تبعد عن مدينة طبرية ما بين (15 إلى 20 كم). تحيط بـ"مزقة حطين" قرى: الوعرة السودا، وعيلبون، ودير حنا؛ ومناطق: سيبانة، وسهل البطوف.
ويتابع: أما عشيرتنا؛ فهي "عشيرة عرب المواسي" الفلسطينية، وهي من العشائر الكبيرة، وتكاد تكون الأكبر في الجليل الفلسطيني. تتألف العشيرة من عدة حمائل وعوائل تعود جميعها إلى العشيرة الأم. ومن هذه العوائل: العوايدة، والزهران، والعيسات، والبطاطخة، وغيرها من الفروع الأخرى. وكانت تتوزع مساكن العشيرة ومضاربها في مناطق: مزقة حطين، والوعرة السودا، ووادي الحمام.
بعد وعد بلفور
كانت تحيط بقريتنا كُبّانيات يهودية عديدة منها: "كنصار" و"المجدل" و"تل ناحوم"، وقد ربطتنا بتلك (الكُبّانيات اليهودية) علاقة جيدة في البداية؛ لأن أغلب سكانها كانوا يهوداً عرباً فلسطينيين؛ لا أجانب؛ فعاداتهم هي عاداتنا، وكانوا يفلحون الأرض ويزرعونها مثلنا، ويلبسون لباسنا الشعبي (الحطة والعقال)؛ حتى إن البعض منهم كان يتمسك ببعض العادات التي تُعَدّ من أساس عاداتنا، كضيافة القهوة المرة. وكنا نستضيفهم ويستضيفوننا، وكان بيننا وبينهم تبادل على مختلف المستويات. وظلت العلاقة هكذا، حتى جاء اليهود الغربيون بعد وعد بلفور، واستوطنوا بلادنا.
طبعاً، لما جاء اليهود الوافدون؛ كانوا يأتون خفية أو بمساعدة الإنكليز، الذين فتحوا لهم المعسكرات وسلّحوهم ودربوهم تدريباً جيداً، كل ذلك؛ ليسهل عليهم الانقضاض على أهل القرى والمدن الفلسطينية.
وعندما أتمّ الانتداب البريطاني مهمته؛ انسحب ليترك البلاد لليهود ليعيثوا فيها فساداً. وأذكر أن العرب في طبرية، شعروا بما يحاك لهم، ووعوا الدور الذي يقوم فيه الإنكليز؛ فهاجموا مركز البوليس في المدينة؛ ولم يكن الرد على ذلك من الإنكليز؛ بل كان من اليهود مباشرة؛ حيث بدأوا يهاجمون القرى الفلسطينية ويحرقونها ويهدمونها على أصحابها؛ للضغط على أهالي تلك القرى للخروج والهجرة إلى مناطق أخرى.
قبل النكبة
جيش الإنقاذ عندنا، اللي كان على رأس كتائبه "أديب الشيشكلي" من سورية، و"وصفي التل" من الأردن، كان كلما يرجّع قرية محتلة، يوقفوا القتال ويقولوا: هدنة. ارجعوا يا عرب مطرح ما كنتوا" ييجي ثاني يوم اليهود ويحتلوا تلك القرية، ويعملوا هدنة ويبقوا فيها. وكل ذلك بأمر الملك عبد الله "قائد الجيوش العربية آنذاك". وهكذا ظل اليهود يوخذوا فلسطين؛ قطعة قطعة، قرية قرية، مدينة مدينة.
معاركنا مع اليهود كانت تصير تقريباً كل يوم في منطقة جبل الطاقية، وكل يوم كنا نوقع في صفوفهن إصابات.
وفي يوم؛ كان أحمد النادر (أحد أفراد عشيرة المواسي في المزقة) عامل غدا لأهل البلد؛ بمناسبة مجيئه ولد بعد عشر سنين من الانتظار، وأقام الغذاء على ذاك الجبل، وكان يوم سبت، واليهود ما كانوا يأتوا إلى الجبل. وعندما بدأوا ينزلوا الغداء؛ وما حسينا إلا الدبابات بدأت تطوق البلد، وبعدين دخلوا البلد واعتقلوا ست وثلاثين شاب. وما كان فيهم واحد عمره فوق الأربعين سنة. واقتادوهم في الدبابات إلى قرية مغار حزور. وهناك بدأوا يفرزوهن، ويتشاوروا عليهم، ويصنفوهم: هذا إعدام؛ وهذا مؤبد؛ وهذا كذا. وانتقوا 17 شابًا منهم؛ وحكموا عليهم بالإعدام؛ و12 أو 13 مؤبد؛ والباقي لا أدري ما هي أحكامهم. وقام الصهاينة بإعدام الشباب، والمعتقلين اخذوا إلى سجنين في "تلحوم" و"طبرية"، ولم يبقوا طويلاً هناك؛ حيث هربوا بمساعدة يهود يمنيين كانوا يحرسوهم؛ ووصل هؤلاء إلى سورية بسلام.
علمنا نحن أبناء العشيرة بما حصل، وذلك من شاب حضر إعدام الشباب، هو محمد أبو السعود؛ فقام بعض الرجال بالبحث عن جثث الشهداء في منطقة تسمى باب الدورات (كانت تبعد عن عيلبون مسافة كيلو ونصف) (كما وصفها لنا الشاب محمد). وعندما وصلنا هناك؛ لم نجد أحدًا من الشهداء. ووسعنا دائرة البحث؛ وإذا بأحد الشباب السبعة عشر ملقى تحت شجرة، ومضمخ بدمائه؛ فتعرفنا إليه؛ وكان اسمه "سعد محمد ديب" (أبو سودي)؛ والمفاجأة أنه رغم الإصابات الكثيرة التي كانت في جسده؛ كان لا يزال حياً، وكان ضخم الجثة، طوله يتجاوز 180 سم، وقد كسرت رجلاه ويداه؛ ولم نستطع حمله معنا؛ بسبب كسوره والطريق الخطرة. عدنا إلى الأراضي السورية حيث الأراضي التي هُجِّر إليها أبناء العشيرة، وأخبرناهم بما رأينا.
في اليوم الثاني؛ أخذ بعض الرجال فرساً، وذهبوا إلى مكان سعد ووضعوه في خرج الفرس، وجاؤوا به إلى سوريا. أما باقي الشهداء؛ فقد علمنا بعد ذلك أن أهالي عيلبون من المسيحيين الفلسطينيين، نقلوا جثثهم إلى مغارة قريبة من القرية، وقاموا بإغلاقها بالحجارة والطين.
نتيجة للمجزرة
طبعاً بعد هذه المجزرة المروعة؛ غادر أبناء العشيرة القرية، وخرجنا بأبنائنا إلى الجولان السوري، وبقينا هناك مدة سنة كاملة، نقلتنا بعدها الحكومة السورية إلى مخيمات: "خان دنون"، و"خان الشيح".
من خلال هذه المسيرة من التشرد والمرارة والألم والعذاب، وبعد ثلاث وستين سنة من فراق قريتنا؛ أما آن لنا أن نرتاح، وأن نعود إلى أراضينا؟ يقولون لنا: صار عندكم بيوت وعمارات خارج فلسطين انسوا بلادكوا. وأنا بقول: والله لو كان عنّا قصور لنتركها ونقعد على الحجار، بس بأرضنا؛ ببلادنا. وأنا بعتقد إنه ما في فلسطيني بتتوفر له الرجعة وما بيرجع.
واليهود إذا اعتمدنا انو يسمحوا إلنا بالرجعة، ما راح نرجع؛ لأنو أصلاً الفلسطينيين اللي بقوا هناك لو طالع بإيدين اليهود لطالعوهن من زمان، وأنا إذا بدّي أرجع ما برجع، إلا إلى قريتي "مزقه حطين" مش غيرها. والضفة الغربية والقطاع أرضنا؛ بس يا دوبها واسعة أبناءها.
الأمل موجود
صحيح إنو صارلنا 63 سنة طالعين من بلادنا؛ بس لليوم ولبكرة عندي أمل إنو نرجع ونشوفها؛ لأنه إيماني بربنا كبير إنو ينصفنا ويرجّع إلنا حقنا؛ واللي ما بدو يرجع على بلده، بكون فقد ضميره ومبادئه.
وأنا قناعتي: فلسطين بترجع لما يتوحدوا العرب على كلمة واحدة، ويضعوا نصب أعينهم إنو ما يحرر فلسطين إلا المقاومة، متسلحين بإيمان بأنوا النصر من عند ربنا؛ ليس من عند غيره.
قسم التوثيق والتاريخ الشفوي/ تجمع واجب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق