من الذاكرة الفلسطينية: الحاجة فاطمة الخضراء: الأمل موجود وكبير، فلسطين راح ترجع
أحمد الباش: دمشق
بكلمات عامية بسيطة، عبّرت الحاجة فاطمة الخضراء، ابنة صفد، عن أملها الكبير بالعودة إلى فلسطين. التقيناها في مخيم اليرموك حيث تعيش مؤقتاً بانتظار تحقق الأمل والحلم الذي راودها منذ خروجها من فلسطين؛ فكان هذا اللقاء الذي حاولنا ألا نغيّر في كلماته البسيطة والعامية.
صفد وحاراتها
حارات صفد عديدة و(كتيرة)، وكانت كلها مرصوفة بالحجر. وهذه الحارات هي: حارة الألعة (القلعة)، وحارة الصواوين، وحارة الجورة، وحارة الأكراد، وحارة الوطا، وحارة السوق، وحارة النصارى. وكنا إحنا ساكنين بحارة الصواوين؛ بالإضافة إلى هذه الحارات؛ كان يوجد عندنا حارة تسمى "حارة اليهود"، وهي حارة قديمة، سكانها من اليهود الفلسطينيين، وكانت حارة كبيرة، وكانت علاقتنا مع أبناء هاي الحارة (منيحة)، ومثل كل الحارات الأخرى؛ وكنا نشتري من دكاكينهم ويشتروا من دكاكينّا. وكان اليهود في صفد مشهورين ببيع القماش والملاحف والألبسة، وحتى تجهيز العروس كنا نجهزها من عندهم؛ لأنو كنا نجد كل شي عندهم. ووصلت علاقتنا فيهن لدرجة إنو واحد من بيت سعد الدين تجوز يهودية من تلك الحارة، وكانت تعمل خياطة، وبعد ما تجوزها أسلمت؛ فكانت صفد مثالاً للتآخي بين كل الأديان.
وأذكر أن عمي العبد كان محبوباً لدى اليهود، وكانوا يكنّون له كل الاحترام، لأنه كان ما يفرق بين الفلسطينيين من مسيحيين أو يهود أو مسلمين. وكان اليهود يشتكوا عنده على اللي يؤذيهم، وكان يحق الحق؛ وكان اليهود عندنا يتكلموا العربية مثلنا، وما سمعتهم ولا مرة بتكلموا غير ذلك.
وعد بلفور المشؤوم
لكن من يوم ما أعطاهم هالغدّار (بلفور البريطاني) الوعد، بأن يحتلوا فلسطين؛ بلّشنا (بدأنا) نشوف وجوه غريبة في بلادنا. طبعاً، شعبنا رفض وعد بلفور، وبدا يقاتل الإنكليز واليهود اللي عم بيجو (الذين بدءوا بالهجرة) على فلسطين؛ وفي عام 1929 قامت ثورة، واستشهد فيها من صفد: فؤاد حجازي، ورفقاته (عطا الزير، ومحمد جمجوم)؛ وثارت وقتها صفد وهاجموا على أثرها حي اليهود؛ وأصيب عمي (أبو زوجي) بطلقة إنكليزية في فخذه في الشريان (الثخين) وظل ينزف يوم وليلة، وما قدروا أهلنا يسعفوه؛ لأنو ممنوع التجول، وممنوع يتعالج في المستشفيات؛ لأنو يا بيعتقلوه يا بيقتلوه؛ وظل في البيت حتى فارق الحياة (كما رووها لي أهلي). ولما مات؛ إجو بدهن يدفنوه، ما استطاعوا يدفنوه بالمقبرة الجديدة؛ لأنو ما كانوا يقدروا يوصلوها؛ فدفنوه فوق والده في المقبرة القديمة.
وتطورت الأحداث بعدين؛ ومرة كنت في المدرسة، وحصلت اشتباكات بين العرب من أهالي صفد وعصابات اليهود المدعومين من الإنكليز؛ فلم نكن نستطيع العودة إلى بيوتنا، إلا ومعانا الشرطة اللي وصّلت كل طالب أو طالبة لحاراتها وبيتها.
بهالفترة كان الحي اليهودي في صفد قد امتلأ بالمقاتلين اليهود، وتحصنوا (منيح)؛ وكانوا عاملين في بيوتهن طاقات ومنها يقنصوا الفلسطينيين، وكانوا عم بعدّوا حالهم للمعركة الكبيرة.
قرار التقسيم
بعد قرار التقسيم عام 1947؛ هجم أهل صفد على الحي اليهودي؛ رداً على القرار؛ ومن يومها أخذ أبناء صفد يتسلحوا (كتير)، وصارت في عنا حراسات بالليل والنهار.
في نيسان عام 1948، سمعنا عن "مجزرة دير ياسين"، والفظائع إللي قاموا فيها العصابات الصهيونية بالقرية. وبصفد بعد هذه الأخبار؛ بدأت معنويات الناس تنهار، وبدا العجز ظاهراً على وجوه الناس.
والسلاح بذكر لما كان يجينا بتكون البارودة فرنسية، والطلقات إنكليزية؛ أو يبعثولنا بواريد إنكليزية والطلق فرنسي؛ وتصبح البارودة كالخشبة بإيد المدافع عن المدينة، إضافة إلى الفشك الخربان (الفاسد).
وصار الناس يقولوا: شوفوا اليهود صار عندهن طيارات ودبابات وأسلحة كتير، وإحنا ما عنا غير هالبارودة. شو بدها تساوي؟ أخوتي كان عندهن بارودة واحدة يداولوها بينهن، والفشك اللي عندهن خلص. وبدأ الناس بعد هالمجزرة تخرج من المدينة. وبذكر يوم ما طلعنا؛ كانت الدنيا برد، وكنت لابسة فستان صوف اشتغلتوا على إيدي، وكنت لابسة الملاية الصفدية، والعباية تبع جوزي (أبو سمير)؛ وهدول الأواعي (الألبسة) اللّي طلعت فيهن من فلسطين وطلعتهم معي من صفد. وكنت أقول لجوزي: بس لو أطلعلي غيار واحد مع اللي لابسيتهن. يقولّي: شو... إحنا رايحين نشم الهوى! إحنا طالعين يومين وراجعين، ولا توخذي شي معاكي. حتى بذّكّر إنو قلينا السمكات وحطيناهم بالنملية (خزانة الأكل)، وما خلاني جوزي أطلِع حتى الأكل معي.
التغريبة:
وطلعنا من صفد: أنا، وجوزي، وأخوته؛ وظلت هناك خواته الثنتين وأولادهن وأمه. ومن صفد طلعنا على قرية السموعي، ونمنا ليلة فيها، وكانت القرية عالية ومشرفة على حارة اليهود بصفد. وكنا نشوف حارة اليهود وهي ضاوية وكأنها نهار؛ بينما نحن قطعت الكهرباء عندنا.
وفي صباح اليوم التالي؛ طلعنا بالسيارات على منطقة "بنت جبيل" اللبنانية، ومنها إلى قرية "خان أرنبة" الموجودة في الأراضي السورية، وهناك كان أبو سمير (جوزي) بعرف واحد من بيت (مريود)؛ فسأل عنو رجل من بيت السعدي من القرية، وأخذنا الرجل، وما رضي إلاّ ينزلنا عندوا، وكنا بالسيارة وقتها؛ ثلاثين شخص (نسوان، ورجال، وولاد)، وكلّنا من بيت الخضراء؛ وكان في ورانا (خلفنا) سيارتين أخريات، وبتنا (ونمنا) بـ"خان أرنبة" ليلتين؛ وبعدين راحوا رجال العيلة، واستأجروا بيوت في مدينة القنيطرة، وراحوا سكنوا هناك، وبقيت أنا وأبو سمير بخان أرنبة؛ لأنو صحابه ما خلوه يروح؛ وبقينا هناك حوالي أسبوع؛ وبعدين جاء أخوي وأخذنا على القنيطرة، واستأجرنا هناك غرفة، وقعدنا تقريباً شهر؛ وبعدين الحكومة السورية قالت إلنا: كلّ اللاجئين لازم ينزلوا عالشام، وإجينا وقتها على "دوما" في ريف دمشق، وأعطونا بيوت هناك وقعدنا فيها قرابة سبع سنين.
بعد رحلة العذاب؛ حصل أبو سمير على سفرة على السعودية، ورحنا أنا وإياه، وقعدنا خمس سنين. رجعنا بعدها لدوما، وسجلنا أسماءنا بوكالة الغوث (الأونروا).
الحنين إلى صفد
وبعد هالعمر، وبعد ثلاثة وستين سنة من التعب والشقا والعذاب والتشرد والقهر، بعد كل هذا؛ ما زلت أحنّ لصفد، أحنّ للبيت الذي خرجت منه، واللي عمروا ما راح من بالي، بتذكروا وكأنه قدام عيني، الغرفة اللي كانت أكبر من غرف اليوم بثلاث مرات، وبتذكّر الشباكين وتحتهم المصطبة اللي كنا نجتمع عليها عند العصر وعند غروب الشمس ونسهر تحت ضو القمر، ونشم هوا بلادنا.
صحيح زي ما خبرنا ابن أخت زوجي: إنو اليهود هدموا بيتنا؛ لأنو عمي كان مع الثوار واستشهد معهم؛ لكن بدي أرجع لو أعيش فوق الركام؛ وأعيش وأنصب خيمة بأرضي، ولا أظل بهالبيوت. يوخذوا كل هالبيوت اللي صارت عنا بهالبلاد، بس يرجعوني على صفد. على صفد مش على غيرها، على حارة الصواوين، على أرض بيتنا اللي هدموه.
بلادنا يابنييّ حلوة! ياريت نرجعلها اليوم قبل بكرة، هاي فلسطين بلادنا، نولد فيها أجدادنا وأبو أجدادنا منذ انخلقت هالدنيا. بدنا نرجع كل واحد على مدينته وقريته وحارته.
وبالنهاية؛ قد ما طالت بدها ترجع بإذن الله، يا بنيّي، ليش بدها ترجع؟ لأنو الله وعدنا إنو ترجع، وهذا مكتوب بالقرآن في سورة الإسراء. بقول رب العالمين: وإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم، (بقلهن لليهود) وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علو تتبيرا. صدق الله العظيم. راح ترجع لما الله يريد؛ وإحنا علينا نستعد ليوم الله ينفّذ إرادته بهاليهود. والأمل موجود وكبير. راح ترجع فلسطين؛ لكن إذا أنا ما رجعت وقدرت أشوفها، أكيد أولادي أو ولاد ولادي، يشوفوها.
راجعين بإذن الله
وكلمة أخيرة بوجهها لكل أولاد شعبنا: عليكو يا ولادي بالعلم، والشهادات الكبيرة؛ علشان تعرفوا شو صاير بالدنيا، تعرفوا كيف راحت فلسطين وكيف بدها ترجع، وكيف بدها تتحرر؛ وعليكو تتمسكوا بدينكو وببلادكو؛ لأنو ربنا راح يدلكو على الطريق الصحيح.
وأُنهي كلامي برسالة بعثها واحد صفدي من أصدقاء زوجي لزوجي قال فيها:
كتبت كتاب الشوق مني إليكم
ويوم فراقكم ياما بكينا
ويوم فراقكم صعبٌ علينا
ويا فرحي إذا فيكم لقينا
قلت: يا فلسطين أين أهلك غدوا
قالوا: في سوريا صاروا لاجئينا
قلت: يا دار أين المنتهى قالت
عندما يريد رب العالمينا
سألت الله يجمعنا بكم
ونبقى في محل واحد يا ربي ساكنينا
وتمحي من الخارطة يا ربي اسم "لاجئينا"
المصدر: مجلة العودة ــ العدد / 52/ شهر 1/ 2012
أحمد الباش: دمشق
بكلمات عامية بسيطة، عبّرت الحاجة فاطمة الخضراء، ابنة صفد، عن أملها الكبير بالعودة إلى فلسطين. التقيناها في مخيم اليرموك حيث تعيش مؤقتاً بانتظار تحقق الأمل والحلم الذي راودها منذ خروجها من فلسطين؛ فكان هذا اللقاء الذي حاولنا ألا نغيّر في كلماته البسيطة والعامية.
صفد وحاراتها
حارات صفد عديدة و(كتيرة)، وكانت كلها مرصوفة بالحجر. وهذه الحارات هي: حارة الألعة (القلعة)، وحارة الصواوين، وحارة الجورة، وحارة الأكراد، وحارة الوطا، وحارة السوق، وحارة النصارى. وكنا إحنا ساكنين بحارة الصواوين؛ بالإضافة إلى هذه الحارات؛ كان يوجد عندنا حارة تسمى "حارة اليهود"، وهي حارة قديمة، سكانها من اليهود الفلسطينيين، وكانت حارة كبيرة، وكانت علاقتنا مع أبناء هاي الحارة (منيحة)، ومثل كل الحارات الأخرى؛ وكنا نشتري من دكاكينهم ويشتروا من دكاكينّا. وكان اليهود في صفد مشهورين ببيع القماش والملاحف والألبسة، وحتى تجهيز العروس كنا نجهزها من عندهم؛ لأنو كنا نجد كل شي عندهم. ووصلت علاقتنا فيهن لدرجة إنو واحد من بيت سعد الدين تجوز يهودية من تلك الحارة، وكانت تعمل خياطة، وبعد ما تجوزها أسلمت؛ فكانت صفد مثالاً للتآخي بين كل الأديان.
وأذكر أن عمي العبد كان محبوباً لدى اليهود، وكانوا يكنّون له كل الاحترام، لأنه كان ما يفرق بين الفلسطينيين من مسيحيين أو يهود أو مسلمين. وكان اليهود يشتكوا عنده على اللي يؤذيهم، وكان يحق الحق؛ وكان اليهود عندنا يتكلموا العربية مثلنا، وما سمعتهم ولا مرة بتكلموا غير ذلك.
وعد بلفور المشؤوم
لكن من يوم ما أعطاهم هالغدّار (بلفور البريطاني) الوعد، بأن يحتلوا فلسطين؛ بلّشنا (بدأنا) نشوف وجوه غريبة في بلادنا. طبعاً، شعبنا رفض وعد بلفور، وبدا يقاتل الإنكليز واليهود اللي عم بيجو (الذين بدءوا بالهجرة) على فلسطين؛ وفي عام 1929 قامت ثورة، واستشهد فيها من صفد: فؤاد حجازي، ورفقاته (عطا الزير، ومحمد جمجوم)؛ وثارت وقتها صفد وهاجموا على أثرها حي اليهود؛ وأصيب عمي (أبو زوجي) بطلقة إنكليزية في فخذه في الشريان (الثخين) وظل ينزف يوم وليلة، وما قدروا أهلنا يسعفوه؛ لأنو ممنوع التجول، وممنوع يتعالج في المستشفيات؛ لأنو يا بيعتقلوه يا بيقتلوه؛ وظل في البيت حتى فارق الحياة (كما رووها لي أهلي). ولما مات؛ إجو بدهن يدفنوه، ما استطاعوا يدفنوه بالمقبرة الجديدة؛ لأنو ما كانوا يقدروا يوصلوها؛ فدفنوه فوق والده في المقبرة القديمة.
وتطورت الأحداث بعدين؛ ومرة كنت في المدرسة، وحصلت اشتباكات بين العرب من أهالي صفد وعصابات اليهود المدعومين من الإنكليز؛ فلم نكن نستطيع العودة إلى بيوتنا، إلا ومعانا الشرطة اللي وصّلت كل طالب أو طالبة لحاراتها وبيتها.
بهالفترة كان الحي اليهودي في صفد قد امتلأ بالمقاتلين اليهود، وتحصنوا (منيح)؛ وكانوا عاملين في بيوتهن طاقات ومنها يقنصوا الفلسطينيين، وكانوا عم بعدّوا حالهم للمعركة الكبيرة.
قرار التقسيم
بعد قرار التقسيم عام 1947؛ هجم أهل صفد على الحي اليهودي؛ رداً على القرار؛ ومن يومها أخذ أبناء صفد يتسلحوا (كتير)، وصارت في عنا حراسات بالليل والنهار.
في نيسان عام 1948، سمعنا عن "مجزرة دير ياسين"، والفظائع إللي قاموا فيها العصابات الصهيونية بالقرية. وبصفد بعد هذه الأخبار؛ بدأت معنويات الناس تنهار، وبدا العجز ظاهراً على وجوه الناس.
والسلاح بذكر لما كان يجينا بتكون البارودة فرنسية، والطلقات إنكليزية؛ أو يبعثولنا بواريد إنكليزية والطلق فرنسي؛ وتصبح البارودة كالخشبة بإيد المدافع عن المدينة، إضافة إلى الفشك الخربان (الفاسد).
وصار الناس يقولوا: شوفوا اليهود صار عندهن طيارات ودبابات وأسلحة كتير، وإحنا ما عنا غير هالبارودة. شو بدها تساوي؟ أخوتي كان عندهن بارودة واحدة يداولوها بينهن، والفشك اللي عندهن خلص. وبدأ الناس بعد هالمجزرة تخرج من المدينة. وبذكر يوم ما طلعنا؛ كانت الدنيا برد، وكنت لابسة فستان صوف اشتغلتوا على إيدي، وكنت لابسة الملاية الصفدية، والعباية تبع جوزي (أبو سمير)؛ وهدول الأواعي (الألبسة) اللّي طلعت فيهن من فلسطين وطلعتهم معي من صفد. وكنت أقول لجوزي: بس لو أطلعلي غيار واحد مع اللي لابسيتهن. يقولّي: شو... إحنا رايحين نشم الهوى! إحنا طالعين يومين وراجعين، ولا توخذي شي معاكي. حتى بذّكّر إنو قلينا السمكات وحطيناهم بالنملية (خزانة الأكل)، وما خلاني جوزي أطلِع حتى الأكل معي.
التغريبة:
وطلعنا من صفد: أنا، وجوزي، وأخوته؛ وظلت هناك خواته الثنتين وأولادهن وأمه. ومن صفد طلعنا على قرية السموعي، ونمنا ليلة فيها، وكانت القرية عالية ومشرفة على حارة اليهود بصفد. وكنا نشوف حارة اليهود وهي ضاوية وكأنها نهار؛ بينما نحن قطعت الكهرباء عندنا.
وفي صباح اليوم التالي؛ طلعنا بالسيارات على منطقة "بنت جبيل" اللبنانية، ومنها إلى قرية "خان أرنبة" الموجودة في الأراضي السورية، وهناك كان أبو سمير (جوزي) بعرف واحد من بيت (مريود)؛ فسأل عنو رجل من بيت السعدي من القرية، وأخذنا الرجل، وما رضي إلاّ ينزلنا عندوا، وكنا بالسيارة وقتها؛ ثلاثين شخص (نسوان، ورجال، وولاد)، وكلّنا من بيت الخضراء؛ وكان في ورانا (خلفنا) سيارتين أخريات، وبتنا (ونمنا) بـ"خان أرنبة" ليلتين؛ وبعدين راحوا رجال العيلة، واستأجروا بيوت في مدينة القنيطرة، وراحوا سكنوا هناك، وبقيت أنا وأبو سمير بخان أرنبة؛ لأنو صحابه ما خلوه يروح؛ وبقينا هناك حوالي أسبوع؛ وبعدين جاء أخوي وأخذنا على القنيطرة، واستأجرنا هناك غرفة، وقعدنا تقريباً شهر؛ وبعدين الحكومة السورية قالت إلنا: كلّ اللاجئين لازم ينزلوا عالشام، وإجينا وقتها على "دوما" في ريف دمشق، وأعطونا بيوت هناك وقعدنا فيها قرابة سبع سنين.
بعد رحلة العذاب؛ حصل أبو سمير على سفرة على السعودية، ورحنا أنا وإياه، وقعدنا خمس سنين. رجعنا بعدها لدوما، وسجلنا أسماءنا بوكالة الغوث (الأونروا).
الحنين إلى صفد
وبعد هالعمر، وبعد ثلاثة وستين سنة من التعب والشقا والعذاب والتشرد والقهر، بعد كل هذا؛ ما زلت أحنّ لصفد، أحنّ للبيت الذي خرجت منه، واللي عمروا ما راح من بالي، بتذكروا وكأنه قدام عيني، الغرفة اللي كانت أكبر من غرف اليوم بثلاث مرات، وبتذكّر الشباكين وتحتهم المصطبة اللي كنا نجتمع عليها عند العصر وعند غروب الشمس ونسهر تحت ضو القمر، ونشم هوا بلادنا.
صحيح زي ما خبرنا ابن أخت زوجي: إنو اليهود هدموا بيتنا؛ لأنو عمي كان مع الثوار واستشهد معهم؛ لكن بدي أرجع لو أعيش فوق الركام؛ وأعيش وأنصب خيمة بأرضي، ولا أظل بهالبيوت. يوخذوا كل هالبيوت اللي صارت عنا بهالبلاد، بس يرجعوني على صفد. على صفد مش على غيرها، على حارة الصواوين، على أرض بيتنا اللي هدموه.
بلادنا يابنييّ حلوة! ياريت نرجعلها اليوم قبل بكرة، هاي فلسطين بلادنا، نولد فيها أجدادنا وأبو أجدادنا منذ انخلقت هالدنيا. بدنا نرجع كل واحد على مدينته وقريته وحارته.
وبالنهاية؛ قد ما طالت بدها ترجع بإذن الله، يا بنيّي، ليش بدها ترجع؟ لأنو الله وعدنا إنو ترجع، وهذا مكتوب بالقرآن في سورة الإسراء. بقول رب العالمين: وإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم، (بقلهن لليهود) وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علو تتبيرا. صدق الله العظيم. راح ترجع لما الله يريد؛ وإحنا علينا نستعد ليوم الله ينفّذ إرادته بهاليهود. والأمل موجود وكبير. راح ترجع فلسطين؛ لكن إذا أنا ما رجعت وقدرت أشوفها، أكيد أولادي أو ولاد ولادي، يشوفوها.
راجعين بإذن الله
وكلمة أخيرة بوجهها لكل أولاد شعبنا: عليكو يا ولادي بالعلم، والشهادات الكبيرة؛ علشان تعرفوا شو صاير بالدنيا، تعرفوا كيف راحت فلسطين وكيف بدها ترجع، وكيف بدها تتحرر؛ وعليكو تتمسكوا بدينكو وببلادكو؛ لأنو ربنا راح يدلكو على الطريق الصحيح.
وأُنهي كلامي برسالة بعثها واحد صفدي من أصدقاء زوجي لزوجي قال فيها:
كتبت كتاب الشوق مني إليكم
ويوم فراقكم ياما بكينا
ويوم فراقكم صعبٌ علينا
ويا فرحي إذا فيكم لقينا
قلت: يا فلسطين أين أهلك غدوا
قالوا: في سوريا صاروا لاجئينا
قلت: يا دار أين المنتهى قالت
عندما يريد رب العالمينا
سألت الله يجمعنا بكم
ونبقى في محل واحد يا ربي ساكنينا
وتمحي من الخارطة يا ربي اسم "لاجئينا"
المصدر: مجلة العودة ــ العدد / 52/ شهر 1/ 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق