القُدس في الصدور وفي السطور
لعلّ مدينة القدس كانت من البواعث القوية التي جعلت أبا بكر الصديق –رضي الله عنه– يسرع في إرسال الجيوش لفتح بلاد الشام، حيث المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وجعله مسرى نبيه ومعراجه. وهو المسجد الثاني بعد الكعبة الذي يقام في الأرض لعبادة الله تعالى وحده.. ولذا جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد ثلاثة مساجد تُشَدّ إليها الرحال، ويضاعف فيها الأجر، وتواترت الأحاديث النبوية في فضل ديار الشام بعامة، واستحباب سكناها. فعن عبد الله بن حوالة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستجنّدون أجناداً، جنداً بالشام، وجنداً بالعراق، وجنداً باليمن. قال عبد الله: فقمت فقلت: خِرْ لي يا رسول الله، فقال: عليكم بالشام، فمن أبى فليلحق بيمنه، وليَسْتَق من غُدُره فإنّ الله عز وجل قد تكفّل لي بالشام وأهله، قال ربيعة فسمعت أبا إدريس يحدث بهذا الحديث يقول :(ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه). قال ناصر الدين الألباني: هذا حديث صحيح جداً، فإنّ له أربعة طرق.. وذكرها.
وروى الإمام أحمد عن ذي الأصابع قال: قلت: يا رسول الله، إنْ ابتُلينا بعدك بالبقاء، أين تأمرنا؟ قال: ((عليك ببيت المقدس، فَلَعَلّه أنْ ينشأ لك ذريةٌ، يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون)).
وفي السابع من شعبان من سنة 492ھ، غزاها الفرنجة الصليبيون، وملكوها بعد أنْ ملكوا كثيراً من بلاد الساحل، فكان فقدان القدس حرقةً في قلوب المؤمنين الموحّدين لأنّه كان أحد معاقلهم الروحية، ولأنّه لم يجدْ من عشرات أمراء المسلمين آنذاك من يدفع عنه ويحمي ساكنيه. ويصف ابن الأثير أثر ذلك في نفوس المسلمين، فيقول: "ورد المستنفرون من الشام في رمضان إلى بغداد، صحبة عدد من القضاة والعلماء فأوردوا في الديوان كلاماً أبكى العيون وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة فاستغاثوا وبكوا وأبكوا، وذكروا ما دهم المسلمين بذلك الشريف المعظم من قتل الرجال وسبى الحريم والأولاد ونهب الأموال.."، ولكن الوفد المستغيث رجع من غير بلوغ الأرب ولا قضاء حاجة, ذلك أنّ الخليفة الذي قصدوه في بغداد لم يكنْ له سلطان وكانت الدولة الإسلامية مقسّمة في دول صغيرة، قد لا تزيد الواحدة منها على بقعة وناحية قليلة من الأرض تحيط بها. وكان هؤلاء الحكّام دائمي التنازع والعدوان بعضهم على بعض. ولم يكنْ لأحدهم –كما يقول أبو شامة– همٌّ إلا في بطنه وفرجه، فما سهّل على الصليبيين دخول البلاد، وتأسيس الإمارات.. وفي هذا المعنى يقول الأبيوردي:
مَزَجنـا دماءً بالـــدموع السَّواجــم........... فـلـم يبـقَ منـا عُرضة للمراحــم
وشَرُ سلاح المـــرء دمـعٌ يفيضـه...........إذا الحرب شُـبَّت نارها بالصـوارم
فإيهاً بني الإســلام إنَّ وراءكــــم...........وقــائع يُلحقنَ الذُّرى بالمنــاسـتيم
أتـهويمةٌ في ظــــلّ أمـنٍ وغبــطـة...........وعيـشٍ كــــنوار الخميلـة نــــاعم
وإخوانكم بالشــام يضـحي مقيلُهـم...........ظـهور المذاكي أو بطونَ القشاعم
تسومـــهم الــــروم الهـوان وأنتم...........تَجرون ذيـــل الخفض فعل المسالم
وتلك حروب من يغب عن غمارها...........يسلم يقـــرع بعدهـــــا ســــن نادم
فـــليتهم إذ لـــم يــــذودوا حمــــيةً...........عن الدين ضــنوا غيرةً بالمحـــارم
إن زهدوا في الأجر إذ حمس الوغى...........فـهــــلا أتـوه رغبــة في المغانم
ولم تطلْ مدة الإغفاءة، وإنْ كان شعور جمهور الأمة بقي متيقظاً، بفضل المسجد، والاتصال اليومي بالعبادة، ولكن بعد فقدان القدس أخذ شعور جمهور الأمة يتفجر ويشتدّ إحساسه بمآسي المسلمين، فكثر التطلع إلى القائد المنقذ والارتقاب لظهوره، وأخذ بعض حكام الدويلات يتحسّس مشاعر المسلمين، وقد يتمنّى أنْ يكون القائد المنتظر، وأنْ يكتب له شرف تحرير القدس. حيث نقرأ في حوادث سنة 507ھ، أن مودود صاحب الموصل جاء بعسكر ليقاتل ملك الفرنج الذي بالقدس، فوقع بينهم معركة هائلة، ولكن هذه البداية لم تكنْ ناضجة ولا تقوم على خطة محكمة, فلم يكن من الحكمة العسكرية البداية بالقدس، وهي أقوى حصون الصليبيين، وإنما الخطة كانت تقضي، بانتقاصهم من أطرافهم، وقص أجنحتهم، لقطع الإمداد عنهم وبثّ الخوف في نفوسهم. وقد بدأت الخطة المحكمة على يد عماد الدين زنكي، حيث استطاع أنْ يوسّع إمارته الصغيرة (الموصل) وضمّ إليها حلب وحماة وحمص، وكوّن جبهةً إسلامية متحدة، وأزال أول إمارة صليبية سنة 539ھ وهي إمارة "الرها". فتنفّس المسلمون أنفاس الراحة واستعادوا ثقتهم بأنفسهم، ودعوا الاستيلاء على الرها ((فتح الفتوح)).
وتسلّم الراية من بعده ابنه نور الدين محمود، فكان استرداد القدس من أسس منهاجه... يدلّك على ذلك، أنّه بعد أنْ ملك حلب سنة 541ھ أمر بعمل منبر للمسجد الأقصى وأمر الصنّاع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال: هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس، فعمله النجّارون في عدة سنين، فجاء على نحوٍ لم يعمل في الإسلام مثله. قال ابن الأثير: في وصف فتح القدس: فأمر صلاح الدين بإحضار المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة وكان هذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده، رحمه الله. أقول: ولعل هذا المنبر، هو الذي أحرق يوم حريق المسجد الأقصى الذي دبّره اليهود سنة 1968م: ولم يكتبْ لنور الدين محمود أنْ يرى المنبر منصوباً في القدس، وإنما كتب له أجر نيّته. لأنّ المنية عاجلته قبل أن يحقق هدفه، حيث توفي سنة 569ھ فتسلم الراية من بعده تلميذه الملك الناصر يوسف صلاح الدين، وكان كعماد الدين، وابنه نور الدين يتطلع إلى شرف الشهادة في سبيل الله، وطرد الصليبيين من القدس الشريف.. واجتمع له لتحقيق هذا الهدف: نية صادقة، وهمة وثّابة وتطلع إلى الأعمال الصالحة إرضاءً لربه، مع طاعة الرعية وحبها له، وتشوق أرواح المؤمنين إلى قدسهم. وقد عرف رحمه الله، ثقة الأمة به، وما ألقته على عاتقه من المهمات, فواصل ليله بنهاره ليحقق آمال المسلمين فيه، حيث كان يصل إليه صوت جمهور المسلمين في قصائد الشعر التي تتابع خطواته وتحثه على فتح القدس. فقد قابلته الأقاليم الإسلامية التي ضمها لمملكته، بالترحاب والفرح، ورأوا في توحيد كلمة البلاد تمهيداً لفتح القدس ونصر كلمة الإسلام، يقول العماد الأصفهاني من قصيدة:
بفتوح عصرك يَفخــر الإســلام...........بنوالها ســـوق الرجاء تُقــام
أسدي صلاح الدين والدنيا يـداً...........بحصـــوله لفتـــوحك الإتمــام
فتملَّ فتحك واقصد الفتـح الذي...........وبنــور نصـرك تُشــرق الأيام
ويقول العماد في قصيدة:
وعندما غزا صلاح الدين غزة وعسقلان، ينشد عمارة اليمني قصيدة، يعبّر فيها عن تشوق القدس إلى لقاء صلاح الدين فيقول:
وما عصمتْهُم منك إلا معاقــــــــــل...........تأنوا على تحصينهـا وتـأنقوا
أضفت إلى أجـر الجهاد زيادة الـــــ...........خليل فأبْشرْ أنت غـازٍ موفقُ
وهيجّت للبيـــت المقــــدس لوعـــةً...........يطول بها منــه إليك التشـوق
هو البيــت إن تفتحه والله فاعــــــل...........فما بَعْده بابٌ من الشام مُغْلَقُ
ويقول عماد الأصفهاني:
فسِرْ وافتح القدس واسفك به...........دماءً متى تُجــرِها يَنظُـفِ
وخلِّص من الكفـر تلك البــلا...........د، يخلّصك الله في الموقف
وعندما جاء اليوم الموعود لتوجّه الجيش الإسلامي إلى القدس لمحاصرته وفتحه، ظهر شوق الجند الإسلامي إلى الشهادة، وتدافعوا إلى الميدان يحدوهم الرجاء بإحدى الحسنيين فتح القدس، أو الشهادة. ويصف ابن الأثير فتح القدس فيقول: ((ونصب الفرنج على سور البلد مجانيق ورمْوا بها، وقوتلوا أشدّ قتالٍ رآه أحد من الناس كل واحد من الفريقين يرى ذلك ديناً وحتماً واجباً فلا يحتاج فيه إلى باعثٍ سلطاني بل كانوا يُمنَعون فلا يمتنعون ويُزْجرون وفلا ينزجرون)). وتستطيع أنْ تقدّر شجاعة الجند الإسلامي وشدة معاناته يوم الفتح من وصف منْ كان بالقدس من الصليبيين حيث يقول ابن الأثير: ((فاجتمع في القدس كثيرٌ من الخلق، كلهم يرى الموت أيْسر عليه من أن يملك المسلمون البيت المقدس ويأخذوه منهم، ويرى أنّ بذل نفسه وماله وأولاده بعض ما يجب عليه حفظه، وحصنوه تلك الأيام بما وجدوا إليه سبيلاً، وصعدوا على سوره بحدّهم وحديدهم مُجمِعين على حفظه والذبّ عنه بجهدهم وطاقتهم مظهرين العزم على المناضلة دونه بحسب استطاعتهم)).
ولذلك عدّ المسلمون هذا الفتح من الكرامات التي يحققها الله على يد أوليائه والصالحين من عباده، وأضافوا إلى الفتوحات الأولى التي تمت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما لاحظوا فيه من العناية الإلهية بالمجاهدين، وتثبيت أقدامهم، فقال فخر الكتاب الحسن الجويني:
ويقول الشريف النسابة المصري من قصيدة:
أترى مناماً ما بعيني أُبصــــرُ...........الـقدسُ يُفتَحُ والفرنجة تُكســـــــرُ
قد جاء نصر الله والفتح الذي...........وعـد الرسول فسبحوا واستغفروا
فتح الشآم وطهر القدس الذي...........هــو في القيامة للأنـــام المحشـر
ومن صُوِر يوم الفتح ودخول المسلمين البلد يوم الجمعة، قال ابن الأثير: وكان على قبة الصخرة صليب كبير مُذهّب، فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة تسلّق جماعة منهم إلى أعلى القبة ليقلعوا الصليب، فحين صعدوا صاح الناس كلهم صوتاً واحداً من البلد، ومن ظاهره، المسلمون والفرنج، أمّا المسلمون فكبّروا فرحاً، وأمّا الفرنج فصاحوا تفجّعاً وتوجّعاً فسمع الناس صيحةً كادت الأرض أنْ تميد بهم لعظمها وشدتها. قال: ولما كانت الجمعة الأخرى رابع شعبان صلى فيه المسلمون الجمعة ومعهم صلاح الدين، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحين.
قال ابن الأثير بعد الحديث عمّا جدّده صلاح الدين بعد الفتح: ((فعاد الإسلام هناك غضاً طرياً، وهذه المكرمة من فتح بيت المقدس، لم يفعلْها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه غير صلاح الدين رحمه الله، وكفاه ذلك فخراً وشرفاً)).
أقول: ليت شعري، هل من فاتح ثالث، ويسجل له التاريخ هذه المكرمة.. حقاً لقد أتعب صلاح الدين من جاء بعده لطلب المجد كما قال الشاعر:
ولكن المنهج العمري والصلاحي موجود، ولا يصعب على من اتّبعه أن يصل.
المصدر:
-الأستاذ محمد حسن شرّاب/ مؤرّخ فلسطينيّ
- موقع مدينة القدس- خاص
لعلّ مدينة القدس كانت من البواعث القوية التي جعلت أبا بكر الصديق –رضي الله عنه– يسرع في إرسال الجيوش لفتح بلاد الشام، حيث المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وجعله مسرى نبيه ومعراجه. وهو المسجد الثاني بعد الكعبة الذي يقام في الأرض لعبادة الله تعالى وحده.. ولذا جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد ثلاثة مساجد تُشَدّ إليها الرحال، ويضاعف فيها الأجر، وتواترت الأحاديث النبوية في فضل ديار الشام بعامة، واستحباب سكناها. فعن عبد الله بن حوالة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستجنّدون أجناداً، جنداً بالشام، وجنداً بالعراق، وجنداً باليمن. قال عبد الله: فقمت فقلت: خِرْ لي يا رسول الله، فقال: عليكم بالشام، فمن أبى فليلحق بيمنه، وليَسْتَق من غُدُره فإنّ الله عز وجل قد تكفّل لي بالشام وأهله، قال ربيعة فسمعت أبا إدريس يحدث بهذا الحديث يقول :(ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه). قال ناصر الدين الألباني: هذا حديث صحيح جداً، فإنّ له أربعة طرق.. وذكرها.
وروى الإمام أحمد عن ذي الأصابع قال: قلت: يا رسول الله، إنْ ابتُلينا بعدك بالبقاء، أين تأمرنا؟ قال: ((عليك ببيت المقدس، فَلَعَلّه أنْ ينشأ لك ذريةٌ، يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون)).
وفي السابع من شعبان من سنة 492ھ، غزاها الفرنجة الصليبيون، وملكوها بعد أنْ ملكوا كثيراً من بلاد الساحل، فكان فقدان القدس حرقةً في قلوب المؤمنين الموحّدين لأنّه كان أحد معاقلهم الروحية، ولأنّه لم يجدْ من عشرات أمراء المسلمين آنذاك من يدفع عنه ويحمي ساكنيه. ويصف ابن الأثير أثر ذلك في نفوس المسلمين، فيقول: "ورد المستنفرون من الشام في رمضان إلى بغداد، صحبة عدد من القضاة والعلماء فأوردوا في الديوان كلاماً أبكى العيون وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة فاستغاثوا وبكوا وأبكوا، وذكروا ما دهم المسلمين بذلك الشريف المعظم من قتل الرجال وسبى الحريم والأولاد ونهب الأموال.."، ولكن الوفد المستغيث رجع من غير بلوغ الأرب ولا قضاء حاجة, ذلك أنّ الخليفة الذي قصدوه في بغداد لم يكنْ له سلطان وكانت الدولة الإسلامية مقسّمة في دول صغيرة، قد لا تزيد الواحدة منها على بقعة وناحية قليلة من الأرض تحيط بها. وكان هؤلاء الحكّام دائمي التنازع والعدوان بعضهم على بعض. ولم يكنْ لأحدهم –كما يقول أبو شامة– همٌّ إلا في بطنه وفرجه، فما سهّل على الصليبيين دخول البلاد، وتأسيس الإمارات.. وفي هذا المعنى يقول الأبيوردي:
مَزَجنـا دماءً بالـــدموع السَّواجــم........... فـلـم يبـقَ منـا عُرضة للمراحــم
وشَرُ سلاح المـــرء دمـعٌ يفيضـه...........إذا الحرب شُـبَّت نارها بالصـوارم
فإيهاً بني الإســلام إنَّ وراءكــــم...........وقــائع يُلحقنَ الذُّرى بالمنــاسـتيم
أتـهويمةٌ في ظــــلّ أمـنٍ وغبــطـة...........وعيـشٍ كــــنوار الخميلـة نــــاعم
وإخوانكم بالشــام يضـحي مقيلُهـم...........ظـهور المذاكي أو بطونَ القشاعم
تسومـــهم الــــروم الهـوان وأنتم...........تَجرون ذيـــل الخفض فعل المسالم
وتلك حروب من يغب عن غمارها...........يسلم يقـــرع بعدهـــــا ســــن نادم
فـــليتهم إذ لـــم يــــذودوا حمــــيةً...........عن الدين ضــنوا غيرةً بالمحـــارم
إن زهدوا في الأجر إذ حمس الوغى...........فـهــــلا أتـوه رغبــة في المغانم
ولم تطلْ مدة الإغفاءة، وإنْ كان شعور جمهور الأمة بقي متيقظاً، بفضل المسجد، والاتصال اليومي بالعبادة، ولكن بعد فقدان القدس أخذ شعور جمهور الأمة يتفجر ويشتدّ إحساسه بمآسي المسلمين، فكثر التطلع إلى القائد المنقذ والارتقاب لظهوره، وأخذ بعض حكام الدويلات يتحسّس مشاعر المسلمين، وقد يتمنّى أنْ يكون القائد المنتظر، وأنْ يكتب له شرف تحرير القدس. حيث نقرأ في حوادث سنة 507ھ، أن مودود صاحب الموصل جاء بعسكر ليقاتل ملك الفرنج الذي بالقدس، فوقع بينهم معركة هائلة، ولكن هذه البداية لم تكنْ ناضجة ولا تقوم على خطة محكمة, فلم يكن من الحكمة العسكرية البداية بالقدس، وهي أقوى حصون الصليبيين، وإنما الخطة كانت تقضي، بانتقاصهم من أطرافهم، وقص أجنحتهم، لقطع الإمداد عنهم وبثّ الخوف في نفوسهم. وقد بدأت الخطة المحكمة على يد عماد الدين زنكي، حيث استطاع أنْ يوسّع إمارته الصغيرة (الموصل) وضمّ إليها حلب وحماة وحمص، وكوّن جبهةً إسلامية متحدة، وأزال أول إمارة صليبية سنة 539ھ وهي إمارة "الرها". فتنفّس المسلمون أنفاس الراحة واستعادوا ثقتهم بأنفسهم، ودعوا الاستيلاء على الرها ((فتح الفتوح)).
وتسلّم الراية من بعده ابنه نور الدين محمود، فكان استرداد القدس من أسس منهاجه... يدلّك على ذلك، أنّه بعد أنْ ملك حلب سنة 541ھ أمر بعمل منبر للمسجد الأقصى وأمر الصنّاع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال: هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس، فعمله النجّارون في عدة سنين، فجاء على نحوٍ لم يعمل في الإسلام مثله. قال ابن الأثير: في وصف فتح القدس: فأمر صلاح الدين بإحضار المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة وكان هذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده، رحمه الله. أقول: ولعل هذا المنبر، هو الذي أحرق يوم حريق المسجد الأقصى الذي دبّره اليهود سنة 1968م: ولم يكتبْ لنور الدين محمود أنْ يرى المنبر منصوباً في القدس، وإنما كتب له أجر نيّته. لأنّ المنية عاجلته قبل أن يحقق هدفه، حيث توفي سنة 569ھ فتسلم الراية من بعده تلميذه الملك الناصر يوسف صلاح الدين، وكان كعماد الدين، وابنه نور الدين يتطلع إلى شرف الشهادة في سبيل الله، وطرد الصليبيين من القدس الشريف.. واجتمع له لتحقيق هذا الهدف: نية صادقة، وهمة وثّابة وتطلع إلى الأعمال الصالحة إرضاءً لربه، مع طاعة الرعية وحبها له، وتشوق أرواح المؤمنين إلى قدسهم. وقد عرف رحمه الله، ثقة الأمة به، وما ألقته على عاتقه من المهمات, فواصل ليله بنهاره ليحقق آمال المسلمين فيه، حيث كان يصل إليه صوت جمهور المسلمين في قصائد الشعر التي تتابع خطواته وتحثه على فتح القدس. فقد قابلته الأقاليم الإسلامية التي ضمها لمملكته، بالترحاب والفرح، ورأوا في توحيد كلمة البلاد تمهيداً لفتح القدس ونصر كلمة الإسلام، يقول العماد الأصفهاني من قصيدة:
بفتوح عصرك يَفخــر الإســلام...........بنوالها ســـوق الرجاء تُقــام
أسدي صلاح الدين والدنيا يـداً...........بحصـــوله لفتـــوحك الإتمــام
فتملَّ فتحك واقصد الفتـح الذي...........وبنــور نصـرك تُشــرق الأيام
ويقول العماد في قصيدة:
ولا تهملوا البيت المقدس واعزموا........على فتحه غازين وافترعوا البكرا
وعندما غزا صلاح الدين غزة وعسقلان، ينشد عمارة اليمني قصيدة، يعبّر فيها عن تشوق القدس إلى لقاء صلاح الدين فيقول:
وما عصمتْهُم منك إلا معاقــــــــــل...........تأنوا على تحصينهـا وتـأنقوا
أضفت إلى أجـر الجهاد زيادة الـــــ...........خليل فأبْشرْ أنت غـازٍ موفقُ
وهيجّت للبيـــت المقــــدس لوعـــةً...........يطول بها منــه إليك التشـوق
هو البيــت إن تفتحه والله فاعــــــل...........فما بَعْده بابٌ من الشام مُغْلَقُ
ويقول عماد الأصفهاني:
فسِرْ وافتح القدس واسفك به...........دماءً متى تُجــرِها يَنظُـفِ
وخلِّص من الكفـر تلك البــلا...........د، يخلّصك الله في الموقف
وعندما جاء اليوم الموعود لتوجّه الجيش الإسلامي إلى القدس لمحاصرته وفتحه، ظهر شوق الجند الإسلامي إلى الشهادة، وتدافعوا إلى الميدان يحدوهم الرجاء بإحدى الحسنيين فتح القدس، أو الشهادة. ويصف ابن الأثير فتح القدس فيقول: ((ونصب الفرنج على سور البلد مجانيق ورمْوا بها، وقوتلوا أشدّ قتالٍ رآه أحد من الناس كل واحد من الفريقين يرى ذلك ديناً وحتماً واجباً فلا يحتاج فيه إلى باعثٍ سلطاني بل كانوا يُمنَعون فلا يمتنعون ويُزْجرون وفلا ينزجرون)). وتستطيع أنْ تقدّر شجاعة الجند الإسلامي وشدة معاناته يوم الفتح من وصف منْ كان بالقدس من الصليبيين حيث يقول ابن الأثير: ((فاجتمع في القدس كثيرٌ من الخلق، كلهم يرى الموت أيْسر عليه من أن يملك المسلمون البيت المقدس ويأخذوه منهم، ويرى أنّ بذل نفسه وماله وأولاده بعض ما يجب عليه حفظه، وحصنوه تلك الأيام بما وجدوا إليه سبيلاً، وصعدوا على سوره بحدّهم وحديدهم مُجمِعين على حفظه والذبّ عنه بجهدهم وطاقتهم مظهرين العزم على المناضلة دونه بحسب استطاعتهم)).
ولذلك عدّ المسلمون هذا الفتح من الكرامات التي يحققها الله على يد أوليائه والصالحين من عباده، وأضافوا إلى الفتوحات الأولى التي تمت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما لاحظوا فيه من العناية الإلهية بالمجاهدين، وتثبيت أقدامهم، فقال فخر الكتاب الحسن الجويني:
جند السمـــاء لهــذا المَلك أعــوان...........من شك فيهم فهذا الفتح برهـان
هـذي الفتـــوح فتــوح الأنبيــاء وما...........له ســوى الشـكر بالأفعال أثمـان
متى رأى الناس ما نحكيه مـن زمنٍ...........وقـد مضت قبْــلُ أزمان وأزمان
فـالآن لبى صــلاح الـديــن دعوتهــم...........بأمــر من هـو للمعـوان معـوانُ
للناصـر ادخـرت هــذي الفتـوح ومـا...........سَــمَت لها هممُ الأملاك مُـذ كانوا
إذا طــوى الله ديـوان العبــــاد فمــا...........يُطــوى لأجـر صلاح الديـن ديـوان
هـذي الفتـــوح فتــوح الأنبيــاء وما...........له ســوى الشـكر بالأفعال أثمـان
متى رأى الناس ما نحكيه مـن زمنٍ...........وقـد مضت قبْــلُ أزمان وأزمان
فـالآن لبى صــلاح الـديــن دعوتهــم...........بأمــر من هـو للمعـوان معـوانُ
للناصـر ادخـرت هــذي الفتـوح ومـا...........سَــمَت لها هممُ الأملاك مُـذ كانوا
إذا طــوى الله ديـوان العبــــاد فمــا...........يُطــوى لأجـر صلاح الديـن ديـوان
ويقول الشريف النسابة المصري من قصيدة:
أترى مناماً ما بعيني أُبصــــرُ...........الـقدسُ يُفتَحُ والفرنجة تُكســـــــرُ
قد جاء نصر الله والفتح الذي...........وعـد الرسول فسبحوا واستغفروا
فتح الشآم وطهر القدس الذي...........هــو في القيامة للأنـــام المحشـر
ومن صُوِر يوم الفتح ودخول المسلمين البلد يوم الجمعة، قال ابن الأثير: وكان على قبة الصخرة صليب كبير مُذهّب، فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة تسلّق جماعة منهم إلى أعلى القبة ليقلعوا الصليب، فحين صعدوا صاح الناس كلهم صوتاً واحداً من البلد، ومن ظاهره، المسلمون والفرنج، أمّا المسلمون فكبّروا فرحاً، وأمّا الفرنج فصاحوا تفجّعاً وتوجّعاً فسمع الناس صيحةً كادت الأرض أنْ تميد بهم لعظمها وشدتها. قال: ولما كانت الجمعة الأخرى رابع شعبان صلى فيه المسلمون الجمعة ومعهم صلاح الدين، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحين.
قال ابن الأثير بعد الحديث عمّا جدّده صلاح الدين بعد الفتح: ((فعاد الإسلام هناك غضاً طرياً، وهذه المكرمة من فتح بيت المقدس، لم يفعلْها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه غير صلاح الدين رحمه الله، وكفاه ذلك فخراً وشرفاً)).
أقول: ليت شعري، هل من فاتح ثالث، ويسجل له التاريخ هذه المكرمة.. حقاً لقد أتعب صلاح الدين من جاء بعده لطلب المجد كما قال الشاعر:
لقد أتعبت من طلب المعالي...........وحاول أن يسوس المسلمينا
ولكن المنهج العمري والصلاحي موجود، ولا يصعب على من اتّبعه أن يصل.
المصدر:
-الأستاذ محمد حسن شرّاب/ مؤرّخ فلسطينيّ
- موقع مدينة القدس- خاص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق