بحث هذه المدونة الإلكترونية

2014-04-11

التناقضات اليهودية ـ اليهودية، والصهيونية - اليهودية، والانقسامات الاسرائيلية.. ج/1


التناقضات اليهودية ـ اليهودية، والصهيونية ـ اليهودية..

التناقضات اليهودية ـ اليهودية، والصهيونية - اليهودية، والانقسامات الاسرائيلية.. ج/1

تحسين حلبي*
لو بقيت (اليهودية) ولا تقول هنا (الدين اليهودي) او دين ابراهيم ضمن اطارها اللاهوتي الضيق المحصور الذي عبر عنه الحاخامون وكهنة اليهود ولم يجر ربط بعض دعاواها بالصهيونية، لانحصرت شرورها ضمن كنسها ومحيط احيائها المنعزلة في مختلف دول العالم وما توسعت واصبحت مؤسسة سياسية اقليمية في خدمة الاستعمار من خلال الصهيونية، ومثلما حملت اليهودية كما تدل عليها نصوص (التاناخ) و(التلمود) بذور التناقض المتعددة والكثيرة مع نفس الافكار او الاتجاهات التي تحملها وتدعو لها، فقد حملت (الصهيونية) كايديولوجية استندت على اليهودية تناقضات مماثلة مع ذاتها ومع مستندها ومبرر نشوئها..

(فالصهيونية) إيديولوجية سياسية. ليست دينية او لاهوتية. إن كانت تستند (لليهودية) او لبعض ما حملته اليهودية من دعاوى وأفكار. والصهيونية بصفتها هذه، فكرة معاصرة حديثة قامت كدعوة فكرية وسياسية في إطار ووعاء الفكر القومي الاوروبي الذي ثبت نفسه في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولم يكن هرتزل الداعي الاساسي والاول لفكرة (إنشاء وطن قومي لليهود) لحل ما اطلق عليه اسم (المشكلة اليهودية) سوى مثقف سياسي اوروبي ولد لأم يهودية لكنه لا يؤمن اصلا بالدين اليهودي ويشبه معظم المثقفين السياسيين القوميين الذين عاصرهم في اوروبا. ولو لم تتطور أوروبا بعد القرون الوسطى وتنشأ داخلها على مر السنين قوى جديدة وطبقات جديدة ابتكرت فكرة (القومية) للدفاع عن مصالحها الاساسية لما ظهر بين اليهود من يدعو الى هذه الايديولوجية الصهيونية في الأساس. ولعل أهم ما يجعل الصهيونية تحمل ميزة متناقضة تماما مع الفكر القومي الاوروبي هو ان هذا الفكر القومي ودوله القومية نشأت اصلا من اجل التخلص من سيطرة الكنيسة المسيحية السياسية وممثليها ومن استند لها في سلطاته وحكمه من ملوك وامراء أوروبا.

فالفكر القومي الاوروبي حمل مستندا واساسا يفصل نفسه عن شرائع المسيحية والدين في حكم الدولة وقوانينها، وفي مفهوم الرعية والشعب، لكن الفكر الصهيوني القومي انطلق على النقيض من ذلك من خلال عملية مزدوجة هي الاستناد الى الدين اليهودي ومؤسسته من اجل خلق دولة يهودية (علمانية قومية). محصورة على من يعتبر نفسه منتسب للدين اليهودي فحسب.

ولم تكن (الصهيونية) كحركة سياسية للاستعمار الاستيطاني مختلفة الا قليلا عن الحركات الاستيطانية الاستعمارية الاخرى التي تنبتها الدول الاوروبية في عصر القوميات لاستعمار اجزاء من افريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية.

فالاستعمار الاستيطاني الذي اتجه نحو جنوب افريقيا ضم أوروبيين من مختلف القوميات الاوروبية ولم يكن المستوطنون فيه ينحصر دينهم بالمسيحية بل كان من بينهم من كان يهوديا ايضا. اما الصهيونية فقد حصر عضوية اعضائها الساعين الى الاستيطان الاستعماري باليهود باسم حل (المشكلة اليهودية).

ولو لم تربط الصهيونية كفكر وحركة سياسية نفسها بالدين اليهودي، و(وعد الرب بأرض الميعاد) لانتفى مبرر وجودها المميز والخاص باليهود واستيطانهم المحدد المختلف مع حركات الاستيطان الاوروبي من ناحية ما، والمتشابه من نواح أخرى معها في الوقت نفسه.

لذلك أراد الصهيونيون من الدين اليهودي ان يشكل جوهرا وأساسا لفكر قومي يرفضه الدين اليهودي أصلا، بل ولا يستطيع التكيف معه على خلاف الدين المسيحي والاسلامي اللذين يمكنهما ان يتكيفا مع الفكر القومي دونما صدام او صراع حاد وتناحري.

وهذا يعود بالأساس الى الاوروبيين والعرب كان لديهم بالأساس مقومات قومية تاريخية، لم يشكل الدين جوهرها او أساسها الوحيد كما هي الحال عند الفكر الصهيوني، وكأن الفكر الصهيوني سعى الى الاستعانة بالدين للاستناد اليه في تشكيل حالة يتناقض الدين معها بالاساس، ولمدة زمنية يراد ان تتشكل خلالها حالة قومية على غرار التشكيلات القومية الاوروبية.

ولهذا السبب وغيره من الاسباب ايضا، يصح القول بان الفكر الصهيوني اراد (تصنيع قومية) في مطبخ مشروعه الصهيوني يتأكد وجودها المميز مع مرور الأزمان او الأجيال.

ولان المتدينين اليهود ورجال الكنس اليهودية، كانوا يدركون جيدا تناقض دينهم مع الفكر القومي والدعوة لخلق الشعب القومي، فقد ابدو معارضة واضحة للفكر الصهيوني، ودعوا الى مقاطعته منذ بداية نشوء الحركة الصهيونية، وخلال خمسين سنة من وجودها لم تتمتع الحركة الصهيونية بتأييد أغلبية اليهود الا بعد وقوع الحرب العالمية الثانية، وما تسببت به لليهود في اوروبا. وهذا ما يعترف به جميع رجال الفكر الصهيوني[1].

فلولا تلك الاحداث والكوارث لما تجاوب مع اهداف الحركة سوى أقلية نخبوية علمانية تقليدية وان ضمت بعض رجال الدين البرغماتيين في ذلك الوقت.

والفكر اليهودي لا يعرف هذا المخلوق الجديد (القومي)، لان المستندات النظرية التقليدية للفكر اليهودي من (توراة وتلمود) لا يمكن ان تستوعب، أو تتوافق مع هذا المخلوق (الجديد المصنع). فمنذ آلاف السنين شكلت (التوراة والتلمود) الاساسين الفكريين للدين اليهودي، الذي يتميز بطابع قبلي عشائري محدود، ومحصور لا يؤمن بأممية الدين كالمسيحية، والاسلام ولا يدعو لها بالاساس… (هو دين يحمله كل من ولد من أم يهودية). وهذا ما يجعله محصورا بفئة سلالية اساسها الام او الجدة للأم. فمن لا يحمل هذا (الدم الأمي) لا يمكن ان يكون يهوديا..

وعلى خلاف الدين المسيحي والاسلامي اللذين يحملان فكرة الدعوة العامة، لكافة الناس دون تمييز، لم يكن الدين اليهودي يمثل دعوة عامة بل ولا يمكن لجوهر افكاره ان تكون افكار دعوة لكافة البشر. فهو قد قام بالاساس على فكرة وجود نوعين من البشر (اليهود) أبناء اسرائيل و(الغوييم) الأمم غير اليهودية (الامم التي لا تعود لنسل اسرائيل) أي كل ما هو غير يهودي.

وما زال هذا التقسيم ثابتا في الشريعة اليهودية المستمدة من التوراة والتلمود، وتقوم عليه آراء اليهود في الحاضر والمستقبل بشكل عام.

(فاليهودية كدين وشريعة ومعتقد) لا يكتسبها المرء، ويصبح يهوديا الا من خلال ولادته من ام يهودية بالتحديد، وبغض النظر عن الأب.

وهذا ما كانت الشريعة اليهودية تمارسه، وتتعايش به منذ آلاف السنين وحتى وقتنا الراهن. واذا ما لوحظ في مصطلحاتها او مفرداتها العبرية عبارة مثل (هامارا) أو (هاغيور) وهما تعنيان بالعبرية (تهويد) فهذا لا يعني تهويد بني البشر الآخرين، بل تهويد من ولد لأم يهودية ولم يتربى تربية دينية يهودية، او من ولد لأب يهودي وام غير يهودية، وأريد له ان يصبح يهوديا، او تهويد من تزوج من يهودية وهو غير يهودي. علما ان الحالتين الأخيرتين استثنائيتان، لان رجال الدين يحرمون تحريما باتا أجراء الزيجات المختلطة، خاصة حين يتزوج الرجل اليهودي من امرأة غير يهودية. فهم في هذه الحالة يخسرونه كليا، لأن أولاده لن يكونوا يهودا، بينما يمكن استعادة اولاد من ولدوا لأم يهودية وأب غير يهودي الى اليهودية.

ولان الفكر اليهودي منذ نشأته في التوراة، والتلمود، وحتى نهاية القرن التاسع عشر لا يعرف هذا المخلوق الجديد (وطن قومي) (وجود قومي) (قومية يهودية) ولا يقربه فقد كانت الصهيونية تمثل انقلابا على (الفكر اليهودي، واليهودية، بشكل عام). واذا كان الشعور القومي او الوجود القومي للشعوب نتاجا طبيعيا لحركة تطور الاقتصاد، والفكر في مرحلة تاريخية محددة عند معظم شعوب الأرض، فقد كان لهذه الشعوب بالأساس مقومات لهذا الوجود أو الشعور، وهي الارض، والتاريخ، والاقتصاد المشتركين، والأرادة المشتركة لكن دعاة الصهيونية أرادوا من خلال ايديولوجيتهم الصهيونية، ومشروعها تحويل اليهود الى أمة بمعزل عن هذه المقومات التي افتقروا اليها كأتباع (دين خاص) عاشوا بأعدادهم القليلة في شتى انحاء الأرض، لا يربط بعضهم بالبعض الآخر سوى ممارسة شعائر دينية خاصة ضمتها التوراة، والتلمود اللذان ما كانت لغتهما العبرية تستخدم الا في الصلوات عند المتدينين فحسب.

والفكر اليهودي كما نراه في مؤلفاته الدينية ليس سوى شرائع عبادات، ومعقدات تحمل انتماء خياليا اسطوريا لأرض (موعودة) جعلتها التوراة، والتلمود مركز الحياة الدنيا والآخرة، ومستقبل الارض والبشرية، لانها مرتبطة في كل مراحل التاريخ الماضي والمقبل (بمسيح يهودي) يظهر، ويبيد معظم البشرية (الغوييم) اعداء بني اسرائيل، ويحمل (بني اسرائيل الى الأرض الموعودة، حيث يحيي اموات اليهود (فقط) ويورثهم الارض الى الأبد…) [2] هذه هي الدنيا الابدية بنظر الفكر الديني اليهودي الذي يجعل المنتمين له (كهنة وليسوا شعبا) حسب الواقع التاريخي للشعوب. بل ويحدد بهذه الطريقة وجودهم غير المتمسك بالارض، لان ارادة الرب هي التي تعيدها، وليس إرادة اليهودي المباشرة، واعمالها السياسية او العسكرية. وبهذا يصبح تاريخ اليهود هو (يوتوبيا) الدين اليهودي حول مملكة السماء على الأرض وليس ذلك التاريخ الملموس المجسد بأحداثه على الأرض.

والعودة الحقيقية، والدولة الحقيقية هما ما تحكم به وتتنبأ التوراة والتلمود، وهما المرتبطان كلياً (بإرادة الهية) وليس بإرادة البشر والعمل السياسي المعاصر، وهذه الارادة الالهية لا تتجسد كما تؤكد مواعظ الحاخامين سوى بالانغماس بالتوراة، وممارسة التعبد اليهودي الذي يشبه الصوفية، والإيمان المستمر بأن (رب اسرائيل) لن ينسى شعبه (المقدس).

وفي المقابل اعتبرت الحركة الصهيونية العمل السياسي، والاستيطاني، والعسكري لانشاء الدولة القومية اليهودية العصرية غير الدينية أساس وهدف لهذا المشروع الصهيوني، وهو ما سيشكل مساهمة بشرية لتحفيز الارادة الإلهية على تحقيق غايتها التوراتية[3].

ومما لا شك فيه، ان هذا التناقض الجوهري بين مفهوم العودة والدولة عند كل طرف أضعف الحركة الصهيونية، وقلص قدراتها، ونفوذها بين اليهود المحافظين على الفرائض اليهودية. ولذلك عمد أتباع الصهيونية اليهود الى استمالة، وتجنيد بعض الحاخاميين الكبار في صفوف الحركة الصهيونية، لتعميم مواعظهم، وتوسيع انشطتهم لاقناع اليهود بعدم وجود تناقض بين الارادة البشرية اليهودية والارادة الإلهية فيما يتعلق بالعودة الى الأرض (الموعودة)، واستيطانها، وبناء مملكة الرب فيها على الطريقة الصهيونية البشرية المعاصرة.

يقول هرتزل في كتابه (الدولة اليهودية) 1896: (سوف يقوم حاخامونا الذين نتوجه اليهم بنداء خاص، بتكريس جهودهم، وطاقاتهم لخدمة فكرتنا، وسوف يغرسونها في نفوس الرعية اليهودية، عن طريق الوعظ، والارشاد من فوق منابر الكنس، لكننا لن نسمح بظهور أية نزعات ثيوقراطية لدى سلطاتنا الروحية، وسوف نعمل على ابقاء هذه السلطات داخل الكنيس، والمعبد وسوف تلقى أية محاولة سيطرة يقومون بها مقاومة شديدة من جانبنا).

وعلى الرغم من هذا التشدد الصهيوني، الذي أعلنه هرتزل تجاه الحاخاميين والمتدينين، كان دعاة الصهيونية بين اليهود يظهرون بمظهر المتمسكين بالدين اليهودي. فقد كانت عباراتهم، لا تخلو من العواطف والحنين الى (ارض الآباء والاجداد)، وتكثر في خطاباتهم الاقتباسات التلمودية…

وبالتدريج نجحت الحركة الصهيونية، بخلق تيار ديني يهودي داخل القيادات الروحية اليهودية، يؤيد الصهيونية ويجند طاقاته لتحقيق مشروعها في انشاء الدولة اليهودية في أرض فلسطين. مثل الحاخام (يتسحاق راينس)، والحاخام الشهير (مئير بارلايلان) واتباع الحاخام (صمئويل موهيليفير) 1824 ـ 1898م الذي اسس اول جمعية (لاحباء صهيون) عام 1882.

فهذه القيادة تبنت الصهيونية، ودعت الى الإيمان بها، والوقوف خلف قيادتها، واعتمدت فيما بعد البرنامج الصهيوني الذي اقره مؤتمر بال 1897، لكن على اساس تطلعها لانشاء دولة تقوم على شريعة التوراة، والتلمود.

وقد لعبت هذه القيادات المؤيدة للصهيونية داخل المؤسسة الدينية دورا اساسيا في بروز تيار حركة (همزراحي) (المركز الروحي) بقيادة الحاخام اسحق راينس عام 1902م كأول حركة سياسية دينية تتبنى الفكر الصهيوني ودعوته، وسياسته الاستيطانية داخل الجسم اليهودي المتدين المناقض للصهيونية، ودعواها البشرية في أوروبا.

وقد استمدت حركة (همزراحي) الدينية الصهيونية جذور توافقها مع الصهيونية، وتزويجها للدين اليهودي مع الصهيونية من أفكار وأقوال الحاخام الكبير (موسى بن ميمون) الفيلسوف والطبيب اليهودي الذي عاش في القرون الوسطى في الاندلس، وعاصر صلاح الدين الايوبي[4]. إذ يروى بانه عندما زار القدس عام 1327م، وجد بها يهوديين فقط فجن جنونه، وقرر القيام بنشاط محموم لزيادة عدد اليهود في فلسطين. لكن على الرغم من ذلك، بقي نفوذ، وتأثير التيار اليهودي المتدين الصهيوني محدودا داخل الطوائف اليهودية، وداخل مؤسسات الحركة الصهيونية ولجانها القيادية.

فقد كان معظم اعضاء المؤتمر الصهيوني الأول من اليهود العلمانيين، او التقليديين غير الملتزمين بكامل العبادات، والمحظورات الدينية.

يتبــع


تحسين حلبي*
- فلسطيني مواليد يافا عام 1948.
- انضم للعمل السري الفدائي في دمشق عام 1966 حيث استقرت عائلته بعد النكبة.
- وقع في الأسر في الضفة الغربية أواخر عام 1967.
- تحرر من الأسر ضمن عملية تبادل (عملية النورس) عام 1979، وهي العملية التي تمت بين الجبهة الشعبية – القيادة العامة، وبين العدو الإسرائيلي.
- يعمل في الصحافة والكتابة السياسية والأدب، ومن المختصين في الشؤون الإسرائيلية.. إضافة إلى عمله النضالي.
من مؤلفاته:
- مائة عام على الصهيونية.
- التناقضات اليهودية - اليهودية، والصهيونية – اليهودية.
- كلمات لرفاق الأسر والوطن/ شعر
- إسرائيل في مواجهة جبريل/ ترجمة
- التغلغل الصهيوني في أفريقيا/ دراسة.
- له مقالات ودراسات عدة في الدوريات والصحف العربية.
- عمل رئيساً لتحرير مجلة فور وورد بالإنكليزية.
- نائب أمين فرع سوريا لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين.

ليست هناك تعليقات: