حركة المؤرخين الاسرائيليين الجدد -1-
اعتمدت دولة الإحتلال الصهيوني مبدأ الافراج عن الوثائق السرية بعد مرور ثلاثين سنة عليها. وتم الافراج عن الدفعة الاولى من هذه الوثائق في العام 1978 وهي تتعلق بالعام (1948) وبذلك بدأت تتوافر بين ايدي الدراسيين الاسرائيليين وثائق عن المرحلةالممتدة ما بين (1948) ولغاية (1970). وعلى غرار ما يجري في الدول التي تعتمد هذا المبدأ فان الاهتمام ينصب حول تصحيح بعض القناعات المنتشرة بين الجمهور والتي تثبت الوثائق كونها قناعات خاطئة. ويصل الاهتمام بتصحيح هذه القناعات الخاطئة وتقويمها الى الصحافةاليومية. ان هي رأت في ذلك جذباً لاهتمام جمهورها. اما الوثائق الاقل إثارة فيهتم بها المتخصصون وبعض الفضوليين.
في دولة الإحتلال الصهيوني لم يكن الامر بمثل هذه البساطة. فقد ادى كشف القناعات الخاطئة ومحاولات تصحيحها الى نشؤ تيار حديد عرف بتيار “المراجعة” او “المؤرخون الاسرائيليون الجدد”. ولقد ادى هذا التيار الى حدوث انقسام حاد في المجتمع الاسرائيلي بين مؤيد للتيار ومعارض له. وحدة هذا الإنقسام تعتبر غير عادية بالمقارنة مع دول اخرى تواجه حقائق اصعب من تلك التي تواجهها اسرائيل عبر هذه المراجعات. ومن الملفت ان حزب العمل يتبنى هذا التيار حتى يبدو وكأنه والده غير المعلن. في حين يلقى التيار معارضة ليكودية عنيفة تضعه في قلب السياسة الاسرائيلية وصراع اقطابها. ولا بد لهذه المواقف الحادة من ان تستتبع طرح سيل من الاسئلة يحتاج الى ترتيب تسلسلي مناسب وصولاً الى فهم هذه الاهمية المتضخمة لهذا التيار الذي اكتسب تسمية الحركة بسرعة تطرح اسئلة اضافية.
بعض المهتمين بالحركة يربطون بينها وبين الاحساس الاسرائيلي بالخطر بداية حرب (1973). في حين يميل البعض لاعتبارها اختراعاً جديداً للعلمانيين في حزب العمل. بينما يصر آخرون على اعتبارها حلقة من حلقات صراع الهوية في اسرئيل. ويصل البعض الى حدود وصفها بالحركة الساعية لوضع حد للصراع العسكري مع العرب عبر تسوية لا تصل الى مرتبة السلام. وتبقى قلة قليلة ترى ان حركة المؤرخين الجدد هي مزيج من كل ذلك في آنٍ معاً. وهذا التفسير هو الاصعب والاكثر إستثارة للاسئلة.
وتلافياً لفوضى تصنيف وترتيب هذه الأسئلة فاننا سنعتمد مبدأ التداعي الحر وهو مبدأ ينتمي الى التحليل النفسي. ويعتمد هذا المبدأ على الانطلاق من الحاضر الى الماضي القريب ومنه الى الابعد فالابعد. بحيث تساعدنا معلومات كل مرحلة على فهم وتذكر المراحل التي قبلها.
على هذا الاساس نجد من المناسب مقاربة الموضوع عبر التسلسل الآتي: 1 ـ التعريف بالحركة و2 ـ دعم بيلين لها و3 ـ دعم رابين لها و4- علاقة الحركة بمشروع رابين (الشرق اوسطية) و5 ـ علاقة الحركة والمشروع بطروحات الهوية و6 ـ الاصول التاريخية للحركة (لو وجدت) و7 ـ منطلقات المعارضة الاسرائيلية للحركة و8 ـ انعكاسات المراجعة الاسرائيلية على التأريخ الرسمي العربي.
وغني عن القول بأن المجال هنا لا يتسع لمناقشة هذه القضايا بعمقها وتفاصيلها. وبأننا سنكتفي بعرض موجز لها. ونبدأ باول الاسئلة.
1 ـ التعريف بحركة المؤرخين الجدد
تجنب التاريخ الاسرائيلي الرسمي مجرد الإشارة الى الخسائر اللاحقة بالفلسطينيين نتيجة حرب 1948. وبذلك فهو قد تجنب ذكر الدمار والخراب اللاحق بالمدن والقرى الفلسطينية والحديث عن طرد السكان من قراهم ومنازلهم وتدميرها بعد ذلك. وبهذا حافظت الرواية الرسمية الاسرائيلية على منطوق تاريخي موحد قوامه ان الصهيونية قد حققت معجزة اقامة دولة اسرائيل. وصفة المعجزة هي النتيجة المفروضة للطريقة الرسمية في سرد احداث حرب 1948. وذلك بدءاً بتسميتها بـ”حرب الاستقلال” في ايحاء الى انه استقلال لدولة اليهود عن التاج البريطاني. وهذه التسمية تعني التجاهل الرسمي الكامل لوجود شعب غير يهودي في فلسطين ايام الانتداب. مما يعني بأن التزوير التاريخي يبدأ من التسمية. ومنها ايضاً بدء المؤرخون الجدد اذ رفضوا هذه التسمية واصروا على استبدالها بمصطلح “حرب 1948”. وهي بداية جيدة على اي حال! حيث يحاول هؤلاء المؤرخون مراجعة الصيغة التاريخية الرسمية وتنقيتها من الاكاذيب ومن حيل الحرب النفسية التي تحولت الى مسلمات اسرائيلية لحين قيام هؤلاء المراجعون بالتشكيك في صدقيتها. ولا شك ان مهمة هؤلاء شاقة لان نقض المسلمات هو مهمة عسيرة وتحتاج الى اسانيد وحجج دامغة دون اي احتمال لبس.
وفي عودة الى الرواية الرسمية فانها تعتبر حرب 1948 بمنزلة حرب التحرير. اي تحرير اليهود من ظلم بلاد الشتات وذلها. وتعتمد الرواية على مقولة اساسية قوامها ان ولادة الحركة الصهيونية كانت ردة فعل على الاضطهاد الذي تعرض له اليهود. ثم جاءت اسرائيل لتكون حلاً، ولوجزئياً، لمشكلة اليهود الاوروبيين. وهذا الحل كان هو الهدف الاساسي للصهيونية. التي لم تقصد الحاق الإساءة بعرب فلسطين. فالاستيطان الصهيوني كان مجاورة برأي الصهاينة ولم يكن احتكاكاً او هادفاً لمضايقة العرب او ترحيلهم. ومع ذلك فقد وجدت اسرائيل نفسها في وسط عربي قاسٍ ولا يعرف الرحمة بحيث اضطرت الاقلية اليهودية (وقسم منها مصدوم وخارج من المعتقلات النازية) للدفاع عن نفسها في وجه اغلبية عربية تشن حرباً للقضاء على اليهود. لذلك رفض العرب قرار التقسيم وهاجموا اليشوف اليهودي بهدف اقتلاعه والقضاء على الدولة اليهودية في مهدها. وكان العرب مدعومين في ذلك من قبل البريطانيين. وتتابع الرواية الرسمية بأن العرب خسروا الحرب بعد ان تمكنت جماعة الهاغانا (كانت تسميتها العالمية آنذاك بالمنظمة الارهابية) من الانتصار على العصابات (وليس المقاومة) الفلسطينية المدعومة من قبل جيش الإنقاذ. وما لبثت الدول العربية الخمسة ان هاجمت الدولة اليهودية بجيوشها. وبهدف تسهيل مهمتها طالبت هذه الدول السكان العرب بمغادرة منازلهم لفتح الطريق امام تقدم الجيوش العربية. وهذا الطلب العربي هو الذي أدى الى نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.ومع ذلك بقيت الرغبة في السلام قائمة لدى الزعماء الاسرائيليين. لكن العرب رفضوا ذلك وقضوا على جميع المبادرات السلمية والنوايا الحسنة. وذلك لانهم كانوا قد عقدوا النية على تدمير اسرائيل. ومع ذلك انتصر اليهود ونجحوا في اقامة دولتهم بالرغم من كل الظروف(2). وكان هذا الانتصار معجزة يهودية جديدة تحققت بفضل براعة بن غوريون وبطولة المقاتلين اليهود.
وبعد قيام اسرائيل تحولت الرواية الرسمية الى تقديم صورة مثالية (بهدف تسويق الدولة الجديدة لدى يهود العالم) وتحول المؤرخون الرسميون الى نوع من الصحفيين الذين يكتفون بنقل الأخبار الرسمية وتدوينها بأسلوب التأريخ منتبهين الى عدم تجاوز الخطوط الحمراء. والتي يمكن تلخيصها بأي شيء يمكنه ان يسيء الى اسرائيل. وكان المؤرخ الرسمي يتجاهل الحقائق ويتجاوز المعطيات المتوافرة لديه باعتبارها اسراراً تمس الامن الاسرائيلي!. وهكذا تم طمس الحقائق التاريخية بدون اي شعور بالمسؤولية.وخدمة للأغراض الصهيونية.
لكن الامور بدأت تتغير مع ظهور المؤرخين الجدد في نهاية السبعينيات . اذ بدأ هؤلاء يخرجون على الرواية الرسمية في كتاباتهم. بادئين بذلك عملية اعادة نظر شاملة بمسلمات المؤرخين الرسميين.
وبدأ هذا الجيل من المؤرخين بالاهتمام بالمسألة الفلسطينية وبآثار حرب1948 وانعكاساتها على الفلسطينيين. فلجأوا الى اعادة كتابة احداث الحرب من منظورها السياسي. فقد اطلق احد هؤلاء المؤرخين ويدعى”ايلان بابي” قاعدة مفادها ان على مؤرخ الحرب ان يولي اهتماماً اقل لتطوراتها العسكرية (تنقلها الصحافة) وان يولي اهتمامه للوجوه السياسية(3). ذلك ان الحرب نفسها هي قرار سياسي واستمرارية اي حرب انما ترتبط بفشل اطراف الصراع في الوصول الى تسوية سياسية. وهكذا بدأ صرح الرواية الرسمية بالانهيار وبدأت الصهيونية تفقد قناعها لتتبدى كحركة استعمارية
بعد زوال قناعها التحريري!. وبذلك فان اسرائيل تحمل وزر الظلم والغبن اللاحقين بالفلسطينيين بسبب حرب (1948).وتدعمت هذه الآراء بالمعطيات التي كشفت عنها الوثائق الاسرائيلية المعلنة. حيث وجد المؤرخون الجدد البراهين والادلة اللازمة للطعن بصحة الرواية الرسمية. وكما يفعل اي مؤرخ موضوعي فان هؤلاء لم يتركوا مصدراً من المصادر المتوافرة للمعلومات دون ان يدرسوه ويخضعوه لمباديء المقارنة التاريخية. فهم قد استعانوا، الى جانب الارشيف الاسرائيلي، بالارشيفين الاميركي والفرنسي اضافة للمراسلات والاوراق الخاصة ومحاضر الاحزاب والمذكرات الشخصية ومقابلة العديد من الشخصيات. اضافة الىتقارير الديبلوماسيين الذين عملوا في قضية اللاجئين الفلسطينيين.
هكذا توصل المؤرخون الجدد الى الطعن بالرواية الرسمية واتفقوا على كونها مركبة من مجموعة مقولات او ادعاءات باطلة او غير دقيقة على الاقل. وكذلك فهم اتفقوا على تسميتها بـ”الاساطير الصهيونية”. وقبل الانتقال الى تعداد المواضيع التي يتفقون على تسميتها بالاساطير نود ان نوضح اشكالية استخدامهم لمصطلح”اساطير”. فالاسطورة تعريفاً يجب ان تكون حادثة قديمة تنطوي على خوارق. والمواضيع الطروحة حديثة ولا تنطوي على خوارق فكيف يصح وصفها بالاساطير؟! وهي مجرد اكاذيب!.
ان ما يبرراستخدام هذا المصطلح هو ان الصهيونية قد نجحت في ربط كل كذبة من اكاذيبها بواحدة من الاساطير اليهودية. ومن هنا نجد ان لمصطلح “الاساطر الصهيونية” دلالات معبرة ومحددة. لذلك فاننا نفضله على مصطلح اكاذيب. بل اننا نرى بأن اتقان الصهيونية لهذا الربط يستدعي الدراسة؟.
وبالعودة الى المؤرخين الجدد فاننا نجدهم متفقين على تحديد هذه الاساطير. بحيث نراها تتكرر بشكل روتيني وممل في كتاباتهم. الا اننا نلاحظ في المقابل عدم اتفاقهم حول القراءة الجديدة لهذه الاساطير. ولنبدأ اولاً بتحديدها:
أ ـ الاسطورة الاولى: هي ادعاء الزعماء الاسرائيليين قبولهم لقرار التقسيم الصادر عن الامم المتحدة في 1947/11/29. واعتبار هذا القبول اعراباً عن رغبتهم الصادقة في التوصل الى تسوية سلمية تسمح باقامة دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل.
ب ـ الاسطورة الثانية: هي ان نزوح الفلسطينيين حصل بسبب نداء من القادة العرب طلبوا فيه من الفلسطينيين مغادرة ارضهم بصورة مؤقتة تسهيلاً لدخول الجيوش العربية.
ج ـ الاسطورة الثالثة: تدعي الرواية الرسمية ان اسرائيل كانت مضطرة لخوض حرب (1948) وذلك بسبب عدائية الدول العربية ورفضها قرار التقسيم واصرارها على خوض حرب تقضي فيها على اسرائيل.
د ـ الاسطورة الرابعة: كانت اسرائيل، عند صدور قرار التقسيم، ضعيفة وصغيرة وغير مستعدة لخوض مواجهة عسكرية امام جيوش عربية تفوقها عدداً واستعداداً.
هـ ـ الاسطورة الخامسة: وتقول بأن اسرائيل كانت دوماً مستعدة لاقامة السلام مع العرب. لكن هؤلاء كانوا يرفضون الاعتراف بها.
ولقد تمكنت جماعة المؤرخين الجدد من ضحد هذه الاساطير الخمسة بطرق مختلفة باختلاف الوثائق التي تمكن كل منهم من الحصول عليها. لكن اختلافاً ايديولوجياً بين هؤلاء يجعلهم يقرأون المعطيات المتوافرة بين ايديهم بطرق مختلفة. لكننا نتساءل عن جدية هذه الاختلافات. وعما اذا كانت مجرد خلافات منهجية او تصورات مختلفة لمستقبل اسرائيل. خصوصاً وان المعلومات المتوافرة عن هؤلاء تشير الىعلاقتهم بحزب العمل وبملكيتهم لخلفيات ليبيرالية تجعلنا نشكك بوجود خلافات ايديولوجية بينهم. وهذا ما سنوضحه لاحقاً.
2 ـ بيلين يدعم الحركة
يوسي بيلين هو احد مفكري حزب العمل ومنظريه قبل تسلمه منصب وزير العدل في حكومة باراك. وهو مهندس اتفاق أوسلو ومتحمس لادخال افكار المؤرخين الجدد الى المدارس الاسرائيلية (غير الدينية) وتدريسها للتلاميذ. فهل يتحمس مفكر مثل بيلين لمثل هذا القرار بصرة عشوائية. خصوصاً ضمن حكومة إئتلافية هجينة يعارض العديد من اعضائها مثل هذا القرار؟.
فلنتعرف اولاً الى فكر بيلين ورؤيته الاستراتيجية للواقع الاسرائيلي خصوصاً واليهودي عموماً. وهذا ما يمكن الاطلاع عليه عبر كتابه المعنون بـ”موت العم الاميركي”.
وفيه يقول بأن التيار المركزي في الحركة الصهيونية المنحاز الى هرتزل هو الذي فشل في تحقيق الهدف الصهيوني. فقد كان هم هرتزل الاساسي هو منح يهود اوروبا ملجأ آمناً من المطاردات. ولهذا السبب كان الصهيونيون على استعداد لمناقشة أية خيارات تمنحهم حكماً ذاتياً يهودياً في اي مكان من العالم وبسرعة. ولم تكن الهجرة الى فلسطين تمثل خياراً اولاً بالنسبة لمعظم يهود اوروبا. بل هي كانت تمثل خياراً إجبارياً وناقصاً. لذلك هاجر أغنياؤهم الى الولايات المتحدة لانها قبلتهم.
وهذا ما يدفع بيلين للتساؤل عن مستقبل اليهود واليهودية خارج اسرائيل فيرى بانهم يتناقصون ويسيرون نحو الذوبان. ويتابع انني اشعر بنوع من الهيستيريا والخوف إزاء ذوبان الشعب اليهودي خارج دولة اسرائيل. فاليوم وبعد 51 سنة على قيام اسرائيل هنالك 13 مليون يهودي. منهم عشرة ملايين يعيشون في الولايات المتحدة واسرائيل. اما شرقي اوروبا فانه سيفرغ من اليهود. لان غالبيتهم يحلمون بالهجرة الى اميركا و60% منهم يعقدون زيجات مختلطة. وكذلك يفعل يهود الولايات المتحدة مما يؤدي الى تناقص مستمر في عدد اليهود خارج اسرائيل. خصوصاً مع تناقص معدل الولادات الطبيعي لهؤلاء اليهود. وينبه بيلين من الخطورة الكامنة في تناقص اعداد يهود الشتات الذين يشكلون الخزان البشري للدم اليهودي.
ويحاول بيلين في كتابه البحث عن سبب هذا التناقص الحاد فيخلص الى ان اسرائيل تقوم بدور مزدوج بالنسبة ليهود الخارج ولكنه منتاقض في تأثيره على يهود العالم. فاسرائيل تتيح لهم موقع انتماء واعتزاز واحياناً موقع قلق وخوف. وهذه الميزات وفرت القوة ليهود الخارج. وساعدتهم في الحفاظ على وجودهم. لكن اسرائيل سنت قانوناً للهجرة حددت فيه تعريف اليهودي الذي يحق له الهجرة اليها. مما ابعد عنها ملايين الاشخاص الذين يعتبرون انفسهم يهوداً ولكنهم لا يستوفون شروط تعريف اسرائيل لليهودي. القائل بانه الشخص المولود من ام يهودية واصبح يهودياً بحسب الشريعة اليهودية وبمصادقة الحاخامين الارثوذوكس. وبذلك تكون اسرائيل قد اعطت للمحافل الدينية اليهودية وحدها حق الحسم في مسألة ذات جوهر قومي.
ويرى بيلين ان استمرار العمل بهذا القانون يشكل انتحاراً جماعياً. فالمتدينون اليهود يريدون جعل اليهودية ديناً فقط ونحن نراها اكثر من ذلك... فنحن نراها ثقافة وهوية ومصيراً. ثم يتساءل: من وضع الحاخامين في موقع من يسقط اليهودي من يهوديته؟ ففي الولايات المتحدة وحدها يوجد ما بين مليونان الى ثلاثة ملايين اميركي في زيجات يهودية ـ مسيحية مختلطة. والحاخامون لا يعتبرون هؤلاء يهوداً. وثمة آخرون مثلهم في الاتحاد الروسي.
ويستنتج بيلين الضرورة الحيوية لصياغة قانون جديد يسمح بهجرة هؤلاء الذين يرفض الحاخامات اعتبارهم يهوداً. ويقترح بيلين الاعتماد على الرغبة الشخصية للمولودين من ام غير يهودية ولهم اقرباء يهود (ولو قرابة بعيدة). فاذا اختار الشخص الديانة اليهودية فليمنح هذه الصفة وليسمح له بالهجرة الى اسرائيل. على ان يكون ذلك عقب اختبار قصير بمباديء الدين اليهودي. على غرار الامتحان الموجز بالدستور الاميركي الذي يخضع له طالبوا الجنسية الاميركية قبل منحها لهم. وبذلك يكون يوسي بيلين قد وضع اسس “التهويد العلماني”.
من خلال هذا الملخص البسيط الموجز لكتاب بيلين نجد ان هذا المفكر يدعو لإعادة النظر بالمشروع الصهيوني برمته. منذ هرتزل وحتى اليوم. وهو يطرح مراجعة كاملة له وليس مجرد مراجعة بعض التفاصيل التاريخية الفرعية. وهو ما يفعله المؤرخون الجدد. مما يجعل من هؤلاء مجرد مرحلة أولية من مراحل مشروع بيلين. لكن هل يمكن القول بأن هذا المشروع هو مشروع بيلين الشخصي؟ ام انه يأتي في سياق المشروع العام لحزب العمل؟. وهذا ما سنعرفه من استعراض موقفه من المؤرخين الجدد.
اعتمدت دولة الإحتلال الصهيوني مبدأ الافراج عن الوثائق السرية بعد مرور ثلاثين سنة عليها. وتم الافراج عن الدفعة الاولى من هذه الوثائق في العام 1978 وهي تتعلق بالعام (1948) وبذلك بدأت تتوافر بين ايدي الدراسيين الاسرائيليين وثائق عن المرحلةالممتدة ما بين (1948) ولغاية (1970). وعلى غرار ما يجري في الدول التي تعتمد هذا المبدأ فان الاهتمام ينصب حول تصحيح بعض القناعات المنتشرة بين الجمهور والتي تثبت الوثائق كونها قناعات خاطئة. ويصل الاهتمام بتصحيح هذه القناعات الخاطئة وتقويمها الى الصحافةاليومية. ان هي رأت في ذلك جذباً لاهتمام جمهورها. اما الوثائق الاقل إثارة فيهتم بها المتخصصون وبعض الفضوليين.
في دولة الإحتلال الصهيوني لم يكن الامر بمثل هذه البساطة. فقد ادى كشف القناعات الخاطئة ومحاولات تصحيحها الى نشؤ تيار حديد عرف بتيار “المراجعة” او “المؤرخون الاسرائيليون الجدد”. ولقد ادى هذا التيار الى حدوث انقسام حاد في المجتمع الاسرائيلي بين مؤيد للتيار ومعارض له. وحدة هذا الإنقسام تعتبر غير عادية بالمقارنة مع دول اخرى تواجه حقائق اصعب من تلك التي تواجهها اسرائيل عبر هذه المراجعات. ومن الملفت ان حزب العمل يتبنى هذا التيار حتى يبدو وكأنه والده غير المعلن. في حين يلقى التيار معارضة ليكودية عنيفة تضعه في قلب السياسة الاسرائيلية وصراع اقطابها. ولا بد لهذه المواقف الحادة من ان تستتبع طرح سيل من الاسئلة يحتاج الى ترتيب تسلسلي مناسب وصولاً الى فهم هذه الاهمية المتضخمة لهذا التيار الذي اكتسب تسمية الحركة بسرعة تطرح اسئلة اضافية.
بعض المهتمين بالحركة يربطون بينها وبين الاحساس الاسرائيلي بالخطر بداية حرب (1973). في حين يميل البعض لاعتبارها اختراعاً جديداً للعلمانيين في حزب العمل. بينما يصر آخرون على اعتبارها حلقة من حلقات صراع الهوية في اسرئيل. ويصل البعض الى حدود وصفها بالحركة الساعية لوضع حد للصراع العسكري مع العرب عبر تسوية لا تصل الى مرتبة السلام. وتبقى قلة قليلة ترى ان حركة المؤرخين الجدد هي مزيج من كل ذلك في آنٍ معاً. وهذا التفسير هو الاصعب والاكثر إستثارة للاسئلة.
وتلافياً لفوضى تصنيف وترتيب هذه الأسئلة فاننا سنعتمد مبدأ التداعي الحر وهو مبدأ ينتمي الى التحليل النفسي. ويعتمد هذا المبدأ على الانطلاق من الحاضر الى الماضي القريب ومنه الى الابعد فالابعد. بحيث تساعدنا معلومات كل مرحلة على فهم وتذكر المراحل التي قبلها.
على هذا الاساس نجد من المناسب مقاربة الموضوع عبر التسلسل الآتي: 1 ـ التعريف بالحركة و2 ـ دعم بيلين لها و3 ـ دعم رابين لها و4- علاقة الحركة بمشروع رابين (الشرق اوسطية) و5 ـ علاقة الحركة والمشروع بطروحات الهوية و6 ـ الاصول التاريخية للحركة (لو وجدت) و7 ـ منطلقات المعارضة الاسرائيلية للحركة و8 ـ انعكاسات المراجعة الاسرائيلية على التأريخ الرسمي العربي.
وغني عن القول بأن المجال هنا لا يتسع لمناقشة هذه القضايا بعمقها وتفاصيلها. وبأننا سنكتفي بعرض موجز لها. ونبدأ باول الاسئلة.
1 ـ التعريف بحركة المؤرخين الجدد
تجنب التاريخ الاسرائيلي الرسمي مجرد الإشارة الى الخسائر اللاحقة بالفلسطينيين نتيجة حرب 1948. وبذلك فهو قد تجنب ذكر الدمار والخراب اللاحق بالمدن والقرى الفلسطينية والحديث عن طرد السكان من قراهم ومنازلهم وتدميرها بعد ذلك. وبهذا حافظت الرواية الرسمية الاسرائيلية على منطوق تاريخي موحد قوامه ان الصهيونية قد حققت معجزة اقامة دولة اسرائيل. وصفة المعجزة هي النتيجة المفروضة للطريقة الرسمية في سرد احداث حرب 1948. وذلك بدءاً بتسميتها بـ”حرب الاستقلال” في ايحاء الى انه استقلال لدولة اليهود عن التاج البريطاني. وهذه التسمية تعني التجاهل الرسمي الكامل لوجود شعب غير يهودي في فلسطين ايام الانتداب. مما يعني بأن التزوير التاريخي يبدأ من التسمية. ومنها ايضاً بدء المؤرخون الجدد اذ رفضوا هذه التسمية واصروا على استبدالها بمصطلح “حرب 1948”. وهي بداية جيدة على اي حال! حيث يحاول هؤلاء المؤرخون مراجعة الصيغة التاريخية الرسمية وتنقيتها من الاكاذيب ومن حيل الحرب النفسية التي تحولت الى مسلمات اسرائيلية لحين قيام هؤلاء المراجعون بالتشكيك في صدقيتها. ولا شك ان مهمة هؤلاء شاقة لان نقض المسلمات هو مهمة عسيرة وتحتاج الى اسانيد وحجج دامغة دون اي احتمال لبس.
وفي عودة الى الرواية الرسمية فانها تعتبر حرب 1948 بمنزلة حرب التحرير. اي تحرير اليهود من ظلم بلاد الشتات وذلها. وتعتمد الرواية على مقولة اساسية قوامها ان ولادة الحركة الصهيونية كانت ردة فعل على الاضطهاد الذي تعرض له اليهود. ثم جاءت اسرائيل لتكون حلاً، ولوجزئياً، لمشكلة اليهود الاوروبيين. وهذا الحل كان هو الهدف الاساسي للصهيونية. التي لم تقصد الحاق الإساءة بعرب فلسطين. فالاستيطان الصهيوني كان مجاورة برأي الصهاينة ولم يكن احتكاكاً او هادفاً لمضايقة العرب او ترحيلهم. ومع ذلك فقد وجدت اسرائيل نفسها في وسط عربي قاسٍ ولا يعرف الرحمة بحيث اضطرت الاقلية اليهودية (وقسم منها مصدوم وخارج من المعتقلات النازية) للدفاع عن نفسها في وجه اغلبية عربية تشن حرباً للقضاء على اليهود. لذلك رفض العرب قرار التقسيم وهاجموا اليشوف اليهودي بهدف اقتلاعه والقضاء على الدولة اليهودية في مهدها. وكان العرب مدعومين في ذلك من قبل البريطانيين. وتتابع الرواية الرسمية بأن العرب خسروا الحرب بعد ان تمكنت جماعة الهاغانا (كانت تسميتها العالمية آنذاك بالمنظمة الارهابية) من الانتصار على العصابات (وليس المقاومة) الفلسطينية المدعومة من قبل جيش الإنقاذ. وما لبثت الدول العربية الخمسة ان هاجمت الدولة اليهودية بجيوشها. وبهدف تسهيل مهمتها طالبت هذه الدول السكان العرب بمغادرة منازلهم لفتح الطريق امام تقدم الجيوش العربية. وهذا الطلب العربي هو الذي أدى الى نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.ومع ذلك بقيت الرغبة في السلام قائمة لدى الزعماء الاسرائيليين. لكن العرب رفضوا ذلك وقضوا على جميع المبادرات السلمية والنوايا الحسنة. وذلك لانهم كانوا قد عقدوا النية على تدمير اسرائيل. ومع ذلك انتصر اليهود ونجحوا في اقامة دولتهم بالرغم من كل الظروف(2). وكان هذا الانتصار معجزة يهودية جديدة تحققت بفضل براعة بن غوريون وبطولة المقاتلين اليهود.
وبعد قيام اسرائيل تحولت الرواية الرسمية الى تقديم صورة مثالية (بهدف تسويق الدولة الجديدة لدى يهود العالم) وتحول المؤرخون الرسميون الى نوع من الصحفيين الذين يكتفون بنقل الأخبار الرسمية وتدوينها بأسلوب التأريخ منتبهين الى عدم تجاوز الخطوط الحمراء. والتي يمكن تلخيصها بأي شيء يمكنه ان يسيء الى اسرائيل. وكان المؤرخ الرسمي يتجاهل الحقائق ويتجاوز المعطيات المتوافرة لديه باعتبارها اسراراً تمس الامن الاسرائيلي!. وهكذا تم طمس الحقائق التاريخية بدون اي شعور بالمسؤولية.وخدمة للأغراض الصهيونية.
لكن الامور بدأت تتغير مع ظهور المؤرخين الجدد في نهاية السبعينيات . اذ بدأ هؤلاء يخرجون على الرواية الرسمية في كتاباتهم. بادئين بذلك عملية اعادة نظر شاملة بمسلمات المؤرخين الرسميين.
وبدأ هذا الجيل من المؤرخين بالاهتمام بالمسألة الفلسطينية وبآثار حرب1948 وانعكاساتها على الفلسطينيين. فلجأوا الى اعادة كتابة احداث الحرب من منظورها السياسي. فقد اطلق احد هؤلاء المؤرخين ويدعى”ايلان بابي” قاعدة مفادها ان على مؤرخ الحرب ان يولي اهتماماً اقل لتطوراتها العسكرية (تنقلها الصحافة) وان يولي اهتمامه للوجوه السياسية(3). ذلك ان الحرب نفسها هي قرار سياسي واستمرارية اي حرب انما ترتبط بفشل اطراف الصراع في الوصول الى تسوية سياسية. وهكذا بدأ صرح الرواية الرسمية بالانهيار وبدأت الصهيونية تفقد قناعها لتتبدى كحركة استعمارية
بعد زوال قناعها التحريري!. وبذلك فان اسرائيل تحمل وزر الظلم والغبن اللاحقين بالفلسطينيين بسبب حرب (1948).وتدعمت هذه الآراء بالمعطيات التي كشفت عنها الوثائق الاسرائيلية المعلنة. حيث وجد المؤرخون الجدد البراهين والادلة اللازمة للطعن بصحة الرواية الرسمية. وكما يفعل اي مؤرخ موضوعي فان هؤلاء لم يتركوا مصدراً من المصادر المتوافرة للمعلومات دون ان يدرسوه ويخضعوه لمباديء المقارنة التاريخية. فهم قد استعانوا، الى جانب الارشيف الاسرائيلي، بالارشيفين الاميركي والفرنسي اضافة للمراسلات والاوراق الخاصة ومحاضر الاحزاب والمذكرات الشخصية ومقابلة العديد من الشخصيات. اضافة الىتقارير الديبلوماسيين الذين عملوا في قضية اللاجئين الفلسطينيين.
هكذا توصل المؤرخون الجدد الى الطعن بالرواية الرسمية واتفقوا على كونها مركبة من مجموعة مقولات او ادعاءات باطلة او غير دقيقة على الاقل. وكذلك فهم اتفقوا على تسميتها بـ”الاساطير الصهيونية”. وقبل الانتقال الى تعداد المواضيع التي يتفقون على تسميتها بالاساطير نود ان نوضح اشكالية استخدامهم لمصطلح”اساطير”. فالاسطورة تعريفاً يجب ان تكون حادثة قديمة تنطوي على خوارق. والمواضيع الطروحة حديثة ولا تنطوي على خوارق فكيف يصح وصفها بالاساطير؟! وهي مجرد اكاذيب!.
ان ما يبرراستخدام هذا المصطلح هو ان الصهيونية قد نجحت في ربط كل كذبة من اكاذيبها بواحدة من الاساطير اليهودية. ومن هنا نجد ان لمصطلح “الاساطر الصهيونية” دلالات معبرة ومحددة. لذلك فاننا نفضله على مصطلح اكاذيب. بل اننا نرى بأن اتقان الصهيونية لهذا الربط يستدعي الدراسة؟.
وبالعودة الى المؤرخين الجدد فاننا نجدهم متفقين على تحديد هذه الاساطير. بحيث نراها تتكرر بشكل روتيني وممل في كتاباتهم. الا اننا نلاحظ في المقابل عدم اتفاقهم حول القراءة الجديدة لهذه الاساطير. ولنبدأ اولاً بتحديدها:
أ ـ الاسطورة الاولى: هي ادعاء الزعماء الاسرائيليين قبولهم لقرار التقسيم الصادر عن الامم المتحدة في 1947/11/29. واعتبار هذا القبول اعراباً عن رغبتهم الصادقة في التوصل الى تسوية سلمية تسمح باقامة دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل.
ب ـ الاسطورة الثانية: هي ان نزوح الفلسطينيين حصل بسبب نداء من القادة العرب طلبوا فيه من الفلسطينيين مغادرة ارضهم بصورة مؤقتة تسهيلاً لدخول الجيوش العربية.
ج ـ الاسطورة الثالثة: تدعي الرواية الرسمية ان اسرائيل كانت مضطرة لخوض حرب (1948) وذلك بسبب عدائية الدول العربية ورفضها قرار التقسيم واصرارها على خوض حرب تقضي فيها على اسرائيل.
د ـ الاسطورة الرابعة: كانت اسرائيل، عند صدور قرار التقسيم، ضعيفة وصغيرة وغير مستعدة لخوض مواجهة عسكرية امام جيوش عربية تفوقها عدداً واستعداداً.
هـ ـ الاسطورة الخامسة: وتقول بأن اسرائيل كانت دوماً مستعدة لاقامة السلام مع العرب. لكن هؤلاء كانوا يرفضون الاعتراف بها.
ولقد تمكنت جماعة المؤرخين الجدد من ضحد هذه الاساطير الخمسة بطرق مختلفة باختلاف الوثائق التي تمكن كل منهم من الحصول عليها. لكن اختلافاً ايديولوجياً بين هؤلاء يجعلهم يقرأون المعطيات المتوافرة بين ايديهم بطرق مختلفة. لكننا نتساءل عن جدية هذه الاختلافات. وعما اذا كانت مجرد خلافات منهجية او تصورات مختلفة لمستقبل اسرائيل. خصوصاً وان المعلومات المتوافرة عن هؤلاء تشير الىعلاقتهم بحزب العمل وبملكيتهم لخلفيات ليبيرالية تجعلنا نشكك بوجود خلافات ايديولوجية بينهم. وهذا ما سنوضحه لاحقاً.
2 ـ بيلين يدعم الحركة
يوسي بيلين هو احد مفكري حزب العمل ومنظريه قبل تسلمه منصب وزير العدل في حكومة باراك. وهو مهندس اتفاق أوسلو ومتحمس لادخال افكار المؤرخين الجدد الى المدارس الاسرائيلية (غير الدينية) وتدريسها للتلاميذ. فهل يتحمس مفكر مثل بيلين لمثل هذا القرار بصرة عشوائية. خصوصاً ضمن حكومة إئتلافية هجينة يعارض العديد من اعضائها مثل هذا القرار؟.
فلنتعرف اولاً الى فكر بيلين ورؤيته الاستراتيجية للواقع الاسرائيلي خصوصاً واليهودي عموماً. وهذا ما يمكن الاطلاع عليه عبر كتابه المعنون بـ”موت العم الاميركي”.
وفيه يقول بأن التيار المركزي في الحركة الصهيونية المنحاز الى هرتزل هو الذي فشل في تحقيق الهدف الصهيوني. فقد كان هم هرتزل الاساسي هو منح يهود اوروبا ملجأ آمناً من المطاردات. ولهذا السبب كان الصهيونيون على استعداد لمناقشة أية خيارات تمنحهم حكماً ذاتياً يهودياً في اي مكان من العالم وبسرعة. ولم تكن الهجرة الى فلسطين تمثل خياراً اولاً بالنسبة لمعظم يهود اوروبا. بل هي كانت تمثل خياراً إجبارياً وناقصاً. لذلك هاجر أغنياؤهم الى الولايات المتحدة لانها قبلتهم.
وهذا ما يدفع بيلين للتساؤل عن مستقبل اليهود واليهودية خارج اسرائيل فيرى بانهم يتناقصون ويسيرون نحو الذوبان. ويتابع انني اشعر بنوع من الهيستيريا والخوف إزاء ذوبان الشعب اليهودي خارج دولة اسرائيل. فاليوم وبعد 51 سنة على قيام اسرائيل هنالك 13 مليون يهودي. منهم عشرة ملايين يعيشون في الولايات المتحدة واسرائيل. اما شرقي اوروبا فانه سيفرغ من اليهود. لان غالبيتهم يحلمون بالهجرة الى اميركا و60% منهم يعقدون زيجات مختلطة. وكذلك يفعل يهود الولايات المتحدة مما يؤدي الى تناقص مستمر في عدد اليهود خارج اسرائيل. خصوصاً مع تناقص معدل الولادات الطبيعي لهؤلاء اليهود. وينبه بيلين من الخطورة الكامنة في تناقص اعداد يهود الشتات الذين يشكلون الخزان البشري للدم اليهودي.
ويحاول بيلين في كتابه البحث عن سبب هذا التناقص الحاد فيخلص الى ان اسرائيل تقوم بدور مزدوج بالنسبة ليهود الخارج ولكنه منتاقض في تأثيره على يهود العالم. فاسرائيل تتيح لهم موقع انتماء واعتزاز واحياناً موقع قلق وخوف. وهذه الميزات وفرت القوة ليهود الخارج. وساعدتهم في الحفاظ على وجودهم. لكن اسرائيل سنت قانوناً للهجرة حددت فيه تعريف اليهودي الذي يحق له الهجرة اليها. مما ابعد عنها ملايين الاشخاص الذين يعتبرون انفسهم يهوداً ولكنهم لا يستوفون شروط تعريف اسرائيل لليهودي. القائل بانه الشخص المولود من ام يهودية واصبح يهودياً بحسب الشريعة اليهودية وبمصادقة الحاخامين الارثوذوكس. وبذلك تكون اسرائيل قد اعطت للمحافل الدينية اليهودية وحدها حق الحسم في مسألة ذات جوهر قومي.
ويرى بيلين ان استمرار العمل بهذا القانون يشكل انتحاراً جماعياً. فالمتدينون اليهود يريدون جعل اليهودية ديناً فقط ونحن نراها اكثر من ذلك... فنحن نراها ثقافة وهوية ومصيراً. ثم يتساءل: من وضع الحاخامين في موقع من يسقط اليهودي من يهوديته؟ ففي الولايات المتحدة وحدها يوجد ما بين مليونان الى ثلاثة ملايين اميركي في زيجات يهودية ـ مسيحية مختلطة. والحاخامون لا يعتبرون هؤلاء يهوداً. وثمة آخرون مثلهم في الاتحاد الروسي.
ويستنتج بيلين الضرورة الحيوية لصياغة قانون جديد يسمح بهجرة هؤلاء الذين يرفض الحاخامات اعتبارهم يهوداً. ويقترح بيلين الاعتماد على الرغبة الشخصية للمولودين من ام غير يهودية ولهم اقرباء يهود (ولو قرابة بعيدة). فاذا اختار الشخص الديانة اليهودية فليمنح هذه الصفة وليسمح له بالهجرة الى اسرائيل. على ان يكون ذلك عقب اختبار قصير بمباديء الدين اليهودي. على غرار الامتحان الموجز بالدستور الاميركي الذي يخضع له طالبوا الجنسية الاميركية قبل منحها لهم. وبذلك يكون يوسي بيلين قد وضع اسس “التهويد العلماني”.
من خلال هذا الملخص البسيط الموجز لكتاب بيلين نجد ان هذا المفكر يدعو لإعادة النظر بالمشروع الصهيوني برمته. منذ هرتزل وحتى اليوم. وهو يطرح مراجعة كاملة له وليس مجرد مراجعة بعض التفاصيل التاريخية الفرعية. وهو ما يفعله المؤرخون الجدد. مما يجعل من هؤلاء مجرد مرحلة أولية من مراحل مشروع بيلين. لكن هل يمكن القول بأن هذا المشروع هو مشروع بيلين الشخصي؟ ام انه يأتي في سياق المشروع العام لحزب العمل؟. وهذا ما سنعرفه من استعراض موقفه من المؤرخين الجدد.
3 ـ رابين يتبنى المؤرخين الجدد و4- علاقة الحركة بمشروع رابين (الشرق اوسطية)
لم يكن إدخال كتب المؤرخين الجدد وانتقاداتهم الى المدارس الاسرائيلية وليد قرار. فقد استغرق اعداد هذه الكتب خمس سنوات كاملة. وكان المشروع قد انطلق برعاية اسحق رابين. الذي يبدو بذلك وكأنه الراعي الاساسي للمؤرخين الجدد. اما عن مشروع رابين السياسي المعلن فهو مشروع “الشرق اوسطية”. الذي طرحه رابين تحت شعار”نحو شرق اوسط جديد”.
وكان هذا المشروع قد أثار لغطاً كبيراً واستثار معارضة اكبر ادت في النهاية الى إغتيال رابين نفسه. والآن وبعد مرور سنوات على هذا الاغتيال وخروج مصطلح “الشرق اوسطية” من التداول، لا بأس من محاولة قراءة هذا المشروع على ضوء طروحات الهوية الاسرائيلية. حيث تشكل الشرق اوسطية طرحاً جديداً لهذه الهوية. فما هي علاقة هذا الطرح بالطروحات القديمة؟. ان الجواب على هذا السؤال من شأنه ان يوضح اتجاه التمرد الذي تخوضه حركة المؤرخين الجدد.
وبمقارنة الشرق اوسطية مع طروحات الهوية الاخرى. نجد انها تعارض الطرح الكنعاني الرافض الاعتراف بيهود الشتات. فما بالنا بالشتاتيين المشكوك بيهوديتهم. والامر نفسه ينسحب على الطرح العبري. اما الطرح الاسرائيلي فهو بدوره لا يتسع لانصاف اليهود وارباعهم من الشتاتيين. اما بالنسبة للطرح اليهودي فاننا نلاحظ ان بيلين قد اعلن موت هذا الطرح في كتابه المشار له اعلاه. حيث فقد هذا الطرح، او يكاد يفقد قريباً، خزانه البشري. بل انه من الممكن عملياً اعتبار هجرة المليون روسي آخر الهجرات اليهودية. وفي نظرة اكثر واقعية نجد ان حزب العمل قد تجاوز التعريف الرسمي لليهودي تجاوزاً عميقاً اذ تشير الاحصاءات الى ان 65% من المليون روسي لا يستجيبون لهذا التعريف. وهكذا لم يبقى اما اسرائيل سوى استقدام انصاف وارباع اليهود. وهذا ما حاولته الشرق اوسطية بطرحها تحويل اسرائيل الى دولة مفتوحة على جوارها العربي ومانحة جنسيتها لمن يناسب مصالح سباقها الديموغرافي مع الفلسطينيين. وهذا تحديداً ما عبر عنه بيلين بطرحه”التهويد العلماني”.
ولكي نفهم طروحات حزب العمل لعامة علينا ان نتذكر بانه علماني يعتنق الايديولوجيا الصهيونية. التي قامت على خزان بشري مكون من يهود الشتات. اما وقد شارف هذا الخزان على النفاذ فان الحزب اصبح بحاجة لان يخطو خطوة ما بعد صهيونية. وما المراجعات الإنتقادية للمؤرخين الجدد سوى مرحلة من مراحل هذه الخطوة. وهذا ما سنوضحه في الفقرة التالية.
لم يكن إدخال كتب المؤرخين الجدد وانتقاداتهم الى المدارس الاسرائيلية وليد قرار. فقد استغرق اعداد هذه الكتب خمس سنوات كاملة. وكان المشروع قد انطلق برعاية اسحق رابين. الذي يبدو بذلك وكأنه الراعي الاساسي للمؤرخين الجدد. اما عن مشروع رابين السياسي المعلن فهو مشروع “الشرق اوسطية”. الذي طرحه رابين تحت شعار”نحو شرق اوسط جديد”.
وكان هذا المشروع قد أثار لغطاً كبيراً واستثار معارضة اكبر ادت في النهاية الى إغتيال رابين نفسه. والآن وبعد مرور سنوات على هذا الاغتيال وخروج مصطلح “الشرق اوسطية” من التداول، لا بأس من محاولة قراءة هذا المشروع على ضوء طروحات الهوية الاسرائيلية. حيث تشكل الشرق اوسطية طرحاً جديداً لهذه الهوية. فما هي علاقة هذا الطرح بالطروحات القديمة؟. ان الجواب على هذا السؤال من شأنه ان يوضح اتجاه التمرد الذي تخوضه حركة المؤرخين الجدد.
وبمقارنة الشرق اوسطية مع طروحات الهوية الاخرى. نجد انها تعارض الطرح الكنعاني الرافض الاعتراف بيهود الشتات. فما بالنا بالشتاتيين المشكوك بيهوديتهم. والامر نفسه ينسحب على الطرح العبري. اما الطرح الاسرائيلي فهو بدوره لا يتسع لانصاف اليهود وارباعهم من الشتاتيين. اما بالنسبة للطرح اليهودي فاننا نلاحظ ان بيلين قد اعلن موت هذا الطرح في كتابه المشار له اعلاه. حيث فقد هذا الطرح، او يكاد يفقد قريباً، خزانه البشري. بل انه من الممكن عملياً اعتبار هجرة المليون روسي آخر الهجرات اليهودية. وفي نظرة اكثر واقعية نجد ان حزب العمل قد تجاوز التعريف الرسمي لليهودي تجاوزاً عميقاً اذ تشير الاحصاءات الى ان 65% من المليون روسي لا يستجيبون لهذا التعريف. وهكذا لم يبقى اما اسرائيل سوى استقدام انصاف وارباع اليهود. وهذا ما حاولته الشرق اوسطية بطرحها تحويل اسرائيل الى دولة مفتوحة على جوارها العربي ومانحة جنسيتها لمن يناسب مصالح سباقها الديموغرافي مع الفلسطينيين. وهذا تحديداً ما عبر عنه بيلين بطرحه”التهويد العلماني”.
ولكي نفهم طروحات حزب العمل لعامة علينا ان نتذكر بانه علماني يعتنق الايديولوجيا الصهيونية. التي قامت على خزان بشري مكون من يهود الشتات. اما وقد شارف هذا الخزان على النفاذ فان الحزب اصبح بحاجة لان يخطو خطوة ما بعد صهيونية. وما المراجعات الإنتقادية للمؤرخين الجدد سوى مرحلة من مراحل هذه الخطوة. وهذا ما سنوضحه في الفقرة التالية.
5 ـ المؤرخون الجدد وطروحات الهوية الاسرائيلية
ان انطلاقة الحركة اواسط السبعينيات لم تكن مصادفة بحتة. فقد أدت حرب (1973) لاحداث هزة عنيفة في المجتمع الاسرائيلي. واستثارت هيستيريا الايام الاولى للحرب وساوس اسرائيلية لا نهاية لها. ولقد نجح بعض الكتاب الإسرائيليين في ترجمة هذه الوساوس الى اسئلة نذكر منها على سبيل المثال:
أ ـ ماذا لو تكررت المفاجأة ولم تكن الولايات المتحدة في وضع يسمح لها بالتدخل لمصلحة اسرائيل لسبب او لآخر؟.
ب ـ لقد اعتمدت اسرائيل في حروبها مع العرب على دعم يهود الشتات المادي والمعنوي. لكن هؤلاء سائرون الى التلاشي. وهذا يعني ان اسرائيل لن تجد مستقبلاً من يدعمها!
ج ـ ان الاقتصاد الاسرائيلي هو اقتصاد معونات (اميركية خصوصاً). كما برهنت حرب(1973) على ان بقاءها مرتبط بالدعم العسكري المباشر.فهل يمكن بعد ذلك الادعاء بان الصهيونية قد بنت دولة اسمها اسرائيل؟.
د ـ هل صحيح ان النصر ليس من نصيب الاقوى بل هو من نصيب الاكثر اصراراً؟.
هـ ـ اياً من طروحات الهوية الاسرائيلية المعروفة اكثر ملاءمة لواقع اسرائيل ومستقبلها؟.
والاجابة على هذه الاسئلة تختلف اختلافاً بيناً ما بين حزبي العمل والليكود. وباختصار فان حزب العمل يميل الى اعتماد تسوية سلمية لا ترقى الى حدود السلام. مع ما تقتضيه من تنازلات! اما حزب اليكود فهو يميل الى تأمين موارد اقتصادية ذاتية تلغي تبعية اسرائيل. وبما ان كل ثروات الارض ملك لليهود فانه من غير المهم طريقة تأمين هذه الموارد (المافيا، مخدرات ، خيانة وبيع اسرار، صفقات سرية، تحالفات مشبوهة... الخ).
حركة المؤرخون الجدد من جهتها تبنت تكليف حزب العمل بالتمهيد للتسوية السلمية. على ان يبدأ ذلك بالتمهيد لنشر حقيقة استحالة استمرار العداء الاسرائيلي للعرب على المستوى الذي كان عليه منذ (1948) وحتى اليوم. ويتضمن الشرح التركيز على النقاط التالية:
1 ـ ان الوثائق المتوافرة تشير الى قابلية الحكام العرب للسلام مع اسرائيل. وبالتالي فان عدوانية الحكام العرب لاسرائيل ورفضهم السلام معها كان مجرد شائعة اسرائيلية. فها هو أفي شليم يعرض للعلاقات السرية بين اسرائيل والملك عبد الله بالوثائق. كما يؤكد بيني موريس في كتابه “ما بعد 1948” ان الحكومة المصرية عارضت طوال اشهر الاشتراك في حرب فلسطين لكون جيشها غير جاهز لمثل هذه المشاركة.
2 ـ ان الفلسطينيين لم يستجيبوا لنداء اعلان الحرب الا بعد فشل محاولات العديد من زعمائهم في التفاهم مع الاسرائيليين على صيغة عيش مشتركة مقبولة . وكان سبب ذلك رفض بن غوريون القاطع لقبول قيام دولة فلسطينية. وهذا ما يعلنه أفي شليم مدعماً بالوثائق.
3 ـ ان اسرائيل دخلت حرب 1948 وهي على تمام الاستعداد العسكري والتفوق على جيرانها. وهي التي اصرت على هذه الحرب وليس العرب.
انطلاقاً من هذه المعطيات وكثيرة غيرها. وانطلاقاً من ضحد الاساطير الصهيونية الخمسة المشار اليها اعلاه يمكن لاصحاب طروحات الهوية المختلفة ان يعتقدوا بأن اياً من طروحاتهم كان صالحاً للاعتماد لولا اكاذيب ما اسماه بيلين بالتيار المركزي للصهيونية. فقد تألف هذا التيار في حينه من مجموعات (ارهابية) كان من الطبيعي ان تميل الى خيار القوة. وهو الخيار الذي نسف غالبية الطروحات واوصل الطرح اليهودي الىحافة الهاوية.
وبهذا تكون الحركة قد استثارت اصحاب الطروحات وارست المقدمات للردة على الصهيونية. وهي ردة قد لا يتحملها الجيل الحالي ولكن تلاميذ المدارس الذين يدرسون حالياً التاريخ الجديد سيكونون اقدر على تقبلها والعمل لها.
وهنا تجدر الاشارة الى ان الدور الوظيفي لاسرائيل هو المحدد الحقيقي لهويتها. فهي تدين بنشوئها واستمراريتها الى الفائدة التي تقدمها للمصالح الغربية عبر دورها كرأس حربة في منطقة الشرق الأوسط باهميتها الاستراتيجية الفائقة. وعليه فقد بقيت طروحات الهوية الاسرائيلية موضوع جدال لما ينتهي. ولعلنا نتساءل عن سبب بقاء صراع الهوية الاسرائيلي في مرحلة الجدل وعدم تخطيه اياها الى مرحلة مواجهة وصراع؟ والجواب ان هنالك آليتين ضابطتين بشدة لأي صراع داخلي ـ اسرائيلي. وهما:
1 ـ الانتماء الى شعب الله المختار ونعمة هذا الانتماء الجامعة لليهود و2 ـ المصالح الاميركية. التي تتطلب خدمتها مراعاة منحنيات العلاقات العربية ـ الاميركية ودهاليزها. وهاتين الآليتين تشكلان عنصر وقاية فاعل لاسرائيل ضد اية تهديدات خارجية كانت ام داخلية. وهذا يعني بقاء اسرائيل خارج اية احتمالات كارثية ما دامت ملتزمة بدورها الوظيفي في خدمة المصالح الاميركية. الا ان هذا الالتزام لا يستطيع وقاية اسرائيل من الكوارث المستقبلية وفي طليعتها دعم الآلية الاولى (نعمة الولادة اليهودية) التي تضمحل مع تلاشي يهود الشتات. الامر الذي يطرح مشكلة مسقبلية تطال هيكلية الدولة. فهذا التلاشي يعكس اضمحلال الطرح اليهودي. مما يستدعي ضخ دماء جديدة له وهذا ما يقترحه بيلين وعديد من المفكرين الصهاينة الآخرين الداعين الى نقلة ما بعد صهيونية.
في المقابل نجد ان تهاوي الطرح اليهودي وظهور تباشير نهايته من شأنهما ايقاظ طموحات الطروحات الأخرى للهوية. وهذا ما يفسر ردة الفعل العنيفة ، لدى كافة اصحاب هذه الطروحات، اما طرح رابين للشرق اوسطية. فإن هذا الطرح يلغي بقية الطروحات. اما عن التهويد العلماني الذي يطرحه يلين فانه يكاد يتطابق مع حركة التجديد التي قادها موسى ماندلسون (1729 ـ 1786) والتي ووجهت بمعارضة يهودية حاسمة في حينه. اما حركة المؤرخين الجدد، وبالرغم من انتمائها لمشروع رابين، فانها تكتفي بمجرد الدعوة للمراجعة التاريخية منذ فترة التأسيس وحتى الآن. وهي بذلك تبقي الابواب مفتوحة امام كافة طروحات الهوية الاخرى بعد نعيها للطرح اليهودي ـ الصهيوني؟
لكن الملفت ان هذه الحركة بدأت تتجاوز هذه الحدود في ما يشبه رغبتها ببدء مقارعة طروحات الهوية الأخرى. فها هو ناخمان بن يهودا مثلاً ينقب في اعماق التاريخ اليهود ي واساطيره الدينية ليضحد اسطورة الماسادا. بحيث تمكن قراءة هذه الخطوة وكأنها بداية شراكة بين المؤرخين الجدد وبين الاركيولوجيين العاملين على اخضاع الاساطير اليهودية للدراسة الاكاديمية وللمعطيات الاركيولوجية الضاحدة لهذه الاساطير والمشككة في صدقيتها. فهل تكون حركة المؤرخين الجدد بعثاً او تقمصاً لحركة التجديد اليهودية (ماندلسون) وتجلياً معاصراً لها؟.
ان انطلاقة الحركة اواسط السبعينيات لم تكن مصادفة بحتة. فقد أدت حرب (1973) لاحداث هزة عنيفة في المجتمع الاسرائيلي. واستثارت هيستيريا الايام الاولى للحرب وساوس اسرائيلية لا نهاية لها. ولقد نجح بعض الكتاب الإسرائيليين في ترجمة هذه الوساوس الى اسئلة نذكر منها على سبيل المثال:
أ ـ ماذا لو تكررت المفاجأة ولم تكن الولايات المتحدة في وضع يسمح لها بالتدخل لمصلحة اسرائيل لسبب او لآخر؟.
ب ـ لقد اعتمدت اسرائيل في حروبها مع العرب على دعم يهود الشتات المادي والمعنوي. لكن هؤلاء سائرون الى التلاشي. وهذا يعني ان اسرائيل لن تجد مستقبلاً من يدعمها!
ج ـ ان الاقتصاد الاسرائيلي هو اقتصاد معونات (اميركية خصوصاً). كما برهنت حرب(1973) على ان بقاءها مرتبط بالدعم العسكري المباشر.فهل يمكن بعد ذلك الادعاء بان الصهيونية قد بنت دولة اسمها اسرائيل؟.
د ـ هل صحيح ان النصر ليس من نصيب الاقوى بل هو من نصيب الاكثر اصراراً؟.
هـ ـ اياً من طروحات الهوية الاسرائيلية المعروفة اكثر ملاءمة لواقع اسرائيل ومستقبلها؟.
والاجابة على هذه الاسئلة تختلف اختلافاً بيناً ما بين حزبي العمل والليكود. وباختصار فان حزب العمل يميل الى اعتماد تسوية سلمية لا ترقى الى حدود السلام. مع ما تقتضيه من تنازلات! اما حزب اليكود فهو يميل الى تأمين موارد اقتصادية ذاتية تلغي تبعية اسرائيل. وبما ان كل ثروات الارض ملك لليهود فانه من غير المهم طريقة تأمين هذه الموارد (المافيا، مخدرات ، خيانة وبيع اسرار، صفقات سرية، تحالفات مشبوهة... الخ).
حركة المؤرخون الجدد من جهتها تبنت تكليف حزب العمل بالتمهيد للتسوية السلمية. على ان يبدأ ذلك بالتمهيد لنشر حقيقة استحالة استمرار العداء الاسرائيلي للعرب على المستوى الذي كان عليه منذ (1948) وحتى اليوم. ويتضمن الشرح التركيز على النقاط التالية:
1 ـ ان الوثائق المتوافرة تشير الى قابلية الحكام العرب للسلام مع اسرائيل. وبالتالي فان عدوانية الحكام العرب لاسرائيل ورفضهم السلام معها كان مجرد شائعة اسرائيلية. فها هو أفي شليم يعرض للعلاقات السرية بين اسرائيل والملك عبد الله بالوثائق. كما يؤكد بيني موريس في كتابه “ما بعد 1948” ان الحكومة المصرية عارضت طوال اشهر الاشتراك في حرب فلسطين لكون جيشها غير جاهز لمثل هذه المشاركة.
2 ـ ان الفلسطينيين لم يستجيبوا لنداء اعلان الحرب الا بعد فشل محاولات العديد من زعمائهم في التفاهم مع الاسرائيليين على صيغة عيش مشتركة مقبولة . وكان سبب ذلك رفض بن غوريون القاطع لقبول قيام دولة فلسطينية. وهذا ما يعلنه أفي شليم مدعماً بالوثائق.
3 ـ ان اسرائيل دخلت حرب 1948 وهي على تمام الاستعداد العسكري والتفوق على جيرانها. وهي التي اصرت على هذه الحرب وليس العرب.
انطلاقاً من هذه المعطيات وكثيرة غيرها. وانطلاقاً من ضحد الاساطير الصهيونية الخمسة المشار اليها اعلاه يمكن لاصحاب طروحات الهوية المختلفة ان يعتقدوا بأن اياً من طروحاتهم كان صالحاً للاعتماد لولا اكاذيب ما اسماه بيلين بالتيار المركزي للصهيونية. فقد تألف هذا التيار في حينه من مجموعات (ارهابية) كان من الطبيعي ان تميل الى خيار القوة. وهو الخيار الذي نسف غالبية الطروحات واوصل الطرح اليهودي الىحافة الهاوية.
وبهذا تكون الحركة قد استثارت اصحاب الطروحات وارست المقدمات للردة على الصهيونية. وهي ردة قد لا يتحملها الجيل الحالي ولكن تلاميذ المدارس الذين يدرسون حالياً التاريخ الجديد سيكونون اقدر على تقبلها والعمل لها.
وهنا تجدر الاشارة الى ان الدور الوظيفي لاسرائيل هو المحدد الحقيقي لهويتها. فهي تدين بنشوئها واستمراريتها الى الفائدة التي تقدمها للمصالح الغربية عبر دورها كرأس حربة في منطقة الشرق الأوسط باهميتها الاستراتيجية الفائقة. وعليه فقد بقيت طروحات الهوية الاسرائيلية موضوع جدال لما ينتهي. ولعلنا نتساءل عن سبب بقاء صراع الهوية الاسرائيلي في مرحلة الجدل وعدم تخطيه اياها الى مرحلة مواجهة وصراع؟ والجواب ان هنالك آليتين ضابطتين بشدة لأي صراع داخلي ـ اسرائيلي. وهما:
1 ـ الانتماء الى شعب الله المختار ونعمة هذا الانتماء الجامعة لليهود و2 ـ المصالح الاميركية. التي تتطلب خدمتها مراعاة منحنيات العلاقات العربية ـ الاميركية ودهاليزها. وهاتين الآليتين تشكلان عنصر وقاية فاعل لاسرائيل ضد اية تهديدات خارجية كانت ام داخلية. وهذا يعني بقاء اسرائيل خارج اية احتمالات كارثية ما دامت ملتزمة بدورها الوظيفي في خدمة المصالح الاميركية. الا ان هذا الالتزام لا يستطيع وقاية اسرائيل من الكوارث المستقبلية وفي طليعتها دعم الآلية الاولى (نعمة الولادة اليهودية) التي تضمحل مع تلاشي يهود الشتات. الامر الذي يطرح مشكلة مسقبلية تطال هيكلية الدولة. فهذا التلاشي يعكس اضمحلال الطرح اليهودي. مما يستدعي ضخ دماء جديدة له وهذا ما يقترحه بيلين وعديد من المفكرين الصهاينة الآخرين الداعين الى نقلة ما بعد صهيونية.
في المقابل نجد ان تهاوي الطرح اليهودي وظهور تباشير نهايته من شأنهما ايقاظ طموحات الطروحات الأخرى للهوية. وهذا ما يفسر ردة الفعل العنيفة ، لدى كافة اصحاب هذه الطروحات، اما طرح رابين للشرق اوسطية. فإن هذا الطرح يلغي بقية الطروحات. اما عن التهويد العلماني الذي يطرحه يلين فانه يكاد يتطابق مع حركة التجديد التي قادها موسى ماندلسون (1729 ـ 1786) والتي ووجهت بمعارضة يهودية حاسمة في حينه. اما حركة المؤرخين الجدد، وبالرغم من انتمائها لمشروع رابين، فانها تكتفي بمجرد الدعوة للمراجعة التاريخية منذ فترة التأسيس وحتى الآن. وهي بذلك تبقي الابواب مفتوحة امام كافة طروحات الهوية الاخرى بعد نعيها للطرح اليهودي ـ الصهيوني؟
لكن الملفت ان هذه الحركة بدأت تتجاوز هذه الحدود في ما يشبه رغبتها ببدء مقارعة طروحات الهوية الأخرى. فها هو ناخمان بن يهودا مثلاً ينقب في اعماق التاريخ اليهود ي واساطيره الدينية ليضحد اسطورة الماسادا. بحيث تمكن قراءة هذه الخطوة وكأنها بداية شراكة بين المؤرخين الجدد وبين الاركيولوجيين العاملين على اخضاع الاساطير اليهودية للدراسة الاكاديمية وللمعطيات الاركيولوجية الضاحدة لهذه الاساطير والمشككة في صدقيتها. فهل تكون حركة المؤرخين الجدد بعثاً او تقمصاً لحركة التجديد اليهودية (ماندلسون) وتجلياً معاصراً لها؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق