الأزمة البنيوية في الفكر الصهيوني العنصري -1-
وليد محمّد علي/ المدير العام لمركز باحث للدراسات الفلسطينية والإستراتيجية
توطئة
جاء المشروع الصهيوني أساساً ليعبّر عن مصالح المتموّلين اليهود المندمجين عضوياً بالطغم المالية التي قادت مرحلة الاستعمار والهيمنة. فكان من البديهي أن تتبنّى هذه الطّغم ونظامها الاستكباري العالمي المشروع الصهيوني كحليفٍ عضويٍ وحيويٍ يحظى بكلّ العناية والحماية والدّعم.
وقد جاء صوغ المشروع، ليمثّل أعلى مراحل الرأسمالية ويتمتّع بكلّ مظاهر حداثتها، وعوامل قوّتها وإنجازاتها الحديثة. وليستند، في الوقت عينه، على ما كُتِب كتراثٍ تاريخيٍ مُفترضٍ لمرحلةٍ غابرة. وتأسّست الإيديولوجيا الصهيونية على قاعدة التلفيق بين أقصى درجات التقدّم العلمي، وبين تاريخٍ قبليٍ يحمل مفاهيم وقيماً متخلّفة تجاوزتها البشرية منذ آلاف السنين. ولم يكن من سبيلٍ لتمرير وتسويق هذه التوليفة المتناقضة جذرياً إلاّ بفرضها بالقوّة على الأرض المعيّنة (فلسطين). وفي هذا السياق، جرى نبش مجموعةٍ من الأساطير البالية:
- اليهود: شعبٌ موجودٌ منذ الأزل، وهم شعب الله المُختار.
- فلسطين: أرض الميعاد، الممنوحة للشعب المُختار.
- فلسطين: أرضٌ بلا شعب؛ لشعبٍ حُرِم من الأرض.
ولاحقاً، جرى تدعيم تلك الأساطير الغابرة بمجموعةٍ من الأساطير الحديثة:
- "المسألة اليهودية" لا تُحل إلاّ بإعطاء اليهود وطناً خاصاً بهم.
- دولة اليهود تمثّل قلعة للإشعاع الحضاري في قلب العالم العربي- الإسلامي المتخلّف!
- الدولة الصهيونية قادرةٌ على فرض سيطرتها على شعوب المنطقة، بما يضمن استمرار هيمنة الاستعمار الغربي عليها.
وعلى الرّغم من النجاحات التي حققتها الحركة الصهيونية، إلاّ أنها حملت في جنباتها وأعماقها جملة من الأزمات التأسيسية، راهن من سُمّوا بـ"الآباء المؤسسين" على تجاوزها بعد بناء "الدولة"، وذلك عبر التآلف معها وتزييف الواقع السياسي والاجتماعي، من خلال التعبئة الإيديولوجية والاستخدام المكثّف للمراوغة اللفظية بشعاراتٍ يحتاج اكتشاف زيفها ردحاً طويلاً من الزمن.
أزمة الهوية في الكيان الصهيوني
السؤال حول الهوية ليس جديداً على الحركة الصهيونية وقبلها على اليهود. فهو كان مطروحاً في إطار التيّارات اليهودية المختلفة، المنتشرة خاصّة في أرجاء أوروبا وأمريكا؛ وإن كان قد ازداد حدّة و إلحاحاً في المرحلة الإنتقالية بين النظامين الإقطاعي والرأسمالي، بين من كان يرى "اليهودية" كديانةٍ شأنها شأن الديانات الأخرى؛ وبين من أراد إلباسها ثوب القومية تيمّناً بالحركات القومية التي سادت في أوروبا.
قبيل ظهور الحركة الصهيونية، سادت في أوساط معتنقي الديانة اليهودية اتجاهاتٌ فكريةٌ عدّة، كان من أهمّها الاتجاه الاندماجي. وقد شكّل أصحاب هذا الاتجاه حركة مستنيرة أسموها "الهسكلاه"، وتعني "التنوير". وهي كانت تدعو اليهود الذين خرجوا من المعازل للانعتاق من عقليّة تلك المعازل والاندماج في مجتمعاتهم، وأن يكون ولاؤهم أوّلاً وأخيراً لها، على أساس المساواة في الحقوق والواجبات والمواطنة الكاملة. وكان أصحاب هذا الاتجاه يرفضون القول بوجود قوميةٍ يهودية؛ بل هناك ديانةٌ يهوديةٌ منتشرةٌ في العديد من البلدان، شأن الديانات الأخرى. ففي العام 1855، تبنّى المؤتمر المركزي للحاخامين الأميركيين مبدأ مفاده أن اليهود يشكّلون طائفة دينية... وفي نفس العام الذي عُقِد فيه المؤتمر الصهيوني (1897)، اعتبر الحاخام الأميركي كوفمان كوهلر أن المبدأ الأوّل من مبادئ الإصلاح الديني اليهودي يقوم على أساس أن "اليهودية لم تعد ديناً قومياً إلاّ بقدر ما بقي الربّ إلهاً قبلياً. فاليهودية هي نظامٌ عامٌ شاملٌ من الحقائق والأخلاق". ولاحظ كلود مونتفيوري، مؤسّس حركة اليهودية الليبرالية في إنكلترا، أن القيادة الصهيونية "ليس لها اهتمامٌ يُذكر بالدّين؛ وأن هناك خلافاً حتمياً بين الأماني والتطلّعات الصهيونية لإقامة دولةٍ سياسية، وبين استمرارية اليهودية كقوّةٍ روحيّةٍ حيّة" .
وقد بدأ اليهود في العالم يشاركون مواطنيهم في بناء دولهم الحديثة. "فكان ولاء كلّ طائفةٍ يهوديةٍ للقُطر الذي ترعرعت في ظلّه، حيث اندمجت كلّ طائفةٍ في حياة شعبها وبدأت تُسهِم في عملياته الاجتماعية... لقد بدأت مرحلة أصبح فيها أبناء الطوائف اليهودية يُعلنون أنهم فرنسيون وبريطانيون وألمان يدينون بالدّين اليهودي" .
ولاحقاً، بدأ دعاة "الأمّة اليهودية" يتخوّفون من أن يؤدّي "تنوير" اليهود وخروجهم من عزلتهم، واندماجهم في مجتمعاتهم، إلى زوال أسطورة "الأمّة اليهودية" وأسطورة "شعب الله المختار". فكان أن طرحت الحركة الصهيونية رؤيتها للحلّ القومي، لما يسمّى "المسألة اليهودية"، بعد أن صُبِغت العلمانية الصهيونية بالطابع الديني بهدف تلفيقها مع الأسطورة الدينية القائلة بالوعد الإلهي بإقامة دولة "إسرائيل"، والتي كان لا بدّ أن تقدّم نفسها بوصفها دولة اليهود. وقد زرعت الصهيونية في الوعي اليهودي عبر الأجيال فكرة العلاقة الوثيقة التي لا تنفصم بين الهوية الدينية والهدف السياسي لكلّ مرحلة. وشكّلت الهجرة الطقس الأوّل في الصهيونية، كالتزامٍ يترتّب على كلّ صهيوني، وأن محكّ التمسك بالمعتقد الصهيوني، هو التزام اليهودي بالهجرة إلى فلسطين والإسهام في تأسيس وطن اليهود "إسرائيل".
أمّا سؤال الهوية في الكيان الصهيوني، فقد تنوّع بتنوّع الأماكن والانتماءات التي جاء منها المستوطنون. فظهرت العديد من التصوّرات لصياغة الهوية "الإسرائيلية"؛ ومنها:
1- التصوّر الكنعاني للهوية: جاء هذا التصوّر مترافقاً مع ازدياد الهجرة إلى فلسطين وولادة أجيال "الصابرا". وينطلق هذا الطّرح من أن الصهيونية لا يمكنها أن تخلق وطناً روحياً، لأن طابع "المنفى" اليهودي مطبوعٌ في مصدرها. والدولة الإسرائيلية ليست بحاجةٍ لأن تكون دولة يهودية، لأن اليهودية ليست بحاجةٍ إلى دولة؛ وليست الدولة ضرورة حتمية لها ولحياتها. ويرى أصحاب هذا الطّرح أنه في المنطقة التي كانت تسكنها في الماضي شعوبٌ تتحدّث العبرية على اختلاف لهجاتها، وتشمل سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، ولِدت الأمّة العبرية القديمة، والتي أنشأت حضارة عبرية؛ وأن الدولة العبرية يجب أن تشمل البلدان السابقة، وأنها لن تكون لها أيّ علاقة باليهود في شتاتهم، باستثناء أن القادمين من الشتات هم الذين سيشكّلون نواة الأمّة العبرية.
2- التصوّر الصباري للهوية: يقوم على رفض الشتات والتحفّظ عليه، وعلى طابع حياة اليهود الذين عاشوا في الشتات، والعادات التي كانت شائعة بينهم، مع تعلية شأن "مواليد البلاد". وهذا ما أعطى هؤلاء الإحساس بالانتماء إلى جماعةٍ من الصفوة والتفوّق على أقرانهم القادمين من الشتات، وأن الصابرا يشكّلون بداية جديدة لا علاقة لها بالماضي اليهودي في الشتات، بكلّ تعلّقاته التراثية والثقافية والتاريخية.
3- التصوّر الإسرائيلي للهوية: وهو يقوم على أساس الالتفات إلى واقع دولة "إسرائيل"، بحيث يبرز مدلولٌ جديدٌ لمصطلح "إسرائيلي"، لناحية السعي لتحقيق المساواة المدنية لكلّ سكّان "الدولة"، ولو في إطارٍ شكلي، من دون أن تكون هذه المساواة مشروطة بالأصل الديني أو القومي للمواطنين. وعلى ذلك، فإن "الإسرائيلية" تُعرض على أنها إطارٌ مشتركٌ لكلّ المواطنين في دولة "إسرائيل"، شريطة إلغاء الفوارق بين المواطنين بسبب أصلهم القوميّ؛ فمع هذا الطّرح، يجري الحديث عن شعبٍ طبيعيٍ في دولةٍ طبيعية، وأن التميّز يكون بينهم كإسرائيليين وليس كيهود. وهذا الطّرح يرى أن على دولة "إسرائيل" التسليم مسبقاً بوجود تنوّعٍ واسعٍ للغاية من الثقافات الجزئية في داخلها، مع تكوين ولاءٍ للإطار الأعلى المشترك.
ولكي لا ينشأ أيّ التباسٍ في فهم الأطروحات المختلفة للهوية في "إسرائيل"، لا بدّ من الإشارة إلى أن تلك الأطروحات لا تختلف حول المبادئ الصهيونية بقدر ما تحاول تطويرها لتتناسب مع المتغيّرات المحلّية والإقليمية والكونية؛ مع الحفاظ على إنجازات الحركة الصهيونية والتأسيس عليها، وذلك انطلاقاً من واقع أن خزّان الهجرة اليهودية في العالم (خارج الولايات المتحدة) بات فارغاً؛ وأنه لا يمكن التعويل على يهود الولايات المتحدة بالهجرة الجماعية إلى "إسرائيل". فكان من الأفضل، لتمكين الكيان من مواجهة التحدّيات، البحث عن هوية "إسرائيلية" جديدة تنطلق من أن الصهيونية قد انتهى دورها في تاريخ اليهود الحديث، وأن "إسرائيل" بحاجةٍ إلى هويةٍ أخرى تكون مسؤولة عن تشكيل مستقبلها.
لقد كانت تلك التصوّرات وغيرها محاولة يائسة لفكّ الإشتباك الناتج عن العلاقة التي كانت ولا زالت ملتبسة بين ما أسماه الدكتور عبد الوهاب المسيري "الصهيونية التوطينية" وبين الصهيونية الاستيطانية".
يتبع
وليد محمّد علي/ المدير العام لمركز باحث للدراسات الفلسطينية والإستراتيجية
توطئة
جاء المشروع الصهيوني أساساً ليعبّر عن مصالح المتموّلين اليهود المندمجين عضوياً بالطغم المالية التي قادت مرحلة الاستعمار والهيمنة. فكان من البديهي أن تتبنّى هذه الطّغم ونظامها الاستكباري العالمي المشروع الصهيوني كحليفٍ عضويٍ وحيويٍ يحظى بكلّ العناية والحماية والدّعم.
وقد جاء صوغ المشروع، ليمثّل أعلى مراحل الرأسمالية ويتمتّع بكلّ مظاهر حداثتها، وعوامل قوّتها وإنجازاتها الحديثة. وليستند، في الوقت عينه، على ما كُتِب كتراثٍ تاريخيٍ مُفترضٍ لمرحلةٍ غابرة. وتأسّست الإيديولوجيا الصهيونية على قاعدة التلفيق بين أقصى درجات التقدّم العلمي، وبين تاريخٍ قبليٍ يحمل مفاهيم وقيماً متخلّفة تجاوزتها البشرية منذ آلاف السنين. ولم يكن من سبيلٍ لتمرير وتسويق هذه التوليفة المتناقضة جذرياً إلاّ بفرضها بالقوّة على الأرض المعيّنة (فلسطين). وفي هذا السياق، جرى نبش مجموعةٍ من الأساطير البالية:
- اليهود: شعبٌ موجودٌ منذ الأزل، وهم شعب الله المُختار.
- فلسطين: أرض الميعاد، الممنوحة للشعب المُختار.
- فلسطين: أرضٌ بلا شعب؛ لشعبٍ حُرِم من الأرض.
ولاحقاً، جرى تدعيم تلك الأساطير الغابرة بمجموعةٍ من الأساطير الحديثة:
- "المسألة اليهودية" لا تُحل إلاّ بإعطاء اليهود وطناً خاصاً بهم.
- دولة اليهود تمثّل قلعة للإشعاع الحضاري في قلب العالم العربي- الإسلامي المتخلّف!
- الدولة الصهيونية قادرةٌ على فرض سيطرتها على شعوب المنطقة، بما يضمن استمرار هيمنة الاستعمار الغربي عليها.
وعلى الرّغم من النجاحات التي حققتها الحركة الصهيونية، إلاّ أنها حملت في جنباتها وأعماقها جملة من الأزمات التأسيسية، راهن من سُمّوا بـ"الآباء المؤسسين" على تجاوزها بعد بناء "الدولة"، وذلك عبر التآلف معها وتزييف الواقع السياسي والاجتماعي، من خلال التعبئة الإيديولوجية والاستخدام المكثّف للمراوغة اللفظية بشعاراتٍ يحتاج اكتشاف زيفها ردحاً طويلاً من الزمن.
أزمة الهوية في الكيان الصهيوني
السؤال حول الهوية ليس جديداً على الحركة الصهيونية وقبلها على اليهود. فهو كان مطروحاً في إطار التيّارات اليهودية المختلفة، المنتشرة خاصّة في أرجاء أوروبا وأمريكا؛ وإن كان قد ازداد حدّة و إلحاحاً في المرحلة الإنتقالية بين النظامين الإقطاعي والرأسمالي، بين من كان يرى "اليهودية" كديانةٍ شأنها شأن الديانات الأخرى؛ وبين من أراد إلباسها ثوب القومية تيمّناً بالحركات القومية التي سادت في أوروبا.
قبيل ظهور الحركة الصهيونية، سادت في أوساط معتنقي الديانة اليهودية اتجاهاتٌ فكريةٌ عدّة، كان من أهمّها الاتجاه الاندماجي. وقد شكّل أصحاب هذا الاتجاه حركة مستنيرة أسموها "الهسكلاه"، وتعني "التنوير". وهي كانت تدعو اليهود الذين خرجوا من المعازل للانعتاق من عقليّة تلك المعازل والاندماج في مجتمعاتهم، وأن يكون ولاؤهم أوّلاً وأخيراً لها، على أساس المساواة في الحقوق والواجبات والمواطنة الكاملة. وكان أصحاب هذا الاتجاه يرفضون القول بوجود قوميةٍ يهودية؛ بل هناك ديانةٌ يهوديةٌ منتشرةٌ في العديد من البلدان، شأن الديانات الأخرى. ففي العام 1855، تبنّى المؤتمر المركزي للحاخامين الأميركيين مبدأ مفاده أن اليهود يشكّلون طائفة دينية... وفي نفس العام الذي عُقِد فيه المؤتمر الصهيوني (1897)، اعتبر الحاخام الأميركي كوفمان كوهلر أن المبدأ الأوّل من مبادئ الإصلاح الديني اليهودي يقوم على أساس أن "اليهودية لم تعد ديناً قومياً إلاّ بقدر ما بقي الربّ إلهاً قبلياً. فاليهودية هي نظامٌ عامٌ شاملٌ من الحقائق والأخلاق". ولاحظ كلود مونتفيوري، مؤسّس حركة اليهودية الليبرالية في إنكلترا، أن القيادة الصهيونية "ليس لها اهتمامٌ يُذكر بالدّين؛ وأن هناك خلافاً حتمياً بين الأماني والتطلّعات الصهيونية لإقامة دولةٍ سياسية، وبين استمرارية اليهودية كقوّةٍ روحيّةٍ حيّة" .
وقد بدأ اليهود في العالم يشاركون مواطنيهم في بناء دولهم الحديثة. "فكان ولاء كلّ طائفةٍ يهوديةٍ للقُطر الذي ترعرعت في ظلّه، حيث اندمجت كلّ طائفةٍ في حياة شعبها وبدأت تُسهِم في عملياته الاجتماعية... لقد بدأت مرحلة أصبح فيها أبناء الطوائف اليهودية يُعلنون أنهم فرنسيون وبريطانيون وألمان يدينون بالدّين اليهودي" .
ولاحقاً، بدأ دعاة "الأمّة اليهودية" يتخوّفون من أن يؤدّي "تنوير" اليهود وخروجهم من عزلتهم، واندماجهم في مجتمعاتهم، إلى زوال أسطورة "الأمّة اليهودية" وأسطورة "شعب الله المختار". فكان أن طرحت الحركة الصهيونية رؤيتها للحلّ القومي، لما يسمّى "المسألة اليهودية"، بعد أن صُبِغت العلمانية الصهيونية بالطابع الديني بهدف تلفيقها مع الأسطورة الدينية القائلة بالوعد الإلهي بإقامة دولة "إسرائيل"، والتي كان لا بدّ أن تقدّم نفسها بوصفها دولة اليهود. وقد زرعت الصهيونية في الوعي اليهودي عبر الأجيال فكرة العلاقة الوثيقة التي لا تنفصم بين الهوية الدينية والهدف السياسي لكلّ مرحلة. وشكّلت الهجرة الطقس الأوّل في الصهيونية، كالتزامٍ يترتّب على كلّ صهيوني، وأن محكّ التمسك بالمعتقد الصهيوني، هو التزام اليهودي بالهجرة إلى فلسطين والإسهام في تأسيس وطن اليهود "إسرائيل".
أمّا سؤال الهوية في الكيان الصهيوني، فقد تنوّع بتنوّع الأماكن والانتماءات التي جاء منها المستوطنون. فظهرت العديد من التصوّرات لصياغة الهوية "الإسرائيلية"؛ ومنها:
1- التصوّر الكنعاني للهوية: جاء هذا التصوّر مترافقاً مع ازدياد الهجرة إلى فلسطين وولادة أجيال "الصابرا". وينطلق هذا الطّرح من أن الصهيونية لا يمكنها أن تخلق وطناً روحياً، لأن طابع "المنفى" اليهودي مطبوعٌ في مصدرها. والدولة الإسرائيلية ليست بحاجةٍ لأن تكون دولة يهودية، لأن اليهودية ليست بحاجةٍ إلى دولة؛ وليست الدولة ضرورة حتمية لها ولحياتها. ويرى أصحاب هذا الطّرح أنه في المنطقة التي كانت تسكنها في الماضي شعوبٌ تتحدّث العبرية على اختلاف لهجاتها، وتشمل سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، ولِدت الأمّة العبرية القديمة، والتي أنشأت حضارة عبرية؛ وأن الدولة العبرية يجب أن تشمل البلدان السابقة، وأنها لن تكون لها أيّ علاقة باليهود في شتاتهم، باستثناء أن القادمين من الشتات هم الذين سيشكّلون نواة الأمّة العبرية.
2- التصوّر الصباري للهوية: يقوم على رفض الشتات والتحفّظ عليه، وعلى طابع حياة اليهود الذين عاشوا في الشتات، والعادات التي كانت شائعة بينهم، مع تعلية شأن "مواليد البلاد". وهذا ما أعطى هؤلاء الإحساس بالانتماء إلى جماعةٍ من الصفوة والتفوّق على أقرانهم القادمين من الشتات، وأن الصابرا يشكّلون بداية جديدة لا علاقة لها بالماضي اليهودي في الشتات، بكلّ تعلّقاته التراثية والثقافية والتاريخية.
3- التصوّر الإسرائيلي للهوية: وهو يقوم على أساس الالتفات إلى واقع دولة "إسرائيل"، بحيث يبرز مدلولٌ جديدٌ لمصطلح "إسرائيلي"، لناحية السعي لتحقيق المساواة المدنية لكلّ سكّان "الدولة"، ولو في إطارٍ شكلي، من دون أن تكون هذه المساواة مشروطة بالأصل الديني أو القومي للمواطنين. وعلى ذلك، فإن "الإسرائيلية" تُعرض على أنها إطارٌ مشتركٌ لكلّ المواطنين في دولة "إسرائيل"، شريطة إلغاء الفوارق بين المواطنين بسبب أصلهم القوميّ؛ فمع هذا الطّرح، يجري الحديث عن شعبٍ طبيعيٍ في دولةٍ طبيعية، وأن التميّز يكون بينهم كإسرائيليين وليس كيهود. وهذا الطّرح يرى أن على دولة "إسرائيل" التسليم مسبقاً بوجود تنوّعٍ واسعٍ للغاية من الثقافات الجزئية في داخلها، مع تكوين ولاءٍ للإطار الأعلى المشترك.
ولكي لا ينشأ أيّ التباسٍ في فهم الأطروحات المختلفة للهوية في "إسرائيل"، لا بدّ من الإشارة إلى أن تلك الأطروحات لا تختلف حول المبادئ الصهيونية بقدر ما تحاول تطويرها لتتناسب مع المتغيّرات المحلّية والإقليمية والكونية؛ مع الحفاظ على إنجازات الحركة الصهيونية والتأسيس عليها، وذلك انطلاقاً من واقع أن خزّان الهجرة اليهودية في العالم (خارج الولايات المتحدة) بات فارغاً؛ وأنه لا يمكن التعويل على يهود الولايات المتحدة بالهجرة الجماعية إلى "إسرائيل". فكان من الأفضل، لتمكين الكيان من مواجهة التحدّيات، البحث عن هوية "إسرائيلية" جديدة تنطلق من أن الصهيونية قد انتهى دورها في تاريخ اليهود الحديث، وأن "إسرائيل" بحاجةٍ إلى هويةٍ أخرى تكون مسؤولة عن تشكيل مستقبلها.
لقد كانت تلك التصوّرات وغيرها محاولة يائسة لفكّ الإشتباك الناتج عن العلاقة التي كانت ولا زالت ملتبسة بين ما أسماه الدكتور عبد الوهاب المسيري "الصهيونية التوطينية" وبين الصهيونية الاستيطانية".
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق