نتابع: الأزمة البنيوية في الفكر الصهيوني العنصري -4-
الحرب والسّلم في الفكر الصهيوني
رغم أن "اتفاقية أوسلو" (1993) قَزّمت الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني إلى مستوياتٍ مهينة, ومكّنت الكيان الصهيوني من تحقيق الكثير من المكتسبات، إلاّ أن الكيان لم ينظر إليها إلاّ كوسيلةٍ مكّنته من إنجاز مرحلةٍ إضافيةٍ من مراحل مشروعه الاستراتيجي، للبدء بمرحلة جديدة؛ مرحلة المساومة على الأراضي التي احتُلّت عام 1967، والتي أصبحت ضمناً (بعد أوسلو) مجرّد أراضٍ متنازعٍ عليها يجري التفاوض لفضّ النزاع حولها، لا أراضٍ محتلّة يجب الانسحاب منها وفقاً لقرارات الأمم المتحدة.
هذا النموذج الانتهازي للموقف الصهيوني من التسوية لا ينطلق من اعتباراتٍ سياسيةٍ متحرّكة، بل من طبيعة المشروع الصهيوني التي تتناقض جذرياً مع إعطاء الفلسطينيين حقوقاً سيادية على أيّ جزءٍ من فلسطين. فالتجربة العينية أثبتت أن قادة المشروع الصهيوني ومنظّريه (قبل وبعد تأسيس الكيان) قد تعاملوا مع مشاريع التسوية بما يخدم هذا المشروع وأهدافه الاستراتيجية؛ وإن كان التنفيذ يجري على مراحل وفقاً لموازين القوى التي تُعزّز باستمرار. فقبل إعلان الكيان الصهيوني عام 1948، كان مطلب الصهاينة المعلن: الحقّ بالإقامة والعيش في فلسطين، وذلك لسببٍ بسيط؛ "دولتهم لم تأسّس بعد "، ولم يتمكّنوا بعد من عوامل القوّة اللازمة.
وقد توالت بعد ذلك الشروط الصهيونية عند طرح أيّ مشروعٍ للتسوية: من الهدنة الأولى ومفاوضات رودس وقراري الأمم المتحدة: 181 و194؛ إلى القرارين 242 و338 وعشرات القرارات الأخرى، وصولاً إلى اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووداي عربة وما تبعها من تفاهمات...
إن استراتيجية المشروع الصهيوني المتمثّلة في "إقامة دولةٍ يهوديةٍ صهيونية" فوق أرض فلسطين، لا يمكن أن تتحقّق إلاّ بتفريغ فلسطين من أهلها؛ سواء كان ذلك بالطّرد أو بالإبادة، أو بتحويل الشعب الفلسطيني إلى أقلّيةٍ تعمل في خدمة المشروع المذكور؛ ولتحقيق ذلك الهدف، جرى العمل على:
أوّلاً: التمكّن من عوامل القوّة العسكرية والمادّية، والحفاظ على توازنٍ استراتيجيٍ مختلٍ تماماً لمصلحة الكيان الصهيوني...
ثانياً: التصدّي الحازم لأيّ إرهاصاتٍ لبناء ركائز قوّةٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ قد تشكّل خطراً مستقبلياً على المشروع الصهيوني؛ تارة عبر العمل العسكري المباشر، وطوراً عبر العمل الأمنيّ التآمري. وفي أحيانٍ كثيرة، عن طريق طرح بالونات لمشاريع "تسوية" تهدف إلى إرباك الطرف الآخر، وإدخاله في متاهات تفاوضٍ لا أُفق لها. وإذا لم يفلحوا في ذلك كلّه، يتمّ اللجوء إلى المقولة الاستعماريه التقليدية (فَرّق تسُد).
فالاستراتيجية الصهيونية كانت وما زالت تقوم على إجبار الفلسطينيين خاصّة، والعرب والمسلمين عامّة، على الاعتراف بالكيان الصهيوني والخضوع لأهدافه.. وفي الوقت الذي يتحدّث فيه الجميع عن الفرصة السانحة "للسلام"، لا يزال الكيان الصهيوني يعدّ للحرب عدّتها؛ فإضافة للترسانة العسكرية التي تُحدّث أوّلاً بأوّل بأفضل ما توصّلت إليه الصناعات العسكرية والتكنولوجية، يتمّ داخل الكيان مشروع له دلالاتٌ بالغة، حيث ينفّذ "برنامج مشترك بين وزارة التربية والجيش". وحسب ذلك البرنامج، يقوم ضبّاط في الجيش بمرافقة طلاّب الصفوف العليا في المدارس لتشجيعهم على الانخراط في صفوف الجيش" . كذلك، فإن الالتحاق بصفوف الاحتياط ارتفع إلى سنّ الأربعين .
هذا هو الكيان الصهيوني، وهذه هي بُنيته. وقد تمثّل أقصى ما يمكن أن يقدّمه من أجل "السلام" في المقترحات التي قدّمها رئيس وزراء العدوّ الأسبق "إيهود باراك" في قمّة كامب ديفيد التي عقِدت في تمّوز/يوليو من العام 2000، حيث أجمع قادة الكيان، في اليسار واليمين، على أنها شكّلت "تجاوزاً لجميع المحرّمات الممكن تخيّلها"، حيث قدّم باراك خلالها تنازلاتٍ لم يجرؤ عليها أحدٌ قبله، و"لا يمكن كذلك تكرارها في المستقبل"...!
لكن، ما هي حقيقة تلك التنازلات التي تجاوزت المحرّمات، ولا يمكن تكرارها مستقبلاً؟
"روبرت مالي"، الذي كان مستشاراً خاصّاً للشؤون "الإسرائيلية" العربية لدى الرئيس كلينتون بين عامي (1998-2001)، وأحد المشاركين في مباحثات كامب ديفيد، كتب يقول:
"لقد اعتقد كثيرون بأن الرّفض الفلسطيني للأفكار المقترحة في كامب ديفيد يُخفي في ثناياه رفضاً لحقّ "إسرائيل" في الوجود. لكن، لنفكّر بالوقائع مليّاً: لقد طالب الفلسطينيون بإنشاء دولةٍ وفق حدود 4 حزيران جنباً إلى جنب مع "إسرائيل"، ووافقوا على فكرة ضمّ "إسرائيل" لأراضٍ من الضفة الغربية تحوي معظم المستوطنات، وقبلوا بمبدأ السيادة "الإسرائيلية" على المناطق اليهودية المجاورة للقدس الشرقية، وهي مناطق لم تكن جزءاً من "إسرائيل" قبل حرب الأيام الستّة 1967. وفي حين أصرّوا على الاعتراف بحقّ اللاجئين في العودة، فقد وافقوا على تحديد عدد العائدين، بحيث يراعي تطبيق هذا الحقّ مصالح "إسرائيل" الديموغرافية والأمنية! إن أيّاً من الأطراف العربية التي تفاوضت مع "الإسرائيليين"، سواء كان الرئيس المصري أنور السادات أم حسين ملك الأردن، ناهيك عن الرئيس السوري حافظ الأسد، لم يصل إلى مثل تلك التسويات" .
وحتّى تلك الأفكار أو التفاهمات التي دعا إليها "إيهود باراك" كانت قد قُدّمت في كامب ديفيد شفاهة، بطريقةٍ "يصعب أن يكون لدى أيٍ كان أدنى فكرة عن ماهيّة تلك التفاهمات؛ إذ أن أحداً لم ير وثيقة تلخّصها، لأن مثل تلك الوثيقة غير موجودةٍ أصلاً. ولا يمكن للدبلوماسيين المحنّكين أن يتذكّروا مناقشاتٍ سياسية لم يتمّ تدوين ما جاء فيها على الورق" . والشيء الوحيد الذي يمكن أن يُستدلّ منه على حقيقة تلك الأفكار هي التفاهمات التي عرِفت باسم "تفاهمات بيلين-أبو مازن" .
ولنفهم فحوى تلك التفاهمات، والحدّ الذي يمكن أن تصل إليه تنازلات أبو مازن، نقرأ ما قاله أحد قُطبيها، "حمامة السلام" يوسي بيلين، في حوارٍ صحفيٍ أُجري معه:"إنّ بالإمكان الوصول إلى اتفاقٍ نهائي، ليس على أساس الشروط التي قدّمها الفلسطينيون علناً، بل بناء على تنازلاتٍ ذات دلالةٍ من [طرفهم]... لقد تبيّن لي أن لديهم فجوة كبيرة بين شعاراتهم، وبين فهمهم الواقعي للحقيقة؛ وهي فجوةٌ أكثر بكثيرٍ منها في جانبنا"... "إنهم على استعدادٍ للقبول باتفاقٍ يعطيهم الكثير من الأرض دون تفكيك المستوطنات ودون العودة إلى حدود العام 1967، وكذلك القبول بترتيبٍ في القدس لا يرقى إلى مستوى مجلسٍ بلدي" !
مقابل ذلك، طلب باراك أن يوقّع الطرفان "إتفاقاً نهائياً"، وأن يترافق ذلك مع إعلانٍ فلسطينيٍ عن "نهاية الصراع". لو أن الفلسطينيين وقّعوا إعلاناً كهذا، لفقدوا أيّ أساسٍ شرعي يستند إلى قرارات الأمم المتحدة يمكن أن يُبنى عليه أيّة مطالب في المستقبل. وقد غُلّف طلب باراك بلغةٍ يصعب الاختلاف عليها، كما في قوله: "إذا كان الفلسطينيون يريدون تأسيس دولة، فإن عليهم قبل ذلك الإعلان بأن الصراع المستمرّ منذ قرن بين اليهود والعرب قد وصل إلى نهايته". وحدها الخاتمة تبيّن أن هذا في الحقيقة، هو تهديدٌ صريح؛ إذ أضاف باراك: "لأن البديل هو مواجهةٌ داميةٌ لن ينجم عنها أيّ خير" .
أما فيما يتعلّق بحقّ العودة، فينطلق الصهاينة في التعامل مع هذه القضية، في إطار أيّ مشروع للتسوية، من النظرة الصهيونية الاستراتيجية إلى فلسطين كاملة، كأرض "إسرائيل" التي يجب أن تُقام عليها "دولة يهودية"، يمكن أن تسكن فيها أقلّيةٌ غير يهودية. وهم (الصهاينة) ملتزمون بشكلٍ حاسم، وغير قابلٍ للتأويل أو المساومة، بأن تبقى الأغلبية الحاسمة لليهود. لذا، نسمع تكرار حديثهم عن "بعبع" الخطر الديموغرافي الفلسطيني.
وهذا التصوّر يلتزم به كامل الطّيف الصهيوني، بما فيه من يسمّيهم البعض بـ"حركات السلام"، والتي خَلصُ مُفكّروها، وفي مقدّمتهم الكاتب المعروف أب. يهوشاع وعاموس عوز، إلى القطع بأن: "حقّ العودة معناه تصفية (إسرائيل)" .
أما عن الترابط بين نظرة الصهاينة للسلام، وقدرتهم على شنّ الحروب لإخضاع "الآخر" بالقوّة لمفهومهم للسلام، فيقول الباحث الصهيوني في الاستراتيجية النووية "شاي فيلدمان":
"إن امتلاك النظام النووي الغامض أو العلني من قِبل أحد أطراف الصراع في المنطقة، لا بدّ أن يوفّر لمثل هذا الطّرف القدرة على فرض السلام، لأنه يردع الطّرف الآخر عن الإقدام على شنّ الحرب، ويجعله يعيد النظر في حساباته. ويتوصّل في النهاية إلى أنه لا بدّ من التسليم بوجود وشروط الطّرف الآخر باعتباره الطّرف الأقوى في إطار صراع الإرادات" .
وهذا ما يفسّر ذلك السّعار الصهيوني تجاه البرنامج النووي الإيراني، والإصرار على تمسّك الكيان الصهيوني ببرنامجه النووي العسكري السرّي. أمّا ما تسعى الحركة الصهيونية لتحقيقه من وراء ذلك "السلام"، فقد كشفه القائد الأسبق لسلاح الجوّ الصهيوني، الجنرال بنيامين بيليد، بقوله: "إن "إسرائيل" مدعوّةٌ إلى استخدام كلّ الوسائل المتاحة لديها من أجل الحصول على نصيبها من ثروات المنطقة، وضرورة مشاركتها في استغلال هذه الثروات التي تفتقر إليها لضمان مستوى معيشةٍ أفضل لسكّانها" .
القادة الصهاينة حاسمون إذاً في فهمهم لطبيعة الصراع: "المعركة ليست جغرافية بالأساس؛ بل هي تاريخيةٌ وجودية"... والشيء المهمّ الآن هو "الوصول إلى اعتراف وقبول أخصامنا بالصهيونية" .
في ستّينيات القرن العشرين، أطلق العلاّمة الشهير "آرنولد توينبي" مقولته الحاسمة: "إن (إسرائيل) تعيش بالحرب، لكنّها تذبل بالسلام".. !
يتبع
رغم أن "اتفاقية أوسلو" (1993) قَزّمت الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني إلى مستوياتٍ مهينة, ومكّنت الكيان الصهيوني من تحقيق الكثير من المكتسبات، إلاّ أن الكيان لم ينظر إليها إلاّ كوسيلةٍ مكّنته من إنجاز مرحلةٍ إضافيةٍ من مراحل مشروعه الاستراتيجي، للبدء بمرحلة جديدة؛ مرحلة المساومة على الأراضي التي احتُلّت عام 1967، والتي أصبحت ضمناً (بعد أوسلو) مجرّد أراضٍ متنازعٍ عليها يجري التفاوض لفضّ النزاع حولها، لا أراضٍ محتلّة يجب الانسحاب منها وفقاً لقرارات الأمم المتحدة.
هذا النموذج الانتهازي للموقف الصهيوني من التسوية لا ينطلق من اعتباراتٍ سياسيةٍ متحرّكة، بل من طبيعة المشروع الصهيوني التي تتناقض جذرياً مع إعطاء الفلسطينيين حقوقاً سيادية على أيّ جزءٍ من فلسطين. فالتجربة العينية أثبتت أن قادة المشروع الصهيوني ومنظّريه (قبل وبعد تأسيس الكيان) قد تعاملوا مع مشاريع التسوية بما يخدم هذا المشروع وأهدافه الاستراتيجية؛ وإن كان التنفيذ يجري على مراحل وفقاً لموازين القوى التي تُعزّز باستمرار. فقبل إعلان الكيان الصهيوني عام 1948، كان مطلب الصهاينة المعلن: الحقّ بالإقامة والعيش في فلسطين، وذلك لسببٍ بسيط؛ "دولتهم لم تأسّس بعد "، ولم يتمكّنوا بعد من عوامل القوّة اللازمة.
وقد توالت بعد ذلك الشروط الصهيونية عند طرح أيّ مشروعٍ للتسوية: من الهدنة الأولى ومفاوضات رودس وقراري الأمم المتحدة: 181 و194؛ إلى القرارين 242 و338 وعشرات القرارات الأخرى، وصولاً إلى اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووداي عربة وما تبعها من تفاهمات...
إن استراتيجية المشروع الصهيوني المتمثّلة في "إقامة دولةٍ يهوديةٍ صهيونية" فوق أرض فلسطين، لا يمكن أن تتحقّق إلاّ بتفريغ فلسطين من أهلها؛ سواء كان ذلك بالطّرد أو بالإبادة، أو بتحويل الشعب الفلسطيني إلى أقلّيةٍ تعمل في خدمة المشروع المذكور؛ ولتحقيق ذلك الهدف، جرى العمل على:
أوّلاً: التمكّن من عوامل القوّة العسكرية والمادّية، والحفاظ على توازنٍ استراتيجيٍ مختلٍ تماماً لمصلحة الكيان الصهيوني...
ثانياً: التصدّي الحازم لأيّ إرهاصاتٍ لبناء ركائز قوّةٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ قد تشكّل خطراً مستقبلياً على المشروع الصهيوني؛ تارة عبر العمل العسكري المباشر، وطوراً عبر العمل الأمنيّ التآمري. وفي أحيانٍ كثيرة، عن طريق طرح بالونات لمشاريع "تسوية" تهدف إلى إرباك الطرف الآخر، وإدخاله في متاهات تفاوضٍ لا أُفق لها. وإذا لم يفلحوا في ذلك كلّه، يتمّ اللجوء إلى المقولة الاستعماريه التقليدية (فَرّق تسُد).
فالاستراتيجية الصهيونية كانت وما زالت تقوم على إجبار الفلسطينيين خاصّة، والعرب والمسلمين عامّة، على الاعتراف بالكيان الصهيوني والخضوع لأهدافه.. وفي الوقت الذي يتحدّث فيه الجميع عن الفرصة السانحة "للسلام"، لا يزال الكيان الصهيوني يعدّ للحرب عدّتها؛ فإضافة للترسانة العسكرية التي تُحدّث أوّلاً بأوّل بأفضل ما توصّلت إليه الصناعات العسكرية والتكنولوجية، يتمّ داخل الكيان مشروع له دلالاتٌ بالغة، حيث ينفّذ "برنامج مشترك بين وزارة التربية والجيش". وحسب ذلك البرنامج، يقوم ضبّاط في الجيش بمرافقة طلاّب الصفوف العليا في المدارس لتشجيعهم على الانخراط في صفوف الجيش" . كذلك، فإن الالتحاق بصفوف الاحتياط ارتفع إلى سنّ الأربعين .
هذا هو الكيان الصهيوني، وهذه هي بُنيته. وقد تمثّل أقصى ما يمكن أن يقدّمه من أجل "السلام" في المقترحات التي قدّمها رئيس وزراء العدوّ الأسبق "إيهود باراك" في قمّة كامب ديفيد التي عقِدت في تمّوز/يوليو من العام 2000، حيث أجمع قادة الكيان، في اليسار واليمين، على أنها شكّلت "تجاوزاً لجميع المحرّمات الممكن تخيّلها"، حيث قدّم باراك خلالها تنازلاتٍ لم يجرؤ عليها أحدٌ قبله، و"لا يمكن كذلك تكرارها في المستقبل"...!
لكن، ما هي حقيقة تلك التنازلات التي تجاوزت المحرّمات، ولا يمكن تكرارها مستقبلاً؟
"روبرت مالي"، الذي كان مستشاراً خاصّاً للشؤون "الإسرائيلية" العربية لدى الرئيس كلينتون بين عامي (1998-2001)، وأحد المشاركين في مباحثات كامب ديفيد، كتب يقول:
"لقد اعتقد كثيرون بأن الرّفض الفلسطيني للأفكار المقترحة في كامب ديفيد يُخفي في ثناياه رفضاً لحقّ "إسرائيل" في الوجود. لكن، لنفكّر بالوقائع مليّاً: لقد طالب الفلسطينيون بإنشاء دولةٍ وفق حدود 4 حزيران جنباً إلى جنب مع "إسرائيل"، ووافقوا على فكرة ضمّ "إسرائيل" لأراضٍ من الضفة الغربية تحوي معظم المستوطنات، وقبلوا بمبدأ السيادة "الإسرائيلية" على المناطق اليهودية المجاورة للقدس الشرقية، وهي مناطق لم تكن جزءاً من "إسرائيل" قبل حرب الأيام الستّة 1967. وفي حين أصرّوا على الاعتراف بحقّ اللاجئين في العودة، فقد وافقوا على تحديد عدد العائدين، بحيث يراعي تطبيق هذا الحقّ مصالح "إسرائيل" الديموغرافية والأمنية! إن أيّاً من الأطراف العربية التي تفاوضت مع "الإسرائيليين"، سواء كان الرئيس المصري أنور السادات أم حسين ملك الأردن، ناهيك عن الرئيس السوري حافظ الأسد، لم يصل إلى مثل تلك التسويات" .
وحتّى تلك الأفكار أو التفاهمات التي دعا إليها "إيهود باراك" كانت قد قُدّمت في كامب ديفيد شفاهة، بطريقةٍ "يصعب أن يكون لدى أيٍ كان أدنى فكرة عن ماهيّة تلك التفاهمات؛ إذ أن أحداً لم ير وثيقة تلخّصها، لأن مثل تلك الوثيقة غير موجودةٍ أصلاً. ولا يمكن للدبلوماسيين المحنّكين أن يتذكّروا مناقشاتٍ سياسية لم يتمّ تدوين ما جاء فيها على الورق" . والشيء الوحيد الذي يمكن أن يُستدلّ منه على حقيقة تلك الأفكار هي التفاهمات التي عرِفت باسم "تفاهمات بيلين-أبو مازن" .
ولنفهم فحوى تلك التفاهمات، والحدّ الذي يمكن أن تصل إليه تنازلات أبو مازن، نقرأ ما قاله أحد قُطبيها، "حمامة السلام" يوسي بيلين، في حوارٍ صحفيٍ أُجري معه:"إنّ بالإمكان الوصول إلى اتفاقٍ نهائي، ليس على أساس الشروط التي قدّمها الفلسطينيون علناً، بل بناء على تنازلاتٍ ذات دلالةٍ من [طرفهم]... لقد تبيّن لي أن لديهم فجوة كبيرة بين شعاراتهم، وبين فهمهم الواقعي للحقيقة؛ وهي فجوةٌ أكثر بكثيرٍ منها في جانبنا"... "إنهم على استعدادٍ للقبول باتفاقٍ يعطيهم الكثير من الأرض دون تفكيك المستوطنات ودون العودة إلى حدود العام 1967، وكذلك القبول بترتيبٍ في القدس لا يرقى إلى مستوى مجلسٍ بلدي" !
مقابل ذلك، طلب باراك أن يوقّع الطرفان "إتفاقاً نهائياً"، وأن يترافق ذلك مع إعلانٍ فلسطينيٍ عن "نهاية الصراع". لو أن الفلسطينيين وقّعوا إعلاناً كهذا، لفقدوا أيّ أساسٍ شرعي يستند إلى قرارات الأمم المتحدة يمكن أن يُبنى عليه أيّة مطالب في المستقبل. وقد غُلّف طلب باراك بلغةٍ يصعب الاختلاف عليها، كما في قوله: "إذا كان الفلسطينيون يريدون تأسيس دولة، فإن عليهم قبل ذلك الإعلان بأن الصراع المستمرّ منذ قرن بين اليهود والعرب قد وصل إلى نهايته". وحدها الخاتمة تبيّن أن هذا في الحقيقة، هو تهديدٌ صريح؛ إذ أضاف باراك: "لأن البديل هو مواجهةٌ داميةٌ لن ينجم عنها أيّ خير" .
أما فيما يتعلّق بحقّ العودة، فينطلق الصهاينة في التعامل مع هذه القضية، في إطار أيّ مشروع للتسوية، من النظرة الصهيونية الاستراتيجية إلى فلسطين كاملة، كأرض "إسرائيل" التي يجب أن تُقام عليها "دولة يهودية"، يمكن أن تسكن فيها أقلّيةٌ غير يهودية. وهم (الصهاينة) ملتزمون بشكلٍ حاسم، وغير قابلٍ للتأويل أو المساومة، بأن تبقى الأغلبية الحاسمة لليهود. لذا، نسمع تكرار حديثهم عن "بعبع" الخطر الديموغرافي الفلسطيني.
وهذا التصوّر يلتزم به كامل الطّيف الصهيوني، بما فيه من يسمّيهم البعض بـ"حركات السلام"، والتي خَلصُ مُفكّروها، وفي مقدّمتهم الكاتب المعروف أب. يهوشاع وعاموس عوز، إلى القطع بأن: "حقّ العودة معناه تصفية (إسرائيل)" .
أما عن الترابط بين نظرة الصهاينة للسلام، وقدرتهم على شنّ الحروب لإخضاع "الآخر" بالقوّة لمفهومهم للسلام، فيقول الباحث الصهيوني في الاستراتيجية النووية "شاي فيلدمان":
"إن امتلاك النظام النووي الغامض أو العلني من قِبل أحد أطراف الصراع في المنطقة، لا بدّ أن يوفّر لمثل هذا الطّرف القدرة على فرض السلام، لأنه يردع الطّرف الآخر عن الإقدام على شنّ الحرب، ويجعله يعيد النظر في حساباته. ويتوصّل في النهاية إلى أنه لا بدّ من التسليم بوجود وشروط الطّرف الآخر باعتباره الطّرف الأقوى في إطار صراع الإرادات" .
وهذا ما يفسّر ذلك السّعار الصهيوني تجاه البرنامج النووي الإيراني، والإصرار على تمسّك الكيان الصهيوني ببرنامجه النووي العسكري السرّي. أمّا ما تسعى الحركة الصهيونية لتحقيقه من وراء ذلك "السلام"، فقد كشفه القائد الأسبق لسلاح الجوّ الصهيوني، الجنرال بنيامين بيليد، بقوله: "إن "إسرائيل" مدعوّةٌ إلى استخدام كلّ الوسائل المتاحة لديها من أجل الحصول على نصيبها من ثروات المنطقة، وضرورة مشاركتها في استغلال هذه الثروات التي تفتقر إليها لضمان مستوى معيشةٍ أفضل لسكّانها" .
القادة الصهاينة حاسمون إذاً في فهمهم لطبيعة الصراع: "المعركة ليست جغرافية بالأساس؛ بل هي تاريخيةٌ وجودية"... والشيء المهمّ الآن هو "الوصول إلى اعتراف وقبول أخصامنا بالصهيونية" .
في ستّينيات القرن العشرين، أطلق العلاّمة الشهير "آرنولد توينبي" مقولته الحاسمة: "إن (إسرائيل) تعيش بالحرب، لكنّها تذبل بالسلام".. !
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق