عرض وتحليل لكتاب ’’اختراع أرض إسرائيل ’’لشلومو ساند
*كتاب ثان ضمن ثلاثية يفتح المؤلف من خلالها النار على مجموعة كبيرة من الأساطير الصهيونية الملفقة*
(*) رام الله - صدر حديثًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية - مدار وفي الوقت نفسه عن منشورات المكتبة الأهلية في عمان، كتاب "اختراع أرض إسرائيل"، من تأليف البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، وذلك في ترجمة عربية أنجزها أنطوان شلحت وأسعد الزعبي.
ويؤكد المؤلف في مقدمته الخاصة للطبعة العربية أن الاسم الإقليمي (الجغرافي) "أرض إسرائيل" لم يكن قومياً على الإطلاق لدى ظهوره لأول مرة، ولم يكن من الممكن أن يكون كذلك أيضاً، بل كان مصطلحاً لاهوتياً- دينياً. فلقد اعتبر المكان خلال مئات الأعوام في نظر اليهود والمتهودين نقطة انطلاق لبداية الخلاص الغيبي الذي سيحل على العالم بقدوم المسيح.
وأوضح أيضاً أنه راودته ووجهته عندما ألّف هذا الكتاب ثلاثة أسئلة رئيسة: 1) هل كان المكان دائما وطنا لليهود كما تعلم في صغره في المدارس الإسرائيلية؟؛ 2) إلى أي مدى يعتبر هذا المكان اليوم وطناً للذين يعرفون أنفسهم كيهود في أنحاء العالم؟؛ 3) كيف صارت إسرائيل وطن الإسرائيليين الذين يعيشون فيه؟.
قدّم للكتاب باسم مركز "مدار" الكاتب أنطوان شلحت فأشار إلى أنه الجزء الثاني مما يمكن اعتباره ثلاثية يقدّم من خلالها البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، إعادة نظر جذرية في جملة من المسلمات الصهيونية الصنميّة الكاذبة عبر إخضاعها إلى محاكمة تاريخية متأنية وصارمة ومدروسة.
وكان الجزء الأول منها هو كتاب "اختراع الشعب اليهودي"، وسبق أن صدر بترجمة عربية عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار.
أمّا الجزء الثالث منها فهو كتاب بعنوان "كيف لم أعد يهودياً؟"، وصدر باللغة العبرية العام 2013.
وأضاف شلحت: من نافل القول إن الوقائع التي يوردها ساند، شأنها شأن الاستنتاجات التي يتوصل إليها، توسّع دائرة الضوء كثيراً حول الأراجيف التي لجأت الحركة الصهيونية إليها لتدعيم تلك المسلمات من جهة، ومن جهة أخرى موازية ومكملة لتبرير مشروعها المتعلق باستعمار فلسطين وما ترتب عليه من آثار كارثية مدمرّة بالنسبة إلى سكانها الفلسطينيين الأصلانيين.
ويرى ساند بحق أن هدف الحركة الصهيونية من وراء هذه الأراجيف مجتمعة هو الاستفادة منها في الحد الأقصى ضمن سياق اختلاق قومية جديدة وشحنها بغايات استعمار فلسطين باعتبارها "وطن" أبناء هذه القومية الجديدة منذ أقدم العصور.
وقد تمثل الهدف الأهم من وراء الترويج لتلك الأراجيف في الإقناع بأن هذا "الوطن" (فلسطين) يعود إلى "الشعب اليهودي" وإليه فقط، لا إلى أولئك "القلائل" (الفلسطينيون) الذين أتوا إليه بطريق الصدفة ولا تاريخ قومياً لهم، وفقاً لمزاعم الحركة الصهيونية. وبناء على ذلك فإن حروب ذلك الشعب لاحتلال "الوطن" وبعد ذلك لـ "حمايته" من كيـد الأعداء المتأصل هي حروب عادلة بالمطلق، أمّا مقاومة السكان المحليين الأصلانيين فإنها إجرامية، وتسوّغ ما ارتكب ويُرتكب بحقهم من آثام وشرور مهما تكن فظاعتها.
وتابع: بينما انصب جهد ساند في الجزء الأول على تفكيك الأراجيف المتعلقة بإعادة كتابة الماضي اليهودي، وأساساً من طرف كتّاب أكفاء عكفوا على تجميع شظايا ذاكرة يهودية- مسيانية واستعانوا بخيالهم المجنّح كي يختلقوا، بواسطتها، شجرة أنساب متسلسلة لـ "الشعب اليهودي"، فإن جهده في هذا الجزء الثاني منصب على تفكيك الأراجيف المتعلقة بتأكيد صلة "الشعب اليهودي" بفلسطين التي تم اختراع اسم لها هو "أرض إسرائيل" في سبيل إثبات تلك الصلة، وجرى استخدامه كأداة توجيه ورافعة للتَخيُل الجغرافي للاستيطان الصهيوني منذ أن بدأ قبل أكثر من مئة عام.
وفي سياق ذلك يقوّض الكتاب أسطورة كون "أرض إسرائيل" الوطن التاريخي للشعب اليهودي، ويثبت أن الحركة الصهيونية هي التي سرقت مصطلح "أرض إسرائيل" وهو ديني في جوهره وحولته إلى مصطلح جيو- سياسي، وبموجبه جعلت تلك "الأرض" وطن اليهود في العالم أجمع، وذلك منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وختم شلحت مؤكداً أن المساهمة الأساسية لهذا الكتاب المهم تبقى كامنة، كما أهمية الكتاب السابق، في نبش الماضي وإيضاح صيرورة الحاضر، بواسطة فتح النار على مجموعة كبيرة من الأساطير الصهيونية الملفقة.
تقديم: وقائع اختراع "أرض إسرائيل" / بقلم: انطوان شلحت
هذا الكتاب هو الجزء الثاني مما يمكن اعتباره ثلاثية يقدّم من خلالها البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، إعادة نظر جذرية في جملة من المسلمات الصهيونية الصنميّة الكاذبة عبر إخضاعها إلى محاكمة تاريخية متأنية وصارمة ومدروسة.
وكان الجزء الأول منها هو كتاب "اختراع الشعب اليهودي"، وسبق أن صدر بترجمة عربية عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار. - تم عرضه سابقا -
أمّا الجزء الثالث منها فهو كتاب بعنوان "كيف لم أعد يهودياً؟"، وصدر باللغة العبرية العام 2013. - سيتم عرضه لاحقا -
من نافل القول إن الوقائع التي يوردها ساند، شأنها شأن الاستنتاجات التي يتوصل إليها، توسّع دائرة الضوء كثيراً حول الأراجيف التي لجأت الحركة الصهيونية إليها لتدعيم تلك المسلمات من جهة، ومن جهة أخرى موازية ومكملة لتبرير مشروعها المتعلق باستعمار فلسطين وما ترتب عليه من آثار كارثية مدمرّة بالنسبة إلى سكانها الفلسطينيين الأصلانيين.
ويرى ساند بحق أن هدف الحركة الصهيونية من وراء هذه الأراجيف مجتمعة هو الاستفادة منها في الحد الأقصى ضمن سياق اختلاق قومية جديدة وشحنها بغايات استعمار فلسطين باعتبارها "وطن" أبناء هذه القومية الجديدة منذ أقدم العصور.
وقد تمثل الهدف الأهم من وراء الترويج لتلك الأراجيف في الإقناع بأن هذا "الوطن" (فلسطين) يعود إلى "الشعب اليهودي" وإليه فقط، لا إلى أولئك "القلائل" (الفلسطينيون) الذين أتوا إليه بطريق الصدفة ولا تاريخ قومياً لهم، وفقاً لمزاعم الحركة الصهيونية. وبناء على ذلك فإن حروب ذلك الشعب لاحتلال "الوطن" وبعد ذلك لـ "حمايته" من كيـد الأعداء المتأصل هي حروب عادلة بالمطلق، أمّا مقاومة السكان المحليين الأصلانيين فإنها إجرامية، وتسوّغ ما ارتكب ويُرتكب بحقهم من آثام وشرور مهما تكن فظاعتها.
وبينما انصب جهد ساند في الجزء الأول على تفكيك الأراجيف المتعلقة بإعادة كتابة الماضي اليهودي، من طرف كتّاب أكفاء عكفوا على تجميع شظايا ذاكرة يهودية- مسيانية واستعانوا بخيالهم المجنّح كي يختلقوا، بواسطتها، شجرة أنساب متسلسلة لـ "الشعب اليهودي"، فإن جهده في هذا الجزء الثاني منصب على تفكيك الأراجيف المتعلقة بتأكيد صلة "الشعب اليهودي" بفلسطين التي تم اختراع اسم لها هو "أرض إسرائيل" في سبيل إثبات تلك الصلة، وجرى استخدامه كأداة توجيه ورافعة للتَخيُل الجغرافي للاستيطان الصهيوني منذ أن بدأ قبل أكثر من مئة عام.
وفي سياق ذلك يقوّض الكتاب أسطورة كون "أرض إسرائيل" الوطن التاريخي للشعب اليهودي، ويثبت أن الحركة الصهيونية هي التي سرقت مصطلح "أرض إسرائيل" وهو ديني في جوهره وحولته إلى مصطلح جيو- سياسي، وبموجبه جعلت تلك "الأرض" وطن اليهود، وذلك منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ويلفت من ضمن أمور أخرى إلى أن أتباع الحركة البيوريتانية- وهي الحركة "التطهّرية" التي انبثقت عن البروتستانتية في بريطانيا- وخلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانوا أول من قرأ التناخ (العهد القديم) على أنه كتاب تاريخي، ونظراً إلى كون هؤلاء متعطشين إلى الخلاص فقد ربطوا بين حركتهم ونهضة "شعب إسرائيل" في أرضه. ويشدّد على أن هذه الرابطة لم تنشأ نتيجة قلقهم على اليهود الذين كانوا يعانون الأمرّين، وإنما أساساً بدافع الرؤيا القائلة إنه فقط بعد عودة "بني إسرائيل" إلى صهيون سيحلّ الخلاص المسيحي على البشرية جمعاء، وفي إطار صفقة الرزمة طويلة الأمد هذه من المفترض أن يتنصّر اليهود، وعندها سيحظى العالم برؤية عودة يسوع المتجددة. وفي ضوء ذلك يؤكد المؤلف أن هؤلاء الذين يُطلق عليهم اسم "الصهاينة الجدد"، لا اليهود، هم الذين اخترعوا "أرض إسرائيل" كمصطلح جيو - سياسي معاصر.
ولدى الربط بين هذا الكتاب الجديد والكتاب السابق ينوّه ساند بأنه قرر تأليف "اختراع أرض إسرائيل" عقب الانتقادات التي جرى توجيهها إلى كتاب "اختراع الشعب اليهودي". وفي هذا الإطار يشير إلى أن المؤرخ البريطاني المؤيد للصهيونية سايمون شاما ادعى أن كتابه السابق فشل في محاولة فصم العلاقة بين "أرض الآباء" والتجربة اليهودية، فيما كتب نقاد آخرون أنه كان في نيته تقويض "الحق التاريخي لليهود في وطنهم القديم: أرض إسرائيل". وهو يؤكد أنه فوجئ كثيراً، إذ إنه لم يفكر قطّ أن الكتاب يقوّض هذا الحق لعدم وجود اعتقاد لديه على الإطلاق بأن لليهود حقاً تاريخياً في البلاد. ولم يكن يتصوّر أن يكون هناك في مطلع القرن الحادي والعشرين نقاد يبرّرون إقامة دولة إسرائيل بواسطة ادعاءات على غرار أنها "أرض الآباء" أو من خلال التذرّع بحقوق تاريخية عمرها آلاف الأعوام. وأوضح أنه عندما دافع عن وجود اليهود وحقوقهم هنا كان سبب ذلك يعود إلى ضائقتهم التي تفاقمت بدءا من نهاية القرن التاسع عشر عندما تقيأتهم أوروبا من داخلها، وأغلقت الولايات المتحدة أبوابها أمامهم في مرحلة معينة، لا بسبب توق قومي معتّق أو حق تاريخي.
ويشير إلى أنه بعد الانتقادات التي تعرّض لها الكتاب السابق أدرك أنه يعتوره نقص يجب تلافيه من خلال تأليف كتاب آخر بشأن طبيعة اختراع "أرض إسرائيل" كحيّز إقليمي للشعب اليهودي يتغيّا تحقيق هدفين:
- أولاً، كيف تدحرج هذا الاختراع في الهستوريوغرافيا الصهيونية والممارسات الاستيطانية الصهيونية على مدار الأعوام المئة والعشرين الفائتة؛
- ثانياً، تفنيد الأسطورة القائلة بأن "أرض إسرائيل" كانت دائماً مُلكاً لـ "الشعب اليهودي" بوعد من الله الذي أودع في أيدي رسله كوشاناً هو التناخ قامت الصهيونية رغماً عن كونها حركة علمانية بتأميمه وحولته إلى كتاب تاريخ في كل شيء.
كما يشير إلى أنه عندما كان شابا فإن مصطلح "أرض إسرائيل" شكّل جزءا من قاموسه على الرغم من كونه يسارياً، وكان واثقا من أنه مصطلح تناخي، وفجأة تبين له أنه لا توجد "أرض إسرائيل" في التناخ بعد أن دقق في مكانتها فيه وفي الأدبيات اليهودية القديمة. ويقول إن كلمة "وطن" تظهر تسع عشرة مرة في جميع أسفار التناخ ونصفها في سفر التكوين، لكن هذا المصطلح يتعلق بمسقط الرأس أو المكان الذي يدل على أصل عائلة، لا بإقليم جيو - سياسي مثلما كانت الحال لدى اليونان أو الرومان. وليس هذا وحسب بل أيضاً لم يخرج أبطال التناخ بتاتاً للدفاع عن وطنهم كي يحظوا بالحرية أو بدافع وطنية سياسية. ويشدّد على أن النصوص التناخية تشير إلى أن "الديانة اليهودية"- نسبة إلى يهوه- لم تنم في أرض كنعان وأن نشوء التوحيد حدث خارج "أرض الميعاد".
وفيما يتعلق بنشوء مصطلح "أرض إسرائيل" يقول إن اسم البلاد في التناخ كان كنعان، وفي فترة "الهيكل الثاني" كان المصطلح الشامل هو "أرض يهودا". ومصطلح "أرض إسرائيل" يظهر في الميشناه، لكنه ليس مطابقا لبلاد الوعد الإلهي الذي مُنح إلى إبراهيم. و"أرض إسرائيل" كاسم ورقعة تظهر في التلمود بصيغ يعدّدها في الكتاب، وفي تقديره فإن المصطلح ظهر بعد أن غير الرومان اسم يهودا إلى سورية - بلسطينا، وعندها بدأوا في التشديد على مصطلح "أرض إسرائيل". لكن وفقا للتلمود فإن هذه منطقة تمتد جغرافياً من جنوب عكا إلى شمال عسقلان، ويظهر المصطلح كفريضة، أي أن "أرض إسرائيل" التلمودية ليست مصطلحا جيو - سياسيا، وإنما هي مصطلح ثيوقراطي يتطرّق إلى أرض مقدسة تسري على سكانها فرائض خاصة مرتبطة بالبلاد. ويلفت إلى أن قلائل فقط مستعدون لأن يقرّوا بأن "أرض إسرائيل" في أسفار التناخ لم تشمل القدس والخليل وبيت لحم، وأن التناخ استخدم الاسم الفرعوني للمنطقة وهو "أرض كنعان".
ولدى بحث ساند في أدبيات المكابيين ومخطوطات فيلون الإسكندراني وكتب المؤرخ اليهودي يوسيفوس فيلافيوس التي تجمل معظم فترة "الهيكل الثاني"، لم يتعثر بأي ذكر لمصطلح "أرض إسرائيل" ولو مرة واحدة.
بطبيعة الحال يضيق المجال للإحاطة بكل الوقائع التي يوردها هذا الكتاب فيما يتعلق باختراع "أرض إسرائيل".
ويعيد المؤلف تأكيد الحقيقة بأن اليهود لم يكونوا شعباً مختاراً موزّعاً على وجه البسيطة، بل إن الديانة اليهودية كانت ديناً ديناميكياً جديداً انتشر وحقق رواجاً كبيراً. وجماهير المتهودين وذراريهم كانوا يتطلعون، بشجاعة وقوة نفسية، إلى المكان المقدس الذي كان يفترض أن ينبلج منه الخلاص، ولم يخطر في بالهم جدياً قطّ أن يهاجروا إليه ولم يفعلوا ذلك حقاً. ولم تكن الصهيونية استمراراً لليهودية مطلقاً بل كانت نقضاً لها، ولذا فقد رفضتها هذه الأخيرة رفضاً قطعياً. لكن، على الرغم من كل هذا ثمة منطق تاريخي معيّن استحوذ على الأسطورة وساهم في تحقيقها جزئياً.
إن المساهمة الأساسية لهذا الكتاب المهم كامنة، كما الكتاب السابق، في نبش الماضي وإيضاح صيرورة الحاضر، بواسطة فتح النار على الأساطير الصهيونية الملفقة.
ويخصص المؤلف خاتمة كتابه لإطلاق دعوة من أجل أن تثبت جامعة تل أبيب حيث يعمل عند مدخلها لوحة تذكارية لمهجري الشيخ مونّس، القرية الوادعة التي اختفت كما لو أنها لم تكن، مشيراً إلى أنه يحرص على تعليم طلابه، في مستهل أي مسار تعليمي، أن أي ذاكرة جماعية هي بهذا القدر أو ذاك نتاج هندسة ثقافية تعديلية تخضع، على الدوام تقريباً، لاحتياجات الحاضر ومزاجه السائد، وإلى أن من عادته التأكيد، بوجه خاص، أنه لدى الحديث عن تاريخ الأمم، فليس الماضي هو الذي يخلق الحاضر، بل إن "الحاضر القومي" هو الذي يعجن الماضي ويصوغه لنفسه، بصورة حرة تماماً، بينما يشمل هذا الماضي دائما ثغرات كبيرة جداً من النسيان.
ولا شك في أن ساند يصوغ رؤيا تتعلق بالمستقبل تبدو مستاءة للغاية من الحاضر ومسنودة بفهم الماضي فهماً براغماتياً. وما يتبين، على نحو جليّ، من رؤيته هذه هو أنه مناهض للكينونة التي تحكم إسرائيل على نفسها البقاء في خضمها والتي يرى أنها تنذر بأوخم العواقب.
في الكتاب السابق أعرب عن اعتقاده بأن المشروع المثالي لحل الصراع المحتدم منذ مئة عام ولحفظ الوجود المنضفر والوثيق الصلة إقليمياً بين اليهود والعرب، يتمثل في قيام دولة ديمقراطية ثنائية القومية تمتد من البحر الأبيض المتوسط وحتى نهر الأردن، لكنه رأى أنه لن يكون من الحكمة بمكان مطالبة الشعب اليهودي- الإسرائيلي، بعد كل هذا الصراع الدامي والطويل، وفي ضوء التراجيديا التي مرّ بها كثيرون من مؤسسيه المهاجرين في القرن العشرين الفائت، أن يتحوّل بين عشية وضحاها إلى أقلية في دولته. لكن "إذا كان من السخف والبلاهة مطالبة اليهود الإسرائيليين بتصفية دولتهم"، على حدّ تعبيره، فإن من الواجب الإصرار على ضرورة أن يكفوا عن الاحتفاظ بها لأنفسهم كدولة منغلقة تمارس الإقصاء والتمييز بحق جزء كبير من مواطنيها الذين ترى فيهم غرباء غير مرغوب فيهم، في إشارة إلى الفلسطينيين في الداخل.
وقد أعاد الكرّة بهذا الشأن تحديداً في هذا الكتاب بلفت انتباه القراء العرب إلى أنه إذا لم تكن إسرائيل وطن يهود العالم رغم الصلة المجرّدة للكثير منهم بها، إلا إنها وطن الإسرائيليين الذين يعيشون فيها. وبرأيه ارتُكبت أخطاء كثيرة جداً عندما تجاهل الزعماء والمثقفون العرب ولفترة طويلة جداً حقيقة جزم بأنها تاريخية مؤداها أن "الاستيطان الصهيوني نجح في أن ينتج في فلسطين شعباً جديداً (الشعب اليهودي- الإسرائيلي) علاقته بالمكان تحمل ملامح قومية ووطنية جلية". وبطبيعة الحال، كان هذا الاستيطان على حساب السكان المحليين، وأدى إلى خراب لم يدفع ثمنه، لكن "الذراري الحاليين لهذا الاستيطان غير قادرين على التخلي عن كل أجزاء الإقليم الذي سيطر عليه آباؤهم بالقوة بل وحتى من خلال العمى الأخلاقي".
*كتاب ثان ضمن ثلاثية يفتح المؤلف من خلالها النار على مجموعة كبيرة من الأساطير الصهيونية الملفقة*
(*) رام الله - صدر حديثًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية - مدار وفي الوقت نفسه عن منشورات المكتبة الأهلية في عمان، كتاب "اختراع أرض إسرائيل"، من تأليف البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، وذلك في ترجمة عربية أنجزها أنطوان شلحت وأسعد الزعبي.
ويؤكد المؤلف في مقدمته الخاصة للطبعة العربية أن الاسم الإقليمي (الجغرافي) "أرض إسرائيل" لم يكن قومياً على الإطلاق لدى ظهوره لأول مرة، ولم يكن من الممكن أن يكون كذلك أيضاً، بل كان مصطلحاً لاهوتياً- دينياً. فلقد اعتبر المكان خلال مئات الأعوام في نظر اليهود والمتهودين نقطة انطلاق لبداية الخلاص الغيبي الذي سيحل على العالم بقدوم المسيح.
وأوضح أيضاً أنه راودته ووجهته عندما ألّف هذا الكتاب ثلاثة أسئلة رئيسة: 1) هل كان المكان دائما وطنا لليهود كما تعلم في صغره في المدارس الإسرائيلية؟؛ 2) إلى أي مدى يعتبر هذا المكان اليوم وطناً للذين يعرفون أنفسهم كيهود في أنحاء العالم؟؛ 3) كيف صارت إسرائيل وطن الإسرائيليين الذين يعيشون فيه؟.
قدّم للكتاب باسم مركز "مدار" الكاتب أنطوان شلحت فأشار إلى أنه الجزء الثاني مما يمكن اعتباره ثلاثية يقدّم من خلالها البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، إعادة نظر جذرية في جملة من المسلمات الصهيونية الصنميّة الكاذبة عبر إخضاعها إلى محاكمة تاريخية متأنية وصارمة ومدروسة.
وكان الجزء الأول منها هو كتاب "اختراع الشعب اليهودي"، وسبق أن صدر بترجمة عربية عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار.
أمّا الجزء الثالث منها فهو كتاب بعنوان "كيف لم أعد يهودياً؟"، وصدر باللغة العبرية العام 2013.
وأضاف شلحت: من نافل القول إن الوقائع التي يوردها ساند، شأنها شأن الاستنتاجات التي يتوصل إليها، توسّع دائرة الضوء كثيراً حول الأراجيف التي لجأت الحركة الصهيونية إليها لتدعيم تلك المسلمات من جهة، ومن جهة أخرى موازية ومكملة لتبرير مشروعها المتعلق باستعمار فلسطين وما ترتب عليه من آثار كارثية مدمرّة بالنسبة إلى سكانها الفلسطينيين الأصلانيين.
ويرى ساند بحق أن هدف الحركة الصهيونية من وراء هذه الأراجيف مجتمعة هو الاستفادة منها في الحد الأقصى ضمن سياق اختلاق قومية جديدة وشحنها بغايات استعمار فلسطين باعتبارها "وطن" أبناء هذه القومية الجديدة منذ أقدم العصور.
وقد تمثل الهدف الأهم من وراء الترويج لتلك الأراجيف في الإقناع بأن هذا "الوطن" (فلسطين) يعود إلى "الشعب اليهودي" وإليه فقط، لا إلى أولئك "القلائل" (الفلسطينيون) الذين أتوا إليه بطريق الصدفة ولا تاريخ قومياً لهم، وفقاً لمزاعم الحركة الصهيونية. وبناء على ذلك فإن حروب ذلك الشعب لاحتلال "الوطن" وبعد ذلك لـ "حمايته" من كيـد الأعداء المتأصل هي حروب عادلة بالمطلق، أمّا مقاومة السكان المحليين الأصلانيين فإنها إجرامية، وتسوّغ ما ارتكب ويُرتكب بحقهم من آثام وشرور مهما تكن فظاعتها.
وتابع: بينما انصب جهد ساند في الجزء الأول على تفكيك الأراجيف المتعلقة بإعادة كتابة الماضي اليهودي، وأساساً من طرف كتّاب أكفاء عكفوا على تجميع شظايا ذاكرة يهودية- مسيانية واستعانوا بخيالهم المجنّح كي يختلقوا، بواسطتها، شجرة أنساب متسلسلة لـ "الشعب اليهودي"، فإن جهده في هذا الجزء الثاني منصب على تفكيك الأراجيف المتعلقة بتأكيد صلة "الشعب اليهودي" بفلسطين التي تم اختراع اسم لها هو "أرض إسرائيل" في سبيل إثبات تلك الصلة، وجرى استخدامه كأداة توجيه ورافعة للتَخيُل الجغرافي للاستيطان الصهيوني منذ أن بدأ قبل أكثر من مئة عام.
وفي سياق ذلك يقوّض الكتاب أسطورة كون "أرض إسرائيل" الوطن التاريخي للشعب اليهودي، ويثبت أن الحركة الصهيونية هي التي سرقت مصطلح "أرض إسرائيل" وهو ديني في جوهره وحولته إلى مصطلح جيو- سياسي، وبموجبه جعلت تلك "الأرض" وطن اليهود في العالم أجمع، وذلك منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وختم شلحت مؤكداً أن المساهمة الأساسية لهذا الكتاب المهم تبقى كامنة، كما أهمية الكتاب السابق، في نبش الماضي وإيضاح صيرورة الحاضر، بواسطة فتح النار على مجموعة كبيرة من الأساطير الصهيونية الملفقة.
تقديم: وقائع اختراع "أرض إسرائيل" / بقلم: انطوان شلحت
هذا الكتاب هو الجزء الثاني مما يمكن اعتباره ثلاثية يقدّم من خلالها البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، إعادة نظر جذرية في جملة من المسلمات الصهيونية الصنميّة الكاذبة عبر إخضاعها إلى محاكمة تاريخية متأنية وصارمة ومدروسة.
وكان الجزء الأول منها هو كتاب "اختراع الشعب اليهودي"، وسبق أن صدر بترجمة عربية عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار. - تم عرضه سابقا -
أمّا الجزء الثالث منها فهو كتاب بعنوان "كيف لم أعد يهودياً؟"، وصدر باللغة العبرية العام 2013. - سيتم عرضه لاحقا -
من نافل القول إن الوقائع التي يوردها ساند، شأنها شأن الاستنتاجات التي يتوصل إليها، توسّع دائرة الضوء كثيراً حول الأراجيف التي لجأت الحركة الصهيونية إليها لتدعيم تلك المسلمات من جهة، ومن جهة أخرى موازية ومكملة لتبرير مشروعها المتعلق باستعمار فلسطين وما ترتب عليه من آثار كارثية مدمرّة بالنسبة إلى سكانها الفلسطينيين الأصلانيين.
ويرى ساند بحق أن هدف الحركة الصهيونية من وراء هذه الأراجيف مجتمعة هو الاستفادة منها في الحد الأقصى ضمن سياق اختلاق قومية جديدة وشحنها بغايات استعمار فلسطين باعتبارها "وطن" أبناء هذه القومية الجديدة منذ أقدم العصور.
وقد تمثل الهدف الأهم من وراء الترويج لتلك الأراجيف في الإقناع بأن هذا "الوطن" (فلسطين) يعود إلى "الشعب اليهودي" وإليه فقط، لا إلى أولئك "القلائل" (الفلسطينيون) الذين أتوا إليه بطريق الصدفة ولا تاريخ قومياً لهم، وفقاً لمزاعم الحركة الصهيونية. وبناء على ذلك فإن حروب ذلك الشعب لاحتلال "الوطن" وبعد ذلك لـ "حمايته" من كيـد الأعداء المتأصل هي حروب عادلة بالمطلق، أمّا مقاومة السكان المحليين الأصلانيين فإنها إجرامية، وتسوّغ ما ارتكب ويُرتكب بحقهم من آثام وشرور مهما تكن فظاعتها.
وبينما انصب جهد ساند في الجزء الأول على تفكيك الأراجيف المتعلقة بإعادة كتابة الماضي اليهودي، من طرف كتّاب أكفاء عكفوا على تجميع شظايا ذاكرة يهودية- مسيانية واستعانوا بخيالهم المجنّح كي يختلقوا، بواسطتها، شجرة أنساب متسلسلة لـ "الشعب اليهودي"، فإن جهده في هذا الجزء الثاني منصب على تفكيك الأراجيف المتعلقة بتأكيد صلة "الشعب اليهودي" بفلسطين التي تم اختراع اسم لها هو "أرض إسرائيل" في سبيل إثبات تلك الصلة، وجرى استخدامه كأداة توجيه ورافعة للتَخيُل الجغرافي للاستيطان الصهيوني منذ أن بدأ قبل أكثر من مئة عام.
وفي سياق ذلك يقوّض الكتاب أسطورة كون "أرض إسرائيل" الوطن التاريخي للشعب اليهودي، ويثبت أن الحركة الصهيونية هي التي سرقت مصطلح "أرض إسرائيل" وهو ديني في جوهره وحولته إلى مصطلح جيو- سياسي، وبموجبه جعلت تلك "الأرض" وطن اليهود، وذلك منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ويلفت من ضمن أمور أخرى إلى أن أتباع الحركة البيوريتانية- وهي الحركة "التطهّرية" التي انبثقت عن البروتستانتية في بريطانيا- وخلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانوا أول من قرأ التناخ (العهد القديم) على أنه كتاب تاريخي، ونظراً إلى كون هؤلاء متعطشين إلى الخلاص فقد ربطوا بين حركتهم ونهضة "شعب إسرائيل" في أرضه. ويشدّد على أن هذه الرابطة لم تنشأ نتيجة قلقهم على اليهود الذين كانوا يعانون الأمرّين، وإنما أساساً بدافع الرؤيا القائلة إنه فقط بعد عودة "بني إسرائيل" إلى صهيون سيحلّ الخلاص المسيحي على البشرية جمعاء، وفي إطار صفقة الرزمة طويلة الأمد هذه من المفترض أن يتنصّر اليهود، وعندها سيحظى العالم برؤية عودة يسوع المتجددة. وفي ضوء ذلك يؤكد المؤلف أن هؤلاء الذين يُطلق عليهم اسم "الصهاينة الجدد"، لا اليهود، هم الذين اخترعوا "أرض إسرائيل" كمصطلح جيو - سياسي معاصر.
ولدى الربط بين هذا الكتاب الجديد والكتاب السابق ينوّه ساند بأنه قرر تأليف "اختراع أرض إسرائيل" عقب الانتقادات التي جرى توجيهها إلى كتاب "اختراع الشعب اليهودي". وفي هذا الإطار يشير إلى أن المؤرخ البريطاني المؤيد للصهيونية سايمون شاما ادعى أن كتابه السابق فشل في محاولة فصم العلاقة بين "أرض الآباء" والتجربة اليهودية، فيما كتب نقاد آخرون أنه كان في نيته تقويض "الحق التاريخي لليهود في وطنهم القديم: أرض إسرائيل". وهو يؤكد أنه فوجئ كثيراً، إذ إنه لم يفكر قطّ أن الكتاب يقوّض هذا الحق لعدم وجود اعتقاد لديه على الإطلاق بأن لليهود حقاً تاريخياً في البلاد. ولم يكن يتصوّر أن يكون هناك في مطلع القرن الحادي والعشرين نقاد يبرّرون إقامة دولة إسرائيل بواسطة ادعاءات على غرار أنها "أرض الآباء" أو من خلال التذرّع بحقوق تاريخية عمرها آلاف الأعوام. وأوضح أنه عندما دافع عن وجود اليهود وحقوقهم هنا كان سبب ذلك يعود إلى ضائقتهم التي تفاقمت بدءا من نهاية القرن التاسع عشر عندما تقيأتهم أوروبا من داخلها، وأغلقت الولايات المتحدة أبوابها أمامهم في مرحلة معينة، لا بسبب توق قومي معتّق أو حق تاريخي.
ويشير إلى أنه بعد الانتقادات التي تعرّض لها الكتاب السابق أدرك أنه يعتوره نقص يجب تلافيه من خلال تأليف كتاب آخر بشأن طبيعة اختراع "أرض إسرائيل" كحيّز إقليمي للشعب اليهودي يتغيّا تحقيق هدفين:
- أولاً، كيف تدحرج هذا الاختراع في الهستوريوغرافيا الصهيونية والممارسات الاستيطانية الصهيونية على مدار الأعوام المئة والعشرين الفائتة؛
- ثانياً، تفنيد الأسطورة القائلة بأن "أرض إسرائيل" كانت دائماً مُلكاً لـ "الشعب اليهودي" بوعد من الله الذي أودع في أيدي رسله كوشاناً هو التناخ قامت الصهيونية رغماً عن كونها حركة علمانية بتأميمه وحولته إلى كتاب تاريخ في كل شيء.
كما يشير إلى أنه عندما كان شابا فإن مصطلح "أرض إسرائيل" شكّل جزءا من قاموسه على الرغم من كونه يسارياً، وكان واثقا من أنه مصطلح تناخي، وفجأة تبين له أنه لا توجد "أرض إسرائيل" في التناخ بعد أن دقق في مكانتها فيه وفي الأدبيات اليهودية القديمة. ويقول إن كلمة "وطن" تظهر تسع عشرة مرة في جميع أسفار التناخ ونصفها في سفر التكوين، لكن هذا المصطلح يتعلق بمسقط الرأس أو المكان الذي يدل على أصل عائلة، لا بإقليم جيو - سياسي مثلما كانت الحال لدى اليونان أو الرومان. وليس هذا وحسب بل أيضاً لم يخرج أبطال التناخ بتاتاً للدفاع عن وطنهم كي يحظوا بالحرية أو بدافع وطنية سياسية. ويشدّد على أن النصوص التناخية تشير إلى أن "الديانة اليهودية"- نسبة إلى يهوه- لم تنم في أرض كنعان وأن نشوء التوحيد حدث خارج "أرض الميعاد".
وفيما يتعلق بنشوء مصطلح "أرض إسرائيل" يقول إن اسم البلاد في التناخ كان كنعان، وفي فترة "الهيكل الثاني" كان المصطلح الشامل هو "أرض يهودا". ومصطلح "أرض إسرائيل" يظهر في الميشناه، لكنه ليس مطابقا لبلاد الوعد الإلهي الذي مُنح إلى إبراهيم. و"أرض إسرائيل" كاسم ورقعة تظهر في التلمود بصيغ يعدّدها في الكتاب، وفي تقديره فإن المصطلح ظهر بعد أن غير الرومان اسم يهودا إلى سورية - بلسطينا، وعندها بدأوا في التشديد على مصطلح "أرض إسرائيل". لكن وفقا للتلمود فإن هذه منطقة تمتد جغرافياً من جنوب عكا إلى شمال عسقلان، ويظهر المصطلح كفريضة، أي أن "أرض إسرائيل" التلمودية ليست مصطلحا جيو - سياسيا، وإنما هي مصطلح ثيوقراطي يتطرّق إلى أرض مقدسة تسري على سكانها فرائض خاصة مرتبطة بالبلاد. ويلفت إلى أن قلائل فقط مستعدون لأن يقرّوا بأن "أرض إسرائيل" في أسفار التناخ لم تشمل القدس والخليل وبيت لحم، وأن التناخ استخدم الاسم الفرعوني للمنطقة وهو "أرض كنعان".
ولدى بحث ساند في أدبيات المكابيين ومخطوطات فيلون الإسكندراني وكتب المؤرخ اليهودي يوسيفوس فيلافيوس التي تجمل معظم فترة "الهيكل الثاني"، لم يتعثر بأي ذكر لمصطلح "أرض إسرائيل" ولو مرة واحدة.
بطبيعة الحال يضيق المجال للإحاطة بكل الوقائع التي يوردها هذا الكتاب فيما يتعلق باختراع "أرض إسرائيل".
ويعيد المؤلف تأكيد الحقيقة بأن اليهود لم يكونوا شعباً مختاراً موزّعاً على وجه البسيطة، بل إن الديانة اليهودية كانت ديناً ديناميكياً جديداً انتشر وحقق رواجاً كبيراً. وجماهير المتهودين وذراريهم كانوا يتطلعون، بشجاعة وقوة نفسية، إلى المكان المقدس الذي كان يفترض أن ينبلج منه الخلاص، ولم يخطر في بالهم جدياً قطّ أن يهاجروا إليه ولم يفعلوا ذلك حقاً. ولم تكن الصهيونية استمراراً لليهودية مطلقاً بل كانت نقضاً لها، ولذا فقد رفضتها هذه الأخيرة رفضاً قطعياً. لكن، على الرغم من كل هذا ثمة منطق تاريخي معيّن استحوذ على الأسطورة وساهم في تحقيقها جزئياً.
إن المساهمة الأساسية لهذا الكتاب المهم كامنة، كما الكتاب السابق، في نبش الماضي وإيضاح صيرورة الحاضر، بواسطة فتح النار على الأساطير الصهيونية الملفقة.
ويخصص المؤلف خاتمة كتابه لإطلاق دعوة من أجل أن تثبت جامعة تل أبيب حيث يعمل عند مدخلها لوحة تذكارية لمهجري الشيخ مونّس، القرية الوادعة التي اختفت كما لو أنها لم تكن، مشيراً إلى أنه يحرص على تعليم طلابه، في مستهل أي مسار تعليمي، أن أي ذاكرة جماعية هي بهذا القدر أو ذاك نتاج هندسة ثقافية تعديلية تخضع، على الدوام تقريباً، لاحتياجات الحاضر ومزاجه السائد، وإلى أن من عادته التأكيد، بوجه خاص، أنه لدى الحديث عن تاريخ الأمم، فليس الماضي هو الذي يخلق الحاضر، بل إن "الحاضر القومي" هو الذي يعجن الماضي ويصوغه لنفسه، بصورة حرة تماماً، بينما يشمل هذا الماضي دائما ثغرات كبيرة جداً من النسيان.
ولا شك في أن ساند يصوغ رؤيا تتعلق بالمستقبل تبدو مستاءة للغاية من الحاضر ومسنودة بفهم الماضي فهماً براغماتياً. وما يتبين، على نحو جليّ، من رؤيته هذه هو أنه مناهض للكينونة التي تحكم إسرائيل على نفسها البقاء في خضمها والتي يرى أنها تنذر بأوخم العواقب.
في الكتاب السابق أعرب عن اعتقاده بأن المشروع المثالي لحل الصراع المحتدم منذ مئة عام ولحفظ الوجود المنضفر والوثيق الصلة إقليمياً بين اليهود والعرب، يتمثل في قيام دولة ديمقراطية ثنائية القومية تمتد من البحر الأبيض المتوسط وحتى نهر الأردن، لكنه رأى أنه لن يكون من الحكمة بمكان مطالبة الشعب اليهودي- الإسرائيلي، بعد كل هذا الصراع الدامي والطويل، وفي ضوء التراجيديا التي مرّ بها كثيرون من مؤسسيه المهاجرين في القرن العشرين الفائت، أن يتحوّل بين عشية وضحاها إلى أقلية في دولته. لكن "إذا كان من السخف والبلاهة مطالبة اليهود الإسرائيليين بتصفية دولتهم"، على حدّ تعبيره، فإن من الواجب الإصرار على ضرورة أن يكفوا عن الاحتفاظ بها لأنفسهم كدولة منغلقة تمارس الإقصاء والتمييز بحق جزء كبير من مواطنيها الذين ترى فيهم غرباء غير مرغوب فيهم، في إشارة إلى الفلسطينيين في الداخل.
وقد أعاد الكرّة بهذا الشأن تحديداً في هذا الكتاب بلفت انتباه القراء العرب إلى أنه إذا لم تكن إسرائيل وطن يهود العالم رغم الصلة المجرّدة للكثير منهم بها، إلا إنها وطن الإسرائيليين الذين يعيشون فيها. وبرأيه ارتُكبت أخطاء كثيرة جداً عندما تجاهل الزعماء والمثقفون العرب ولفترة طويلة جداً حقيقة جزم بأنها تاريخية مؤداها أن "الاستيطان الصهيوني نجح في أن ينتج في فلسطين شعباً جديداً (الشعب اليهودي- الإسرائيلي) علاقته بالمكان تحمل ملامح قومية ووطنية جلية". وبطبيعة الحال، كان هذا الاستيطان على حساب السكان المحليين، وأدى إلى خراب لم يدفع ثمنه، لكن "الذراري الحاليين لهذا الاستيطان غير قادرين على التخلي عن كل أجزاء الإقليم الذي سيطر عليه آباؤهم بالقوة بل وحتى من خلال العمى الأخلاقي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق