نتابع: الأزمة البنيوية في الفكر الصهيوني العنصري -7-
بداية سقوط المشروع الصهيوني
إن سقوط معادلة "قوّة الظالم؛ وضعف المظلوم" يعني ببساطة سقوط المشروع الذي قام عليها أساساً. وقد ترافق سقوط أسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر مع تفاقم أزمة النظام الرأسمالي العالمي، الحليف العضويّ والحيويّ للمشروع الصهيوني، بما يؤثّر سلباً على قدرة قوى الاستكبار على مساعدة الكيان وإنقاذه من أزمته البنيوية العميقة.
وكما ساهم انتصار وتقدّم المشروع الاستعماري لقوى الاستكبار، في انتصار وتقدّم الكيان الصهيوني؛ فإن أزمة ذلك المشروع تعني بالضرورة تفاقم أزمة الكيان، الذي تأسس فوق أرض فلسطين كقاعدةٍ متقدّمة، لها دورٌ وظيفي محدّد ومعروف!
لقد اعتقد العديد من المفكّرين وأصحاب الرأي بأن انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية سيؤدّي إلى نهاية التاريخ والى الانتصار النهائي للنظام الرأسمالي العالمي. وتالياً، لا خيار أما العرب والمسلمين إلاّ الإعتراف النهائي بالكيان الصهيوني. ولم يلتفت هؤلاء إلى تأثير انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وبداية انطلاق مارد الإسلام الثوري؛ وما لذلك من أثرٍ سلبيٍ هائلٍ على الإمبريالية وحليفتها الصهيونية. كذلك لم يلتفت البعض إلى عمق تناقضات وإشكالات النظام الرأسمالي؛ خاصّة بعد أن تحوّلت قاطرة هذا النظام "الولايات المتحدة "، إلى إمبراطوريةٍ طفيليةٍ لا تستطيع الاستمرار في وضعها الاستهلاكي المترف إلاّ عبر زيادة الضغوط على الشعوب، والاستمرار في نهب ثرواتها وإفقار أبنائها؛ فنصّبت نفسها كـ "شرطي أزعر" يريد أن يتحكّم بالعالم عبر القوّة العارية. فهي تُدين وتُحاصر وتُهاجم دولاً وشعوباً، وتَفرض الأتاوات على دولٍ وشعوبٍ أخرى، لتسدّد العجز الماليّ الهائل في موازنتها. هذا الواقع المُرّ، وضع الشعوب المستضعفة أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إمّا الخضوع المطلق لمشيئة الولايات المتحدة؛ وإمّا المقاومة. صحيحٌ أن هناك من اختار الخضوع للولايات المتحدة وجبروتها. ولكن هناك أيضاً من اختار المقاومة؛ ونحن نشهد اليوم اتساعاً متزايداً لمساحات فعل المقاومة وحالات الممانعة في جهات الأرض الأربع، وصولاً لما كان يُطلق عليه الحديقة الخلفية للولايات المتحدة (أمريكا الجنوبية والوسطى). وهذا يؤشّر إلى انفتاح الآفاق الواسعة أمام تعديل الخلل الفادح في موازين القوى لصالح الشعوب المستضعفة، وإلى إحكام الخناق على الاستكبار العالمي وربيبته الحركة الصهيونية. وقد كان لهذه التطوّرات الأثر الكبير على القوى التي تواجه المشروع العنصري فوق أرض فلسطين ومحيطها المباشر، وخاصّة في لبنان. فتطوّرت هذه القوى على كلّ المستويات، وتجذّرت وأنجزت الكثير في مواجهة المشروع الصهيوني.
هذا الواقع المستجدّ، وضع مجمل الأساطير المؤسسة للمشروع الصهيوني في مهبّ الرّيح؛ كما دخلت ركائزه الفكرية العنصرية في خضمّ أزمةٍ بنيويةٍ شاملة.
فالكيان الصهيوني لم يعد قادراً على الحفاظ على تفوّقه النوعي، وبدأ يعيش في قلب الأزمة البنيوية التي تلفّ النظام الاستكباري برمّته. فلم يعُد الإستكبار قادراً على تقديم الدعم والحماية الكاملة للكيان الصهيوني، ولا الكيان بات قادراً على القيام بدوره الوظيفي في إخضاع الشعوب العربية والإسلامية لمشيئته ورغباته وأطماعه.
هذه التطوّرات والتفاعلات دفعت بالكثير من الخبراء وأصحاب الرأي للاستنتاج بأفول نجم المشروع الصهيوني وقُرب نهاية الكيان. يقول المؤرّخ والخبير في شؤون الأمن القومي الصهيوني د.تشيلو روزنبرغ: "يظهر أن إحدى أهمّ أساطير دولة إسرائيل قد بلغت الآن مرحلة أزمة. والدولة -حسب رأيه- التي لا تحيا على أساطير مؤسسة ليس في وسعها الاستمرار في الوجود".
إن سقوط أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، أدّى إلى انكشاف كذب وخداع بقيّة الأساطير المؤسسة للكيان. وقد تجلّى هذا في: - تفاقم أزمة الهوية داخل الكيان - إنكشاف عنصرية المشروع الصهيوني - تفاقم عزلة الكيان وطرح شرعيّة وجوده على المستوى الدولي - سقوط أوهام التسوية العادلة مع الكيان الصهيوني.
كيف تعمل الحركة الصهيونية لتجاوز أزمتها وإنقاذ الكيان الصهيوني؟
تطوّرات الصراع في المنطقة، وتنامي دور قوى المقاومــة، وانكشـاف الوجـه
العنصري للصهيونية، وسقوط أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، كلّها عوامل وضعت الكيان الصهيوني في مأزقٍ إستراتيجيٍ بنيوي، بعد أن أضحى عاجزاً عن الحرب، وغير قادرٍ على السلام. والحركة الصهيونية التي تتأثّر، كإطارٍ وكدور، بكلّ ما يحدث في الكيان، تفاعلت بشكلٍ سريعٍ مع أوضاعه المستجدّة.
لكنّ جلّ الصهاينة داخل فلسطين المحتلة يعتقدون أن بالإمكان التغلّب على بعض مظاهر الأزمة عبر بعض الإجراءات التقنية؛ وهذا ما أشار إليه مركز "ريئوت " للأبحاث الذي أوصي وفق التقريرالذي نشرته (أ.ف.ب) وأوردناه سابقاً بـ"استخدام السفارات في الخارج لإيجاد شبكاتٍ تضمّ أناساً قادرين على الردّ على الهجمات، حيث تتركّز الأوساط الأكثر معاداة لإسرائيل، وخصوصاً في مدريد وتورنتو وسان فرانسيسكو وجامعة بيركلي (كاليفورنيا)".
كما يدعو "إلى دراسة الوسائل التي تستخدمها هذه الأوساط، وإلى التعاون مع المنظّمات أو الأفراد الذين يوجّهون انتقاداً مشروعاً ضدّ إسرائيل، بدلاً من تجاهلهم أو استبعادهم"! ورداً على سؤالٍ للإذاعة الإسرائيلية بشأن التقرير، إعتبر رئيس الوكالة اليهودية المكلّفة شؤون هجرة يهود الشتات إلى الكيان، ناتان شارانسكي أن "معاداة السامية في القرن الحادي والعشرين هي معاداة الصهيونية". وأضاف:"إن إسرائيل تواجه حملة عالمية ترمي إلى نزع الشرعية عنها. إنها حربٌ حقيقيةٌ تهدّد مصالحنا الاستراتيجية،؛ وينبغي الردّ على كلّ ضربةٍ بضربة".
لكنّ أوساط الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة وأوروبا تشهد تفاعلاتٍ حادّة ورؤىً متمايزة لكيفية الخروج من هذه الأزمة.
وقد عبّر الكاتب الأميركي الصهيوني "لينارد فين" مؤسّس مجلّة "اللحظة"، عن هذا التفاعل في مقالٍ بعنوان:"هناك شبحٌ يخيّم على إسرائيل إسمه غولدستون"، حيث يقول: "لستُ متأكّداً ممّا يعنيه سحب الشرعية عن إسرائيل. هل يعني ذلك أن منتقدي إسرائيل يسعون لإزالة الدولة اليهودية؟ ببساطة، هناك من يفعلون ذلك. إلاّ أن الغالبيّة الكبرى من هؤلاء الذين ينتقدون إسرائيل بشكلٍ متزايد (وهنا أفكّر بالذات بالاتحاد الأوروبي) لا يحلمون حتّى بإنهاء الدولة اليهودية. الواقع هو العكس تماماً. فهم ينادون، وبشكلٍ أكثر إلحاحاً، بتطبيق حلّ الدولتين. والواقع أن حلّ الدولتين هو الأسلوب الوحيد لضمان بقاء الدولة اليهودية"...فكرة حلّ الدولتين لا تطرح أيّ تساؤلٍ حول شرعية إسرائيل كدولةٍ يهودية. بالعكس تماماً؛ فأيّ إنسان ينادي بحلّ الدولتين بشكلٍ ضمنيٍ إنما يعترف ويقبل بشرعية الدولية اليهودية وقابليّتها للبقاء.
هؤلاء الذين يثرثرون حول حلّ الدولة الواحدة هم الذين يرفضون شرعية إسرائيل. أتباع حلّ الدولة الواحدة هم اليوم في تصاعد. هناك هؤلاء الذين يقولون أننا قد تعدّينا نقطة اللارجوع، وبأن حلّ الدولتين لم يعد ممكناً. ويقول آخرون أن منتصف الليل، رغم اقترابه، ما زال يمكن تجنّبه...وهذا لا يعني أن حلّ الدولتين يوفّر حلاً خالياً من المشاكل للنزاع. كلّ ما نعرفه بالتأكيد أنه في غياب حلّ الدولتين، سوف تنتهي الدولة اليهودية؛ بينما ستكون هناك، مع حلّ الدولتين، مشاكل جديدة معقّدة، واحتمالات تهديداتٍ جديدةٍ وخطيرة. ليس من الصّعب اختيار ناحيةٍ سلبيةٍ لوضعٍ يتّجه إلى الكارثة بشكلٍ مؤكّد. نحن لا نملك الشجاعة لدمج الانتقاد، بل وعدم الصبر مع سحب الشرعية. من هناك؟ صديقٌ أم عدوّ؟ إذا كنتَ مع حلّ الدولتين، وبالتالي قبول الدولة اليهودية، فأنت صديقي*.
ومؤخّراً، تشكّلت في الولايات المتحدة منظمة " J. Street"، كمنظمةٍ يهوديةٍ ناشئة، تمثّل ما سمّي "صوت الإعتدال اليهودي في الولايات المتحدة "؛ وهي تعارض سياسة حكومة نتنياهو المدعومة من منظمة "إيباك" المتشدّدة. كذلك تشكّلت في فرنسا منظمة "J.Call"، وهي هيئة يهودية أوروبية ضاغطة انطلقت من "نداء يهودي أوروبي من أجل العقل" ومن عريضةٍ أطلِقت على شبكة الإنترنت، وأعلِن عن تشكيلها رسمياً في بروكسل في الثالث من أيار/مايو الماضي. وقد أعلن مسؤولو تلك المنظمات أن تشكيلاتهم تطمح للعب دورٍ في الدفاع عن "إسرائيل" التي يشعرون أن وجودها في "خطر". مصدره ليس فقط "أعداء الخارج"، بل "الاحتلال الإسرائيلي والاستمرار غير المنقطع للاستيطان في الضفة الغربية والأحياء العربية في القدس الشرقية"؛ وهم يرون ذلك بمثابة "خطأ سياسي"، لا بل "غلطة أخلاقية"؛ فضلاً عن أنه يعزّز مسعى نزع الشرعية عن دولة "إسرائيل". ويؤكّد هؤلاء أن مستقبل إسرائيل "يمرّ بالضرورة في إقامة دولة فلسطينية" كترجمةٍ لمبدأ "شعبان ودولتان". وإلاّ، فإن أمام إسرائيل أحد خيارين: إمّا أن يتحوّل اليهود إلى أقلّيةٍ في بلدهم، أو أن "يقوم نظامٌ مخزٍ يُفضي إلى حربٍ أهلية".
وتدعو تلك المنظمات الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي إلى "ممارسة الضغوط" على الطرفين، والدّفع باتجاه حلٍ سريع، مع التذكير بـ"مسؤوليات الولايات المتحدة وأوروبا" في هذه المنطقة الحسّاسة من العالم.
وقد جاء هذا الحراك اليهودي متوائماً مع حراك الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس أوباما، والتي ترى بأن المسألة الفلسطينية تشكّل أهمّ العناصر المؤثّرة في الشرق الأوسط، وأن حلّها يساعد كثيراً المشاريع الأمريكية؛ كما جاء على لسان رئيس الأركان الأمريكي السابق مايكل مولن حين قال: "تسوية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي تشكّل مصلحة أمريكية... خصوصاًً للجيش الأمريكي العامل في العراق وأفغانستان".
مضافاً إليه تأكيدٌ لخليفته ديفيد باتريوس في حديثٍ له أمام الكونغرس، من خلال صرخته المدوّية "إسرائيل أصبحت عبءً على الولايات المتحدة"
هذا التحوّل دفع بالكاتب توماس فريدمان، الكاتب اليهودي المعروف، إلى نصح (إسرائيل) بعدم إغلاق الباب أمام أيّ حراكٍ أمريكيٍ جادٍ نحو السلام، يؤمن به الجيش الأميركي ووكالة الإستخبارات الأمريكية، لقناعةٍ مفادها بأن الصراع الفلسطيني الصهيوني صار مشكلة الشرق في وجه أمريكا.
إذاً؛ المطروح حالياً على الكيان الصهيوني ليخرج من أزمته هو "تسوية تقوم على حلّ الدولتين"، تمكّن الولايات المتحدة من صياغة تحالفاتٍ تابعة، يكون بعض النظام العربي جزءً منها إلى جانب الكيان، لمواجهة الأخطار المحدِقة بالمصالح الأمريكية، كما بالمشروع الصهيوني، والمتمثّلة اليوم ب: إيران، سوريا، حزب الله، فلسطينيّي48، وفصائل المقاومة الفلسطينية.
لكن، هذه التسوية المطروحة منذ زمن، والتي عجزت عن تحقيقها الحكومات الصهيونية التي قيل عن بعضها بأنها حكومات "يسار وإعتدال"، هل يمكن أن يحقّقها الكيان بعد أن باتت بُنيته السياسية والاجتماعية اليوم أكثر تطرّفاً وعنصرية.
إن أيّة تسوية تظلّ محكومة بموازين القوى الموضوعية وبتوازن القوى داخل أطراف الأزمة التي يراد إشراكها في حلّها.
فمقابل من يدعو لتسويةٍ تستفيد من حال الهوان والتخاذل الرسمي العربي والفلسطيني، هناك من يرى ضرورة الاستفادة من حال الضعف والهوان العربي والفلسطيني لمواصلة الاستيطان وإكمال تهويد القدس، وإعاقة عملية التسوية، والتحريض على شنّ الحرب ضدّ إيران، والعمل من أجل استكمال إقامة دولةٍ يهودية، عنصرية، واستعمارية في فلسطين.
إن أقصى ما يمكن أن يُقدِم عليه الكيان في ظلّ التوازنات الراهنة هو اللجوء إلى التكتيك المعروف: "خطوةٌ إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام". فهو نفّذ خطّة "فكّ الارتباط" مع قطاع غزة، والذي تحوّل إلى أكبر سجنٍ مفتوح في العالم، يتحكّم العدوّ بحدوده البرّية والبحرية والجوّية وبمصادر المياه والطاقة فيه، وذلك بهدف التخلّص من خزّان المقاومة في القطاع والاستفراد بالقدس والضفة الغربية بما تمثّلانه على صعيد الميثيالوجيا اليهودية؛ ومن ثمّ كانت الخطوات المتسارعة لتهويد القدس وجدار العزل والضمّ في الضفة الغربية، الأمر الذي مكّن الكيان من سرقة أحواضها المائية والسيطرة على سلّتها الغذائية، وتقطيع أوصالها وتحويلها إلى معازل مطوّقةٍ من كافّة الجهات.
ولكن، ماذا يريد الصهاينة اليوم بالضبط، وما هو حجم الخطوة إلى "الوراء" التي بدؤوا بها ؟ كلّ الوقائع على الأرض، وما يمكن الاستدلال عليه من خلال ما يُنشر من وثائق لمؤتمراتٍ صهيونيةٍ أو مراكز أبحاث وصناعة فكر، تؤشّر إلى أن الحكومة الصهيونية، وبالتنسيق مع الإدارة الأمريكية، تدفع باتجاه الإعلان عن "دولة فلسطينية" في مدن وبلدات الضفة الغربية المحاصرة بجدار العزل والضمّ من جهة الغرب، وبسلسلة مستعمرات "غور الأردن" من جهة الشرق، مع فصل شمالها عن جنوبها بفعل مستعمرة معاليه أدوميم الموسّعة، وتقطيع أوصالها بفعل شبكة الطرق الطولية والعرضية المقامة في قلبها (الضفة الغربية). وقبل كلّ ذلك، عزل الضفة عن القدس؛ على أن ينضمّ إليها "قطاع غزة" إسمياً، مع "معالجة" وضعه بالتعاون مع النظام المصري!
أمّا القضايا الأساسية، فتحلّ عبر صيغةٍ مبتكرةٍ تتمثّل في الإتفاق على إطارٍ ما لحلّها، ينفّذ بالتدريج وعلى مراحل. وهذا يعني أن تأجيل المفاوضات حول تلك القضايا الرئيسية (الوضع النهائي) يعني حصرها فيما سيتمّ من مفاوضاتٍ مستقبلاً بين "دولتين"، على توسيع صلاحيات "الدولة الوليدة". والتقدّم في هذا الملفّ سيصبح رهناً بقدرة رئاسة "الدولة" الفلسطينية وحكومتها وأجهزتها على تصريف شؤون الدولة، وعلى ضمان أمن الدولة "الجارة"!
وهذا كلّه ليس معناه في قلب الشاعر، بل في ما يصرّح به القادة الصهاينة والمسؤولون الأمريكيون جهاراً نهاراً، حول وقف مقاومة الشعب الفلسطيني، وإنهاء مرحلة التحرّر الوطني، مع التفرّغ لتحسين شؤون سكّان "الدولة الفلسطينية العتيدة"، الأمر الذي يعني سقوط القضية الجوهرية التي من أجلها انطلقت حركة التحرّر الوطني الفلسطيني المعاصرة؛ أي قضية العودة الشاملة للمقتلعين الفلسطينيين، والتي على حلّها يتوقّف الحكم على محمود عبّاس "أبو مازن"؛ يقول ناتان شارانسكي في ردّه على سؤالٍ لمجلّة "نيوزويك" بتاريخ 18/1/2005 حول انتخاب "أبو مازن" رئيساً للسلطة الفلسطينية:
"إن هذه الانتخابات هي حدثٌ معزول، ولا علاقة لها بالديموقراطية، وتعتمد على ما سيحدث بعد الانتخابات... أريد أن أرى ما سيقوم به أبو مازن في قضية اللاجئين. حين يقوم ببناء مساكن جديدةٍ لهم... إذا ما نُقِل اللاجئون في خان يونس للعيش في غوش قطيف (مستعمرة في غزة تمّ إخلاؤها)، فإنهم سينسون المفاتيح التي ما زالوا يحملونها لمنازلهم في منطقة 1948... إذا قاموا بذلك، فعلينا أن ندعمهم بخطّة مارشال جديدة وكل شيءٍ آخر. وخلال سنتين أو ثلاث سنوات، سيتغير كلّ شيء".
أما القضية المفصليّة الأخرى بالنسبة للكيان الصهيوني، وهي القضية الأمنية، فقد عُقِدت من أجلها الكثير من المؤتمرات وحلقات البحث. والسيناريو المرجّح هو الاستعانة بقوّاتٍ غربيّة لتطبيق أيّ اتفاقٍ محتملٍ مع السلطة. في حزيران عام 2003، كتب "مارتن إنديك" مقالاً في مجلة "Foreign Affairs" الصّادرة عن مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة، تحدّث فيه عن ضرورة فرض وصايةٍ دوليةٍ على الفلسطينيين بقيادة الولايات المتحدة، مع إشراك كلٍ من بريطانيا وأستراليا وكندا.
وفي 16 تموز 2003، عقِدت ندوة في مركز سابان -معهد بروكنغز، أكّدت على ذات الفكرة، كمخرجٍ يؤدّي إلى ضبط المقاومة الفلسطينية وحماية أمن الكيان الصهيوني!
وهنا السؤال الكبير: على ماذا تراهن الدوائر الصهيونية والأمريكية، كي تنجح في أن تفرض على الشعب الفلسطيني هذه التسوية/التصفية (المفترضة)؟
قبل النتائج الكارثيّة التي ترتّبت على هزيمة الجيش الصهيوني خلال عدواني تمّوز 2006 على لبنان و2008/2009 على غزة، كانت مراهنة تلك الدوائر تنطلق من الرّؤية التي عبّر عنها قادة الكيان في خطبهم ومحاضراتهم التي قدّموها خلال مؤتمر هرتزيليا الرابع الذي انعقد في منتصف كانون الأوّل 2004، حيث "كانت رسائل كلّ الخطباء، متشابهة: إسرائيل قويّة، الفلسطينيون أيتام، السوريون معزولون، والعالم معنا".
أمّا اليوم، فأعداؤنا يراهنون على العرب والفلسطينيين خصوصاً، المهزومين في أعماقهم، والذين تعميهم عصبيّاتهم الجاهلية الإثنية، وأُطرهم الطائفية والمذهبية، عن رؤية ترابط قضايا العرب والمسلمين، والإنطلاق من حقيقة كون فلسطين هي القضية المركزية للعرب والمسلمين الصادقين المخلِصين. فلا مستقبل لفلسطين بدون عمقها ومحيطها العربي والإسلامي؛ كما لا مستقبل لنا ولمستضعفي الأرض بدون هزيمة المشروع الصهيوني العنصري فوق أرض فلسطين.
إن تحويل القضية الفلسطينية إلى مجرّد قضيةٍ حياتية-اجتماعية لأناسٍ مظلومين، وتقزيم الصراع مع المشروع الصهيوني باعتباره مجرّد مسألةٍ أمنيةٍ يمكن حلّها بالأساليب الفنية، لا يمكن أن يشكّل (مهما تعاظمت الضغوط وتعدّدت أشكالها) أكثر من مسكّنٍ قد يحقّق الاستقرار النسبي لفترةٍ محدّدةٍ من الزمن، لا يلبث أن يزول مفعوله لتتفجّر الأمور مجدّداً، وبشكلٍ أكثر عنفاً.
وهذا ليس لأن الفلسطينيين، كما العرب والمسلمين، يرفضون السلام. فالعكس تماماً هو الصحيح. ولكن، لأن جلّ ما قدّمه قادة المشروع الصهيوني من "تنازلاتٍ" للفلسطينيين لم يتجاوز حتى اللحظة، ما تحدّث عنه ديفيد بن غوريون في جلسة كتلة (المباي) في الكنيست بتاريخ 15 كانون الثاني (يناير) 1951، حول حقوقٍ "لغير اليهود (الفلسطينيين)، لا تعدو حقوق أقلّيةٍ تعيش في أرض "إسرائيل"، وليست حقوقاً على أرض "إسرائيل"
ويردّد القادة الصهاينة اليوم في تصريحاتٍ متواترة: "إن خيار التفاوض مع "إسرائيل" هو الخيار الوحيد، وأنه ليس أمام الفلسطينيين إلاّ التخلّي عن كلّ طموحاتهم، وطرْق باب السلام مع "إسرائيل"، "الدولة الأقوى في الشرق الأوسط"..!
وهنا أتذكّر ما كان يردّده العالم الموسوعي، المرحوم عبد الوهاب المسيري: "إن أهمّ ما يميّز دولة إسرائيل هو اعتمادها المطلق على عاملين خارجيّين: دعم الغرب وضعف العرب. إن مشكلة إسرائيل الحقيقية هي تصديقها لأوهام بقاء الدّعم الغربي ودوام الضعف العربي. وهي عوامل لسوء حظّ إسرائيل مؤقّتة من الناحية التاريخية؛ ولا يوجد أيّ أساسٍ علمي أو تاريخيٍ يسند عكس هذا الواقع".
خلاصة
إن استمرار المراهنات العربية والفلسطينية على إمكانيّة تحقيق "تسوية" نهائية مع الكيان الصهيوني، تعطي الشعب الفلسطيني الحدّ الأدنى المتّفق عليه (دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967، عاصمتها القدس الشرقية، وضمان حقّ عودة اللاجئين) لا يعدو أكثر من تعميةٍ مقصودةٍ على البصائر والأبصار.
فقوى الاستكبار والاحتلال لا تفهم إلاّ لغة القوّة؛ وهي لا تتراجع إلاّ تحت ضربات مقاومة الشعوب والكلفة الباهظة، في جنودها وفي ميزانيّاتها العسكرية.
يقول المفكّر وعالم الاجتماع السياسي الأمريكي "كارل دويتش":
"إن التحوّل الداخلي للقوى الإمبريالية يمكن أن يحدث بسبب زيادة التكلفة... ويضرب مثلاً حرب التحرير الجزائرية، حيث يصف كيف حدث تحوّلٌ داخليٌ في فرنسا بحلول مؤسسات ونخب الجمهورية الخامسة، وبوجهٍ خاصٍ الرئيس ديغول وحزبه، محلّ مؤسسات الجمهورية الرابعة ونخبها...".
وعليه، فإن مفتاح التسوية أو الحلّ واضح... لكي نصل إلى هكذا تسويةٍ أو حلٍ لقضية فلسطين، لا بدّ وأن يحدث تحوّلٌ داخليٌ في طرفي الصراع. وإذا لم يحدث هذا التحوّل اختياراً، فإن حدوثه ممكنٌ على سبيل الإجبار؛ وذلك بزيادة تكلفة الاحتلال حتى تصل إلى الحدّ الذي يُفرض فيه التحوّل فرضاً على هذه السياسات. ومفتاح زيادة التكلفة هو المقاومة... و"إسرائيل" لم تقدّم يوماً تنازلاً واحداً إلاّ بعد إعمالٍ للقوّة ضدّها... "فقط، فقدان أرواحٍ يهوديةٍ عديدةٍ في حرب... يجعل تصوّر تراجع "إسرائيلي" ممكناً، لأنه يبرّر اعتماد قُدسية الحياة اليهودية واعتبار المحافظة عليها أهمّ من أيّ اعتبارٍ آخر" .
ومن القضايا التي تؤكّد إستمرار صلف وعنجهيّة القادة الصهاينة، الإصرار على فرض القبول الفلسطيني الرسمي بكيانهم ك"دولة يهودية"، الأمر الذي يلغي حقّ عودة اللاجئين، ويمسّ بشكلٍ خطيرٍ بمستقبل فلسطينيّي 48. فهذا التسليم الفلسطيني (إن حصل) يضعهم أمام عمليةٍ دائمةٍ من الإقصاء والتهميش، بانتظار الفرصة السانحة لاقتلاعهم من ديارهم.
وهذا بدوره يؤدّي إلى الانكشاف النهائي للكيان الصهيوني ككيانٍ عنصريٍ مغلق "الغيتو/القلعة"، ليصل مأزقه إلى ذروته، بحيث نصبح أمام كيانٍ متصادمٍ مباشرة مع كلّ الشرائع السماوية والقِيم الإنسانية. الأمر الذي يؤشّر إلى أننا سنكون أمام نسخةٍ معدّلةٍ من تجربة سقوط نظام الأبارتهايد البائد في جنوب أفريقيا. وكلّما كانت القوى والجهات العاملة من أجل فلسطين قادرة على صياغة وطرح حلٍ إنسانيٍ للصراع القائم فوق أرض فلسطين، في مواجهة المشروع العنصري الصهيوني، كلما قلّلت من زمن مسيرة العذاب الفلسطيني، وسرّعت في انهيار المشروع العنصري الصهيوني. ولا أدري أين الحكمة في تردّدنا حيال التبنّي الصريح والواضح لمشروع "دولة فلسطين الواحدة "كدولةٍ ديمقراطيةٍ تعدّديةٍ لكلّ أبنائها، يعيش فيها المسلم والمسيحي واليهودي جنباً إلى جنب، كما كان الحال قبل أن تحلّ مصيبة الصهيونية على أرض فلسطين المقدّسة.
والسلام عليكم
وليد محمّد علي/ المدير العام لمركز باحث للدراسات الفلسطينية والإستراتيجية
بداية سقوط المشروع الصهيوني
إن سقوط معادلة "قوّة الظالم؛ وضعف المظلوم" يعني ببساطة سقوط المشروع الذي قام عليها أساساً. وقد ترافق سقوط أسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر مع تفاقم أزمة النظام الرأسمالي العالمي، الحليف العضويّ والحيويّ للمشروع الصهيوني، بما يؤثّر سلباً على قدرة قوى الاستكبار على مساعدة الكيان وإنقاذه من أزمته البنيوية العميقة.
وكما ساهم انتصار وتقدّم المشروع الاستعماري لقوى الاستكبار، في انتصار وتقدّم الكيان الصهيوني؛ فإن أزمة ذلك المشروع تعني بالضرورة تفاقم أزمة الكيان، الذي تأسس فوق أرض فلسطين كقاعدةٍ متقدّمة، لها دورٌ وظيفي محدّد ومعروف!
لقد اعتقد العديد من المفكّرين وأصحاب الرأي بأن انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية سيؤدّي إلى نهاية التاريخ والى الانتصار النهائي للنظام الرأسمالي العالمي. وتالياً، لا خيار أما العرب والمسلمين إلاّ الإعتراف النهائي بالكيان الصهيوني. ولم يلتفت هؤلاء إلى تأثير انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وبداية انطلاق مارد الإسلام الثوري؛ وما لذلك من أثرٍ سلبيٍ هائلٍ على الإمبريالية وحليفتها الصهيونية. كذلك لم يلتفت البعض إلى عمق تناقضات وإشكالات النظام الرأسمالي؛ خاصّة بعد أن تحوّلت قاطرة هذا النظام "الولايات المتحدة "، إلى إمبراطوريةٍ طفيليةٍ لا تستطيع الاستمرار في وضعها الاستهلاكي المترف إلاّ عبر زيادة الضغوط على الشعوب، والاستمرار في نهب ثرواتها وإفقار أبنائها؛ فنصّبت نفسها كـ "شرطي أزعر" يريد أن يتحكّم بالعالم عبر القوّة العارية. فهي تُدين وتُحاصر وتُهاجم دولاً وشعوباً، وتَفرض الأتاوات على دولٍ وشعوبٍ أخرى، لتسدّد العجز الماليّ الهائل في موازنتها. هذا الواقع المُرّ، وضع الشعوب المستضعفة أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إمّا الخضوع المطلق لمشيئة الولايات المتحدة؛ وإمّا المقاومة. صحيحٌ أن هناك من اختار الخضوع للولايات المتحدة وجبروتها. ولكن هناك أيضاً من اختار المقاومة؛ ونحن نشهد اليوم اتساعاً متزايداً لمساحات فعل المقاومة وحالات الممانعة في جهات الأرض الأربع، وصولاً لما كان يُطلق عليه الحديقة الخلفية للولايات المتحدة (أمريكا الجنوبية والوسطى). وهذا يؤشّر إلى انفتاح الآفاق الواسعة أمام تعديل الخلل الفادح في موازين القوى لصالح الشعوب المستضعفة، وإلى إحكام الخناق على الاستكبار العالمي وربيبته الحركة الصهيونية. وقد كان لهذه التطوّرات الأثر الكبير على القوى التي تواجه المشروع العنصري فوق أرض فلسطين ومحيطها المباشر، وخاصّة في لبنان. فتطوّرت هذه القوى على كلّ المستويات، وتجذّرت وأنجزت الكثير في مواجهة المشروع الصهيوني.
هذا الواقع المستجدّ، وضع مجمل الأساطير المؤسسة للمشروع الصهيوني في مهبّ الرّيح؛ كما دخلت ركائزه الفكرية العنصرية في خضمّ أزمةٍ بنيويةٍ شاملة.
فالكيان الصهيوني لم يعد قادراً على الحفاظ على تفوّقه النوعي، وبدأ يعيش في قلب الأزمة البنيوية التي تلفّ النظام الاستكباري برمّته. فلم يعُد الإستكبار قادراً على تقديم الدعم والحماية الكاملة للكيان الصهيوني، ولا الكيان بات قادراً على القيام بدوره الوظيفي في إخضاع الشعوب العربية والإسلامية لمشيئته ورغباته وأطماعه.
هذه التطوّرات والتفاعلات دفعت بالكثير من الخبراء وأصحاب الرأي للاستنتاج بأفول نجم المشروع الصهيوني وقُرب نهاية الكيان. يقول المؤرّخ والخبير في شؤون الأمن القومي الصهيوني د.تشيلو روزنبرغ: "يظهر أن إحدى أهمّ أساطير دولة إسرائيل قد بلغت الآن مرحلة أزمة. والدولة -حسب رأيه- التي لا تحيا على أساطير مؤسسة ليس في وسعها الاستمرار في الوجود".
إن سقوط أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، أدّى إلى انكشاف كذب وخداع بقيّة الأساطير المؤسسة للكيان. وقد تجلّى هذا في: - تفاقم أزمة الهوية داخل الكيان - إنكشاف عنصرية المشروع الصهيوني - تفاقم عزلة الكيان وطرح شرعيّة وجوده على المستوى الدولي - سقوط أوهام التسوية العادلة مع الكيان الصهيوني.
كيف تعمل الحركة الصهيونية لتجاوز أزمتها وإنقاذ الكيان الصهيوني؟
تطوّرات الصراع في المنطقة، وتنامي دور قوى المقاومــة، وانكشـاف الوجـه
العنصري للصهيونية، وسقوط أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، كلّها عوامل وضعت الكيان الصهيوني في مأزقٍ إستراتيجيٍ بنيوي، بعد أن أضحى عاجزاً عن الحرب، وغير قادرٍ على السلام. والحركة الصهيونية التي تتأثّر، كإطارٍ وكدور، بكلّ ما يحدث في الكيان، تفاعلت بشكلٍ سريعٍ مع أوضاعه المستجدّة.
لكنّ جلّ الصهاينة داخل فلسطين المحتلة يعتقدون أن بالإمكان التغلّب على بعض مظاهر الأزمة عبر بعض الإجراءات التقنية؛ وهذا ما أشار إليه مركز "ريئوت " للأبحاث الذي أوصي وفق التقريرالذي نشرته (أ.ف.ب) وأوردناه سابقاً بـ"استخدام السفارات في الخارج لإيجاد شبكاتٍ تضمّ أناساً قادرين على الردّ على الهجمات، حيث تتركّز الأوساط الأكثر معاداة لإسرائيل، وخصوصاً في مدريد وتورنتو وسان فرانسيسكو وجامعة بيركلي (كاليفورنيا)".
كما يدعو "إلى دراسة الوسائل التي تستخدمها هذه الأوساط، وإلى التعاون مع المنظّمات أو الأفراد الذين يوجّهون انتقاداً مشروعاً ضدّ إسرائيل، بدلاً من تجاهلهم أو استبعادهم"! ورداً على سؤالٍ للإذاعة الإسرائيلية بشأن التقرير، إعتبر رئيس الوكالة اليهودية المكلّفة شؤون هجرة يهود الشتات إلى الكيان، ناتان شارانسكي أن "معاداة السامية في القرن الحادي والعشرين هي معاداة الصهيونية". وأضاف:"إن إسرائيل تواجه حملة عالمية ترمي إلى نزع الشرعية عنها. إنها حربٌ حقيقيةٌ تهدّد مصالحنا الاستراتيجية،؛ وينبغي الردّ على كلّ ضربةٍ بضربة".
لكنّ أوساط الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة وأوروبا تشهد تفاعلاتٍ حادّة ورؤىً متمايزة لكيفية الخروج من هذه الأزمة.
وقد عبّر الكاتب الأميركي الصهيوني "لينارد فين" مؤسّس مجلّة "اللحظة"، عن هذا التفاعل في مقالٍ بعنوان:"هناك شبحٌ يخيّم على إسرائيل إسمه غولدستون"، حيث يقول: "لستُ متأكّداً ممّا يعنيه سحب الشرعية عن إسرائيل. هل يعني ذلك أن منتقدي إسرائيل يسعون لإزالة الدولة اليهودية؟ ببساطة، هناك من يفعلون ذلك. إلاّ أن الغالبيّة الكبرى من هؤلاء الذين ينتقدون إسرائيل بشكلٍ متزايد (وهنا أفكّر بالذات بالاتحاد الأوروبي) لا يحلمون حتّى بإنهاء الدولة اليهودية. الواقع هو العكس تماماً. فهم ينادون، وبشكلٍ أكثر إلحاحاً، بتطبيق حلّ الدولتين. والواقع أن حلّ الدولتين هو الأسلوب الوحيد لضمان بقاء الدولة اليهودية"...فكرة حلّ الدولتين لا تطرح أيّ تساؤلٍ حول شرعية إسرائيل كدولةٍ يهودية. بالعكس تماماً؛ فأيّ إنسان ينادي بحلّ الدولتين بشكلٍ ضمنيٍ إنما يعترف ويقبل بشرعية الدولية اليهودية وقابليّتها للبقاء.
هؤلاء الذين يثرثرون حول حلّ الدولة الواحدة هم الذين يرفضون شرعية إسرائيل. أتباع حلّ الدولة الواحدة هم اليوم في تصاعد. هناك هؤلاء الذين يقولون أننا قد تعدّينا نقطة اللارجوع، وبأن حلّ الدولتين لم يعد ممكناً. ويقول آخرون أن منتصف الليل، رغم اقترابه، ما زال يمكن تجنّبه...وهذا لا يعني أن حلّ الدولتين يوفّر حلاً خالياً من المشاكل للنزاع. كلّ ما نعرفه بالتأكيد أنه في غياب حلّ الدولتين، سوف تنتهي الدولة اليهودية؛ بينما ستكون هناك، مع حلّ الدولتين، مشاكل جديدة معقّدة، واحتمالات تهديداتٍ جديدةٍ وخطيرة. ليس من الصّعب اختيار ناحيةٍ سلبيةٍ لوضعٍ يتّجه إلى الكارثة بشكلٍ مؤكّد. نحن لا نملك الشجاعة لدمج الانتقاد، بل وعدم الصبر مع سحب الشرعية. من هناك؟ صديقٌ أم عدوّ؟ إذا كنتَ مع حلّ الدولتين، وبالتالي قبول الدولة اليهودية، فأنت صديقي*.
ومؤخّراً، تشكّلت في الولايات المتحدة منظمة " J. Street"، كمنظمةٍ يهوديةٍ ناشئة، تمثّل ما سمّي "صوت الإعتدال اليهودي في الولايات المتحدة "؛ وهي تعارض سياسة حكومة نتنياهو المدعومة من منظمة "إيباك" المتشدّدة. كذلك تشكّلت في فرنسا منظمة "J.Call"، وهي هيئة يهودية أوروبية ضاغطة انطلقت من "نداء يهودي أوروبي من أجل العقل" ومن عريضةٍ أطلِقت على شبكة الإنترنت، وأعلِن عن تشكيلها رسمياً في بروكسل في الثالث من أيار/مايو الماضي. وقد أعلن مسؤولو تلك المنظمات أن تشكيلاتهم تطمح للعب دورٍ في الدفاع عن "إسرائيل" التي يشعرون أن وجودها في "خطر". مصدره ليس فقط "أعداء الخارج"، بل "الاحتلال الإسرائيلي والاستمرار غير المنقطع للاستيطان في الضفة الغربية والأحياء العربية في القدس الشرقية"؛ وهم يرون ذلك بمثابة "خطأ سياسي"، لا بل "غلطة أخلاقية"؛ فضلاً عن أنه يعزّز مسعى نزع الشرعية عن دولة "إسرائيل". ويؤكّد هؤلاء أن مستقبل إسرائيل "يمرّ بالضرورة في إقامة دولة فلسطينية" كترجمةٍ لمبدأ "شعبان ودولتان". وإلاّ، فإن أمام إسرائيل أحد خيارين: إمّا أن يتحوّل اليهود إلى أقلّيةٍ في بلدهم، أو أن "يقوم نظامٌ مخزٍ يُفضي إلى حربٍ أهلية".
وتدعو تلك المنظمات الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي إلى "ممارسة الضغوط" على الطرفين، والدّفع باتجاه حلٍ سريع، مع التذكير بـ"مسؤوليات الولايات المتحدة وأوروبا" في هذه المنطقة الحسّاسة من العالم.
وقد جاء هذا الحراك اليهودي متوائماً مع حراك الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس أوباما، والتي ترى بأن المسألة الفلسطينية تشكّل أهمّ العناصر المؤثّرة في الشرق الأوسط، وأن حلّها يساعد كثيراً المشاريع الأمريكية؛ كما جاء على لسان رئيس الأركان الأمريكي السابق مايكل مولن حين قال: "تسوية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي تشكّل مصلحة أمريكية... خصوصاًً للجيش الأمريكي العامل في العراق وأفغانستان".
مضافاً إليه تأكيدٌ لخليفته ديفيد باتريوس في حديثٍ له أمام الكونغرس، من خلال صرخته المدوّية "إسرائيل أصبحت عبءً على الولايات المتحدة"
هذا التحوّل دفع بالكاتب توماس فريدمان، الكاتب اليهودي المعروف، إلى نصح (إسرائيل) بعدم إغلاق الباب أمام أيّ حراكٍ أمريكيٍ جادٍ نحو السلام، يؤمن به الجيش الأميركي ووكالة الإستخبارات الأمريكية، لقناعةٍ مفادها بأن الصراع الفلسطيني الصهيوني صار مشكلة الشرق في وجه أمريكا.
إذاً؛ المطروح حالياً على الكيان الصهيوني ليخرج من أزمته هو "تسوية تقوم على حلّ الدولتين"، تمكّن الولايات المتحدة من صياغة تحالفاتٍ تابعة، يكون بعض النظام العربي جزءً منها إلى جانب الكيان، لمواجهة الأخطار المحدِقة بالمصالح الأمريكية، كما بالمشروع الصهيوني، والمتمثّلة اليوم ب: إيران، سوريا، حزب الله، فلسطينيّي48، وفصائل المقاومة الفلسطينية.
لكن، هذه التسوية المطروحة منذ زمن، والتي عجزت عن تحقيقها الحكومات الصهيونية التي قيل عن بعضها بأنها حكومات "يسار وإعتدال"، هل يمكن أن يحقّقها الكيان بعد أن باتت بُنيته السياسية والاجتماعية اليوم أكثر تطرّفاً وعنصرية.
إن أيّة تسوية تظلّ محكومة بموازين القوى الموضوعية وبتوازن القوى داخل أطراف الأزمة التي يراد إشراكها في حلّها.
فمقابل من يدعو لتسويةٍ تستفيد من حال الهوان والتخاذل الرسمي العربي والفلسطيني، هناك من يرى ضرورة الاستفادة من حال الضعف والهوان العربي والفلسطيني لمواصلة الاستيطان وإكمال تهويد القدس، وإعاقة عملية التسوية، والتحريض على شنّ الحرب ضدّ إيران، والعمل من أجل استكمال إقامة دولةٍ يهودية، عنصرية، واستعمارية في فلسطين.
إن أقصى ما يمكن أن يُقدِم عليه الكيان في ظلّ التوازنات الراهنة هو اللجوء إلى التكتيك المعروف: "خطوةٌ إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام". فهو نفّذ خطّة "فكّ الارتباط" مع قطاع غزة، والذي تحوّل إلى أكبر سجنٍ مفتوح في العالم، يتحكّم العدوّ بحدوده البرّية والبحرية والجوّية وبمصادر المياه والطاقة فيه، وذلك بهدف التخلّص من خزّان المقاومة في القطاع والاستفراد بالقدس والضفة الغربية بما تمثّلانه على صعيد الميثيالوجيا اليهودية؛ ومن ثمّ كانت الخطوات المتسارعة لتهويد القدس وجدار العزل والضمّ في الضفة الغربية، الأمر الذي مكّن الكيان من سرقة أحواضها المائية والسيطرة على سلّتها الغذائية، وتقطيع أوصالها وتحويلها إلى معازل مطوّقةٍ من كافّة الجهات.
ولكن، ماذا يريد الصهاينة اليوم بالضبط، وما هو حجم الخطوة إلى "الوراء" التي بدؤوا بها ؟ كلّ الوقائع على الأرض، وما يمكن الاستدلال عليه من خلال ما يُنشر من وثائق لمؤتمراتٍ صهيونيةٍ أو مراكز أبحاث وصناعة فكر، تؤشّر إلى أن الحكومة الصهيونية، وبالتنسيق مع الإدارة الأمريكية، تدفع باتجاه الإعلان عن "دولة فلسطينية" في مدن وبلدات الضفة الغربية المحاصرة بجدار العزل والضمّ من جهة الغرب، وبسلسلة مستعمرات "غور الأردن" من جهة الشرق، مع فصل شمالها عن جنوبها بفعل مستعمرة معاليه أدوميم الموسّعة، وتقطيع أوصالها بفعل شبكة الطرق الطولية والعرضية المقامة في قلبها (الضفة الغربية). وقبل كلّ ذلك، عزل الضفة عن القدس؛ على أن ينضمّ إليها "قطاع غزة" إسمياً، مع "معالجة" وضعه بالتعاون مع النظام المصري!
أمّا القضايا الأساسية، فتحلّ عبر صيغةٍ مبتكرةٍ تتمثّل في الإتفاق على إطارٍ ما لحلّها، ينفّذ بالتدريج وعلى مراحل. وهذا يعني أن تأجيل المفاوضات حول تلك القضايا الرئيسية (الوضع النهائي) يعني حصرها فيما سيتمّ من مفاوضاتٍ مستقبلاً بين "دولتين"، على توسيع صلاحيات "الدولة الوليدة". والتقدّم في هذا الملفّ سيصبح رهناً بقدرة رئاسة "الدولة" الفلسطينية وحكومتها وأجهزتها على تصريف شؤون الدولة، وعلى ضمان أمن الدولة "الجارة"!
وهذا كلّه ليس معناه في قلب الشاعر، بل في ما يصرّح به القادة الصهاينة والمسؤولون الأمريكيون جهاراً نهاراً، حول وقف مقاومة الشعب الفلسطيني، وإنهاء مرحلة التحرّر الوطني، مع التفرّغ لتحسين شؤون سكّان "الدولة الفلسطينية العتيدة"، الأمر الذي يعني سقوط القضية الجوهرية التي من أجلها انطلقت حركة التحرّر الوطني الفلسطيني المعاصرة؛ أي قضية العودة الشاملة للمقتلعين الفلسطينيين، والتي على حلّها يتوقّف الحكم على محمود عبّاس "أبو مازن"؛ يقول ناتان شارانسكي في ردّه على سؤالٍ لمجلّة "نيوزويك" بتاريخ 18/1/2005 حول انتخاب "أبو مازن" رئيساً للسلطة الفلسطينية:
"إن هذه الانتخابات هي حدثٌ معزول، ولا علاقة لها بالديموقراطية، وتعتمد على ما سيحدث بعد الانتخابات... أريد أن أرى ما سيقوم به أبو مازن في قضية اللاجئين. حين يقوم ببناء مساكن جديدةٍ لهم... إذا ما نُقِل اللاجئون في خان يونس للعيش في غوش قطيف (مستعمرة في غزة تمّ إخلاؤها)، فإنهم سينسون المفاتيح التي ما زالوا يحملونها لمنازلهم في منطقة 1948... إذا قاموا بذلك، فعلينا أن ندعمهم بخطّة مارشال جديدة وكل شيءٍ آخر. وخلال سنتين أو ثلاث سنوات، سيتغير كلّ شيء".
أما القضية المفصليّة الأخرى بالنسبة للكيان الصهيوني، وهي القضية الأمنية، فقد عُقِدت من أجلها الكثير من المؤتمرات وحلقات البحث. والسيناريو المرجّح هو الاستعانة بقوّاتٍ غربيّة لتطبيق أيّ اتفاقٍ محتملٍ مع السلطة. في حزيران عام 2003، كتب "مارتن إنديك" مقالاً في مجلة "Foreign Affairs" الصّادرة عن مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة، تحدّث فيه عن ضرورة فرض وصايةٍ دوليةٍ على الفلسطينيين بقيادة الولايات المتحدة، مع إشراك كلٍ من بريطانيا وأستراليا وكندا.
وفي 16 تموز 2003، عقِدت ندوة في مركز سابان -معهد بروكنغز، أكّدت على ذات الفكرة، كمخرجٍ يؤدّي إلى ضبط المقاومة الفلسطينية وحماية أمن الكيان الصهيوني!
وهنا السؤال الكبير: على ماذا تراهن الدوائر الصهيونية والأمريكية، كي تنجح في أن تفرض على الشعب الفلسطيني هذه التسوية/التصفية (المفترضة)؟
قبل النتائج الكارثيّة التي ترتّبت على هزيمة الجيش الصهيوني خلال عدواني تمّوز 2006 على لبنان و2008/2009 على غزة، كانت مراهنة تلك الدوائر تنطلق من الرّؤية التي عبّر عنها قادة الكيان في خطبهم ومحاضراتهم التي قدّموها خلال مؤتمر هرتزيليا الرابع الذي انعقد في منتصف كانون الأوّل 2004، حيث "كانت رسائل كلّ الخطباء، متشابهة: إسرائيل قويّة، الفلسطينيون أيتام، السوريون معزولون، والعالم معنا".
أمّا اليوم، فأعداؤنا يراهنون على العرب والفلسطينيين خصوصاً، المهزومين في أعماقهم، والذين تعميهم عصبيّاتهم الجاهلية الإثنية، وأُطرهم الطائفية والمذهبية، عن رؤية ترابط قضايا العرب والمسلمين، والإنطلاق من حقيقة كون فلسطين هي القضية المركزية للعرب والمسلمين الصادقين المخلِصين. فلا مستقبل لفلسطين بدون عمقها ومحيطها العربي والإسلامي؛ كما لا مستقبل لنا ولمستضعفي الأرض بدون هزيمة المشروع الصهيوني العنصري فوق أرض فلسطين.
إن تحويل القضية الفلسطينية إلى مجرّد قضيةٍ حياتية-اجتماعية لأناسٍ مظلومين، وتقزيم الصراع مع المشروع الصهيوني باعتباره مجرّد مسألةٍ أمنيةٍ يمكن حلّها بالأساليب الفنية، لا يمكن أن يشكّل (مهما تعاظمت الضغوط وتعدّدت أشكالها) أكثر من مسكّنٍ قد يحقّق الاستقرار النسبي لفترةٍ محدّدةٍ من الزمن، لا يلبث أن يزول مفعوله لتتفجّر الأمور مجدّداً، وبشكلٍ أكثر عنفاً.
وهذا ليس لأن الفلسطينيين، كما العرب والمسلمين، يرفضون السلام. فالعكس تماماً هو الصحيح. ولكن، لأن جلّ ما قدّمه قادة المشروع الصهيوني من "تنازلاتٍ" للفلسطينيين لم يتجاوز حتى اللحظة، ما تحدّث عنه ديفيد بن غوريون في جلسة كتلة (المباي) في الكنيست بتاريخ 15 كانون الثاني (يناير) 1951، حول حقوقٍ "لغير اليهود (الفلسطينيين)، لا تعدو حقوق أقلّيةٍ تعيش في أرض "إسرائيل"، وليست حقوقاً على أرض "إسرائيل"
ويردّد القادة الصهاينة اليوم في تصريحاتٍ متواترة: "إن خيار التفاوض مع "إسرائيل" هو الخيار الوحيد، وأنه ليس أمام الفلسطينيين إلاّ التخلّي عن كلّ طموحاتهم، وطرْق باب السلام مع "إسرائيل"، "الدولة الأقوى في الشرق الأوسط"..!
وهنا أتذكّر ما كان يردّده العالم الموسوعي، المرحوم عبد الوهاب المسيري: "إن أهمّ ما يميّز دولة إسرائيل هو اعتمادها المطلق على عاملين خارجيّين: دعم الغرب وضعف العرب. إن مشكلة إسرائيل الحقيقية هي تصديقها لأوهام بقاء الدّعم الغربي ودوام الضعف العربي. وهي عوامل لسوء حظّ إسرائيل مؤقّتة من الناحية التاريخية؛ ولا يوجد أيّ أساسٍ علمي أو تاريخيٍ يسند عكس هذا الواقع".
خلاصة
إن استمرار المراهنات العربية والفلسطينية على إمكانيّة تحقيق "تسوية" نهائية مع الكيان الصهيوني، تعطي الشعب الفلسطيني الحدّ الأدنى المتّفق عليه (دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967، عاصمتها القدس الشرقية، وضمان حقّ عودة اللاجئين) لا يعدو أكثر من تعميةٍ مقصودةٍ على البصائر والأبصار.
فقوى الاستكبار والاحتلال لا تفهم إلاّ لغة القوّة؛ وهي لا تتراجع إلاّ تحت ضربات مقاومة الشعوب والكلفة الباهظة، في جنودها وفي ميزانيّاتها العسكرية.
يقول المفكّر وعالم الاجتماع السياسي الأمريكي "كارل دويتش":
"إن التحوّل الداخلي للقوى الإمبريالية يمكن أن يحدث بسبب زيادة التكلفة... ويضرب مثلاً حرب التحرير الجزائرية، حيث يصف كيف حدث تحوّلٌ داخليٌ في فرنسا بحلول مؤسسات ونخب الجمهورية الخامسة، وبوجهٍ خاصٍ الرئيس ديغول وحزبه، محلّ مؤسسات الجمهورية الرابعة ونخبها...".
وعليه، فإن مفتاح التسوية أو الحلّ واضح... لكي نصل إلى هكذا تسويةٍ أو حلٍ لقضية فلسطين، لا بدّ وأن يحدث تحوّلٌ داخليٌ في طرفي الصراع. وإذا لم يحدث هذا التحوّل اختياراً، فإن حدوثه ممكنٌ على سبيل الإجبار؛ وذلك بزيادة تكلفة الاحتلال حتى تصل إلى الحدّ الذي يُفرض فيه التحوّل فرضاً على هذه السياسات. ومفتاح زيادة التكلفة هو المقاومة... و"إسرائيل" لم تقدّم يوماً تنازلاً واحداً إلاّ بعد إعمالٍ للقوّة ضدّها... "فقط، فقدان أرواحٍ يهوديةٍ عديدةٍ في حرب... يجعل تصوّر تراجع "إسرائيلي" ممكناً، لأنه يبرّر اعتماد قُدسية الحياة اليهودية واعتبار المحافظة عليها أهمّ من أيّ اعتبارٍ آخر" .
ومن القضايا التي تؤكّد إستمرار صلف وعنجهيّة القادة الصهاينة، الإصرار على فرض القبول الفلسطيني الرسمي بكيانهم ك"دولة يهودية"، الأمر الذي يلغي حقّ عودة اللاجئين، ويمسّ بشكلٍ خطيرٍ بمستقبل فلسطينيّي 48. فهذا التسليم الفلسطيني (إن حصل) يضعهم أمام عمليةٍ دائمةٍ من الإقصاء والتهميش، بانتظار الفرصة السانحة لاقتلاعهم من ديارهم.
وهذا بدوره يؤدّي إلى الانكشاف النهائي للكيان الصهيوني ككيانٍ عنصريٍ مغلق "الغيتو/القلعة"، ليصل مأزقه إلى ذروته، بحيث نصبح أمام كيانٍ متصادمٍ مباشرة مع كلّ الشرائع السماوية والقِيم الإنسانية. الأمر الذي يؤشّر إلى أننا سنكون أمام نسخةٍ معدّلةٍ من تجربة سقوط نظام الأبارتهايد البائد في جنوب أفريقيا. وكلّما كانت القوى والجهات العاملة من أجل فلسطين قادرة على صياغة وطرح حلٍ إنسانيٍ للصراع القائم فوق أرض فلسطين، في مواجهة المشروع العنصري الصهيوني، كلما قلّلت من زمن مسيرة العذاب الفلسطيني، وسرّعت في انهيار المشروع العنصري الصهيوني. ولا أدري أين الحكمة في تردّدنا حيال التبنّي الصريح والواضح لمشروع "دولة فلسطين الواحدة "كدولةٍ ديمقراطيةٍ تعدّديةٍ لكلّ أبنائها، يعيش فيها المسلم والمسيحي واليهودي جنباً إلى جنب، كما كان الحال قبل أن تحلّ مصيبة الصهيونية على أرض فلسطين المقدّسة.
والسلام عليكم
وليد محمّد علي/ المدير العام لمركز باحث للدراسات الفلسطينية والإستراتيجية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق