قبة النسر في الجامع الأموي.. دمشق
القباب من أهم مظاهر تطور الحضارة الإسلامية في فن العمارة، فلقد تطوَّرَتْ كثيرًا، واتخذ تصميمها الهندسي أشكالاً مختلفة، ومن أمثلة ذلك قبَّة المسجد الجامع بالقيروان، ومسجد الزيتونة بتونس، والمسجد الجامع بقرطبة، وقد ظهرت آثار هذا التطور بوضوح في العمارة الأوربية خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين [1]. ومن أشهر هذه القباب في العمارة الإسلامية قبة النسر في الجامع الأموي في دمشق.
قبة النسر في الجامع الأموي
وهي من منجزات الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك –رحمه الله، وكانت قد سقطت بعد بنائها لأول مرة، وقد أحزن سقوطها الوليد بن عبد الملك، فجاءه بنّاء شامي واشترط على الخليفة أن لا يعمل فيها أحد غيره، فكان له ذلك، فوضع الأساسات وغاب بعدها عاماً كاملاً، وعاد إليها فوجدها قد نزلت قليلاً، فقال للوليد بن عبد الملك من هنا كان سقوطها فابنه الآن فإنها لا تهوي إن شاء الله، وتم البناء واستقرت.
وصف قبة النسر
ترتفع قبة النسر عن أرض صحن الجامع الأموي 45 متراً ويبلغ قطرها 16 متراً، ويصفها ابن جبير -رحمه الله- في رحلته، فيقول: "وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وسطه، سامية في الهواء، عظيمة الاستدارة، قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها، يتصل من المحراب إلى الصحن، وتحته ثلاث قباب: قبة تتصل بالجدار الذي إلى الصحن، وقبة تتصل بالمحراب، وقبة تحت قبة الرصاص بينهما. والقبة الرصاصية قد أغضت الهواء وسطه ...، وسعة هذا الغارب من جهة الصحن ثلاثون خطوة، فهم يعرفون الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه. ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل علو كأنها معلقة من الجو" [2].
سبب تسميتها قبة النسر
يقول ابن جبير رحمه الله: "فإذا استقبلتها أبصرت منظرا رائعا، ومرأى هائلا، يشبهه الناس بنسر طائر، كأن القبة رأسه، والغارب جؤجؤه، ونصف جدار البلاط عن يمين، ونصف الثاني عن شمال، جناحاه" [3].
إلاّ أن تفسير كريزويل [4] جاء مختلفاً، فهو يرى أن الكلمة اليونانية «أيتوس» والتي تعني ترجمتها الحرفية بالنسر ما كانت إلاّ اصطلاحا فنياً معمارياً دقيقاً بمعنى السقف المثلث وقد استعملها المعمار السوري في عهد الوليد، إلا أن الترجمة الحرفية هي التي بقيت عوضاً عن قبة الجمالون أو قبة السقف المثلث.
ترميم قبة النسر
جددت قبة النسر في عهد نظام الملك وزير ملكشاه السلجوقي عام 1075م، وقام صلاح الدين الأيوبي بتجديد ركنين منها عام 1179م.
في عام 1201م تشققت القبة إثر الزلزال المدمر الذي ضرب دمشق آنذاك، وقيل أنها سقطت على الناس. وإثر حريق عام 1479م الذي بدأ في الأسواق المحيطة للجامع، والذي أتى على الحرم انهارت القبة وأعيد بناؤها. وقد أعيد إعمارها بعد الحريق الكبير عام 1893م [5].
وقد صار للدروس التي تلقى تحت قبة النسر شهرة واسعة في العالم الإسلامي، حيث درّس هناك كبار علماء الإسلام على مرّ التاريخ منهم الإمام الغزالي والمحدث الكبير بدر الدين الحسني وشيخ الجامع الأموي فضيلة العلاّمة عبد الرزاق البيطار.
تدريس الحديث تحت قبة النسر
فقد اعتنى الدمشقيون بدراسة علم الحديث وتدريسه تحت قبة النسر بالجامع الأموي عصر كل يوم من الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان، ويقوم بإلقاء هذا الدرس أعلم علماء دمشق، وأقدم من عُرف من المدرسين شمس الدين محمد الميداني الدمشقي المتوفى سنة (1033هـ) وقد وضع الشيخ جمال الدين القاسمي كتابا في التعريف بمن تولى هذا الدرس حتى عصره بعنوان "اللف والنشر في طبقات المدرسين تحت قبة النسر"، كما عرف بهم موجزاً الشيخ عبد الرزاق البيطار في كتابه "نتيجة الفكر فيمن درس تحت قبة النسر".
وكان آخر من تولى هذا الدرس الشيخ بدر الدين الحسني (ت: 1354هـ) لكنه لم يتقيد بالتدريس في الأشهر الثلاثة، بل كان يدرس على مدار السنة كل يوم جمعة، من بعد صلاتها حتى دخول وقت العصر [6].
وقد وصف الشيخ محمد بهجة البيطار من يصلح للتدريس تحت قبة النسر بأن يكون حافظاً لحدود الله، قائماُ على إرشاد العقول، وتهذيب النفوس، وتصحيح المعتقدات، وإبانة سر العبادات، وإماطة ما غشي الأفهام القاصرة من غياهب الجهالة، وتراث الضلالة، واقفاً على مقاصد التشريع وحكمته، عالماً مواضع الخلاف والوفاق، سائساً لسامعيه بما يلائمهم من الأحكام، بل هو العامل الأكبر في إخراج الناس من ظلمات الجهالة إلى نور العلم، وتحريرهم من رق الخرافات والوهم، فهو كالسراج إن لم ينتفع بضوئه فلا فائدة في وجوده [7].
--------------------------
1- أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي.. شيء من الماضي أم زاد للآتي، دار الفكر العربي - القاهرة، 2002م، ص41.
2- ابن جبير: رحلة ابن جبير، الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت، ص213.
3- السابق نفسه.
4- كرِيزْويل (1296 - 1394 هـ = 1879 - 1974م) K A Creswell، مستشرق بريطاني علامة بالآثار الإسلامية. من كتبه المطبوعة بالإنجليزية: الحصون في الإسلام، قبل عام 1250م، الآثار الهندية، عمائر السلطان بيبرس البندقداري في مصر، جامع المنصور الكبير في بغداد، المصادر الإسلامية للإسطرلاب، الكعبة عام 608م، موسوعة الفنون الإسلامية " تضم 13 ألف لوح ورسم. انظر: الزركلي: الأعلام، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر - أيار / مايو 2002م، جـ5/ 224.
5- قبة النسر: موقع اكتشف سورية.
[6] بديع السيد اللحام: جهود علماء دمشق في الحديث في القرن الرابع عشر الهجري، معهد الفتح الإسلامي.
[7] عبد الرزاق البيطار: نتيجة الفكر فيمن درس تحت قبة النسر، دار البشائر الإسلامية، بيروت 1999م، ص138.
القباب من أهم مظاهر تطور الحضارة الإسلامية في فن العمارة، فلقد تطوَّرَتْ كثيرًا، واتخذ تصميمها الهندسي أشكالاً مختلفة، ومن أمثلة ذلك قبَّة المسجد الجامع بالقيروان، ومسجد الزيتونة بتونس، والمسجد الجامع بقرطبة، وقد ظهرت آثار هذا التطور بوضوح في العمارة الأوربية خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين [1]. ومن أشهر هذه القباب في العمارة الإسلامية قبة النسر في الجامع الأموي في دمشق.
قبة النسر في الجامع الأموي
وهي من منجزات الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك –رحمه الله، وكانت قد سقطت بعد بنائها لأول مرة، وقد أحزن سقوطها الوليد بن عبد الملك، فجاءه بنّاء شامي واشترط على الخليفة أن لا يعمل فيها أحد غيره، فكان له ذلك، فوضع الأساسات وغاب بعدها عاماً كاملاً، وعاد إليها فوجدها قد نزلت قليلاً، فقال للوليد بن عبد الملك من هنا كان سقوطها فابنه الآن فإنها لا تهوي إن شاء الله، وتم البناء واستقرت.
وصف قبة النسر
ترتفع قبة النسر عن أرض صحن الجامع الأموي 45 متراً ويبلغ قطرها 16 متراً، ويصفها ابن جبير -رحمه الله- في رحلته، فيقول: "وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وسطه، سامية في الهواء، عظيمة الاستدارة، قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها، يتصل من المحراب إلى الصحن، وتحته ثلاث قباب: قبة تتصل بالجدار الذي إلى الصحن، وقبة تتصل بالمحراب، وقبة تحت قبة الرصاص بينهما. والقبة الرصاصية قد أغضت الهواء وسطه ...، وسعة هذا الغارب من جهة الصحن ثلاثون خطوة، فهم يعرفون الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه. ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل علو كأنها معلقة من الجو" [2].
سبب تسميتها قبة النسر
يقول ابن جبير رحمه الله: "فإذا استقبلتها أبصرت منظرا رائعا، ومرأى هائلا، يشبهه الناس بنسر طائر، كأن القبة رأسه، والغارب جؤجؤه، ونصف جدار البلاط عن يمين، ونصف الثاني عن شمال، جناحاه" [3].
إلاّ أن تفسير كريزويل [4] جاء مختلفاً، فهو يرى أن الكلمة اليونانية «أيتوس» والتي تعني ترجمتها الحرفية بالنسر ما كانت إلاّ اصطلاحا فنياً معمارياً دقيقاً بمعنى السقف المثلث وقد استعملها المعمار السوري في عهد الوليد، إلا أن الترجمة الحرفية هي التي بقيت عوضاً عن قبة الجمالون أو قبة السقف المثلث.
ترميم قبة النسر
جددت قبة النسر في عهد نظام الملك وزير ملكشاه السلجوقي عام 1075م، وقام صلاح الدين الأيوبي بتجديد ركنين منها عام 1179م.
في عام 1201م تشققت القبة إثر الزلزال المدمر الذي ضرب دمشق آنذاك، وقيل أنها سقطت على الناس. وإثر حريق عام 1479م الذي بدأ في الأسواق المحيطة للجامع، والذي أتى على الحرم انهارت القبة وأعيد بناؤها. وقد أعيد إعمارها بعد الحريق الكبير عام 1893م [5].
وقد صار للدروس التي تلقى تحت قبة النسر شهرة واسعة في العالم الإسلامي، حيث درّس هناك كبار علماء الإسلام على مرّ التاريخ منهم الإمام الغزالي والمحدث الكبير بدر الدين الحسني وشيخ الجامع الأموي فضيلة العلاّمة عبد الرزاق البيطار.
تدريس الحديث تحت قبة النسر
فقد اعتنى الدمشقيون بدراسة علم الحديث وتدريسه تحت قبة النسر بالجامع الأموي عصر كل يوم من الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان، ويقوم بإلقاء هذا الدرس أعلم علماء دمشق، وأقدم من عُرف من المدرسين شمس الدين محمد الميداني الدمشقي المتوفى سنة (1033هـ) وقد وضع الشيخ جمال الدين القاسمي كتابا في التعريف بمن تولى هذا الدرس حتى عصره بعنوان "اللف والنشر في طبقات المدرسين تحت قبة النسر"، كما عرف بهم موجزاً الشيخ عبد الرزاق البيطار في كتابه "نتيجة الفكر فيمن درس تحت قبة النسر".
وكان آخر من تولى هذا الدرس الشيخ بدر الدين الحسني (ت: 1354هـ) لكنه لم يتقيد بالتدريس في الأشهر الثلاثة، بل كان يدرس على مدار السنة كل يوم جمعة، من بعد صلاتها حتى دخول وقت العصر [6].
وقد وصف الشيخ محمد بهجة البيطار من يصلح للتدريس تحت قبة النسر بأن يكون حافظاً لحدود الله، قائماُ على إرشاد العقول، وتهذيب النفوس، وتصحيح المعتقدات، وإبانة سر العبادات، وإماطة ما غشي الأفهام القاصرة من غياهب الجهالة، وتراث الضلالة، واقفاً على مقاصد التشريع وحكمته، عالماً مواضع الخلاف والوفاق، سائساً لسامعيه بما يلائمهم من الأحكام، بل هو العامل الأكبر في إخراج الناس من ظلمات الجهالة إلى نور العلم، وتحريرهم من رق الخرافات والوهم، فهو كالسراج إن لم ينتفع بضوئه فلا فائدة في وجوده [7].
--------------------------
1- أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي.. شيء من الماضي أم زاد للآتي، دار الفكر العربي - القاهرة، 2002م، ص41.
2- ابن جبير: رحلة ابن جبير، الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت، ص213.
3- السابق نفسه.
4- كرِيزْويل (1296 - 1394 هـ = 1879 - 1974م) K A Creswell، مستشرق بريطاني علامة بالآثار الإسلامية. من كتبه المطبوعة بالإنجليزية: الحصون في الإسلام، قبل عام 1250م، الآثار الهندية، عمائر السلطان بيبرس البندقداري في مصر، جامع المنصور الكبير في بغداد، المصادر الإسلامية للإسطرلاب، الكعبة عام 608م، موسوعة الفنون الإسلامية " تضم 13 ألف لوح ورسم. انظر: الزركلي: الأعلام، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر - أيار / مايو 2002م، جـ5/ 224.
5- قبة النسر: موقع اكتشف سورية.
[6] بديع السيد اللحام: جهود علماء دمشق في الحديث في القرن الرابع عشر الهجري، معهد الفتح الإسلامي.
[7] عبد الرزاق البيطار: نتيجة الفكر فيمن درس تحت قبة النسر، دار البشائر الإسلامية، بيروت 1999م، ص138.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق