القدس بين حقائق التاريخ وزيف الإسرائيليات.
مقدمة
ما من مدينة حظيت باهتمام الباحثين والمؤرخين مثل مدينة القدس، وكذلك باهتمام رجال اللاهوت والسياسة، ويلاحظ أنّ جُلَّ الكتابات بغير العربية لم تتحرّر بعد من التأثيرات المنبعثة من أساطير العهد القديم من الكتاب المقدس، لا بل إنّ غالبيتها يداري هذه الأساطير ويخشى من أتباعها، أو يسعى لتسويقها بطرق التفافية، فيها مكر وخداع، وبراعة متناهية، وقد يكون هذا مسوغاً بعض الشيء للمنتمين للمجتمعات الغربية، مع أنّ السمة الأساسية للمؤرخ هي الحيادية والصدق والصراحة، وصحيح أنّ التاريخ خبر ورؤية، لكن لا يجوز اعتماد الخبر الزائف، كما لا يجوز أنْ تتحول الرؤية إلى تأويل، لأنّ في التأويل تعطيل.
والذي يثير الحزن والحيرة هو الكتابات العربية، فبعض هذه الكتابات هي نسخ مصنعة بمهارة كبيرة، مع اقتباس كامل للكتابات الغربية، وبالتالي تستهدف بمختلف الطرق تسويق المزاعم الصهيونية، أو بالحري أساطير العهد القديم، والتي في الوقت نفسه محاطة بهالة من القداسة، تراكمت خلال ما يزيد على ثلاثة آلاف عام، وهذه الأساطير كانت وما برحت ميداناً رحباً للقصّاص والوعاظ، والمبشرين والخطباء، ذلك أنّ الكثيرين من هؤلاء في الغرب المسيحيّ، وأيضاً بين المسلمين, مصابون بوباء الإسرائيليات، وأشدّ ما يخشاه الإنسان أنّ الجهل المترافق مع التعصب يقود إلى مزالق خطرة جداً، فقد تصدّى مؤخّراً واحدٌ من العلماء المرموقين للبحث في صحة الأحاديث المتعلقة بالصخرة، وليت الأمر اقتصر على هذا، بل خلص إلى القول بعدم صحّة جميع الأحاديث، وأنّ الصخرة حق لليهود، اغتصبه المسلمون، ولم ينتبهْ إلى أنّه حين قال بالاغتصاب اتهم النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، حين صلى هناك بجميع الأنبياء يوم الإسراء، وأنّ المعراج لم يكنْ من فوق الصخرة إلا لحكمة ربانية، أقلّها أنّ طريق السماء يمر عبر القدس إلى مكة المكرمة والمدينة، والتفريط بأيّ جزء من القدس مقدمة للتفريط بمكة والمدينة، ولم تقتصر التهمة هنا على النبي صلى الله عليه وسلم، بل شملت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، حين قدم إلى القدس فتسلّمها محرّراً، وفتش عن موقع الصخرة، وإلى جانبها اختطّ محراب المسجد العمري أو المسجد الأقصى.
هذا وما مِنْ أمرٍ أضرّ بالفكر الإسلاميّ، خاصة بالتفسير والأخبار والقصص, مثل الإسرائيليات، وعجباً كيف أقدم بعضهم على تفسير كلام الله بكلام الحاخامات، وما زالوا يفعلون، أوليس هؤلاء ممن ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، والمصادر المعتمدة لتاريخ القدس القديم، هي نتائج الحفريات الأثرية فيها، وفي جميع أرجاء بلاد البحر المتوسط، ومع الآثار الكتب والمدونات إنْ توفرت، وفحصت رواياتها ومحصت وفق قواعد البحث التاريخي، وكانت القدس قد شهدت الحفريات الأثرية، التي تولاها الغربيون منذ عام 1799م، وأضرّت معظم هذه الحفريات أكثر مما أفادت، لأنها شوّهت المواقع الأثرية، بسبب أنها جرت على أيدي هواة ورجال لاهوت، استهدفوا البرهنة على صحة مرويات العهد القديم وليس كشف الحقيقة، ولذلك ينبغي التعامل مع تقارير هذه الحفريات بكلّ حذر، علماً بأنّ العلماء باتوا لا يأخذون بجلّ التقارير التي كتبت قبْل العقد الأخير من القرن الماضي، فمنذ تسعينات القرن العشرين بدأت الحفريات الأثرية تكتسي الطابع العلميّ إلى حدٍّ ما ، وأجمعت نتائج الحفريات أنّ جميع مرويات العهد القديم شيء والتاريخ الصحيح شيء آخر تماماً، وبناءً عليه باتت تقارير الآثاريين الغربيين تحمل من التناقضات أكثر مما تحمله مرويات العهد القديم، وفيها تزييف غالباً ما جاء متعمّداً، وتوجّب الآن على كل باحث منصف عدم تصديق قراءات النصوص القديمة مع التفاسير التي أعدّت حولها، وإعادة النظر بكل شيء.
هذا وكان بودّي أنْ أقدّم الآن عرضاً لتاريخ تدوين أسفار العهد القديم، مع تبيان مراحل تطور العقيدة الموجودة في هذه الأسفار، ولكن لتعذّر ذلك لعله تكفي الإشارة الآن إلى أنّ أول محاولة لتدوين ما نُسِب إلى النبي موسى عليه السلام، جرت بعده بحوالي عشرة قرون على الأقل، وأنّ ذلك كان في بلاط الدولة الأخمينية الفارسية، هذا وينبغي أنْ نميّز دوماً بين بني إسرائيل وبين اليهود، ذلك أنّ اسم يهود ظهر في أيام الحكم الأخميني لفلسطين، نسبة إلى موقع إداريّ صغير، ونضيف إلى هذا أنّه في أيامنا أكثر من تسعين بالمائة من يهود العالم الأوروبي وفلسطين المحتلة هم من أصل خزري، وهذه كلها موضوعات تناولتها بالبحث العلمي الدقيق والموثق.
في تمهيدٍ للحديث عن تاريخ القدس, القديم سوف أشير إلى تواريخ بعض الأحداث المزعومة حسب مرويات العهد القديم، وبالمقابل إلى التواريخ المعطاة من خلال الحفريات الأثرية اعتماداً على دراسة الطبقات والنماذج الأثرية، والكربون المشعّ (14) والتحليل بالطيف.
2000–500 ق.م. الزمن الذي عاش فيه إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
1260–1250 ق.م. الزمن المعطى للخروج من مصر بقيادة موسى.
1200–1000 ق.م. الاستقرار في أرض كنعان بقيادة يوشع بن نون.
1001–969 ق.م. تأسيس مملكة داود في القدس.
969–931 ق.م. ملك سليمان وبناء الهيكل الأول.
931–931 ق.م. ملك رحبعام بن سليمان، وانقسام المملكة إلى مملكتين, في الشمال مملكة إسرائيل، وفي الجنوب مملكة يهوذا.
931–910 ق.م. ملك يربعام بن سليمان على مملكة إسرائيل.
885–874 ق.م. قيام مملكة بيت عمري التي حاضرتها ما عرف باسم مدينة سمر أو السامرة.
874 853 ق.م. ملك أحاب بن عمري.
723–722 ق.م. استيلاء الآشوريين على سمر (السامرة) وتهجير أهلها وإحلال قومٍ جدد محلهم.
605–586 ق.م. سقوط الدولة الآشورية، وقيام دولة بابل الثانية (الكلدانية).
587–538 ق.م. السبي البابلي.
538 ق.م استيلاء قورش على بابل.
538–333 ق.م. الحكم الإخميني لبلاد الشام, وكذلك مصر.
336 ق.م. ظهور الإسكندر المقدوني.
141 ق.م. قيام كيان الحشمونيين أو المكابيين.
63 ق.م استيلاء بومبي باسم روما على بلاد الشام.
37 ق.م–4 م. ملك هيرود الكبير.
66– 73م تدمير فسبسيان الروماني لفلسطين وإبادة أهلها.
ولدى التعامل مع الأرقام المبكرة من هذه التواريخ, المفترضة لم يمكنْ العثور على ما يؤكد دخول إبراهيم إلى فلسطين، وبيّنت الدراسات النقدية للنصوص التوراتية، أنّ أخباره أضيفت إليها في تاريخ لاحق، في حوالي القرن الميلادي الأول، وأودعت في سفر التكوين، ثم إنّ عمليات المسح الكامل للبحر الميت لم تكشفْ عن غرق مدينتي سدوم وعمروة فيه، وحين ذهب باحثان أمريكيان إلى أنْ موقع "باب الذرا" هي سدوم، و"النميرية" هي عمورة تبيّن أنّ هذين الموقعين قائمان على مقربة من البحر الميت، وليس فيه، وأنّ الحياة توقّفت فيهما في عام (2350 ق.م.)، ولم يعثرْ في البقايا الأثرية على ما يشير إلى حياة غير عادية، لا سيما بعد اكتشاف المقابر هناك، وفحص بقايا الهياكل العظمية، ولا أستهدف هنا نفي خبر إبراهيم الخليل، ولا خبر قوم لوط، بل أريد التذكير بأنّ حياة إبراهيم مرتبطة مع مكة المكرمة، وبناء البيت الحرام فيها، وأنّ الشذوذ الجنسي لم يمارَس في بلاد الشام، وأنّ القرآن الكريم حين أتى على ذكر ما حلّ بقوم لوط لم يحدّد لا الزمان ولا المكان (أنظر سورة هود– الآيات: 73-83). وفيما يتعلق بموضوع الخروج، وقبل ذلك الدخول إلى مصر، فهو مختلف تماماً، لأنّ وصف البلاد التي كان منها الخروج لا ينطبق على مواد سفر الخروج، ثم ما من واحدٍ من ملوك مصر، لا سيما أيام حكم الهكسوس حمل لقب فرعون، بل عرف الملوك بملوك مصر العليا أو السفلى، أو هما معاً، والفرعون بالعربية هو الطاغية المتسلط، وفي القرآن الكريم نقرأ في سورة الفجر (إرمَ ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. وفرعون ذي الأوتاد. الذين طغوا في البلاد. فأكثروا فيها الفساد. فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد)، وواضح من هذه الآيات الكريمة الفرق والتمييز بين الأعمدة والأوتاد، فالأوتاد مرتبطة بخيام نظام البداوة، وأظهرت الحفريات الأثرية والمسح الشامل لشبه جزيرة سيناء وبرهنت أنها لم تعرِف حوادث ما عرف بالخروج، هذا ولم يفصِل سيناء عن مصر أيّ بحر (قبل حفر قناة السويس)، وشكّلت سيناء بين بلاد الشام ومصر جسراً للمواصلات، وهذا الجسر لم تتوقّف عليه الحركة قط بين البلدين، علماً بأنّه لم يكتشفْ أي ملك مصري غرق في البحر، وملك مصر لم يسكن الخيام، ولم يكن شيخ عشيرة يستنفر أتباعه ليقوم بمطاردة مفاجئة وسريعة.
وما قيل عن عبودية اليهود في مصر، وتسخيرهم في بناء الأهرامات محض اختلاق، لأنّ الأهرامات بُنِيَت في حوالي /2500 ق .م/ وتم الكشف عن مقابر الذين أسهموا في بناء هذه المقابر العملاقة، فتبين أنهم من أهل مصر، علماً بأن اليهود حملوا دوماً البغضاء لمصر، ودأبوا في العصر الحديث على التشهير بها وبتاريخها المجيد، بأعمال التبشير، وبالأفلام السينمائية، وظلّوا يضغطون على حكامها حتى ورّطوها في كامب ديفيد، مما ألحق أضراراً بها وبالأمة العربية لا يمكن تقديرها.
ومجدداً بالنسبة لسيناء قد يقول قائل: وماذا عما ورد في سورة التين قوله جل وعلا (والتين والزيتون. وطور سنين. وهذا البلد الآمين)؟ نقول: قد يكون المقصود هنا جبل شبه جزيرة سناء أو جبل القديسة كاترين، وهذا الجبل مقدس لدى النصارى وليس لدى اليهود، والقديسة كاترين مصرية لها حكاية طويلة في الآداب اللاهوتية للمسيحية، ومرة أخرى نواجه سؤالاً آخر حول المكان الذي هرب إليه النبي موسى، وحول مدين النبي شعيب، فالإشارة التي وردت في القرآن الكريم ذكرت اسم مكان اسمه طوى، وأنّ موسى عليه السلام مرّ بهذا المكان أثناء سفره، وذلك قوله تعالى (فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طُوى) سورة طه الآية 12، وقد تناول هذا الموضوع ياقوت الحموي في معجم البلدان، فبين اختلاف الآراء حول الموضوع، وروى بأنّ من معاني "بالواد المقدس طُوى": " أي طُوى مرتين، أي قدس... وثبت فيه البركة والتقديس مرتين"، وأضاف بأنّ "ذي طوى –بالضم أيضاً– موضع عند مكة", ومثل هذا هناك عدم اتفاق حول تحديد مكان مدين، حيث عاش النبي شعيب الذي اسمه عند اليهود "يثرو"، علماً بأنّ بعض الدراسات الحديثة الموجهة من قِبَل "إسرائيل" والصهيونية ذهبت إلى القول الآن إنّ بلاد مدين هي منطقة تبوك، وأنّ جبل موسى أو حوريب هو جبل اللوز هناك، وأنّ عبور البحر كان عند خليج العقبة، ودوافع هذا التوجه محض سياسية توسعية تستهدف السيطرة "الإسرائيلية" على خليج العقبة تماماً من جميع الجهات، وتثبت ذريعة للتوسع المستقبلي في شبه جزيرة العرب.
هذا ودلّلت نتائج الحفريات الأثرية على عدم دخول هجرة بشرية مدمّرة أو غير مدمّرة إلى أرض كنعان منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد، لذلك مال الكتاب الغربيون والصهاينة والذين يدورون بفلكهم إلى القول إنّه لم يكنْ هناك هجرة، بل تسرّب سلمي، دون تحديد لمصدر هذا التسرب، لا بل عدم اتفاق على هوية المتسربين وتعدادهم، وبالفعل هذا كله اختراع، والاختراع في التاريخ زيف، فقد برهنت المكتشفات الأثرية أنّ أريحا لم يلحقها التدمير نتيجة هجوم أو غير ذلك، ومثل هذا بقية مدن فلسطين التي كانت موجودة آنذاك.
وذهبت مرويات التوراة إلى أنّ موسى لم يدخلْ إلى فلسطين، بل وصل إلى منطقة مآب في أردن اليوم, وصعد إلى قمة جبل حيث شاهد "الأرض المقدسة" أو "أرض الميعاد" ثم توفي، ومن الصعود إلى قمة هذا الجبل في هذه الأيام لا يمكن مشاهدة أيّ شيء مما ورد ذكره في التوراة، ومن المؤكّد أنّ موسى لم يصِلْ إلى هذا الجبل، ولا إلى أية منطقة في بلاد الشام، وهم قالوا إنّ موسى قد دُفِن فيه لقداسة هذا الجبل منذ القديم، وبالفعل كان هذا الجبل مقدساً، ولذلك استعار كتاب التوراة اسمه، ذلك أنّ قمته وسفوحه، والوادي دونه، فيها مقابر كثيرة.
فقد جرت الحفريات الأثرية في هذا الجبل منذ عام 1933م، وتبيّن أنّه استخدم بمثابة مقبرة منذ الألف الرابع قبل الميلاد، وأنّ أقدم أنواع القبور فيه هي قد عرفت باسمه وهي منشآت حجرية كبيرة جداً، لها شكل مستدير، ولها فتحة من جهة الشرق، وكان بين ما تم العثور عليه في هذه القبور هو بعض الأدوات التي استخدمت في الحفر والبناء، وبعض الجرار، وإلى جانب مقابر الدلمون جرى اكتشاف مجموعة أخرى من القبور، ويعود تاريخها إلى أكثر من ألفيْن قبل الميلاد. وأفادت هذه المكتشفات أنّ العرب القدماء -خاصة البداة منهم- اعتادوا على القدوم إلى جبل نبو، حيث توفّر نبع غزير من الماء، مع بعض المراعي، فلقد كانوا يقدِمون منذ أيام الربيع حاملين معهم أجساد موتاهم لإعادة دفنها، وكانت هذه عادة مورست في أجزاء أخرى من فلسطين، ومعلوم أنّ كتبة التوراة لم يتحدثوا عن كيفية موت موسى، بل قاموا بسرقة العادة العربية الفلسطينية، وادّعوا جبل نبو لأنفسهم، لأنّه اتسم بالقداسة، وكان يضمّ عدداً من المقابر، ويرجّح أنهم فعلوا هذا لدى إحدى مراحل إعادة النظر بنص التوراة في أيام المكابيين.
ومع أنّني سوف أتطرّق ثانية إلى قضية داود وابنه سليمان، أشير هنا إلى أنّ الحفريات الأثرية في القدس لم تظهرْ ولا أدنى إشارة إلى بناء هيكل سليمان، وأهمّ من هذا أنّ هذه المدينة –كبلدة أو مدينة– لم تكنْ موجودة قبل أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، وارتبط قيام هذه البلدة مع تهديم حاضرة بيت عمري العربية (1)، واكتشاف نبع سلوان، ثم انهيار الدولة الآشورية، واسترداد مصر لقوتها.
مع التبدّلات التي رافقت ذلك في الاستراتيجيات والتسليح وفنون الحرب، وطرق التجارة، والقرب من شواطئ البحر المتوسط، وتصدّي المصريين للتوسّع الكلداني في فلسطين، ومع هذا التوسّع الذي هدّد مصر، وأعاد إلى الذاكرة الاحتلال الآشوري لها، ولسوف أعالج مسألة السبي البابلي فيما بعد مع غيرها من المسائل قبل العصور الكلاسيكية، وبودّي التنويه هنا إلى أنّ كل واحدة من القضايا المتقدم ذكرها تحتاج إلى أبحاث مستفيضة، وهذا من غير الممكن أنْ يقوم به فرد، بل يحتاج إلى مؤسسات بحث مختصة، وقد آن الأوان أنْ يكون في كل جامعة في المشرق والمغرب العربي مركز للدراسات "الإسرائيلية"، وأعجبُ في الوقت نفسه من إقدام المؤسسات المالية والصناعية والتجارية في الغرب على تأسيس مراكز للبحث، ونحن لا نفعل ذلك، مع أنّ أمتنا هي أمة الأوقاف وإنشاء المدارس، والإنفاق على العلم والعلماء وتأسيس المكتبات. ومن القواعد المتوجّب الالتزام بها في الأبحاث التاريخية الجادة، التمهيد بتقديم دراسة لأهم مصادر البحث، وأنْ تكون هذه الدراسة نقدية، ونظراً لخطورة موضوع تاريخ القدس، وفي الوقت نفسه لضيق المكان الآن، اضطررت إلى الاقتصار اليوم الإقدام على دراسة بعض المصادر المتداولة، وأدع الدراسة الوافية إلى مناسبة أخرى إنشاء الله تعالى ويسر. ومصادر التاريخ القديم للقدس كثيرة، تتصدرها -كما سلفت الإشارة- نتائج الحفريات الأثرية فيها، وفي فلسطين كلها، مع جميع أنحاء بلاد الشام، والنقوش المصرية القديمة، ونصوص ونقوش بلاد الرافدين ولا سيما الآشورية، ولا بد من التنبّه أولاً إلى أنّ جميع نصوص النقوش والكتابات القديمة تحتاج إلى إعادة قراءة وضبط لأنّ الزيف لحق قراءة معظم النصوص التي لها علاقة بالقدس، وما برح الباحثون العرب يعتمدون في الغالب على قراءة غير العرب لهذه النصوص، مع أنّ العدد الكبير من أوائل الأثريين كانوا إمّا من رجال اللاهوت، أو تحت تأثيرهم، وصار الأثريون -أو لنقل أكثريتهم، يعملون فيما بعد بتوجيهٍ من الصهيونية، وما برح هدف الأجيال الغربية، تثبيت ما ورد من أخبار في العهد القديم. والذي عثر عليه في مصر كثير جداً، وسأقف فقط عند بعضه الأهم، وهو نصوص اللعنة ونقش مرنبتاح ورسائل تل العمارنة: ومن المقرّر أنّ نصوص اللعنة تعود إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وقد كتبت هذه النصوص على آنية من الفخار، وبعض الدمى بالخط الهيراطيقي، ومثلت هذه الدمى أسرى موثوقين، كشف عنها في سقارة وطيبة، وهي محفوظة في كثير من المتاحف في أنحاء العالم، ويوجد منها نماذج في متحف القاهرة، والأسماء التي وردت في هذه النصوص: مصرية، ونوبية، وسورية (آسيوية)، ويقول أحد النصوص بعد ذكره لاسم الشخص الملعون وأسرته مع حلفائهم والمشتركين معهم، الذين يثورون أو يتآمرون، أو يقومون بالحرب، أو يفكرون بالثورة في جميع أنحاء البلاد أو "جميع الرجال، وجميع الناس، وجميع الشعب، وجميع الذكور، وجميع الخصيان، وجميع الذين يحاولون الثورة أو التآمر ويفكّرون بالحرب.... وكل كلمة شر، وكل مقالة سوء، وكل مؤامرة.
وبعد كتابة الأسماء والمطالب، كان المصريون القدماء يكسرون هذه القطع الفخارية، وكأنهم كانوا يعتقدون أنه يمكن بهذه الواسطة إحباط أيّ عملٍ عدوانيّ ضدّ مصر، ورواسب هذه العادة ما تزال تمارس حتى الآن في مصر وبلاد الشام، وكان لها مثل فعل السحر وتأثيره، وذلك مع الاعتقاد بأنّ الحرف هو كائن حي، ومن الأسماء السورية الآشورية التي وردت في نصوص اللعنة: بيبلوس (جبيل) وعسقلان، وأوزو-أمام صور– وأُشام م.
وأقدم الباحثون الغربيون فوراً على القول إنّ "أُشام م" هي مدينة "أورشليم" وفي هذا تدليسٌ مكشوف، لأنّ المعطيات الأثرية بيّنت أنّ مدينة القدس لم تكنْ قد تأسّست بعد، لأنها تأسست في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، وهي حملت اسم "أورشليم" بعد ليس أقل من ألف وخمسمائة سنة من تاريخ نصوص اللعنة، وطبعاً من الواضح أنّ الذي قصد بـ"أُشام م" هو بلاد الشام، التي غُزِيَت مصر دوماً من خلالها، متذكّرين أنّ تاريخ نصوص اللعنة يتزامن مع بدايات ظهور الهكسوس في مصر (2).
أمّا نقش مرنبتاح (1224-1214ق.م) فقد كتب على صخرة سوداء، وهو يتكون من ثمانية وعشرين سطراً، تحدّث فيه هذا الملك عن انتصاراته وإنجازاته ضدّ الليبيين، ثم على بعض مدن فلسطين، حيث قال في السطر السادس والعشرين: "وانبطح كلّ الزعماء طالبين السلام، ولم يعدْ أحدٌ يرفع رأسه من بين التسعة، وأمسكت التحنو، وخاتي هدأت، وأصيبت كنعان بكلّ أذى، استسلمت عسقلون وأخذت جزر، وينعم أصبحت كأنْ لم تكن "ويزريل" أقفر، ولم يعدْ له بذور، وخارو أصبحت أرملة".
ولدى التمعّن في هذا النص، نجد أنّ الذين جاء ذكرهم في الترجمة هم ثمانية، وليسوا تسعة، وهؤلاء الثمانية هم: "تحنو، وخاتي، وكنعان، وعسقلون، وجزر، وينعم، ويزريل، وخارو" فأين ذهب الاسم التاسع؟ وقبل طرح هذا السؤال النقدي، يلاحظ صدور دراسات كثيرة، احتارت كيف تتعامل مع الاسم "يزريل" فكلّها استسلم أنّ المعني هو "إسرائيل"، وكثرت الاجتهادات والتفسيرات، لكن قبل الغرق في بحار التزييف أعدْنا النظر بقراءة النص، فتبين أنّ تزييفاً لحق القراءة، ودمج هذا التزييف بين الاسمين السابع والثامن، وبذلك باتت الأسماء التسعة هي "تحنو، وخاتي، وكنعان، ويسقراني، وجزر، وينعم، ويازير، ويار، وخال" وهذا ومن المعتقد "يازير" هي "يازور" أي "بيت الزور" على بعد 6 كم إلى الشرق من يافا، أمّا جزر فتل يقع على بعد ثمانية كم إلى الجنوب الشرقي من الرملة (3)، ومن المحتمل أنّ "يار" هي يارين في جنوب لبنان.
وكان من قبْل قد ذهب عدد من الباحثين إلى القول إنّ رمسيس الثاني والد مرنبتاح هو "فرعون الخروج"، أمّا الآن فبناءً على القراءة المزيّفة صار مرنبتاح هو "فرعون الخروج"، وبشكلٍ ملطّف صار المقصود بـ"يزريل" سهل يسيراو، الذي صار يعرف باسم "سهل سدرالون" وبعد الإسلام "سهل -أو مرج- ابن عامر. ونلتفت الآن إلى رسائل تل العمارنة:
في عام 1887م، كانت فلاحة مصرية تحرث قطعة أرض في خرائب "تل العمارنة"، عاصمة الملك أخناتون أي أمنحوتب الرابع (حوالي 1379-1362ق.م) الواقعة على دلتا النيل، فعثرت على لوح طيني مجفّف عليه كتابات بلغة غريبة، فعرضته على أحد السماسرة، فتبيّن أنّه مكتوب باللغة الأكادية (الكنعانية)، وبادر المهتمون بالآثار، وأخذوا يبحثون، فبلغ عدد ما عثروا عليه ثلاثمائة وسبعة وسبعين لوحاً، فيها رسائل من بلاد الشام، نصفها تقريباً من ملوك محليّين، وأسماء هؤلاء الملوك كلها عربية من ذلك: عبدو هبه، ولبايو(اللبوي) ومليكو، وإيملكو، وكان هؤلاء بالواقع حكاماً صغاراً تذللوا كثيراً في رسائلهم إلى الملك المصري، وشكوا إليه من الصراعات وبعض الاضطرابات الأمنية، وطلبوا بعض المساعدات العسكرية، مثل عدد قليل من النبالة، وتحتوي النصوص إشارات إلى مجموعة بدوية كان اسمها "العفيرو"، وأخرى أعرابية كان اسمها "شاسو". وقرأ أوائل رجال الاستشراق اسم "عبدو هيبا" و"العفيرو" "الخبيرو"، وأرادوا من وراء ذلك القول إنّ العفيرو هم "العبرانيين"، وهنا لا ننكر أنّه وجدت جماعة كان اسمها "الخبيرو"، ولكن لا بدّ من التمييز بين "الخبيرو" و"العفيرو" زمنياً وجغرافياً، فالخبيرو ورد ذكرهم في رسائل من ماري على الفرات (1730-1700 ق.م)، وذلك نسبة إلى الخابور(4) أمّا العفيرو فهم بداة فلسطين، وفي العربية: التراب هو "العفر، وعافره: صارعه... والعفرة غبرة في حمرة..... والعفرة: المختلطون من الناس، وعفرة الحرب والشر: شدتها.... ورجل عفر، وعفرية، وعفراة... أي خبيث منكر.... ومعافر: قبيلة من اليمن.... والعفر: السهام (5), ويقابل كلمة "شاس" في عربية القرآن الكريم جاس، وفي سورة الإسراء -الآية الخامسة: (فجاسوا خلال الديار) يضاف إلى هذا أنّ معنى شاسوا باللغة الهيروغليفية "الأعرابي". والمتتبع لتاريخ فلسطين عبر العصور يجد أنّه كان فيها بالإضافة إلى سكان المدن والأرياف، دوماً بداة وأعراب، وهذا موثق في العصر الفاطمي، وفي كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ لدى وصفه لعبوره من مصر إلى الشام، وفي أواخر القرن الخامس عشر، في رحله فليكس فابري (6) وبعد رسائل العمارنة استمرّ ذكر "العفيرو" يرِد في الكتابات المصرية، من ذلك نقوش معبد هابو، التي تصور انتصار رمسيس الثالث (1188 - 1157ق.م ) على شعوب البحر (فرستي - فلستي ) وفي بردية هاريس، أهدى رمسيس هذا نفسه عدداً من "العفيرو" إلى معبد الإله رع في عين شمس، كما استخدم ابنه رمسيس الرابع (1157-1151) ثمانمائة من "العفيرو" في قطع الأحجار في وادي الحمامات (7).
وحاولت بعض البحوث الالتفافية أنْ تجدّد القول إنّ هذه الإشارات تعني دخول العبرانيين إلى مصر حسبما ورد في العهد القديم، كما أنّ القرآن الكريم في إشارته إلى كلّ من يوسف وموسى عليهما السلام، ذكر مصر خمس مرات (8)، وأن حاكمها عُرِف بفرعون، ومع أنّني سأقف مجدّداً عند تدوين العهد القديم وتقويم مواده الإخبارية، أوضح بدايةً أنّ أرض الكنانة كان اسمها في العصور القديمة "كمة–كميت" أي الأرض السمراء، وما من واحدٍ من ملوكها حمل لقب فرعون (9)، وظلّت أرض الكنانة تحمل اسمها هذا حتى ما بعد عصر الإسكندر المقدوني في القرن الرابع ق.م.
بدليل نقش جبل رام(2), الواقع إلى الشمال من خليج الحقبة، وقد كتب هذا النقش بحرف الجزم (القرآني) والمسند، والهيروغليفية، وجاء فيه "قاد عليّ جيشه، وانتهى بأرض ترضى لكلب جيشه عدا إلى الكمة كوم رع رب".
ولعل أرض الكنانة كسبت اسم "مصر" على أيدي القوى المشرقية منذ العصر الآشوري، أو قبيل العصر الأخميني، الذي كانت لغته الرسمية هي اللغة الآرامية، فبالأكادية "مصر" تعني: التخم، ومعناها في الآرامية "المجرى"، ومازلنا نستخدم كلمة "مصران" أكثر من كلمة أمعاء، وفي النصوص الآشورية وردت كلمة "مسري، مسرو" لتعني مجرى الفرات كله أو بعضه، ويقودنا هذا إلى المعنى القرآني حيث جاء في سورة البقرة (61) قوله تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نصبرَ على طعام واحد فادعُ لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإنّ لكم ما سألتم وضُربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله)، وهنا إذا افترضنا أنّ الخروج كان من أرض الكنانة، فهل من المعقول أنْ يطلب منهم موسى عليه السلام العودة إليها، ثم كيف سيكون هنالك انشقاق للبحر مرة ثانية، ومجدّداً أذكر ثانية أنّه من المعروف جغرافياً أنّه لا يوجد بحر يفصل بين مصر وشبه جزيرة سيناء، وأنّ "الإسرائيليين" الصهاينة قاموا أثناء احتلالهم لشبه جزيرة سيناء بالتفتيش في كلّ مكان، فلم يجدوا أيّ دليل على صحة حكاية الخروج حسبما وردت في العهد القديم، يضاف إلى هذا أنّ الخليل بن أحمد الفراهيدي بيّن في معجم العين (مادة مصر): "وقوله تعالى (اهبطوا مصراً) من الأمصار لذلك نوّنَه، ولو أراد مصر الكورة بعينها لما نون، لأنّ الاسم المؤنث في المعرفة لا يجري" ومثل هذا ورد عند الطبري في تفسيره قوله "اهبطوا مصراً" من الأمصار لأنكم في البدو، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي، وإنما يكون في القرى والأمصار(10).
ودفعت النتائج المحبطة لأعمال الكشف في شبه جزيرة سيناء، الصهاينة والذين يعملون بتوجيه منهم إلى القول إنّ جبل الطور، أو بالحري جبل موسى لم يقع في سيناء بل في منطقة تبوك، وثارت زوبعة هذه الدراسات لبعض الوقت، لكنها انطفأت الآن أو كادت، وقد عُرِضت بثوب أكاديمي شبه جغرافي ولغوي مضلل.
وعلى رأس الاعتراضات على هذه الدراسات أنها غير موثقة، وطرحت بأنّ التوراة كتاب مواده معتمدة (11) وهو ليس كذلك، وهو ليس تاريخ ولا حتى كتاب دين أو ميثولوجيا، إنه مواد جمعت من مشارب كثيرة متنوعة ومتباينة، وقد استغرقت عملية تدوين هذه المواد وتنقيحها والإضافة إليها حوالي الألف وخمسمائة سنة، وفرضية اللغة والتشابه بين الأسماء مغوية، تحتاج إلى توثيق حسب المراحل التاريخية، أي مراحل الاستعارة من قبل الحاخامات عبر العصور، ولهذا أجمع العلماء على القول إنّ كلّ فقرة من أسفار العهد القديم تحتاج إلى تحليلٍ نقدي من أجل التيقّن والإعادة إلى المصدر، والعصر، والمكان والكاتب، مع الاهتمام بالمناخ والتضاريس والزراعة، لا سيما وأنّ زراعة الزيتون غير موجودة في شبه جزيرة العرب، وكذلك الحياة الاجتماعية وغير ذلك كثير، ووراء هذه الدراسات هدف خطير، استهدف جعل مواد العهد القديم المعيار الذي تقاس عليه معلومات القرآن الكريم، وكذلك مرويات تاريخ العرب قبل الإسلام والمكتشفات الأثرية.
ولدى القول إنّ منطقة خليج العقبة كانت المنطقة التي انشقّ فيها البحر، ليتم العبور إلى بلاد مدين أيْ تبوك الحالية، لأنّ شبه جزيرة سيناء كانت دوماً بيد القوات المصرية من أجل المواصلات مع بلاد الشام، ومناجم النحاس واللازورد (الفيروز)، هذا القول صحيح يرافقه سؤال هو: كيف تسنى للخارجين الفارين الوصول من مصر إلى منطقة خليج العقبة، والمسالح المصرية منتشرة في كلّ مكان من سيناء، وبعد هذا كله لماذا أغفل المصريون القدماء تدوين أخبار هذه الأحداث الجسام؟ ويبدو أنّه في الوقت الذي اكتسبت فيه أرض الكنانة اسماً آرامياً جديداً، نالت أيضاً تسمية إغريقية، انتقلت فيما بعد إلى اللغات الغربية، وأعني بذلك كلمة إيجبت وبات أهلها يعرفون بالتالي باسم "قبط" وأصل هذه التسمية هو أنّ المصريين القدماء أطلقوا اسم "حكفكت" أو "حكفت" على العاصمة "منوفر" التي دعاها الإغريق باسم ممفيس(12), وقد حوّر الإغريق اسم "حكفت " إلى إيجبت، لأنهم كتبوا دوماً حرف الحاء "ألفاً" والفاء "باء" ، ومع الأيام أصبحت التسمية الجديدة معتمدة منذ العصور الكلاسيكية، حيث امتد الحكم الكلاسيكي لمصر لمدة حوالي الألف عام ويشكّل ما تقدّم نماذج حول مكانة المصادر المصرية القديمة، وأن الحاجة ملحة لنقل النصوص القديمة لتاريخنا إلى العربية مباشرة، وليس عبر لغة غربية وسيطة، وينطبق هذا أيضاً على المصادر الرافدية من بابلية وآشورية، علماً بأنّ المصادر الرافدية ليست بالقدم نفسه مثل المصادر المصرية، هذا وإننا ننتظر ظهور الكثير المهم من المواد السورية القديمة من قطنة وإيبلا، وأقدم المصادر البابلية وأهمها ما جاء من الدولة الآشورية ثم من دولة بابل الثانية، فمن المعلوم أنّ العراق بلد قاريّ، لذلك سعى حكام العراق نحو السيطرة على بلاد الشام والوصول إلى شواطئ البحر المتوسط، وقاد هذا إلى أعمال توسّع أكبر، ويضاف إلى هذا إمكانات بلاد الشام من جميع النواحي وتوفّر أكبر مناجم للنحاس ولتصنيع البرونز في العالم القديم في فيفان في أردن اليوم.
ومن غير الممكن الحديث عن علاقات لدولة بابل الأولى مع القدس، لأنّ القدس لم تكنْ قد تأسّست بعد، بل ربما كان هناك على مقربة منها محرس عسكري صغير جداً، أمّا في العصر الآشوري فمِنَ الممكن الحديث عن سياسة آشورية معتمدة نحو فلسطين منذ أيام "سلمان نصر"، ومع ذلك لم يرِدْ ذكر للقدس إلا مرّة واحدة فقط هي في نص يعود إلى أيام الملك سنحريب (704 81ق.م)، وفي هذا النص تناقضات أكبر مما ورد في النصوص الآشورية الأخرى، حول اسم ملك القدس آنذاك، علماً بأنّ النصوص الآشورية قد اتّسمت دوماً بالمبالغة بالمعلومات التي حوتها، وقد استمرت دولة آشور بالوجود حتى عام 612 ق.م, حيث سقطت لدولة بابل الثانية الكلدانية– والمهم بالنسبة لموضوعنا بين ملوك الكلدانيين هو نبوخذ نصر الثاني (605- 562 ق.م) والنصوص التي وصلتنا عن حملاته إلى سورية، وطبعاً تعزو النصوص التوراثية إليه ما يعرف باسم "السبي البابلي".
ولم تعمّرْ الدولة الكلدانية طويلاً بعد نبوخذ نصر، وسقطت بابل عام 538ق.م إلى الملك الفارسي قورش، حيث سلّمه إياها كهنة مردوخ، وفي أيام الملك قمبيز بعد قورش احتلّ الفرس بلاد الشام، وكذلك مصر، كما أنّ جيوشهم شرعت منذ ذلك الوقت بالتوغّل في آسيا الصغرى وصولاً حتى بلاد الإغريق.
وقبل الاستطراد بالحديث عن الحقبة الفارسية أعود إلى حكاية السلبي البابلي، فقد تحدّث الملك نبوخذ نصر عن حملاته، وأهمها الحملة التي قام بها في السنة السابعة من حكمه حيث جاء في النص الذي تحدث عنها "السنة السابعة: شهر كسيليمو (كانون أول) حرّك ملك أكاد جيشه إلى أرض حتى، وحاصر مدينة ياحودو، فاستولى على المدينة في اليوم الثاني من شهر آذارو، وعيّن فيها ملكاً حسبما ارتضاه، واستولى على غنائم ثقيلة منها وجلبها إلى بابل(13) وطبعاً لم يكنْ اسم القدس في يومٍ من الأيام ياحودو، والدراسة المتأنية لنصوص نبوخذ نصر تظهر أنّه لم يستولِ على القدس، ولم يدخلْ فلسطين إلا مرة واحدة، جرى صده فيها من قبل الجيوش المصرية، ويقيناً لم يكنْ هناك سبي ليهود من القدس إلى بابل، لأنّ اليهود لم يكونوا قد ظهروا على مسرح التاريخ، يضاف إلى هذا أنّ الحفريات الأثرية أظهرت أنّ القدس كانت مدينة مزدهرة عامرة في التاريخ الذي قيل إنّها تعرّضت فيه للخراب على أيدي جيوش نبوخذ نصر، لكن هذه المدينة أخذت تتراجع لتصبح شبه قرية، وكان ذلك بعد أكثر من نصف قرن، أيام الحكم الأخميني، التي قيل إنّ فيها أعيد بناء المدينة حسبما جاء في سفري عزرا ونحميا، وتم فيها أيضاً عودة المنفيين(14).
ولقد أظهرت نتائج الحفريات الأثرية التي جرت في بابل أنّه لم يكنْ في هذه الحاضرة العريقة قبل احتلالها من قِبَل قورش غير الذين عبدوا الإله "مردوخ" وبقيت هكذا حتى تاريخ تهديمها، ومعروف أنّه في البلاط الأخميني ومن قبْل عزرا الكاتب الذي كان يعمل به جرت المحاولة الأولى لتدوين أسفار التوراة، وأنّ الأخمنيين أسكنوا في كلّ من مصر وفلسطين حاميات عسكرية أحضروها من المشرق، وسكنت الحامية العسكرية الأخمينية في مصر في جزيرة الفيلة، وشُهِرت بعبادة الإله يهوه، وهو إله للزوابع، ويرجّح هنا أنّ الحامية التي جلبت إلى فلسطين سكنت في القدس ومن حولها، وكانت على اتصال بحامية مصر، وورد اسم المنطقة الإدارية التي سكنت فيها في البداية أحياناً باسم يه YH ثم على شكل YHWD أوYhw أوYhd أوYodh-he أوYhwd-phw أوYhd-tet، ووردت هذه الصيغ على بقايا قطع من الفخار، لأنّ الفخار كان يختم باسم المنطقة الإدارية التي كان يصنع بها لأسباب إدارية وضرائبية، ومع الأيام عرفت منطقة هذه الفئة باسم "يهود" وأخذ سكانها يتميّزون بديانة ثنوية نبعت من الزرادشتية وامتزجت مع بقايا تقاليد عرفت باسم الموسوية، وما تزال هذه القضية قيد البحث، وبحاجةٍ إلى المزيد من التعميق، لكن لسوء الحظ أنّ مصادر الحقبة الخمينية التي استمرّتْ حوالي القرنيين قليلة جداً، وسكنى هذه الطائفة في فلسطين صبغت بثوب ديني أسطوري، فكانت وراء ما ورد في سفرَيْ عزرا ونحميا، وحكاية العودة من السبي، وإعادة بناء الهيكل المزعوم وأسوار القدس، والمهم هنا أنّ أعمال الكشف الأثري أفادت أنّ مساحة هذه المقاطعة كانت 651 دونماً –ولم يتجاوز عدد سكانها 16,300 إنسان-، وأنّ موقعين فقط بلغت مساحة كل واحد منهما 20 دونماً، وأنّ سكان القدس كان تعدادهم ما بين 1200 إلى 1500 إنسان (15).
وبودّي لو أتيح لي الوقت الآن للحديث عن تاريخ الديانة اليهودية، وعن تاريخ أسفار العهد القديم وعن محتوياته، وكذلك عن التلمود، ولعلّ ذلك يكون في مناسبة أخرى إنشاء الله.
المهم أنّنا عرفنا الآن أصل منشأ كلمة يهود ويهودية، ومن ثم باتت جميع الآراء الماضية والنظريات ملكاً للتاريخ، وألتفت الآن لإعطاء تعريف موجز بموقع القدس ثم البحث في اسم هذه المدينة الذي عرفت به أولاً.
المصدر:
د. سهيل زكار / المؤرخ والأستاذ الجامعي بكلية الآداب– جامعة دمشق.
مؤسسة فلسطين للثقافة
مقدمة
ما من مدينة حظيت باهتمام الباحثين والمؤرخين مثل مدينة القدس، وكذلك باهتمام رجال اللاهوت والسياسة، ويلاحظ أنّ جُلَّ الكتابات بغير العربية لم تتحرّر بعد من التأثيرات المنبعثة من أساطير العهد القديم من الكتاب المقدس، لا بل إنّ غالبيتها يداري هذه الأساطير ويخشى من أتباعها، أو يسعى لتسويقها بطرق التفافية، فيها مكر وخداع، وبراعة متناهية، وقد يكون هذا مسوغاً بعض الشيء للمنتمين للمجتمعات الغربية، مع أنّ السمة الأساسية للمؤرخ هي الحيادية والصدق والصراحة، وصحيح أنّ التاريخ خبر ورؤية، لكن لا يجوز اعتماد الخبر الزائف، كما لا يجوز أنْ تتحول الرؤية إلى تأويل، لأنّ في التأويل تعطيل.
والذي يثير الحزن والحيرة هو الكتابات العربية، فبعض هذه الكتابات هي نسخ مصنعة بمهارة كبيرة، مع اقتباس كامل للكتابات الغربية، وبالتالي تستهدف بمختلف الطرق تسويق المزاعم الصهيونية، أو بالحري أساطير العهد القديم، والتي في الوقت نفسه محاطة بهالة من القداسة، تراكمت خلال ما يزيد على ثلاثة آلاف عام، وهذه الأساطير كانت وما برحت ميداناً رحباً للقصّاص والوعاظ، والمبشرين والخطباء، ذلك أنّ الكثيرين من هؤلاء في الغرب المسيحيّ، وأيضاً بين المسلمين, مصابون بوباء الإسرائيليات، وأشدّ ما يخشاه الإنسان أنّ الجهل المترافق مع التعصب يقود إلى مزالق خطرة جداً، فقد تصدّى مؤخّراً واحدٌ من العلماء المرموقين للبحث في صحة الأحاديث المتعلقة بالصخرة، وليت الأمر اقتصر على هذا، بل خلص إلى القول بعدم صحّة جميع الأحاديث، وأنّ الصخرة حق لليهود، اغتصبه المسلمون، ولم ينتبهْ إلى أنّه حين قال بالاغتصاب اتهم النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، حين صلى هناك بجميع الأنبياء يوم الإسراء، وأنّ المعراج لم يكنْ من فوق الصخرة إلا لحكمة ربانية، أقلّها أنّ طريق السماء يمر عبر القدس إلى مكة المكرمة والمدينة، والتفريط بأيّ جزء من القدس مقدمة للتفريط بمكة والمدينة، ولم تقتصر التهمة هنا على النبي صلى الله عليه وسلم، بل شملت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، حين قدم إلى القدس فتسلّمها محرّراً، وفتش عن موقع الصخرة، وإلى جانبها اختطّ محراب المسجد العمري أو المسجد الأقصى.
هذا وما مِنْ أمرٍ أضرّ بالفكر الإسلاميّ، خاصة بالتفسير والأخبار والقصص, مثل الإسرائيليات، وعجباً كيف أقدم بعضهم على تفسير كلام الله بكلام الحاخامات، وما زالوا يفعلون، أوليس هؤلاء ممن ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، والمصادر المعتمدة لتاريخ القدس القديم، هي نتائج الحفريات الأثرية فيها، وفي جميع أرجاء بلاد البحر المتوسط، ومع الآثار الكتب والمدونات إنْ توفرت، وفحصت رواياتها ومحصت وفق قواعد البحث التاريخي، وكانت القدس قد شهدت الحفريات الأثرية، التي تولاها الغربيون منذ عام 1799م، وأضرّت معظم هذه الحفريات أكثر مما أفادت، لأنها شوّهت المواقع الأثرية، بسبب أنها جرت على أيدي هواة ورجال لاهوت، استهدفوا البرهنة على صحة مرويات العهد القديم وليس كشف الحقيقة، ولذلك ينبغي التعامل مع تقارير هذه الحفريات بكلّ حذر، علماً بأنّ العلماء باتوا لا يأخذون بجلّ التقارير التي كتبت قبْل العقد الأخير من القرن الماضي، فمنذ تسعينات القرن العشرين بدأت الحفريات الأثرية تكتسي الطابع العلميّ إلى حدٍّ ما ، وأجمعت نتائج الحفريات أنّ جميع مرويات العهد القديم شيء والتاريخ الصحيح شيء آخر تماماً، وبناءً عليه باتت تقارير الآثاريين الغربيين تحمل من التناقضات أكثر مما تحمله مرويات العهد القديم، وفيها تزييف غالباً ما جاء متعمّداً، وتوجّب الآن على كل باحث منصف عدم تصديق قراءات النصوص القديمة مع التفاسير التي أعدّت حولها، وإعادة النظر بكل شيء.
هذا وكان بودّي أنْ أقدّم الآن عرضاً لتاريخ تدوين أسفار العهد القديم، مع تبيان مراحل تطور العقيدة الموجودة في هذه الأسفار، ولكن لتعذّر ذلك لعله تكفي الإشارة الآن إلى أنّ أول محاولة لتدوين ما نُسِب إلى النبي موسى عليه السلام، جرت بعده بحوالي عشرة قرون على الأقل، وأنّ ذلك كان في بلاط الدولة الأخمينية الفارسية، هذا وينبغي أنْ نميّز دوماً بين بني إسرائيل وبين اليهود، ذلك أنّ اسم يهود ظهر في أيام الحكم الأخميني لفلسطين، نسبة إلى موقع إداريّ صغير، ونضيف إلى هذا أنّه في أيامنا أكثر من تسعين بالمائة من يهود العالم الأوروبي وفلسطين المحتلة هم من أصل خزري، وهذه كلها موضوعات تناولتها بالبحث العلمي الدقيق والموثق.
في تمهيدٍ للحديث عن تاريخ القدس, القديم سوف أشير إلى تواريخ بعض الأحداث المزعومة حسب مرويات العهد القديم، وبالمقابل إلى التواريخ المعطاة من خلال الحفريات الأثرية اعتماداً على دراسة الطبقات والنماذج الأثرية، والكربون المشعّ (14) والتحليل بالطيف.
2000–500 ق.م. الزمن الذي عاش فيه إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
1260–1250 ق.م. الزمن المعطى للخروج من مصر بقيادة موسى.
1200–1000 ق.م. الاستقرار في أرض كنعان بقيادة يوشع بن نون.
1001–969 ق.م. تأسيس مملكة داود في القدس.
969–931 ق.م. ملك سليمان وبناء الهيكل الأول.
931–931 ق.م. ملك رحبعام بن سليمان، وانقسام المملكة إلى مملكتين, في الشمال مملكة إسرائيل، وفي الجنوب مملكة يهوذا.
931–910 ق.م. ملك يربعام بن سليمان على مملكة إسرائيل.
885–874 ق.م. قيام مملكة بيت عمري التي حاضرتها ما عرف باسم مدينة سمر أو السامرة.
874 853 ق.م. ملك أحاب بن عمري.
723–722 ق.م. استيلاء الآشوريين على سمر (السامرة) وتهجير أهلها وإحلال قومٍ جدد محلهم.
605–586 ق.م. سقوط الدولة الآشورية، وقيام دولة بابل الثانية (الكلدانية).
587–538 ق.م. السبي البابلي.
538 ق.م استيلاء قورش على بابل.
538–333 ق.م. الحكم الإخميني لبلاد الشام, وكذلك مصر.
336 ق.م. ظهور الإسكندر المقدوني.
141 ق.م. قيام كيان الحشمونيين أو المكابيين.
63 ق.م استيلاء بومبي باسم روما على بلاد الشام.
37 ق.م–4 م. ملك هيرود الكبير.
66– 73م تدمير فسبسيان الروماني لفلسطين وإبادة أهلها.
ولدى التعامل مع الأرقام المبكرة من هذه التواريخ, المفترضة لم يمكنْ العثور على ما يؤكد دخول إبراهيم إلى فلسطين، وبيّنت الدراسات النقدية للنصوص التوراتية، أنّ أخباره أضيفت إليها في تاريخ لاحق، في حوالي القرن الميلادي الأول، وأودعت في سفر التكوين، ثم إنّ عمليات المسح الكامل للبحر الميت لم تكشفْ عن غرق مدينتي سدوم وعمروة فيه، وحين ذهب باحثان أمريكيان إلى أنْ موقع "باب الذرا" هي سدوم، و"النميرية" هي عمورة تبيّن أنّ هذين الموقعين قائمان على مقربة من البحر الميت، وليس فيه، وأنّ الحياة توقّفت فيهما في عام (2350 ق.م.)، ولم يعثرْ في البقايا الأثرية على ما يشير إلى حياة غير عادية، لا سيما بعد اكتشاف المقابر هناك، وفحص بقايا الهياكل العظمية، ولا أستهدف هنا نفي خبر إبراهيم الخليل، ولا خبر قوم لوط، بل أريد التذكير بأنّ حياة إبراهيم مرتبطة مع مكة المكرمة، وبناء البيت الحرام فيها، وأنّ الشذوذ الجنسي لم يمارَس في بلاد الشام، وأنّ القرآن الكريم حين أتى على ذكر ما حلّ بقوم لوط لم يحدّد لا الزمان ولا المكان (أنظر سورة هود– الآيات: 73-83). وفيما يتعلق بموضوع الخروج، وقبل ذلك الدخول إلى مصر، فهو مختلف تماماً، لأنّ وصف البلاد التي كان منها الخروج لا ينطبق على مواد سفر الخروج، ثم ما من واحدٍ من ملوك مصر، لا سيما أيام حكم الهكسوس حمل لقب فرعون، بل عرف الملوك بملوك مصر العليا أو السفلى، أو هما معاً، والفرعون بالعربية هو الطاغية المتسلط، وفي القرآن الكريم نقرأ في سورة الفجر (إرمَ ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. وفرعون ذي الأوتاد. الذين طغوا في البلاد. فأكثروا فيها الفساد. فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد)، وواضح من هذه الآيات الكريمة الفرق والتمييز بين الأعمدة والأوتاد، فالأوتاد مرتبطة بخيام نظام البداوة، وأظهرت الحفريات الأثرية والمسح الشامل لشبه جزيرة سيناء وبرهنت أنها لم تعرِف حوادث ما عرف بالخروج، هذا ولم يفصِل سيناء عن مصر أيّ بحر (قبل حفر قناة السويس)، وشكّلت سيناء بين بلاد الشام ومصر جسراً للمواصلات، وهذا الجسر لم تتوقّف عليه الحركة قط بين البلدين، علماً بأنّه لم يكتشفْ أي ملك مصري غرق في البحر، وملك مصر لم يسكن الخيام، ولم يكن شيخ عشيرة يستنفر أتباعه ليقوم بمطاردة مفاجئة وسريعة.
وما قيل عن عبودية اليهود في مصر، وتسخيرهم في بناء الأهرامات محض اختلاق، لأنّ الأهرامات بُنِيَت في حوالي /2500 ق .م/ وتم الكشف عن مقابر الذين أسهموا في بناء هذه المقابر العملاقة، فتبين أنهم من أهل مصر، علماً بأن اليهود حملوا دوماً البغضاء لمصر، ودأبوا في العصر الحديث على التشهير بها وبتاريخها المجيد، بأعمال التبشير، وبالأفلام السينمائية، وظلّوا يضغطون على حكامها حتى ورّطوها في كامب ديفيد، مما ألحق أضراراً بها وبالأمة العربية لا يمكن تقديرها.
ومجدداً بالنسبة لسيناء قد يقول قائل: وماذا عما ورد في سورة التين قوله جل وعلا (والتين والزيتون. وطور سنين. وهذا البلد الآمين)؟ نقول: قد يكون المقصود هنا جبل شبه جزيرة سناء أو جبل القديسة كاترين، وهذا الجبل مقدس لدى النصارى وليس لدى اليهود، والقديسة كاترين مصرية لها حكاية طويلة في الآداب اللاهوتية للمسيحية، ومرة أخرى نواجه سؤالاً آخر حول المكان الذي هرب إليه النبي موسى، وحول مدين النبي شعيب، فالإشارة التي وردت في القرآن الكريم ذكرت اسم مكان اسمه طوى، وأنّ موسى عليه السلام مرّ بهذا المكان أثناء سفره، وذلك قوله تعالى (فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طُوى) سورة طه الآية 12، وقد تناول هذا الموضوع ياقوت الحموي في معجم البلدان، فبين اختلاف الآراء حول الموضوع، وروى بأنّ من معاني "بالواد المقدس طُوى": " أي طُوى مرتين، أي قدس... وثبت فيه البركة والتقديس مرتين"، وأضاف بأنّ "ذي طوى –بالضم أيضاً– موضع عند مكة", ومثل هذا هناك عدم اتفاق حول تحديد مكان مدين، حيث عاش النبي شعيب الذي اسمه عند اليهود "يثرو"، علماً بأنّ بعض الدراسات الحديثة الموجهة من قِبَل "إسرائيل" والصهيونية ذهبت إلى القول الآن إنّ بلاد مدين هي منطقة تبوك، وأنّ جبل موسى أو حوريب هو جبل اللوز هناك، وأنّ عبور البحر كان عند خليج العقبة، ودوافع هذا التوجه محض سياسية توسعية تستهدف السيطرة "الإسرائيلية" على خليج العقبة تماماً من جميع الجهات، وتثبت ذريعة للتوسع المستقبلي في شبه جزيرة العرب.
هذا ودلّلت نتائج الحفريات الأثرية على عدم دخول هجرة بشرية مدمّرة أو غير مدمّرة إلى أرض كنعان منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد، لذلك مال الكتاب الغربيون والصهاينة والذين يدورون بفلكهم إلى القول إنّه لم يكنْ هناك هجرة، بل تسرّب سلمي، دون تحديد لمصدر هذا التسرب، لا بل عدم اتفاق على هوية المتسربين وتعدادهم، وبالفعل هذا كله اختراع، والاختراع في التاريخ زيف، فقد برهنت المكتشفات الأثرية أنّ أريحا لم يلحقها التدمير نتيجة هجوم أو غير ذلك، ومثل هذا بقية مدن فلسطين التي كانت موجودة آنذاك.
وذهبت مرويات التوراة إلى أنّ موسى لم يدخلْ إلى فلسطين، بل وصل إلى منطقة مآب في أردن اليوم, وصعد إلى قمة جبل حيث شاهد "الأرض المقدسة" أو "أرض الميعاد" ثم توفي، ومن الصعود إلى قمة هذا الجبل في هذه الأيام لا يمكن مشاهدة أيّ شيء مما ورد ذكره في التوراة، ومن المؤكّد أنّ موسى لم يصِلْ إلى هذا الجبل، ولا إلى أية منطقة في بلاد الشام، وهم قالوا إنّ موسى قد دُفِن فيه لقداسة هذا الجبل منذ القديم، وبالفعل كان هذا الجبل مقدساً، ولذلك استعار كتاب التوراة اسمه، ذلك أنّ قمته وسفوحه، والوادي دونه، فيها مقابر كثيرة.
فقد جرت الحفريات الأثرية في هذا الجبل منذ عام 1933م، وتبيّن أنّه استخدم بمثابة مقبرة منذ الألف الرابع قبل الميلاد، وأنّ أقدم أنواع القبور فيه هي قد عرفت باسمه وهي منشآت حجرية كبيرة جداً، لها شكل مستدير، ولها فتحة من جهة الشرق، وكان بين ما تم العثور عليه في هذه القبور هو بعض الأدوات التي استخدمت في الحفر والبناء، وبعض الجرار، وإلى جانب مقابر الدلمون جرى اكتشاف مجموعة أخرى من القبور، ويعود تاريخها إلى أكثر من ألفيْن قبل الميلاد. وأفادت هذه المكتشفات أنّ العرب القدماء -خاصة البداة منهم- اعتادوا على القدوم إلى جبل نبو، حيث توفّر نبع غزير من الماء، مع بعض المراعي، فلقد كانوا يقدِمون منذ أيام الربيع حاملين معهم أجساد موتاهم لإعادة دفنها، وكانت هذه عادة مورست في أجزاء أخرى من فلسطين، ومعلوم أنّ كتبة التوراة لم يتحدثوا عن كيفية موت موسى، بل قاموا بسرقة العادة العربية الفلسطينية، وادّعوا جبل نبو لأنفسهم، لأنّه اتسم بالقداسة، وكان يضمّ عدداً من المقابر، ويرجّح أنهم فعلوا هذا لدى إحدى مراحل إعادة النظر بنص التوراة في أيام المكابيين.
ومع أنّني سوف أتطرّق ثانية إلى قضية داود وابنه سليمان، أشير هنا إلى أنّ الحفريات الأثرية في القدس لم تظهرْ ولا أدنى إشارة إلى بناء هيكل سليمان، وأهمّ من هذا أنّ هذه المدينة –كبلدة أو مدينة– لم تكنْ موجودة قبل أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، وارتبط قيام هذه البلدة مع تهديم حاضرة بيت عمري العربية (1)، واكتشاف نبع سلوان، ثم انهيار الدولة الآشورية، واسترداد مصر لقوتها.
مع التبدّلات التي رافقت ذلك في الاستراتيجيات والتسليح وفنون الحرب، وطرق التجارة، والقرب من شواطئ البحر المتوسط، وتصدّي المصريين للتوسّع الكلداني في فلسطين، ومع هذا التوسّع الذي هدّد مصر، وأعاد إلى الذاكرة الاحتلال الآشوري لها، ولسوف أعالج مسألة السبي البابلي فيما بعد مع غيرها من المسائل قبل العصور الكلاسيكية، وبودّي التنويه هنا إلى أنّ كل واحدة من القضايا المتقدم ذكرها تحتاج إلى أبحاث مستفيضة، وهذا من غير الممكن أنْ يقوم به فرد، بل يحتاج إلى مؤسسات بحث مختصة، وقد آن الأوان أنْ يكون في كل جامعة في المشرق والمغرب العربي مركز للدراسات "الإسرائيلية"، وأعجبُ في الوقت نفسه من إقدام المؤسسات المالية والصناعية والتجارية في الغرب على تأسيس مراكز للبحث، ونحن لا نفعل ذلك، مع أنّ أمتنا هي أمة الأوقاف وإنشاء المدارس، والإنفاق على العلم والعلماء وتأسيس المكتبات. ومن القواعد المتوجّب الالتزام بها في الأبحاث التاريخية الجادة، التمهيد بتقديم دراسة لأهم مصادر البحث، وأنْ تكون هذه الدراسة نقدية، ونظراً لخطورة موضوع تاريخ القدس، وفي الوقت نفسه لضيق المكان الآن، اضطررت إلى الاقتصار اليوم الإقدام على دراسة بعض المصادر المتداولة، وأدع الدراسة الوافية إلى مناسبة أخرى إنشاء الله تعالى ويسر. ومصادر التاريخ القديم للقدس كثيرة، تتصدرها -كما سلفت الإشارة- نتائج الحفريات الأثرية فيها، وفي فلسطين كلها، مع جميع أنحاء بلاد الشام، والنقوش المصرية القديمة، ونصوص ونقوش بلاد الرافدين ولا سيما الآشورية، ولا بد من التنبّه أولاً إلى أنّ جميع نصوص النقوش والكتابات القديمة تحتاج إلى إعادة قراءة وضبط لأنّ الزيف لحق قراءة معظم النصوص التي لها علاقة بالقدس، وما برح الباحثون العرب يعتمدون في الغالب على قراءة غير العرب لهذه النصوص، مع أنّ العدد الكبير من أوائل الأثريين كانوا إمّا من رجال اللاهوت، أو تحت تأثيرهم، وصار الأثريون -أو لنقل أكثريتهم، يعملون فيما بعد بتوجيهٍ من الصهيونية، وما برح هدف الأجيال الغربية، تثبيت ما ورد من أخبار في العهد القديم. والذي عثر عليه في مصر كثير جداً، وسأقف فقط عند بعضه الأهم، وهو نصوص اللعنة ونقش مرنبتاح ورسائل تل العمارنة: ومن المقرّر أنّ نصوص اللعنة تعود إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وقد كتبت هذه النصوص على آنية من الفخار، وبعض الدمى بالخط الهيراطيقي، ومثلت هذه الدمى أسرى موثوقين، كشف عنها في سقارة وطيبة، وهي محفوظة في كثير من المتاحف في أنحاء العالم، ويوجد منها نماذج في متحف القاهرة، والأسماء التي وردت في هذه النصوص: مصرية، ونوبية، وسورية (آسيوية)، ويقول أحد النصوص بعد ذكره لاسم الشخص الملعون وأسرته مع حلفائهم والمشتركين معهم، الذين يثورون أو يتآمرون، أو يقومون بالحرب، أو يفكرون بالثورة في جميع أنحاء البلاد أو "جميع الرجال، وجميع الناس، وجميع الشعب، وجميع الذكور، وجميع الخصيان، وجميع الذين يحاولون الثورة أو التآمر ويفكّرون بالحرب.... وكل كلمة شر، وكل مقالة سوء، وكل مؤامرة.
وبعد كتابة الأسماء والمطالب، كان المصريون القدماء يكسرون هذه القطع الفخارية، وكأنهم كانوا يعتقدون أنه يمكن بهذه الواسطة إحباط أيّ عملٍ عدوانيّ ضدّ مصر، ورواسب هذه العادة ما تزال تمارس حتى الآن في مصر وبلاد الشام، وكان لها مثل فعل السحر وتأثيره، وذلك مع الاعتقاد بأنّ الحرف هو كائن حي، ومن الأسماء السورية الآشورية التي وردت في نصوص اللعنة: بيبلوس (جبيل) وعسقلان، وأوزو-أمام صور– وأُشام م.
وأقدم الباحثون الغربيون فوراً على القول إنّ "أُشام م" هي مدينة "أورشليم" وفي هذا تدليسٌ مكشوف، لأنّ المعطيات الأثرية بيّنت أنّ مدينة القدس لم تكنْ قد تأسّست بعد، لأنها تأسست في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، وهي حملت اسم "أورشليم" بعد ليس أقل من ألف وخمسمائة سنة من تاريخ نصوص اللعنة، وطبعاً من الواضح أنّ الذي قصد بـ"أُشام م" هو بلاد الشام، التي غُزِيَت مصر دوماً من خلالها، متذكّرين أنّ تاريخ نصوص اللعنة يتزامن مع بدايات ظهور الهكسوس في مصر (2).
أمّا نقش مرنبتاح (1224-1214ق.م) فقد كتب على صخرة سوداء، وهو يتكون من ثمانية وعشرين سطراً، تحدّث فيه هذا الملك عن انتصاراته وإنجازاته ضدّ الليبيين، ثم على بعض مدن فلسطين، حيث قال في السطر السادس والعشرين: "وانبطح كلّ الزعماء طالبين السلام، ولم يعدْ أحدٌ يرفع رأسه من بين التسعة، وأمسكت التحنو، وخاتي هدأت، وأصيبت كنعان بكلّ أذى، استسلمت عسقلون وأخذت جزر، وينعم أصبحت كأنْ لم تكن "ويزريل" أقفر، ولم يعدْ له بذور، وخارو أصبحت أرملة".
ولدى التمعّن في هذا النص، نجد أنّ الذين جاء ذكرهم في الترجمة هم ثمانية، وليسوا تسعة، وهؤلاء الثمانية هم: "تحنو، وخاتي، وكنعان، وعسقلون، وجزر، وينعم، ويزريل، وخارو" فأين ذهب الاسم التاسع؟ وقبل طرح هذا السؤال النقدي، يلاحظ صدور دراسات كثيرة، احتارت كيف تتعامل مع الاسم "يزريل" فكلّها استسلم أنّ المعني هو "إسرائيل"، وكثرت الاجتهادات والتفسيرات، لكن قبل الغرق في بحار التزييف أعدْنا النظر بقراءة النص، فتبين أنّ تزييفاً لحق القراءة، ودمج هذا التزييف بين الاسمين السابع والثامن، وبذلك باتت الأسماء التسعة هي "تحنو، وخاتي، وكنعان، ويسقراني، وجزر، وينعم، ويازير، ويار، وخال" وهذا ومن المعتقد "يازير" هي "يازور" أي "بيت الزور" على بعد 6 كم إلى الشرق من يافا، أمّا جزر فتل يقع على بعد ثمانية كم إلى الجنوب الشرقي من الرملة (3)، ومن المحتمل أنّ "يار" هي يارين في جنوب لبنان.
وكان من قبْل قد ذهب عدد من الباحثين إلى القول إنّ رمسيس الثاني والد مرنبتاح هو "فرعون الخروج"، أمّا الآن فبناءً على القراءة المزيّفة صار مرنبتاح هو "فرعون الخروج"، وبشكلٍ ملطّف صار المقصود بـ"يزريل" سهل يسيراو، الذي صار يعرف باسم "سهل سدرالون" وبعد الإسلام "سهل -أو مرج- ابن عامر. ونلتفت الآن إلى رسائل تل العمارنة:
في عام 1887م، كانت فلاحة مصرية تحرث قطعة أرض في خرائب "تل العمارنة"، عاصمة الملك أخناتون أي أمنحوتب الرابع (حوالي 1379-1362ق.م) الواقعة على دلتا النيل، فعثرت على لوح طيني مجفّف عليه كتابات بلغة غريبة، فعرضته على أحد السماسرة، فتبيّن أنّه مكتوب باللغة الأكادية (الكنعانية)، وبادر المهتمون بالآثار، وأخذوا يبحثون، فبلغ عدد ما عثروا عليه ثلاثمائة وسبعة وسبعين لوحاً، فيها رسائل من بلاد الشام، نصفها تقريباً من ملوك محليّين، وأسماء هؤلاء الملوك كلها عربية من ذلك: عبدو هبه، ولبايو(اللبوي) ومليكو، وإيملكو، وكان هؤلاء بالواقع حكاماً صغاراً تذللوا كثيراً في رسائلهم إلى الملك المصري، وشكوا إليه من الصراعات وبعض الاضطرابات الأمنية، وطلبوا بعض المساعدات العسكرية، مثل عدد قليل من النبالة، وتحتوي النصوص إشارات إلى مجموعة بدوية كان اسمها "العفيرو"، وأخرى أعرابية كان اسمها "شاسو". وقرأ أوائل رجال الاستشراق اسم "عبدو هيبا" و"العفيرو" "الخبيرو"، وأرادوا من وراء ذلك القول إنّ العفيرو هم "العبرانيين"، وهنا لا ننكر أنّه وجدت جماعة كان اسمها "الخبيرو"، ولكن لا بدّ من التمييز بين "الخبيرو" و"العفيرو" زمنياً وجغرافياً، فالخبيرو ورد ذكرهم في رسائل من ماري على الفرات (1730-1700 ق.م)، وذلك نسبة إلى الخابور(4) أمّا العفيرو فهم بداة فلسطين، وفي العربية: التراب هو "العفر، وعافره: صارعه... والعفرة غبرة في حمرة..... والعفرة: المختلطون من الناس، وعفرة الحرب والشر: شدتها.... ورجل عفر، وعفرية، وعفراة... أي خبيث منكر.... ومعافر: قبيلة من اليمن.... والعفر: السهام (5), ويقابل كلمة "شاس" في عربية القرآن الكريم جاس، وفي سورة الإسراء -الآية الخامسة: (فجاسوا خلال الديار) يضاف إلى هذا أنّ معنى شاسوا باللغة الهيروغليفية "الأعرابي". والمتتبع لتاريخ فلسطين عبر العصور يجد أنّه كان فيها بالإضافة إلى سكان المدن والأرياف، دوماً بداة وأعراب، وهذا موثق في العصر الفاطمي، وفي كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ لدى وصفه لعبوره من مصر إلى الشام، وفي أواخر القرن الخامس عشر، في رحله فليكس فابري (6) وبعد رسائل العمارنة استمرّ ذكر "العفيرو" يرِد في الكتابات المصرية، من ذلك نقوش معبد هابو، التي تصور انتصار رمسيس الثالث (1188 - 1157ق.م ) على شعوب البحر (فرستي - فلستي ) وفي بردية هاريس، أهدى رمسيس هذا نفسه عدداً من "العفيرو" إلى معبد الإله رع في عين شمس، كما استخدم ابنه رمسيس الرابع (1157-1151) ثمانمائة من "العفيرو" في قطع الأحجار في وادي الحمامات (7).
وحاولت بعض البحوث الالتفافية أنْ تجدّد القول إنّ هذه الإشارات تعني دخول العبرانيين إلى مصر حسبما ورد في العهد القديم، كما أنّ القرآن الكريم في إشارته إلى كلّ من يوسف وموسى عليهما السلام، ذكر مصر خمس مرات (8)، وأن حاكمها عُرِف بفرعون، ومع أنّني سأقف مجدّداً عند تدوين العهد القديم وتقويم مواده الإخبارية، أوضح بدايةً أنّ أرض الكنانة كان اسمها في العصور القديمة "كمة–كميت" أي الأرض السمراء، وما من واحدٍ من ملوكها حمل لقب فرعون (9)، وظلّت أرض الكنانة تحمل اسمها هذا حتى ما بعد عصر الإسكندر المقدوني في القرن الرابع ق.م.
بدليل نقش جبل رام(2), الواقع إلى الشمال من خليج الحقبة، وقد كتب هذا النقش بحرف الجزم (القرآني) والمسند، والهيروغليفية، وجاء فيه "قاد عليّ جيشه، وانتهى بأرض ترضى لكلب جيشه عدا إلى الكمة كوم رع رب".
ولعل أرض الكنانة كسبت اسم "مصر" على أيدي القوى المشرقية منذ العصر الآشوري، أو قبيل العصر الأخميني، الذي كانت لغته الرسمية هي اللغة الآرامية، فبالأكادية "مصر" تعني: التخم، ومعناها في الآرامية "المجرى"، ومازلنا نستخدم كلمة "مصران" أكثر من كلمة أمعاء، وفي النصوص الآشورية وردت كلمة "مسري، مسرو" لتعني مجرى الفرات كله أو بعضه، ويقودنا هذا إلى المعنى القرآني حيث جاء في سورة البقرة (61) قوله تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نصبرَ على طعام واحد فادعُ لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإنّ لكم ما سألتم وضُربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله)، وهنا إذا افترضنا أنّ الخروج كان من أرض الكنانة، فهل من المعقول أنْ يطلب منهم موسى عليه السلام العودة إليها، ثم كيف سيكون هنالك انشقاق للبحر مرة ثانية، ومجدّداً أذكر ثانية أنّه من المعروف جغرافياً أنّه لا يوجد بحر يفصل بين مصر وشبه جزيرة سيناء، وأنّ "الإسرائيليين" الصهاينة قاموا أثناء احتلالهم لشبه جزيرة سيناء بالتفتيش في كلّ مكان، فلم يجدوا أيّ دليل على صحة حكاية الخروج حسبما وردت في العهد القديم، يضاف إلى هذا أنّ الخليل بن أحمد الفراهيدي بيّن في معجم العين (مادة مصر): "وقوله تعالى (اهبطوا مصراً) من الأمصار لذلك نوّنَه، ولو أراد مصر الكورة بعينها لما نون، لأنّ الاسم المؤنث في المعرفة لا يجري" ومثل هذا ورد عند الطبري في تفسيره قوله "اهبطوا مصراً" من الأمصار لأنكم في البدو، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي، وإنما يكون في القرى والأمصار(10).
ودفعت النتائج المحبطة لأعمال الكشف في شبه جزيرة سيناء، الصهاينة والذين يعملون بتوجيه منهم إلى القول إنّ جبل الطور، أو بالحري جبل موسى لم يقع في سيناء بل في منطقة تبوك، وثارت زوبعة هذه الدراسات لبعض الوقت، لكنها انطفأت الآن أو كادت، وقد عُرِضت بثوب أكاديمي شبه جغرافي ولغوي مضلل.
وعلى رأس الاعتراضات على هذه الدراسات أنها غير موثقة، وطرحت بأنّ التوراة كتاب مواده معتمدة (11) وهو ليس كذلك، وهو ليس تاريخ ولا حتى كتاب دين أو ميثولوجيا، إنه مواد جمعت من مشارب كثيرة متنوعة ومتباينة، وقد استغرقت عملية تدوين هذه المواد وتنقيحها والإضافة إليها حوالي الألف وخمسمائة سنة، وفرضية اللغة والتشابه بين الأسماء مغوية، تحتاج إلى توثيق حسب المراحل التاريخية، أي مراحل الاستعارة من قبل الحاخامات عبر العصور، ولهذا أجمع العلماء على القول إنّ كلّ فقرة من أسفار العهد القديم تحتاج إلى تحليلٍ نقدي من أجل التيقّن والإعادة إلى المصدر، والعصر، والمكان والكاتب، مع الاهتمام بالمناخ والتضاريس والزراعة، لا سيما وأنّ زراعة الزيتون غير موجودة في شبه جزيرة العرب، وكذلك الحياة الاجتماعية وغير ذلك كثير، ووراء هذه الدراسات هدف خطير، استهدف جعل مواد العهد القديم المعيار الذي تقاس عليه معلومات القرآن الكريم، وكذلك مرويات تاريخ العرب قبل الإسلام والمكتشفات الأثرية.
ولدى القول إنّ منطقة خليج العقبة كانت المنطقة التي انشقّ فيها البحر، ليتم العبور إلى بلاد مدين أيْ تبوك الحالية، لأنّ شبه جزيرة سيناء كانت دوماً بيد القوات المصرية من أجل المواصلات مع بلاد الشام، ومناجم النحاس واللازورد (الفيروز)، هذا القول صحيح يرافقه سؤال هو: كيف تسنى للخارجين الفارين الوصول من مصر إلى منطقة خليج العقبة، والمسالح المصرية منتشرة في كلّ مكان من سيناء، وبعد هذا كله لماذا أغفل المصريون القدماء تدوين أخبار هذه الأحداث الجسام؟ ويبدو أنّه في الوقت الذي اكتسبت فيه أرض الكنانة اسماً آرامياً جديداً، نالت أيضاً تسمية إغريقية، انتقلت فيما بعد إلى اللغات الغربية، وأعني بذلك كلمة إيجبت وبات أهلها يعرفون بالتالي باسم "قبط" وأصل هذه التسمية هو أنّ المصريين القدماء أطلقوا اسم "حكفكت" أو "حكفت" على العاصمة "منوفر" التي دعاها الإغريق باسم ممفيس(12), وقد حوّر الإغريق اسم "حكفت " إلى إيجبت، لأنهم كتبوا دوماً حرف الحاء "ألفاً" والفاء "باء" ، ومع الأيام أصبحت التسمية الجديدة معتمدة منذ العصور الكلاسيكية، حيث امتد الحكم الكلاسيكي لمصر لمدة حوالي الألف عام ويشكّل ما تقدّم نماذج حول مكانة المصادر المصرية القديمة، وأن الحاجة ملحة لنقل النصوص القديمة لتاريخنا إلى العربية مباشرة، وليس عبر لغة غربية وسيطة، وينطبق هذا أيضاً على المصادر الرافدية من بابلية وآشورية، علماً بأنّ المصادر الرافدية ليست بالقدم نفسه مثل المصادر المصرية، هذا وإننا ننتظر ظهور الكثير المهم من المواد السورية القديمة من قطنة وإيبلا، وأقدم المصادر البابلية وأهمها ما جاء من الدولة الآشورية ثم من دولة بابل الثانية، فمن المعلوم أنّ العراق بلد قاريّ، لذلك سعى حكام العراق نحو السيطرة على بلاد الشام والوصول إلى شواطئ البحر المتوسط، وقاد هذا إلى أعمال توسّع أكبر، ويضاف إلى هذا إمكانات بلاد الشام من جميع النواحي وتوفّر أكبر مناجم للنحاس ولتصنيع البرونز في العالم القديم في فيفان في أردن اليوم.
ومن غير الممكن الحديث عن علاقات لدولة بابل الأولى مع القدس، لأنّ القدس لم تكنْ قد تأسّست بعد، بل ربما كان هناك على مقربة منها محرس عسكري صغير جداً، أمّا في العصر الآشوري فمِنَ الممكن الحديث عن سياسة آشورية معتمدة نحو فلسطين منذ أيام "سلمان نصر"، ومع ذلك لم يرِدْ ذكر للقدس إلا مرّة واحدة فقط هي في نص يعود إلى أيام الملك سنحريب (704 81ق.م)، وفي هذا النص تناقضات أكبر مما ورد في النصوص الآشورية الأخرى، حول اسم ملك القدس آنذاك، علماً بأنّ النصوص الآشورية قد اتّسمت دوماً بالمبالغة بالمعلومات التي حوتها، وقد استمرت دولة آشور بالوجود حتى عام 612 ق.م, حيث سقطت لدولة بابل الثانية الكلدانية– والمهم بالنسبة لموضوعنا بين ملوك الكلدانيين هو نبوخذ نصر الثاني (605- 562 ق.م) والنصوص التي وصلتنا عن حملاته إلى سورية، وطبعاً تعزو النصوص التوراثية إليه ما يعرف باسم "السبي البابلي".
ولم تعمّرْ الدولة الكلدانية طويلاً بعد نبوخذ نصر، وسقطت بابل عام 538ق.م إلى الملك الفارسي قورش، حيث سلّمه إياها كهنة مردوخ، وفي أيام الملك قمبيز بعد قورش احتلّ الفرس بلاد الشام، وكذلك مصر، كما أنّ جيوشهم شرعت منذ ذلك الوقت بالتوغّل في آسيا الصغرى وصولاً حتى بلاد الإغريق.
وقبل الاستطراد بالحديث عن الحقبة الفارسية أعود إلى حكاية السلبي البابلي، فقد تحدّث الملك نبوخذ نصر عن حملاته، وأهمها الحملة التي قام بها في السنة السابعة من حكمه حيث جاء في النص الذي تحدث عنها "السنة السابعة: شهر كسيليمو (كانون أول) حرّك ملك أكاد جيشه إلى أرض حتى، وحاصر مدينة ياحودو، فاستولى على المدينة في اليوم الثاني من شهر آذارو، وعيّن فيها ملكاً حسبما ارتضاه، واستولى على غنائم ثقيلة منها وجلبها إلى بابل(13) وطبعاً لم يكنْ اسم القدس في يومٍ من الأيام ياحودو، والدراسة المتأنية لنصوص نبوخذ نصر تظهر أنّه لم يستولِ على القدس، ولم يدخلْ فلسطين إلا مرة واحدة، جرى صده فيها من قبل الجيوش المصرية، ويقيناً لم يكنْ هناك سبي ليهود من القدس إلى بابل، لأنّ اليهود لم يكونوا قد ظهروا على مسرح التاريخ، يضاف إلى هذا أنّ الحفريات الأثرية أظهرت أنّ القدس كانت مدينة مزدهرة عامرة في التاريخ الذي قيل إنّها تعرّضت فيه للخراب على أيدي جيوش نبوخذ نصر، لكن هذه المدينة أخذت تتراجع لتصبح شبه قرية، وكان ذلك بعد أكثر من نصف قرن، أيام الحكم الأخميني، التي قيل إنّ فيها أعيد بناء المدينة حسبما جاء في سفري عزرا ونحميا، وتم فيها أيضاً عودة المنفيين(14).
ولقد أظهرت نتائج الحفريات الأثرية التي جرت في بابل أنّه لم يكنْ في هذه الحاضرة العريقة قبل احتلالها من قِبَل قورش غير الذين عبدوا الإله "مردوخ" وبقيت هكذا حتى تاريخ تهديمها، ومعروف أنّه في البلاط الأخميني ومن قبْل عزرا الكاتب الذي كان يعمل به جرت المحاولة الأولى لتدوين أسفار التوراة، وأنّ الأخمنيين أسكنوا في كلّ من مصر وفلسطين حاميات عسكرية أحضروها من المشرق، وسكنت الحامية العسكرية الأخمينية في مصر في جزيرة الفيلة، وشُهِرت بعبادة الإله يهوه، وهو إله للزوابع، ويرجّح هنا أنّ الحامية التي جلبت إلى فلسطين سكنت في القدس ومن حولها، وكانت على اتصال بحامية مصر، وورد اسم المنطقة الإدارية التي سكنت فيها في البداية أحياناً باسم يه YH ثم على شكل YHWD أوYhw أوYhd أوYodh-he أوYhwd-phw أوYhd-tet، ووردت هذه الصيغ على بقايا قطع من الفخار، لأنّ الفخار كان يختم باسم المنطقة الإدارية التي كان يصنع بها لأسباب إدارية وضرائبية، ومع الأيام عرفت منطقة هذه الفئة باسم "يهود" وأخذ سكانها يتميّزون بديانة ثنوية نبعت من الزرادشتية وامتزجت مع بقايا تقاليد عرفت باسم الموسوية، وما تزال هذه القضية قيد البحث، وبحاجةٍ إلى المزيد من التعميق، لكن لسوء الحظ أنّ مصادر الحقبة الخمينية التي استمرّتْ حوالي القرنيين قليلة جداً، وسكنى هذه الطائفة في فلسطين صبغت بثوب ديني أسطوري، فكانت وراء ما ورد في سفرَيْ عزرا ونحميا، وحكاية العودة من السبي، وإعادة بناء الهيكل المزعوم وأسوار القدس، والمهم هنا أنّ أعمال الكشف الأثري أفادت أنّ مساحة هذه المقاطعة كانت 651 دونماً –ولم يتجاوز عدد سكانها 16,300 إنسان-، وأنّ موقعين فقط بلغت مساحة كل واحد منهما 20 دونماً، وأنّ سكان القدس كان تعدادهم ما بين 1200 إلى 1500 إنسان (15).
وبودّي لو أتيح لي الوقت الآن للحديث عن تاريخ الديانة اليهودية، وعن تاريخ أسفار العهد القديم وعن محتوياته، وكذلك عن التلمود، ولعلّ ذلك يكون في مناسبة أخرى إنشاء الله.
المهم أنّنا عرفنا الآن أصل منشأ كلمة يهود ويهودية، ومن ثم باتت جميع الآراء الماضية والنظريات ملكاً للتاريخ، وألتفت الآن لإعطاء تعريف موجز بموقع القدس ثم البحث في اسم هذه المدينة الذي عرفت به أولاً.
المصدر:
د. سهيل زكار / المؤرخ والأستاذ الجامعي بكلية الآداب– جامعة دمشق.
مؤسسة فلسطين للثقافة
يتبع >>>
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق