للمسلمين
فضل لا ينكر على الحضارة الإنسانية قاطبة ، ولا سيما على حضارة الغرب
المعاصرة . فلقد نبغ علماء المسلمين في شتى العلوم والمعارف ، ويخطئ من يظن
أن المسلمين كانوا مجرد نقلة ، نقلوا التراث الإغريقي فقط ، ذلك لأنهم قد استوعبوه وهضموه وفهموا أسراره ومضامينه ، وأضافوا إليه ومزجوه بعلوم الإسلام والقرآن .
وشهد الله ما ذكر ذاكر حضارة العرب إلا استهلت بعبراتنا الشؤون ، حسرة على من كانوا رسل خير ورحمة ، وحملة علم وعرفان ، أن تذهب جهودهم الإنسانية سدى على يد من خلفوهم في الحضارة ، فرجعوا بالفضيلة قرونا إلى الوراء . وفي مجال الطب نبغ المسلمون في علوم الطب وفروعه ، وألفوا فيه الكتب والمراجع وابتكروا الآلات الطبية ، وأقاموا المستشفيات الثابتة والمتنقلة . واتسم العمل بالمستشفيات بالطابع الإسلامي ، والطابع الخلقي والإنساني بما يفوق نظام العمل بأرقى المستشفيات في بلاد الغرب . ومن مفاخر الإسلام حقا أن أول المستشفيات في الإسلام كانت خيمة رفيدة ، و هي امرأة كانت تداوي الجرحى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من أصابته الجراح من المسلمين . ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصاب سعد بن معاذ رضي الله عنه السهم في غزوة الخندق: " اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب " .
ولما تتابعت الفتوح كان الجيش مضارب فيها الممرضات من النساء يداوين الجرحى ، وهذا من جهادهن .
وكان العرب يسمون المشافي ( بيمارستانات ) ويخففونها فيقول مارستانات . وهي في الأصل كلمة فارسية معناها " معسكر المرضى " . وكانت البيمارستانات من أول عهدها إلى زمن طويل مستشفيات عامة ، تعالج فيها جميع الأمراض والعلل من باطنية وجراحية ورمدية وعقلية ، إلى أن أصابتها الكوارث ، ودار بها الزمن وهجرها المرضى فأقفرت إلا من المجانين، فصارت كلمة مارستان تعني مأوى المجانين وفي الوقت الذي كانت فيه المشافي تشاد في كل مدينة من المدن الإسلامية ، كانت أوروبا تغرق في ظلام الجهل والتخلف . وكان من أشهر المشافي في أوروبا في القرون الوسطى مستشفى " أوتيل ديو " في باريس . وقد جاء ذكره في كتاب ألفه " ماكس نوردو " قال فيه عن هذا المستشفى : " كان يستلقي في الفراش الواحد أربعة مرضى أو خمسة أو ستة . فترى قدمي الواحد في جانب رأس الآخر . وكان الأطفال الصغار إلى جانب الشيوخ الشيب . حقا إن هذا لا يصدق ، ولكنه الحقيقة والواقع . كانت المرأة تئن من مخالب المخاض إلى جانب رضيع يتلوى من التشنجات ، ورجل يحترق في هذيان الحمى إلى جانب مسلول يسعل سعلته الجارحة ، و مصاب بإحدى الأمراض الجلدية يمزق جلده الأجرب بأظافره الثائرة . كانت رائحة الهواء في قاعات المرضى فاسدة حتى أن الزوار ما كانوا يجرؤن على دخولها إلا بعد أن يضعوا على وجوههم إسفنجة مبللة خلا . وتبقى جثث الموتى أربعا وعشرين ساعة في الفراش . وقد وصفه في القرن الثامن عشر باللي ويتنون ولافوازيه في تقريرهم وصفا تقشعر منه الأبدان ، إذ رأوا الموتى جنبا إلى جنب مع الأحياء ، كما رأوا الناقهين مختلطين في غرفة واحدة مع المحتضرين ، وكانت غرفة العمليات حيث الشق والقطع والبتر تأوى الذين تعمل لهم العمليات في الغد . فكانت تعمل في وسط الغرفة نفسها ، وكان المريض يرى أمامه تحضيرات العذاب ويسمع صراخ المعذبين ، فإن كان ممن ينتظر دوره في الغد كانت أمامه صورة أوجاعه المقبلة . وإن كان ممن مر بهذا الجحيم كان أمامه منظر يذكره بالأوجاع التي قاساها " . ولم تعمل يد التحسين في هذا المستشفى الذي أنشئ عام 660 م إلا بعد الثورة الفرنسية عام 1789 م . هكذا كانت حال أحد أشهر مشافي أوروبا في العصور الوسطى كما يصفها الدكتور أحمد شوكت الشطي، فماذا كانت حالة مستشفياتنا التي كان يطلق عليها البيمارستانات ؟ يقول المؤرخون إن المشافي العربية والإسلامية كنت تكرس للرضيع والوضيع ، والملك والمملوك ، والجندي والأمير . وكان الخلفاء والأمراء والسلاطين وذوو الجاه يتبارون في بناء المشافي حتى أصبح في كل مدينة من المدن الكبرى في الإمبراطورية العربية الإسلامية مستشفى عام واحد على الأقل للعناية بالمرضى . وكان البيمارستان مؤسسة حكومية يقوم بنفقاتها أحد الخلفاء أو الأمراء. كان المرضى يفحصون في المستشفى فيعطون من لا يحتاج إلى الاستشفاء فيه وصفة تحضر في صيدلية المستشفى . أما المرضى الذين يحتاجون إلى دخول المستشفى ، فتدون أسماؤهم لقبولهم ، ثم يستحمون ، ويـبقون في المستشفى حتى الشفاء التام ، وعلامته أكل رغيف من الخبز وفروج كامل !! وعندما يخرجونهم يعطونهم ثوبا مع كمية من الدراهم لتقوم بنفقاتهم الضرورية خارج المستشفى . وكان الناس يتمارضون رغبة منهم في الدخول إلى المستشفى والتنعم بما فيه . وكان الأطباء يغضون الطرف أحيانا عن هذا التحايل قال خليل بن شاهين الظاهري في كتاب " النجوم الزاهرة " بعد أن زار دمشق : " وبها بيمارستان لم ير مثله في الدنيا ، وعندما دخلت دمشق سنة 831 هـ كان بصحبتي رجل أعجمي من أهل الفضل والذوق ، فلما دخل البيمارستان ، تمارض وأقام به ثلاثة أيام ورئيس الأطباء يتردد إليه ، فلما فحصه وعلم حاله وصف له ما يناسبه من الأطعمة الحسنة والفواكه والحلوى . وبعد ثلاثة أيام كتب له الطبيب كلمة جاء فيها : إن الضيف لا يقيم فوق ثلاثة أيام ، وهذا يوحي بأنه أدرك أنه متمارض ، ومع ذلك فقد عامله كأحد الضيوف " وكان لكل مستشفى عام أروقة خاصة للذكور والإناث . وخصصت فيها شعب للحمى والإسهالات والجراحة والتجبير والإصابات العينية وغيرها . وألحق بأكثر المستشفيات حمام عام . ومن أقسام المستشفى صيدلية يشرف عليها صيدلي مجاز ، ومجهزة بالأدوية والشرابات والعقاقير المختلفة . وجهز كل مستشفى بمكتبة تضم المفيد من مخطوط أبقراط وجالينوس وأطباء المسلمين ، يجتمع فيها الأساتذة والطلاب بعد جولة الصباح على المرضى . وكان للمستشفيات أوقاف تعولها ، وكانت الإدارة الطبية يرعاها الطبيب الأول يعاونه رؤساء مختلف الشعب ، ويعاون هؤلاء معاونوهم وتلاميذهم . وانتشرت البيمارستانات انتشارا كبيرا في العالم الإسلامي ، وكان منها نوعان : النوع الأول : وهو البيمارستان الثابت . ومن ذلك بيمارستان النوري الكبير بدمشق وبيمارستان قلاوون بالقاهرة . النوع الثاني : وهو البيمارستان المحمول . وهو الذي ينقل من مكان إلى آخر بحسب انتشار الأمراض والأوبئة والحروب . وبلغ من اهتمام الأمراء بالبيمارستان أن بعضهم كان يشرف بنفسه على سير العمل فيها ، ومن هؤلاء أحمد بن طولون الذي اعتاد أن يتفقد أحوال المرضى في كل يوم جمعة في البيمارستان العتيق . ولم تكن رسالة البيمارستان قاصرة على الرعاية والعلاج ، وإنما امتدت لتشمل إعداد الأطباء ، وتأهيلهم فكان بمثابة جامعة تخرج الأطباء ، ويتبعون ما يطلق عليه في الوقت الحاضر اسم " فريق العمل Team Work حيث يشترك أكثر من طبيب في تشخيص الحالة وعلاجها . وهذا المنهج الإسلامي هو الأصل الذي نشأ عنه ما يعرف في الوقت الحاضر في مجال العمل الطبي باسم " مؤتمر الحالة Case Conference حيث يجتمع عدد من الأطباء والأخصائيين ويدرسون حالة مريض معينة ، ويبدي كل منهم رأيه ، ويتبادل الجميع الخبرة والمشورة . أما المجاذم : فقد خصصت لعلاج المجذومين ، و أول مؤسسة عرفت في بلاد العرب هي مجذمة الوليد بن عبد الملك في دمشق سنة 88 هـ ، ثم تعددت المجاذم بعد ذلك . وتعد المجاذم العربية أول دور عولج فيها المصابون بالجذام معالجة فنية ، وكان الدخول إليها غير تابع لقيد أو شرط ، بينما كانت المجاذم في الغرب مخصصة لفئة من الناس . وكان على المقبول فيها أن يدفع رسما باهظا وأن يصطحب معه ما يحتاج إليه من مقاعد وأسرة وأواني الطعام والشراب . وأما بيمارستانات الأمراض العقلية فقد تأسست في زمن الأمويين للعناية بالذين أصابهم مس أو اعتراهم ضعف عقلي . فقد كان المسلمون يعتبرون المعتوهين معدمين وعالة على إحسان الدولة ، لأن إصابتهم بقضاء من الله وقدره . ولقد جاء في صك الأوقاف التي حبس ريعها لصالح المستشفى النوري أو العتيق بحلب أن كل مجنون يخص بخادمين فينزعان عنه ثيابه كل صباح ، ويحممانه بالماء البارد ، ثم يلبسانه ثيابا نظيفة ويحملانه على أداء الصلاة ، ويسمعانه قراءة القرآن يقرؤه رجل حسن الصوت ، ثم يفسحانه في الهواء الطلق . أما في أوروبا ، فكان المجانين يحرمون من دخول المستشفيات ، وكانوا يقيدون بالسلاسل في بيوت الجنون ، تلك البيوت التي كانت شرا من السجون ، فيبقون فيها حتى ينتهي أجلهم ! فهل أتاك بعد هذا كله أن الغرب سبق حضارتنا بقرون حين اهتدوا إلى المستشفيات ؟ ولعلنا في الختام نذكر كلمة " رينان " التي يقول فيها : " ما دخلت مسجدا قط إلا اعتراني خشوع يمازجه أسف على أني لم أكن مسلما " فيتمنى أن يكون مسلما من ذلك الطراز : طراز نور الدين وصلاح الدين .
فإلى شحذ الهمم ودفن الظلام ، نسأل الله أن يهدي المسلمين في كل مكان .
|
بحث هذه المدونة الإلكترونية
2014-04-12
هكذا كانوا يوم كنا..أول المستشفيات في الإسلام كانت خيمة رفيدة.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق