وقف الدمشقي في القدس.
لقد تم تسجيل الآلاف من الوقفيات في سجلات المحاكم العثمانية في بلاد الشام. ومنها "وقف الدمشقي" الذي يتكرر ذكره في سجلات المحكمة القدسية على امتداد الفترة العثمانية. ونعرض في هذه السطور خلاصة لدراسة شملت كافة الحجج المتعلقة بهذا الوقف في السجلات المذكورة.
الواقفان
تؤكد عشرات الحجج أن وقف الدمشقي كان في الأصل وقفين منفصلين لشخصين دمشقيي الأصل كانا يقيمان في القدس في منتصف وأواخر القرن العاشر الهجري، حيث وقف كل منهما وقفاً مستقلاً في القدس ولكن في عقارات مشتركة، ثم تم دمج الوقفين لاحقاً. ولعل السبب في الدمج هو توحد ذرية الواقفين لصلة القربى الشديدة بينهما أو التزاوج بين الورثة.
وترشدنا الحجة رقم 332: 121 المؤرخة في أواسط صفر 1266/1849م إلى أن الواقفين هما (المرحومين أحمد ومحمد الدمشقيان الشهير والمعروف وقفهما بوقف الدمشقي الكائن وقفهما بالقدس الشريف وخارجها).
ولمعرفة المزيد عن اسمي الواقفين نذكر ما جاء في الحجة رقم 370: 134 المؤرخة في 7 ج ماد الثاني 1301/1884م حول (وقف جدينا لأمنا الأعلى هما الخواجة الشهابي شهاب الدين أحمد بن الخواجة شمس الدين محمد بن الزيني عبد الرحمن الشهير نسبه المبارك بابن الدمشقي ومحمد الناصر كمال الدين الشهير أيضا بابن الدمشقي).
وبالنسبة لحجتي الوقف الأصليتين فمن العبث محاولة العثور عليهما في سجلات المحكمة القدسية بعد المراجعة الدقيقة التي قمت بها. لكنني عثرت على حجة متأخرة تحمل رقم 278 : 81 مؤرخة في 1 شعبان 1211/1797م وتشير إلى أن الحجتين كانتا مفقودتين في ذلك الحين حتى أنه لم يعد أي أحد يعرف كم كانت حصة كل من أحمد ومحمد في الوقف، ولذا اتُفق على أن يحسب لكل منهما النصف من الوقف. كما تشير تلك الحجة إلى أن أحد كتابي الوقف صدر في (سنة 990 في رجب الفرد والثاني سنة 945) أي في عامي 1582م و1538م، وقد راجعت سجلات المحكمة في السنتين المذكورتين ولم أعثر على ذكر للوقفين . وربما تم تدوينهما في سجلات محكمة دمشق.
وبناء على تاريخ كتابي الوقف فقد يكون لأحد الواقفين صلة بالحجة رقم 7: 481 المؤرخة في 18 شوال 944/1538م حول قطعة أرض في سلوان (جارية في وقف المدرسة الناصرية الصلاحية بظاهر القدس الشريف ... يحدها من القبلة أرض بيد محمد الدمشقي) ، أو الحجة رقم 66: 281 المؤرخة في 12 شوال 994/1586م حول دار تقع بحارة اليهود تحت تصرف (وراث المرحوم شمس الدين الدمشقي).
وقد يكون محمد وأحمد هما الشاهدان المذكوران في الحجة رقم 45 : 202 المؤرخة في رمضان 971/1564م وهما (الحاج محمد بن الحاج علي الدمشقي والحاج أحمد بن الحاج محمد الدمشقي).
العقارات الموقوفة
تسرد الحجة رقم 332: 121 المؤرخة في أواسط صفر 1266/1849م كشفا مفصلا بريع الوقف في ذلك التاريخ وتوزيعه على المستحقين. لكن الحجة رقم 347: 80 المؤرخة في 11 ج ماد الثاني 1280/1863م تصف العقارات بشكل أكثر وضوحا، وهي ثلاث دور ودكانين تقع في محلة اليهود، وقطعة أرض صغيرة وحصة كبيرة من وادي حلوة في سلوان، وفيما يلي حدود كل منها:
1- جميع الدار القائمة البناء بالقدس الشريف بمحلة اليهود تجاه طاحونة الحاج مصطفى شهوان المشتملة على بيوت ومساكن ومنافع ومرافق وحقوق شرعية ، المحدودة قبلة الطريق السالك وفيه الباب وشرقا دار وقف الحاج يوسف الجاعوني وشمالا دار وقف اقميع وغربا الدار الكبيرة الجارية في الوقف المذكور الملاصقة لها من الجهة الغربية .
2- جميع الدار الكبيرة الواقعة بالمحلة المذكورة المشتملة على بيوت ومساكن ومنافع وحقوق شرعية ولها بابان أحدهما يفوه قبلة وتمامه الطريق والثاني يفوه غربا وتمامه الطريق ، ويحدها قبلة الطريق وشرقا الدار المبدأ بذكرها وشمالا الدار الصغيرة الجارية في الوقف المذكور الآتي ذكرها وغربا الطريق .
3- جميع الدار الصغيرة الواقعة بالمحلة المذكورة المشتملة على بيوت ومساكن ومنافع وحقوق شرعية ، المحدودة قبلة الدار المثنى بذكرها وشرقا دار اقميع وغربا الطريق وشمالا الطريق أيضا وفيه الباب .
4- جميع قرار وحكر الدكان الواقعة في سويقة محلة اليهود في الصف الشرقي الملاصقة للقهوة التي هناك سكن أولاد البشيتي والجارية تحت خلوهم،المحدودة قبلة دكان ابن رصاص بيد البشيتي وشرقا الأسطحة الواقعين هناك وشمالا القهوة وغربا الطريق السالك وفيه الباب.
5- وجميع الدكان الكائنة بالمحلة المذكورة في الصف الشرقي سكن محمود صادق سابقا،المحدودة قبلة الدكان المرقومة وشرقا الأسطحة الواقعين هناك وشمالا دكان وغربا الطريق السالك.
6- جميع الحصة الشائعة وقدرها النصف اثنا عشر قيراط من أصل كامل أربعة وعشرين قيراط في جميع الأرض الكائنة ظاهر القدس الشريف الشهيرة بحبلة الأخرس المشتملة على زيتون.
7- جميع الحصة الشائعة وقدرها ثمانية عشر قيراط من أصل كامل في جميع الواد الشهير بواد الحلو المشتمل على غراس زيتون. ولعل هذه الأرض هي الأكثر أهمية في العصر الحاضر لاتساعها وقربها من سور القدس وباب المغاربة.
وهناك العشرات من الحجج التي تتناول تعمير وترميم الوقف طيلة العهد العثماني، ومنها الحجة رقم 332: 128 المؤرخة في 25 رجب 1266/1850م حول الكشف على إحدى دور الوقف حيث تبين أن سطحها بحاجة إلى تبليط بسبب كثرة الدلف فأذن القاضي بتعميرها . ومنها أيضا الحجة رقم 362: 80 المؤرخة في 3 شعبان 1292/1875م والتي تذكر أن إحدى دور الوقف (الواقعة بالقدس الشريف بمحلة اليهود ... كانت خربة وتعطلت عن الإجار بسبب الخراب) ، ف تم اقتراض مال لتعميرها وتأجيرها .
المستحقون بالوقف
ذكرنا أن ذرية الواقفين من الذكور قد انقطعت بعد وقت قصير فآل الوقف إلى أعقابهما من الإناث، وهذا يعني تبدل أسماء العائلات من جيل إلى جيل. فالحجة رقم 278 : 81 المؤرخة في 1 شعبان 1211/1797م تذكر أن المستحقين بالوقف كانوا حينئذ (الحرمة خديجة بنت داود جناعر والسيد محمد القندلجي وعثمان شفتر ولد نفيسة بنت الشيخ داود جناعر المزبور وفطومة بنت السيد محمد ابن الشيخ داود جناعر) . وتشير حجج أخرى إلى أن عائلة جناعر كانت تقيم في دمشق في ذلك العصر.
وتبين الحجة رقم 347: 80 المؤرخة في 11 ج ماد الثاني 1280/1863م أن شطرا من عائلة النشاشيبي المقدسية كانت تملك (أربعة أسهم من أصل كامل أربعة وعشرين سهم ا في وقف المرحومين أحمد ومحمد الدمشقيان المشهور وقفهما بوقف الدمشقي ).
أما الحجة رقم 370: 134 المؤرخة في 7 ج ماد الثاني 1301/1884م فتبين أن المستحقين في الوقف كانوا في ذلك التاريخ: سعيد بن أحمد خليل أبو الخير ، و حافظ وخير الدين ابني خير الدين إسماعيل النشاشيبي ، و موسى بن خليل إبراهيم عرنوص ، و محمد بن أحمد سليمان الدباغ ، و مصطفى بن علي مصطفى السلموني ، و يوسف بن أحمد محمد الشعار ، و بيهان بنت أحمد الشعار ، و موسى ابن يوسف موسى الشرطي ، و نفيسة بنت موسى الشرطي .
التولية والنظر على الوقف
كان قاضي القدس الشريف يعين على كل وقف متوليا يتابع إجراءات التعمير والتأجير وتوزيع الريع على المستحقين. وأحيانا كان يعين ناظرا يتولى مراجعة تلك الإجراءات مع المتولي. ومن ذلك ما جاء في الحجة رقم 278: 81 المؤرخة في 1 شعبان 1211/1797م التي تم فيها تعيين فطومة بنت جناعر متولية شرعية على وقفي جديها الأعليين الشهابي أحمد ومحمد المعروفين بوقف الدمشقي عوضا عن والدها محمد المتوفي.
وفي الحجة رقم 309 : 16 المؤرخة في أواسط ر بيع الثاني 1240/1824م ادعى (إسماعيل بن المرحوم إبراهيم حسن النشاشيبي على السيد حسن بن عبد الحق السكافي الوكيل عن زوجته فطومة بنت محمد جناعر المتولية على وقف جدها الدمشقي… قائلا في تقرير دعواه عليه أن جده وقف وقفه وشرط النظر في وقفه للأرشد فالأرشد من الموقوف عليهم وأنه هو الآن أرشد الموقوف عليهم وأن الموكلة عاجزة عن التعاطي ومقيمة زوجها عنها في مباشرة أمور الوقف… سئل الوكيل السيد حسن أجاب أن زوجته منصوبة منذ سنين عوضا عن والدها وجدها وأبرز من يده سند نصبها فعند ذلك طلب مولانا الحاكم الشرعي من السيد إسمعيل بينة شرعية تشهد له بالأرشدية) ، فأ ثبت إسماعيل ذلك بواسطة شهود فعزل القاضي فطومة وعين إسم ا عيل متوليا على الوقف عوضا عنها .
وفي الحجة رقم 332: 103 المؤرخة في أوائل رجب 1266/1849م عين القاضي (نشاشيبي زاده السيد خير الدين خادم المسجد الأقصى الشريف متوليا شرعيا على وقفي جده الأعلى الشهابي أحمد ومحمد الكائنين وقفهما بالقدس الشريف وخارجها المعروفين الآن بوقف الدمشقي عوضا عن متصرف ذلك والده المرحوم السيد إسماعيل النشاشيبي بحكم وفاته).
وتتحدث الحجة رقم 373: 91 المؤرخة في 23 شوال 1302/1885م عن قيام يوسف نامق بن خير الدين بن إسماعيل النشاشيبي المتولي الشرعي على وقف الدمشقي ب تعمير دارين جاريتين في الوقف . وأما في الحجة رقم 392: 218 المؤرخة في 5 ذي القعدة 1317/1899م فقد فوض المتولي المذكور كلا من خير الدين بن خير الدين النشاشيبي ومحمد حلمي الجاعوني بتأجير بعض عقارات الوقفين.
وقفيات أخرى
بالإضافة إلى وقف الدمشقي المذكور كانت هناك أوقاف أخرى عديدة لدمشقيين استقروا في القدس، ومنها وقف عبد القادر الدمشقي الذي يتكرر ذكره في السجلات 201، 202، 203 بشكل خاص.
ومن ناحية أخرى هناك العديد من الوقفيات التي كانت عقاراتها في دمشق ولها مستحقون في القدس. ومنها وقف محمد شمس الدين النصاب الدمشقي المؤرخ في 11 جماد الأول 1012/1603م، و الذي آل وقفه إلى ذريته من جهة الإناث الذين رحل بعضهم إلى القدس كما تبين الحجة رقم 185: 232 المؤرخة في أواسط ذي القعدة 1093/1682م وفيها أن قاضي القدس ( نصب إسمعيل بن حسين الشامي الشهير نسبه بابن فواز ناظرا شرعيا على وقف جده الأعلى المرحوم الخواجه محمد شمس الدين الدمشقي النصاب الكائن الوقف المزبور بمدينة دمشق الشام لكونه أرشد الموقوف عليهم بموجب شرط الواقف بحضور كل واحد من أخيه محمد وولدي عمه الشيخ علي والشيخ فواز من مستحقي الوقف المزبور وقبولهم بذلك شرعا).
وقد عُين الشيخ تقي الدين بن محمد شمس الدين الحصني الدمشقي ( ت 1129 /1717م ) متوليا على وقف النصاب فترة من الزمن كما يتبين من الحجة رقم 192: 132 المؤرخة في أواخر شعبان 1101/1690م ، وفيها:
(أقر واعترف كل واحد من الشيخ علي بن الشيخ حسن فواز أصالة عن نفسه وبالوكالة الشرعية عن قبل كل واحدة من أخواته الثلاث وهن نور وحبيبة وعائشة بنات حسن المزبور وعن بدرى ابنة فواز ، والحاج مصطفى بن الحاج حسن والحاج إسمعيل بن المرحوم الحاج حسين وهم المستحقون في وقف جدهم الأعلى الخواجه محمد شمس الدين النصاب الجاري الوقف المزبور بدمشق الشام بأنهم قبضوا وتسلموا وصار لهم المصير الشرعي من يد الحاج حسين بن ناصر القاضي مما كان قبضه الحاج حسين المزبور بالوكالة الشرعية عن الجماعة المستحقين المزبورين أعلاه من مولانا فخر السادات السيد تقي الدين الحصني المتولي على الوقف المزبور الكائن بدمشق الشام نظير ما يخص الجماعة المزبورين من ريع وقف جدهم المزبور في كل سنة ثمانية وعشرين غرشا كل غرش أربعين قطعة مصرية بالتمام والكمال).
وقد سمي وقف النصاب بعدئذ بوقف الحصني نتيجة دخول آل الحصني في الوقف وتسلمهم التولية عليه حسبما ورد في عدة حجج أخرى، ومنها الحجة رقم 234 : 139 المؤرخة في 26 ر بيع الثاني 1164/1751م:
(ادعى السيد إبراهيم ابن المرحوم الحاج خليل النشاشيبي أحد المستحقين بوقف الحصني الكائن وقفه بدمشق الشام على محمد ابن السمينة الحاضر معه بالمجلس الشرعي وقال في دعواه عليه أنه راح محمد إلى الشام وأجر الوقف 58 أسدي مدة سنة لسنة ثلاثة وستين وقبض الأجرة المزبورة وأنه يستحق السيد إبراهيم وأخيه من الأجرة النصف 14 أسدي وطالبه بها سئل محمد المزبور فأجاب بأنه أجر الوقف 28 أسدي وقبضها وأنكر أن السيد إبراهيم وأخيه يستحقان بالوقف المزبور طلب من المدعي البيان فأحضر للشهادة كل واحد من عبد الله بشه بن المرحوم الحاج علائي الدين الشامي والسيد ياسين الحمصي فشهدا بأن السيد إبراهيم يستحق بالوقف المزبور النصف وأنه يتصرف هو ووالده الحاج خليل وجده الحاج إسماعيل مدة مديدة وأن جده ووالده كانا يؤجران الوقف ويقبضا استحقاقهما من الأجرة قبولا شرعيا فعند ذلك أمر مولانا الحاكم الشرعي محمد بدفع الأربعة عشر أسدية أمرا شرعيا وحبس على المبلغ حبسا شرعيا).
تلقي هذه الدراسة الموجزة أضواء جديدة على العلاقات الدمشقية المقدسية في العهد العثماني، وخاصة في النصف الثاني من القرن العاشر الهجري، حيث استقرت عشرات من العائلات الدمشقية في القدس نتيجة للتعميرات الضخمة التي أنشأها السلطان سليمان القانوني حتى تضاعف عدد سكانها ثلاث مرات في غضون سنوات قليلة. كما تبين لنا هذه الدراسة أهمية سجلات المحاكم في دراسة العديد من الجوانب التاريخية في العهد العثماني.
المصدر: مؤسسة فلسطين للثقافة / بقلم: بشير بركات
لقد تم تسجيل الآلاف من الوقفيات في سجلات المحاكم العثمانية في بلاد الشام. ومنها "وقف الدمشقي" الذي يتكرر ذكره في سجلات المحكمة القدسية على امتداد الفترة العثمانية. ونعرض في هذه السطور خلاصة لدراسة شملت كافة الحجج المتعلقة بهذا الوقف في السجلات المذكورة.
الواقفان
تؤكد عشرات الحجج أن وقف الدمشقي كان في الأصل وقفين منفصلين لشخصين دمشقيي الأصل كانا يقيمان في القدس في منتصف وأواخر القرن العاشر الهجري، حيث وقف كل منهما وقفاً مستقلاً في القدس ولكن في عقارات مشتركة، ثم تم دمج الوقفين لاحقاً. ولعل السبب في الدمج هو توحد ذرية الواقفين لصلة القربى الشديدة بينهما أو التزاوج بين الورثة.
وترشدنا الحجة رقم 332: 121 المؤرخة في أواسط صفر 1266/1849م إلى أن الواقفين هما (المرحومين أحمد ومحمد الدمشقيان الشهير والمعروف وقفهما بوقف الدمشقي الكائن وقفهما بالقدس الشريف وخارجها).
ولمعرفة المزيد عن اسمي الواقفين نذكر ما جاء في الحجة رقم 370: 134 المؤرخة في 7 ج ماد الثاني 1301/1884م حول (وقف جدينا لأمنا الأعلى هما الخواجة الشهابي شهاب الدين أحمد بن الخواجة شمس الدين محمد بن الزيني عبد الرحمن الشهير نسبه المبارك بابن الدمشقي ومحمد الناصر كمال الدين الشهير أيضا بابن الدمشقي).
وبالنسبة لحجتي الوقف الأصليتين فمن العبث محاولة العثور عليهما في سجلات المحكمة القدسية بعد المراجعة الدقيقة التي قمت بها. لكنني عثرت على حجة متأخرة تحمل رقم 278 : 81 مؤرخة في 1 شعبان 1211/1797م وتشير إلى أن الحجتين كانتا مفقودتين في ذلك الحين حتى أنه لم يعد أي أحد يعرف كم كانت حصة كل من أحمد ومحمد في الوقف، ولذا اتُفق على أن يحسب لكل منهما النصف من الوقف. كما تشير تلك الحجة إلى أن أحد كتابي الوقف صدر في (سنة 990 في رجب الفرد والثاني سنة 945) أي في عامي 1582م و1538م، وقد راجعت سجلات المحكمة في السنتين المذكورتين ولم أعثر على ذكر للوقفين . وربما تم تدوينهما في سجلات محكمة دمشق.
وبناء على تاريخ كتابي الوقف فقد يكون لأحد الواقفين صلة بالحجة رقم 7: 481 المؤرخة في 18 شوال 944/1538م حول قطعة أرض في سلوان (جارية في وقف المدرسة الناصرية الصلاحية بظاهر القدس الشريف ... يحدها من القبلة أرض بيد محمد الدمشقي) ، أو الحجة رقم 66: 281 المؤرخة في 12 شوال 994/1586م حول دار تقع بحارة اليهود تحت تصرف (وراث المرحوم شمس الدين الدمشقي).
وقد يكون محمد وأحمد هما الشاهدان المذكوران في الحجة رقم 45 : 202 المؤرخة في رمضان 971/1564م وهما (الحاج محمد بن الحاج علي الدمشقي والحاج أحمد بن الحاج محمد الدمشقي).
العقارات الموقوفة
تسرد الحجة رقم 332: 121 المؤرخة في أواسط صفر 1266/1849م كشفا مفصلا بريع الوقف في ذلك التاريخ وتوزيعه على المستحقين. لكن الحجة رقم 347: 80 المؤرخة في 11 ج ماد الثاني 1280/1863م تصف العقارات بشكل أكثر وضوحا، وهي ثلاث دور ودكانين تقع في محلة اليهود، وقطعة أرض صغيرة وحصة كبيرة من وادي حلوة في سلوان، وفيما يلي حدود كل منها:
1- جميع الدار القائمة البناء بالقدس الشريف بمحلة اليهود تجاه طاحونة الحاج مصطفى شهوان المشتملة على بيوت ومساكن ومنافع ومرافق وحقوق شرعية ، المحدودة قبلة الطريق السالك وفيه الباب وشرقا دار وقف الحاج يوسف الجاعوني وشمالا دار وقف اقميع وغربا الدار الكبيرة الجارية في الوقف المذكور الملاصقة لها من الجهة الغربية .
2- جميع الدار الكبيرة الواقعة بالمحلة المذكورة المشتملة على بيوت ومساكن ومنافع وحقوق شرعية ولها بابان أحدهما يفوه قبلة وتمامه الطريق والثاني يفوه غربا وتمامه الطريق ، ويحدها قبلة الطريق وشرقا الدار المبدأ بذكرها وشمالا الدار الصغيرة الجارية في الوقف المذكور الآتي ذكرها وغربا الطريق .
3- جميع الدار الصغيرة الواقعة بالمحلة المذكورة المشتملة على بيوت ومساكن ومنافع وحقوق شرعية ، المحدودة قبلة الدار المثنى بذكرها وشرقا دار اقميع وغربا الطريق وشمالا الطريق أيضا وفيه الباب .
4- جميع قرار وحكر الدكان الواقعة في سويقة محلة اليهود في الصف الشرقي الملاصقة للقهوة التي هناك سكن أولاد البشيتي والجارية تحت خلوهم،المحدودة قبلة دكان ابن رصاص بيد البشيتي وشرقا الأسطحة الواقعين هناك وشمالا القهوة وغربا الطريق السالك وفيه الباب.
5- وجميع الدكان الكائنة بالمحلة المذكورة في الصف الشرقي سكن محمود صادق سابقا،المحدودة قبلة الدكان المرقومة وشرقا الأسطحة الواقعين هناك وشمالا دكان وغربا الطريق السالك.
6- جميع الحصة الشائعة وقدرها النصف اثنا عشر قيراط من أصل كامل أربعة وعشرين قيراط في جميع الأرض الكائنة ظاهر القدس الشريف الشهيرة بحبلة الأخرس المشتملة على زيتون.
7- جميع الحصة الشائعة وقدرها ثمانية عشر قيراط من أصل كامل في جميع الواد الشهير بواد الحلو المشتمل على غراس زيتون. ولعل هذه الأرض هي الأكثر أهمية في العصر الحاضر لاتساعها وقربها من سور القدس وباب المغاربة.
وهناك العشرات من الحجج التي تتناول تعمير وترميم الوقف طيلة العهد العثماني، ومنها الحجة رقم 332: 128 المؤرخة في 25 رجب 1266/1850م حول الكشف على إحدى دور الوقف حيث تبين أن سطحها بحاجة إلى تبليط بسبب كثرة الدلف فأذن القاضي بتعميرها . ومنها أيضا الحجة رقم 362: 80 المؤرخة في 3 شعبان 1292/1875م والتي تذكر أن إحدى دور الوقف (الواقعة بالقدس الشريف بمحلة اليهود ... كانت خربة وتعطلت عن الإجار بسبب الخراب) ، ف تم اقتراض مال لتعميرها وتأجيرها .
المستحقون بالوقف
ذكرنا أن ذرية الواقفين من الذكور قد انقطعت بعد وقت قصير فآل الوقف إلى أعقابهما من الإناث، وهذا يعني تبدل أسماء العائلات من جيل إلى جيل. فالحجة رقم 278 : 81 المؤرخة في 1 شعبان 1211/1797م تذكر أن المستحقين بالوقف كانوا حينئذ (الحرمة خديجة بنت داود جناعر والسيد محمد القندلجي وعثمان شفتر ولد نفيسة بنت الشيخ داود جناعر المزبور وفطومة بنت السيد محمد ابن الشيخ داود جناعر) . وتشير حجج أخرى إلى أن عائلة جناعر كانت تقيم في دمشق في ذلك العصر.
وتبين الحجة رقم 347: 80 المؤرخة في 11 ج ماد الثاني 1280/1863م أن شطرا من عائلة النشاشيبي المقدسية كانت تملك (أربعة أسهم من أصل كامل أربعة وعشرين سهم ا في وقف المرحومين أحمد ومحمد الدمشقيان المشهور وقفهما بوقف الدمشقي ).
أما الحجة رقم 370: 134 المؤرخة في 7 ج ماد الثاني 1301/1884م فتبين أن المستحقين في الوقف كانوا في ذلك التاريخ: سعيد بن أحمد خليل أبو الخير ، و حافظ وخير الدين ابني خير الدين إسماعيل النشاشيبي ، و موسى بن خليل إبراهيم عرنوص ، و محمد بن أحمد سليمان الدباغ ، و مصطفى بن علي مصطفى السلموني ، و يوسف بن أحمد محمد الشعار ، و بيهان بنت أحمد الشعار ، و موسى ابن يوسف موسى الشرطي ، و نفيسة بنت موسى الشرطي .
التولية والنظر على الوقف
كان قاضي القدس الشريف يعين على كل وقف متوليا يتابع إجراءات التعمير والتأجير وتوزيع الريع على المستحقين. وأحيانا كان يعين ناظرا يتولى مراجعة تلك الإجراءات مع المتولي. ومن ذلك ما جاء في الحجة رقم 278: 81 المؤرخة في 1 شعبان 1211/1797م التي تم فيها تعيين فطومة بنت جناعر متولية شرعية على وقفي جديها الأعليين الشهابي أحمد ومحمد المعروفين بوقف الدمشقي عوضا عن والدها محمد المتوفي.
وفي الحجة رقم 309 : 16 المؤرخة في أواسط ر بيع الثاني 1240/1824م ادعى (إسماعيل بن المرحوم إبراهيم حسن النشاشيبي على السيد حسن بن عبد الحق السكافي الوكيل عن زوجته فطومة بنت محمد جناعر المتولية على وقف جدها الدمشقي… قائلا في تقرير دعواه عليه أن جده وقف وقفه وشرط النظر في وقفه للأرشد فالأرشد من الموقوف عليهم وأنه هو الآن أرشد الموقوف عليهم وأن الموكلة عاجزة عن التعاطي ومقيمة زوجها عنها في مباشرة أمور الوقف… سئل الوكيل السيد حسن أجاب أن زوجته منصوبة منذ سنين عوضا عن والدها وجدها وأبرز من يده سند نصبها فعند ذلك طلب مولانا الحاكم الشرعي من السيد إسمعيل بينة شرعية تشهد له بالأرشدية) ، فأ ثبت إسماعيل ذلك بواسطة شهود فعزل القاضي فطومة وعين إسم ا عيل متوليا على الوقف عوضا عنها .
وفي الحجة رقم 332: 103 المؤرخة في أوائل رجب 1266/1849م عين القاضي (نشاشيبي زاده السيد خير الدين خادم المسجد الأقصى الشريف متوليا شرعيا على وقفي جده الأعلى الشهابي أحمد ومحمد الكائنين وقفهما بالقدس الشريف وخارجها المعروفين الآن بوقف الدمشقي عوضا عن متصرف ذلك والده المرحوم السيد إسماعيل النشاشيبي بحكم وفاته).
وتتحدث الحجة رقم 373: 91 المؤرخة في 23 شوال 1302/1885م عن قيام يوسف نامق بن خير الدين بن إسماعيل النشاشيبي المتولي الشرعي على وقف الدمشقي ب تعمير دارين جاريتين في الوقف . وأما في الحجة رقم 392: 218 المؤرخة في 5 ذي القعدة 1317/1899م فقد فوض المتولي المذكور كلا من خير الدين بن خير الدين النشاشيبي ومحمد حلمي الجاعوني بتأجير بعض عقارات الوقفين.
وقفيات أخرى
بالإضافة إلى وقف الدمشقي المذكور كانت هناك أوقاف أخرى عديدة لدمشقيين استقروا في القدس، ومنها وقف عبد القادر الدمشقي الذي يتكرر ذكره في السجلات 201، 202، 203 بشكل خاص.
ومن ناحية أخرى هناك العديد من الوقفيات التي كانت عقاراتها في دمشق ولها مستحقون في القدس. ومنها وقف محمد شمس الدين النصاب الدمشقي المؤرخ في 11 جماد الأول 1012/1603م، و الذي آل وقفه إلى ذريته من جهة الإناث الذين رحل بعضهم إلى القدس كما تبين الحجة رقم 185: 232 المؤرخة في أواسط ذي القعدة 1093/1682م وفيها أن قاضي القدس ( نصب إسمعيل بن حسين الشامي الشهير نسبه بابن فواز ناظرا شرعيا على وقف جده الأعلى المرحوم الخواجه محمد شمس الدين الدمشقي النصاب الكائن الوقف المزبور بمدينة دمشق الشام لكونه أرشد الموقوف عليهم بموجب شرط الواقف بحضور كل واحد من أخيه محمد وولدي عمه الشيخ علي والشيخ فواز من مستحقي الوقف المزبور وقبولهم بذلك شرعا).
وقد عُين الشيخ تقي الدين بن محمد شمس الدين الحصني الدمشقي ( ت 1129 /1717م ) متوليا على وقف النصاب فترة من الزمن كما يتبين من الحجة رقم 192: 132 المؤرخة في أواخر شعبان 1101/1690م ، وفيها:
(أقر واعترف كل واحد من الشيخ علي بن الشيخ حسن فواز أصالة عن نفسه وبالوكالة الشرعية عن قبل كل واحدة من أخواته الثلاث وهن نور وحبيبة وعائشة بنات حسن المزبور وعن بدرى ابنة فواز ، والحاج مصطفى بن الحاج حسن والحاج إسمعيل بن المرحوم الحاج حسين وهم المستحقون في وقف جدهم الأعلى الخواجه محمد شمس الدين النصاب الجاري الوقف المزبور بدمشق الشام بأنهم قبضوا وتسلموا وصار لهم المصير الشرعي من يد الحاج حسين بن ناصر القاضي مما كان قبضه الحاج حسين المزبور بالوكالة الشرعية عن الجماعة المستحقين المزبورين أعلاه من مولانا فخر السادات السيد تقي الدين الحصني المتولي على الوقف المزبور الكائن بدمشق الشام نظير ما يخص الجماعة المزبورين من ريع وقف جدهم المزبور في كل سنة ثمانية وعشرين غرشا كل غرش أربعين قطعة مصرية بالتمام والكمال).
وقد سمي وقف النصاب بعدئذ بوقف الحصني نتيجة دخول آل الحصني في الوقف وتسلمهم التولية عليه حسبما ورد في عدة حجج أخرى، ومنها الحجة رقم 234 : 139 المؤرخة في 26 ر بيع الثاني 1164/1751م:
(ادعى السيد إبراهيم ابن المرحوم الحاج خليل النشاشيبي أحد المستحقين بوقف الحصني الكائن وقفه بدمشق الشام على محمد ابن السمينة الحاضر معه بالمجلس الشرعي وقال في دعواه عليه أنه راح محمد إلى الشام وأجر الوقف 58 أسدي مدة سنة لسنة ثلاثة وستين وقبض الأجرة المزبورة وأنه يستحق السيد إبراهيم وأخيه من الأجرة النصف 14 أسدي وطالبه بها سئل محمد المزبور فأجاب بأنه أجر الوقف 28 أسدي وقبضها وأنكر أن السيد إبراهيم وأخيه يستحقان بالوقف المزبور طلب من المدعي البيان فأحضر للشهادة كل واحد من عبد الله بشه بن المرحوم الحاج علائي الدين الشامي والسيد ياسين الحمصي فشهدا بأن السيد إبراهيم يستحق بالوقف المزبور النصف وأنه يتصرف هو ووالده الحاج خليل وجده الحاج إسماعيل مدة مديدة وأن جده ووالده كانا يؤجران الوقف ويقبضا استحقاقهما من الأجرة قبولا شرعيا فعند ذلك أمر مولانا الحاكم الشرعي محمد بدفع الأربعة عشر أسدية أمرا شرعيا وحبس على المبلغ حبسا شرعيا).
تلقي هذه الدراسة الموجزة أضواء جديدة على العلاقات الدمشقية المقدسية في العهد العثماني، وخاصة في النصف الثاني من القرن العاشر الهجري، حيث استقرت عشرات من العائلات الدمشقية في القدس نتيجة للتعميرات الضخمة التي أنشأها السلطان سليمان القانوني حتى تضاعف عدد سكانها ثلاث مرات في غضون سنوات قليلة. كما تبين لنا هذه الدراسة أهمية سجلات المحاكم في دراسة العديد من الجوانب التاريخية في العهد العثماني.
المصدر: مؤسسة فلسطين للثقافة / بقلم: بشير بركات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق