تابع: الدول والشعوب والديانات ... في التاريخ الفلسطيني حتى بدايات القرن العشرين 4
28ـ العصر الهلينستي:
الفترة التي تقع بين وفاة الإسكندر عام 323 ق.م وقيام الإمبراطورية الرومانية عام 30ق.م تعرف تاريخياً باسم العصر الهلينستي تمييزاً لها عن العصر الإغريقي.
بعد خلاف ورثة الإسكندر، وقعت فلسطين ضمن حكم بطليموس (367-283ق.م)، فيما سيطر سلوقس على آسيا الغربية. وقد تميز العصر الهلينستي بالنزاعات بين السلوقيين والبطالمة حول امتلاك سورية المجوفة التي كانت فلسطين من ضمنها، وقد سيطر عليها البطالمة من 302ق.م إلى 198 ق.م حيث تمكن السلوقيون من استعادتها. استمرت سيطرة السلوقيين على فلسطين حتى عام 64ق. م حيث دخلت مع الأراضي السورية تحت حماية الرومان.
فيما يخص الفترة التي وقعت فيها فلسطين تحت الحكم البطليمي، دأب البطالمة على التقرب من اليهود، حتى أن يطليموس الأول خصص أحد أحياء الإسكندرية لليهود ونقل إليه أفواجاً من يهود فلسطين، وزاد توافد اليهود في عهد بطليموس الثاني الذي افتدى أسراهم من ماله الخاص ومنح معبدهم في بيت المقدس الهدايا الثمينة ، كما أنزلهم في الأراضي المستصلحة.
أما تحت الحكم السلوقي، فقد تودد ملكهم أنطيوخس الثالث إلى المدن الفلسطينية كي تؤيده في نزاعه مع البطالمة، فانقسمت مدن فلسطين بين مؤيدة للسلوقيين ومؤيدة للبطالمة.
وكلّف أنطيوخس الرابع أحد قادته عام 167ق.م بإلغاء الطقوس الدينية اليهودية والاستعاضة عنها برفع الإله الإغريقي زيوس فوق المذبح المقدس، وحول معبد يهوه فوق جبل جزيم إلى معبد زيوس وحرم الختان واقتناء الأسفار المقدسة وأوجب أكل لحم الخنزير. ونتيجة لذلك انقسم اليهود إلى قسمين؛ قسم تخلي مرغماً عن الشريعة وهم "المتأغرقون"، وآخر هرب إلى خارج المدينة المقدسة وأطلق عليهم "حزب القديسين" ووضعوا (ماتاتيه) لقيادتهم، الذي مات بعد فترة قصيرة فاستلم القيادة بدلاً منه ابنه يهوذا الذي لقب بالمكابي (المطرقة). وقد أحرز يهوذا نجاحاً في التصدي للقوات السلوقية مما جعل كثيراً من المترددين اليهود ينضمون إليه. وفي عام 166ق.م حقق المكابي نصراً في معركة (عقبة بين حورون) على القائد أبولونيوس، وحقق نصراً آخر عام 165ق.م على القائدين نيكانور وجورجياس مما دفع أنطيوخس، الذي كان يقوم بحملة أخرى إلى الاستجابة لمطالب المكابيين بوقف الاضطهاد. فعاد المكابيون إلى بيت المقدس وإلى ممارسة شعائرهم الدينية في 25/12 عام 164 ق.م، وهو العيد الذي يحتفل به اليهود إلى اليوم تحت اسم "حانوكاه" عيد الأنوار.
بعد وفاة أنطيوخس الرابع قام القائد لوسياس بهزيمة المكابيين في معركة بيت زكريا قرب بيت صور، وقتل في المعركة اليعازر شقيق المكابي، وقام لوسياس بتعيين كاهن جديد يدعي إلياكيم، لكن المكابيين خلعوه ووقعوا معاهدة مع روما تعهدت لهم فيها بمد يد العون لهم في حال تعرضوا لهجوم.
قام القائد ديمتريوس بتجريد حملة عام 161ق.م ضد المكابين الذين هزموها عند الرها، فجرد حملة ثانية بقيادة باكخيدس حققت نصراً على المكابي في (لاشع) وقتل المكابي نفسه وفر أصحابه عبر الأردن.
تزعم يوناثان شقيق يهوذا المكابيين، وعرض عليه صلح يمنع عليه الاقامة داخل أسوار بيت المقدس، فوافق يوناثان. لكنه، بعد وفاة الكاهن الأعظم اغتصب الكهانة، وقام بتأسيس إمارة مستقلة بزعامته.
بعد ذلك استعان بطليموس سراً بيوناثان وقدم إلى فلسطين وبعد معركة قتل فيها بطليموس تسلم ديمتريوس الثاني الحكم وأطلق يد قائد مرتزقته في القضاء على المعارضة. استغل يوناثان النزاع بين ديمتريوس وبالاس (حليف الرومان) وضرب حصاراً على القلعة في عكا. ونجح، بالهدايا والأموال في استمالة الملك الذي تغاضي عن توسع المكابيين شمال فلسطين، وعندما حدثت ثورة داخلية في أنطاكية نتيجة النقمة على مرتزقة ديمتريوس، استنجد ديمتريوس بيوناثان الذي أمده بمقاتلين شرسين قضوا على ما يقارب مئة ألف من سكان أنطاكية وضواحيها. وفي عام 143ق.م أعلن ابن بالاس ملكاً باسم أنطيوخس السادس وانقسمت مملكة السلوقيين إلى قسمين، سوريا الداخلية تحت حكم أنطيوخس وسوريا الساحلية تحت حكم ديمتريوس. انقلب المكابيون على ديمتريوس وأيدوا أنطيوخس واستغلوا ثقته وبدؤوا في التوسع واتصلوا بالرومان للحصول على اعتراف بتوسعاتهم، فقام وزير انطيوخس (ديودوتس) بتجهيز حملة وصلت إلى سكيثوبولس (بيسان) وقام بالفتك بيوناثان ومعظم رجاله المكابيين. بعد نجاح ديودوتس قام باغتيال أنطيوخس وأعلن نفسه ملكاً باسم تروفون، مما أطمع بقية المكابيين، فعرضوا تأييدهم على دمتريوس الذي قبل وأعفاهم من الضرائب، لكنه أسر في معركة ضد البارثيين، وقام أخيه الأصغر أنطيوخس السابع بالزواج من زوجة أخيه كليوباترا وأعلن نفسه ملكاً، وقتل تروفون. فطلب أنطيوخس من سمعان المكابي دفع الجزية، لكن قواته لم تتمكن من جباية الجزية إلا بعد 3 سنوات وبعد أن شارك أنطيوخس نفسه في حصار بيت المقدس حيث سقطت في قبضته عام 132 ق.م.
وفي عهد هركانوس مد المكابيون نفوذهم إلى معظم فلسطين جنوب الكرمل، وقام خليفته عام 103ق.م باجبار سكان الجليل بالسيف على اعتناق اليهودية، وقام بعده يانايوس بحصار عكا التي استنجدت ببطليموس التاسع حيث أوقع باليهود هزيمة منكرة في موقعه أسينون، لكن يانايوس تمكن من إعادة تأسيس دولته، وهو أول من لقب بالملك في اليهودية، لكن مظاهر الملوكية لم تعجب شعبه الذي استعان بملك دمشق السلوقي ديمتريوس الثالث فأنجدهم عام 87ق.م ففر يانايوس من بيت المقدس فزال بذلك أي ذكر لحركة سياسية هامة في فلسطين حتى نهاية العصر الهلنستي عام 64ق.م.
29ـ السلوقيون:
لقي برديكاس خليفة الإسكندر المقدوني مصرعه على أيدي الولاة الذين تحالفوا عليه عام 321ق.م وعلى أثر ذلك عقد مؤتمر تريبار أديسوس لإعادة توزيع ولايات الإمبراطورية بين المنتصرين. ومن هذه القسمة بدأ نجم السلوقيين في الظهور حين عين سلوقس والياً على بابل.
غزا انتيغوس جوف سوريا فاستنجد سلوقس ببطليموس الذي انجده وأعاده للحكم بعد انتصاره في معركة غزة عام 312ق.م.
حاول أنتيغوس أن يعيد لحمة إمبراطورية الاسكندر، فتحالف عليه بطليموس وليسماخوس سلوقس وكاسندروس وهزموه ولقي حتفه عام 302ق.م، وفر ابنه ديمتريوس، وقسم المنتصرون الغنائم فكانت سوريا من نصيب سلوقس الأول.
بعد وفاة أنطيوخوس الثاني عام 246ق.م توفي بطليموس الثالث فاشتعلت الحرب مع بطليموس الرابع، وانتصر البطالمة على السلوقيين عند رفح عام 211ق.م، واسترد أنطيوخوس الثالث القدس بعد انتصاره على البطالمة سنة 203ق.م. اشتعلت بعد ذلك حرب بين أنطيوخوس واليهود بانتصار خليفته الملك ديمتريوس على اليهود وقتل يهودا المكابي عام 160ق.م، لكن زعيم المكابيين يوناثان سعي للتقرب من السلوقيين عكس سلفه.
30ـ البطالمة:
تاريخ البطالمة طويل، إلا أننا هنا سنتناول ما يخص تفاعلهم مع فلسطين.
توزعت إمبراطورية الإسكندر على قادته، فاستولي وإلي مصر بطليموس (364-282 ق.م) على فينيقية (فلسطين) لتوسيع نفوذ ولايته (319 ق.م)، وقد حارب بلطيموس أنتيغوس في غزة وانتصر عليه (315 ق.م) وأعاد ولاية سورية إلى عاملة سلوقس، وحارب أنتيغوس سنة 301 ق.م في معركة ابسوس وقتله.
بقيت فلسطين في قبضة البطالمة حتى هزمهم الملك السلوقي أنطيخيوس الثالث هزيمة حاسمة في معركة سانيون (200 ق.م) ثم استولوا على صيدا وبيت المقدس وفلسطين كلها ففقد البطالمة هذه المنطقة نهائياً (198 ق.م).
31ـ قبيلة ثمود:
قبيلة من العرب البائدة يعود نسبها إلى ثمود جائر بن إرم بن سام بن نوح، ويرى أغلب المفسرين أنهم سكنوا وادي القرى بين المدينة والشام، وبيوتهم منحوتة في الجبال، ويرجع تاريخهم إلى ما قبل الميلاد، فقد أجلاهم الملك الأشوري صارغون الثاني إلى السامرة في فلسطين وهذا أقدم ما يعرف عنهم.
ورد أسمهم في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، وقد اكتشف علماء الآثار مجموعة من النصوص الثمودية يعود بعضها إلى ما قبل الميلاد، وبعضها إلى ما بعد الميلاد، من بينها نصوص تدل على معرفتهم بالمسيحية وتعد أقدم الاشارات الدالة على وجود المسيحية في شمال الجزيرة، وقد زرعوا الأرض ورعوا الماشية واشتغلوا بالتجارة، ويبدو أنهم أصيبوا بكارثة هائلة مثل زلزال أو بركان.
وتؤكد المصادر التاريخية إقامتهم جنوب البحر الميت، مسرح أحداث قصتهم الشهيرة مع النبي صالح وعقرهم لناقته.
32ـ اليطوريون:
قبيلة تتكلم الآرامية سكنت بين اللجاة والجليل، وترجع التوراة نسبهم إلى يطور بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل، كما أشارت التوراة إلى حربهم مع بني إسرائيل أيام الملك شاؤول – طالوت.
يذكر يوسيفيوس المؤرخ أنهم عاشوا في الجليل شمال فلسطين في القرن الثاني قبل الميلاد , وأن الملك اليهودي أرسطوبولوس الأول غزاهم عام 104ق.م وأرغم بعضهم على اعتناق اليهودية. امتاز اليطوريون بالرماية وتأثروا بالحضارة الهلينية، وأنشأ منهم ماركوس أنطونيوس حرساً خاصاً كي يحتويهم، لكنهم تحرروا فقتل ملكهم ليسانياس بن بطليموس وأعطى جزءاً من مملكته لصديقته كليوباترا.
وحين تولي الإمبراطور أوغسطس السلطة ضمّ ما بقي من مملكة ايطوريا بعد موت ملكها زنددورس سنة 20ق.م وبذلك انتهى عهد اليطوريين.
33ـ الأنباط:
يجمع الباحثون على أن أصل الأنباط عربي ثابت، بدليل مواطنهم "العربية الحجرية" واللغة العربية التي تظهر في كتاباتهم بالآرامية. إضافة إلى أسماء أعلامهم (الحارث، عبادة، مالك، ..الخ). كما أن أسماء آلهتهم تدل على عروبيتهم (اللات، العزى، مناة، ذو الشرى، هبل).
قدم الأنباط من جنوب الجزيرة في القرن السادس قبل الميلاد واستقروا في الحجاز، وامتدت مملكتهم من الحجاز إلى البحر المتوسط. وكانت البتراء أعظم مدنهم على الاطلاق، ويقسم تاريخ الأنباط السياسي إلى قسمين:
الفترة الهلينستية: وتبدأ من أيام البطالمة وتنتهي عام 64ق.م، حيث احتل الرومان جنوب سوريا، ومن ملوك الأنباط في هذه الفترة الحارث الأول والحارث الثاني وعبادة الأول والحارث الثالث. وفي هذه الفترة اصطدم الأنباط باليهود المكابيين الذين احتلوا غزة التي كانت ميناء هاماً، وقد هزم ملكهم عبادة الأول عام 93ق.م الملك اليهودي اسكندر جانوس، كما هزم عبادة الأول السلوقيين بقيادة أنطيخيوس الثاني عشر في النقب عام 85ق.م، وحاصر الحارث الثالث القدس.
الفترة الرومانية: تمكن الرومان في هذه الفترة من هزيمة الأنباط واجبارهم على فك حصار القدس، ودار النزاع في هذه الفترة بين الأنباط وهيرود انتيباس الذي نصبه الرومان ملكاً على اليهود ولم يكن يهودياً. من أبرز ملوك الفترة الرومانية الحارث الرابع (8ق.م ـ 40م) الذي يعد عصره أطول عصور الأنباط وأزهاها. وانتهت مملكة الأنباط سياسياً في 22/3/106 بعد أن أسس تراجان الولاية العربية، لكن النهاية السياسية لم تنه حضارة الأنباط التي استمرت بعد ذلك طويلا.
تمسك بعض الأنباط بديانتهم زمناً بعد انتشار المسيحية، وفي القرن الرابع الميلادي قويت المسيحية وأصبح للبتراء أسقف سنة 325م.
تأثروا بفن بلاد الرافدين وجنوب الجزيرة، واتسم معمارهم بطابع هلينستي، تجلى ذلك بشكل خاص في المدافن، وقد أبدع الفن المعماري النبطي طرازاً جديداً من تيجان الأعمدة. اكتشفت مدينة البتراء عام 1812م على يد بوكهارت الألماني.
34ـ قبيلة تنوخ:
هم قبائل تحالفت وأقامت في مواضعها "تنخت"، ويرجح المؤرخون وجودهم في المنطقة إلى ما قبل الإسلام بقرون، ويختلف في نسبهم وفي كونهم من قضاعة أو من بني أسد، نصبهم ملك الروم على الشام فتنصروا، وهناك رواية عن مقاتلتهم الفرس كافأهم الروم عليها باقطاعهم سوريا وما جاورها. حاربوا خالد بن الوليد في دومة الجندل عام 12هـ. اعتنقوا الإسلام في العصر العباسي ومنهم الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري.
35ـ قبيلة الضجاعمة:
الضجماعمة قبائل عربية تنسب إلى "ضجعم بن سعد" من آل سليح بن عمرو بن حلوان بن عمران بن الحافي من قضاعة، وقد كانت أحدى أسرتين فيهما الملك في مشارف الشام، وقد انتزعوا الملك من بني تنوخ. شمل ملكهم الشريط الجنوبي من بلاد الشام بأكمله، ولأنهم كانوا يدينون بالنصرانية كانت علاقتهم بالروم وطيدة، وقد بلغ وجودهم أوجه في القرن الرابع للميلاد.
انتزع الغساسنة الملك منهم لكنهم ظلوا يستوطنون مشارف الشام. وعندما جاء الإسلام ناصروا الروم على المسلمين كما سبق لهم أن فعلوا في غزوة دومة الجندل، لكنهم أسلموا بعد ذلك وشاركوا في الفتوحات الإسلامية.
36ـ قبيلة عاملة:
قبيلة قحطانية، جاءت من اليمن إلى الشام وأقامت في جبل عاملة المشرف على طبريا، وكانت بعض بطونها خاضعة للزباء ملكة تدمر، وعند ظهور الإسلام كانت قبيلة عاملة قد استوطنت جنوب شرق البحر الميت، وقد ناصرت البيزنطيين على الجيش الإسلامي، وبعد دخول المسلمين بلاد الشام استوطنت القبيلة منطقة الجليل، وقد قامت بمساندة الأمويين غير أنها لم تقم بدور سياسي مهم.
37ـ الغساسنة:
هم أحفاد جفنة بن عمرو، وهم قبائل أزدية يمانية. كان جبلة أشهر ملوكهم الأوائل وقد تمكن من مد نفوذه إلى فلسطين سنة 497م، فتقدم إليه البيزنطيون للإفادة منه. هاجر الغساسنة من اليمن أواخر القرن الثالث للميلاد وتقدموا نحو بلاد الشام الجنوبية وأزاحوا قبيلة الضجاعمة وحلوا محلها، فاعترف لهم البيزنطيون بنوع من السيادة ومنحوهم ألقاباً سياسية رفيعة، وقد أقام الغساسنة دولة حاجزة بين سورية والساسانيين فساعدوا الروم في حروبهم ضد الساسانيين الفرس.
امتدت سلطتهم على القبائل العربية التي نزلت بفلسطين والأردن وأطراف سوريا، وقد اعتنقوا النصرانية على المذهب اليعقوبي.
ازدهرت دولتهم في عهد الحارث بين جبلة، الذي حارب المنذر بن ماء السماء وهزمه سنة 528م، وقد ساعد البيزنطيين في قمع تمرد السامريين سنة 529م فمنحه الإمبراطور جستنيان لقب فيلارك ولقب بطريق وهما لقبان إداريان رفيعان، وتجددت الحرب بين الغساسنة وملك الحيرة على مناطق النفوذ في الإقليم المعروف بالسراط جنوبي تدمر، واستمرت الحرب حتى أحرز الحارث الغساني انتصاراً حاسماً على المنذر الثالث الذي قتل في معركة عرفت بيوم حليمة سنة 554م.
حظي المنذر بن الحارث بحفاوة القيصر مما أوغر صدور رجال دولته، فاستغلوا فرصة هزيمة الجيش البيزنطي أمام الفرس وعزوها إلى خيانة المنذر الذي نفاه القيصر إلى القسطنطينية ثم إلى صقلية حيث مات هناك سنة 583م.
ثار أبناء المنذر بقيادة أخيهم النعمان وحققوا مجموعة من الهجمات الناجحة، لكن البيزنطيين تمكنوا من النعمان وسجنوه عام 584م، وتعتبر هذه بداية أفول نجم وحدة القبائل العربية في سوريا. وحين غزا الساسانيون سوريا بقيادة كسرى أبرويز عام 613م واحتلوا دمشق والقدس، قضوا على آخر نفوذ للغساسنة.
حاربت بقايا الغساسنة جيوش المسلمين إلى جوار البيزنطيين، وقد انتصر خالد بن الوليد على الروم ومعهم الغساسنة في معركة مرج صفر سنة 634م، كما أن جبلة بن الأيهم اشتبك مع خالد بن الوليد في معركة اليرموك سنة 636م، ويعزو بعض المؤرخين جزءاً من انتصار المسلمين إلى تحول جبلة بن الأيهم للحرب مع أبناء جلدته العرب ضد البيزنطيين.
38ـ قبيلة كلب:
قبيلة عربية تنتسب إلى كلب بن وبرة من قضاعة، وكانت أعظم قبيلة في بلاد الشام قبل مجيء الإسلام. انتشر فيها المذهب النصراني، وكانت قبيلة شبه مستقرة. لم يكن موقفهم معادياً للإسلام، ولكنهم دخلوا فيه تدريجياً فحافظوا على أهمية قبيلتهم. بعد تحرير الشام، أصبح لها نفوذاً سياسياً على الأخص في العهد الأموي، وقد تزوج معاوية منهم، وزوجته ميسون الكلبية هي التي أنجبت له يزيد ومن شدة ما دعم الكلبيون الأمويين صارت كلمة كلب مرادفة لأنصار الأمويين.
39ـ الراشدون:
لم تنقطع علاقات الجزيرة العربية مع فلسطين عل مرّ التاريخ، إلا أن الإسلام أخذ يهتم بها بجدية وذلك لارتباطها بمسرى الرسول (ص)، ولكونها أول قبلة للمسلمين قبل اعتماد الكعبة قبلة ثانية.
بدأ العصر الراشدي بخلافة أبي بكر الذي كان أول عمل له هو إرسال جيش أسامة بن زيد، الذي جهزه الرسول لفتح فلسطين قبل وفاته، لكن أبو بكر توفي وفلسطين لم تفتح بعد. واصل عمر بن الخطاب أداء مهمة أبي بكر، وانتقل بنفسه إلى ميدان القتال، حتى أن التاريخ يذكر أن عمر خصّ فلسطين، دون سواها من البلدان التي تم فتحها بأربع زيارات.
كانت فلسطين قسماً من الأقسام الأربعة التي قسم عمر البلاد على أساسها، واحتفظ جند فلسطين بوضعه الذي أرساه عمر بن الخطاب لزمن طويل.
كان عمرو بن العاص أميراً على فلسطين في عهد عمر، ولمّا سار لفتح مصر استخلف أبا عبيدة بن الجراح الذي جعل يزيد بن أبي سفيان أميراً على فلسطين. ومات أبو عبيدة في طاعون عمواس فاستخلف معاذ بن جبل على إمارة الشام، ومات معاذ فاستخلف يزيد بن أبي سفيان الذي وضع أخاه معاوية أميراً على فلسطين فأقره عمر. ولما توفي يزيد تولى معاوية إمارة الشام فأصبح علقمة بن مجزر أميراً على فلسطين. واستمر معاوية في إمارة الشام يولي الأمراء ويعزلهم حتى ما بعد العصر الراشدي.
ظلت الأرض ملكاً عاماً للمسلمين في فلسطين، يزرعها الناس مقابل خراج معين، وحافظ أصحاب الديانات الأخرى على دياناتهم مقابل الجزية.
تدفقت القبائل العربية إلى فلسطين بعد الفتح؛ فاستقرت غسان في اليرموك والجولان، الأشعريون في طبريا ومدين في ما بين تبوك والعريش وبيت جبرين. وسكن أريحا جماعة من قيس وقريش، كما نزلت قبائل من لخم بين مصر والشام، وسكن بنو بكر منطقة جنين وبعض من مضر في نابلس.
أعطى موقع فلسطين لسكانها بعد الفتح دوراً كبيراً في حركة الجهاد، سواء في رد المحاولات البيزنطية لاستعادة فلسطين أو في حركة الفتح الإسلامي. حتى أن معاوية أقام مصنعاً للأسلحة البحرية في عكا، فوضع بذلك أساساً لأول أسطول إسلامي في عهد عثمان.
في الفتنة التي حدثت بعد مقتل عثمان وقف أهل فلسطين مع معاوية في المطالبة بدم عثمان وخرجوا معه للقتال في "صفين"، وعندما انتهت المعركة إلى قرار التحكيم، جرى التحكيم في منطقة أذرح بأطراف فلسطين الشرقية، وظل أهل فلسطين موالين لمعاوية ولمن جاء بعده إلى أن توفي يزيد بن معاوية، فوقف نائل بن قيس الجذامي إلى جانب عبد الله بن الزبير وأعلن له البيعة.
خلق التعدد السكاني في فلسطين بعد الفتح تنوعاً حضارياً وتنوعاً لغوياً، فقام المسلمون بإنشاء دور العبادة ودور العلم في طول البلاد وعرضها، ولما كثر توافد الناس إلى دور العلم بعث لهم عمر بن الخطاب معاذ بن جبل الذي ظل يدرس فيهم حتى وفاته، فتولى التدريس بعده عبادة بن الصامت حتى مات عام 34هـ.
كان من جراء هذا الدور الحضاري أن استعربت غالبية السكان في الشام وفلسطين، فغلبت الصبغة العربية على البلاد مما أدى إلى تعريب الدواوين بعد ذلك كضرورة تاريخية في عهد عبد الملك بن مروان.
40ـ الأمويون:
ارتبطت بلاد الشام بالأمويين منذ ما قبل الإسلام، لذا فقد حظيت فلسطين في عصرهم بامتيازات. وشهد مطلع العصر الأموي استقرار التوزيع القبلي في فلسطين، وفرضت الضرورات العسكرية تكوين الأجناد مما أدى إلى تقسيم الشام إلى 4 أجناد كانت فلسطين واحداً منها.
كانت الأرض في فلسطين شبه مشاعية، واهتم الأمويون بتطوير الزراعة فيها،خاصة في مناطق الغور، وكان معاوية وابنه يحبان الإقامة جوار طبرية. وقد بني الوليد بن عبد الملك قصر المشتى قرب البحر الميت، وبني سليمان بن عبد الملك مدينة الرملة سنة 98هـ. وقام معاوية بترميم سور القدس، واعتنى ببساتينها وغاباتها وبني دارا لصناعة السفن في عكا.
عين مروان بن الحكم ابنه عبد الملك والياً على فلسطين، فواجه ثورة قبلية قضى عليها. ومالت فلسطين في عهد عبد الملك إلى عبد الله بن الزبير في ثورته بمكة، وقد سيطر على فلسطين نائل بن قيس الخزامي سنة 64هـ ودعا إلى ابن الزبير، فالتقاه عبد الملك في أجنادين وقتله. وانتهز الروم فرصة المشاكل هذه فأثاروا الجراجمة في لبنان وفلسطين، فهاجموا سواحل الشام.
وبنى عبد الملك بن مروان قبة الصخرة والمسجد الأقصى، ويعد مسجد قبة الصخرة أول مسجد للإسلام في الشام كلها (72هـ).
استطاع الوليد بن عبد الملك القضاء على فتنة الجراجمة في فلسطين فتميز عهده بالاستقرار.
إثر مقتل الوليد بن يزيد (744م) ثارت فلسطين على واليها، فأخمد يزيد بن الوليد ثورتها وعين عليها ضبعان بن روح. وفي وسط هذه المحن ظهر مروان بن محمد، الذي سار إلى دمشق للانتقام لمقتل الوليد، لكن أهل فلسطين، بقيادة ثابت بن نعيم الجذامي تمردوا على مروان الذي صمد في وجه التمرد وقبض على ثابت الجذامي فهدأت الفتنة مؤقتاً. وظل مروان يخمد فتنة تلو أخرى إلى أن أخضع الشام في النهاية سنة 746م.
وحين بدأت الدعوة للعباسيين وتولى أبو العباس الخلافة سنة 132هـ 749م، كان مروان بن محمد لا يزال صامداً وانسحب إلى فلسطين. وقتل عبد الله بن علي 70 رجلاً من أمراء بني أمية بعد أن أعطاهم الأمان عند نهر العوجا في فلسطين وبذلك انتهت الخلافة الأموية.
41ـ العباسيون:
في عام 132هـ، انتقلت الخلافة من الأمويين إلى العباسيين، وبالتالي أصبحت فلسطين تحت الحكم العباسي الذي استمر حتى الفتح الفاطمي عام 358هـ.
في أواخر العهد الأموي كانت فلسطين أحد مراكز القلاقل، فقد تشتت الناس حسب أهوائهم السياسية ودمرت الزلازل كثيراً من المعالم فيها وكثرت الفتن وضعفت الموارد الاقتصادية وأدى هذا إلى سقوط دولة الأمويين.
بعد معركة الزاب التي حسمت الأمر لصالح العباسيين، تراجع مروان بن محمد إلى فلسطين فوقف منه سكانها موقفاً معادياً فاضطر للجوء إلى مصر، وبعد ثلاثة أشهر من معركة الزاب دخل عبد الله بن علي بن عبد الله العباسي إلى فلسطين سنة 132هـ. حيث قام بمذبحة أسفرت عن سبعين قتيلاً من الأمويين.
يمكن تقسيم العصر العباسي في فلسطين إلى قسمين؛ الأول هو فترة الارتباط المباشر مع بغداد وسامراء الذي امتد بين (132-264هـ)، وفي هذه الفترة لم يعط العباسيون أولوية لفلسطين لشكهم في ولائها للأمويين، وفي عام 255هـ تولى فلسطين عيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني الذي تمرد على الخلافة لمدة عامين، لكنه هزم على يد أماجور التركي، الذي تسلم حكم الشام حتى عام 264هـ حيث توفي وتحرك بعدها أحمد بن طولون من مصر للسيطرة على البلاد.
تمحور اهتمام العباسيين في هذه الفترة على أمن الطرق التجارية والحج وتأمين الخراج كما ركزوا على الاستفادة من المركز الديني لبيت المقدس ورعاية الأراضي المصادرة من الأمويين.
تجند بعض أهل فلسطين في الجيش العباسي في تلك الفترة، ووجدت في سامراء سنة 248 هـ فرقة عرفت باسم فرسان طبريا كان لها دور في الفتنة العسكرية التي انتهت بتعيين المستعين بالله.
لكن الطابع العام لعلاقة أهل فلسطين بالحكم العباسي كان التمرد والثورة الناتجين عن العقدة الأموية والظلم الناتج عن الخراج والنزاعات على المصالح، فيما انتشر الفقر والضائقة الاقتصادية وخصوصاً زمن الرشيد، فظهرت عدة ثورات تم إخمادها بالقوة وإن استمر بعضها خمس سنوات.
في أواخر أيام المعتصم (226هـ) اندلعت في الغور وطبرية وبيسان والرملة ثورة فلاحية قادها المبرقع تميم اللخمي، بلغ عدد أنصاره مئة ألف من الحراثين، ولم يتمكن العباسيون من هزيمته إلا سنة 227هـ حين انصرف عنه أنصاره في موسم الحرث، فاعتقل وسجن في سامراء.
الفترة الثانية في علاقة فلسطين بالحكم العباسي هي فترة الارتباط بمصر ما بين عامي (264-358هـ) حيث كانت مصر في هذه الفترة تشهد نشاطا اقتصاديا ملحوظا عكس بغداد التي أنهكتها الثورات.
وظهرت في هذه الفترة عدة دول؛ كالدولة الطولونية التي حكمت 28 عاماً، وظهرت الدعوة الإسماعيلية في فلسطين مع نهايات هذه الفترة.
كما تضمن هذا القسم ظهور الدولة الإخشيدية على يد محمد بن طغج والتي استمرت 35 سنة.
في النهاية يمكن تلخيص الحكم العباسي في فلسطين بأنه حول فلسطين، على مستوى الديانة إلى الإسلام وفرض العربية كلغة، وسياسياً تحولت إلى حكم القواد الأتراك، واتجه الاقتصاد نحو النمو وأخذت الثقافات المختلفة تندمج ببعضها البعض ضمن الإطار الإسلامي العربي.
يتبع
28ـ العصر الهلينستي:
الفترة التي تقع بين وفاة الإسكندر عام 323 ق.م وقيام الإمبراطورية الرومانية عام 30ق.م تعرف تاريخياً باسم العصر الهلينستي تمييزاً لها عن العصر الإغريقي.
بعد خلاف ورثة الإسكندر، وقعت فلسطين ضمن حكم بطليموس (367-283ق.م)، فيما سيطر سلوقس على آسيا الغربية. وقد تميز العصر الهلينستي بالنزاعات بين السلوقيين والبطالمة حول امتلاك سورية المجوفة التي كانت فلسطين من ضمنها، وقد سيطر عليها البطالمة من 302ق.م إلى 198 ق.م حيث تمكن السلوقيون من استعادتها. استمرت سيطرة السلوقيين على فلسطين حتى عام 64ق. م حيث دخلت مع الأراضي السورية تحت حماية الرومان.
فيما يخص الفترة التي وقعت فيها فلسطين تحت الحكم البطليمي، دأب البطالمة على التقرب من اليهود، حتى أن يطليموس الأول خصص أحد أحياء الإسكندرية لليهود ونقل إليه أفواجاً من يهود فلسطين، وزاد توافد اليهود في عهد بطليموس الثاني الذي افتدى أسراهم من ماله الخاص ومنح معبدهم في بيت المقدس الهدايا الثمينة ، كما أنزلهم في الأراضي المستصلحة.
أما تحت الحكم السلوقي، فقد تودد ملكهم أنطيوخس الثالث إلى المدن الفلسطينية كي تؤيده في نزاعه مع البطالمة، فانقسمت مدن فلسطين بين مؤيدة للسلوقيين ومؤيدة للبطالمة.
وكلّف أنطيوخس الرابع أحد قادته عام 167ق.م بإلغاء الطقوس الدينية اليهودية والاستعاضة عنها برفع الإله الإغريقي زيوس فوق المذبح المقدس، وحول معبد يهوه فوق جبل جزيم إلى معبد زيوس وحرم الختان واقتناء الأسفار المقدسة وأوجب أكل لحم الخنزير. ونتيجة لذلك انقسم اليهود إلى قسمين؛ قسم تخلي مرغماً عن الشريعة وهم "المتأغرقون"، وآخر هرب إلى خارج المدينة المقدسة وأطلق عليهم "حزب القديسين" ووضعوا (ماتاتيه) لقيادتهم، الذي مات بعد فترة قصيرة فاستلم القيادة بدلاً منه ابنه يهوذا الذي لقب بالمكابي (المطرقة). وقد أحرز يهوذا نجاحاً في التصدي للقوات السلوقية مما جعل كثيراً من المترددين اليهود ينضمون إليه. وفي عام 166ق.م حقق المكابي نصراً في معركة (عقبة بين حورون) على القائد أبولونيوس، وحقق نصراً آخر عام 165ق.م على القائدين نيكانور وجورجياس مما دفع أنطيوخس، الذي كان يقوم بحملة أخرى إلى الاستجابة لمطالب المكابيين بوقف الاضطهاد. فعاد المكابيون إلى بيت المقدس وإلى ممارسة شعائرهم الدينية في 25/12 عام 164 ق.م، وهو العيد الذي يحتفل به اليهود إلى اليوم تحت اسم "حانوكاه" عيد الأنوار.
بعد وفاة أنطيوخس الرابع قام القائد لوسياس بهزيمة المكابيين في معركة بيت زكريا قرب بيت صور، وقتل في المعركة اليعازر شقيق المكابي، وقام لوسياس بتعيين كاهن جديد يدعي إلياكيم، لكن المكابيين خلعوه ووقعوا معاهدة مع روما تعهدت لهم فيها بمد يد العون لهم في حال تعرضوا لهجوم.
قام القائد ديمتريوس بتجريد حملة عام 161ق.م ضد المكابين الذين هزموها عند الرها، فجرد حملة ثانية بقيادة باكخيدس حققت نصراً على المكابي في (لاشع) وقتل المكابي نفسه وفر أصحابه عبر الأردن.
تزعم يوناثان شقيق يهوذا المكابيين، وعرض عليه صلح يمنع عليه الاقامة داخل أسوار بيت المقدس، فوافق يوناثان. لكنه، بعد وفاة الكاهن الأعظم اغتصب الكهانة، وقام بتأسيس إمارة مستقلة بزعامته.
بعد ذلك استعان بطليموس سراً بيوناثان وقدم إلى فلسطين وبعد معركة قتل فيها بطليموس تسلم ديمتريوس الثاني الحكم وأطلق يد قائد مرتزقته في القضاء على المعارضة. استغل يوناثان النزاع بين ديمتريوس وبالاس (حليف الرومان) وضرب حصاراً على القلعة في عكا. ونجح، بالهدايا والأموال في استمالة الملك الذي تغاضي عن توسع المكابيين شمال فلسطين، وعندما حدثت ثورة داخلية في أنطاكية نتيجة النقمة على مرتزقة ديمتريوس، استنجد ديمتريوس بيوناثان الذي أمده بمقاتلين شرسين قضوا على ما يقارب مئة ألف من سكان أنطاكية وضواحيها. وفي عام 143ق.م أعلن ابن بالاس ملكاً باسم أنطيوخس السادس وانقسمت مملكة السلوقيين إلى قسمين، سوريا الداخلية تحت حكم أنطيوخس وسوريا الساحلية تحت حكم ديمتريوس. انقلب المكابيون على ديمتريوس وأيدوا أنطيوخس واستغلوا ثقته وبدؤوا في التوسع واتصلوا بالرومان للحصول على اعتراف بتوسعاتهم، فقام وزير انطيوخس (ديودوتس) بتجهيز حملة وصلت إلى سكيثوبولس (بيسان) وقام بالفتك بيوناثان ومعظم رجاله المكابيين. بعد نجاح ديودوتس قام باغتيال أنطيوخس وأعلن نفسه ملكاً باسم تروفون، مما أطمع بقية المكابيين، فعرضوا تأييدهم على دمتريوس الذي قبل وأعفاهم من الضرائب، لكنه أسر في معركة ضد البارثيين، وقام أخيه الأصغر أنطيوخس السابع بالزواج من زوجة أخيه كليوباترا وأعلن نفسه ملكاً، وقتل تروفون. فطلب أنطيوخس من سمعان المكابي دفع الجزية، لكن قواته لم تتمكن من جباية الجزية إلا بعد 3 سنوات وبعد أن شارك أنطيوخس نفسه في حصار بيت المقدس حيث سقطت في قبضته عام 132 ق.م.
وفي عهد هركانوس مد المكابيون نفوذهم إلى معظم فلسطين جنوب الكرمل، وقام خليفته عام 103ق.م باجبار سكان الجليل بالسيف على اعتناق اليهودية، وقام بعده يانايوس بحصار عكا التي استنجدت ببطليموس التاسع حيث أوقع باليهود هزيمة منكرة في موقعه أسينون، لكن يانايوس تمكن من إعادة تأسيس دولته، وهو أول من لقب بالملك في اليهودية، لكن مظاهر الملوكية لم تعجب شعبه الذي استعان بملك دمشق السلوقي ديمتريوس الثالث فأنجدهم عام 87ق.م ففر يانايوس من بيت المقدس فزال بذلك أي ذكر لحركة سياسية هامة في فلسطين حتى نهاية العصر الهلنستي عام 64ق.م.
29ـ السلوقيون:
لقي برديكاس خليفة الإسكندر المقدوني مصرعه على أيدي الولاة الذين تحالفوا عليه عام 321ق.م وعلى أثر ذلك عقد مؤتمر تريبار أديسوس لإعادة توزيع ولايات الإمبراطورية بين المنتصرين. ومن هذه القسمة بدأ نجم السلوقيين في الظهور حين عين سلوقس والياً على بابل.
غزا انتيغوس جوف سوريا فاستنجد سلوقس ببطليموس الذي انجده وأعاده للحكم بعد انتصاره في معركة غزة عام 312ق.م.
حاول أنتيغوس أن يعيد لحمة إمبراطورية الاسكندر، فتحالف عليه بطليموس وليسماخوس سلوقس وكاسندروس وهزموه ولقي حتفه عام 302ق.م، وفر ابنه ديمتريوس، وقسم المنتصرون الغنائم فكانت سوريا من نصيب سلوقس الأول.
بعد وفاة أنطيوخوس الثاني عام 246ق.م توفي بطليموس الثالث فاشتعلت الحرب مع بطليموس الرابع، وانتصر البطالمة على السلوقيين عند رفح عام 211ق.م، واسترد أنطيوخوس الثالث القدس بعد انتصاره على البطالمة سنة 203ق.م. اشتعلت بعد ذلك حرب بين أنطيوخوس واليهود بانتصار خليفته الملك ديمتريوس على اليهود وقتل يهودا المكابي عام 160ق.م، لكن زعيم المكابيين يوناثان سعي للتقرب من السلوقيين عكس سلفه.
30ـ البطالمة:
تاريخ البطالمة طويل، إلا أننا هنا سنتناول ما يخص تفاعلهم مع فلسطين.
توزعت إمبراطورية الإسكندر على قادته، فاستولي وإلي مصر بطليموس (364-282 ق.م) على فينيقية (فلسطين) لتوسيع نفوذ ولايته (319 ق.م)، وقد حارب بلطيموس أنتيغوس في غزة وانتصر عليه (315 ق.م) وأعاد ولاية سورية إلى عاملة سلوقس، وحارب أنتيغوس سنة 301 ق.م في معركة ابسوس وقتله.
بقيت فلسطين في قبضة البطالمة حتى هزمهم الملك السلوقي أنطيخيوس الثالث هزيمة حاسمة في معركة سانيون (200 ق.م) ثم استولوا على صيدا وبيت المقدس وفلسطين كلها ففقد البطالمة هذه المنطقة نهائياً (198 ق.م).
31ـ قبيلة ثمود:
قبيلة من العرب البائدة يعود نسبها إلى ثمود جائر بن إرم بن سام بن نوح، ويرى أغلب المفسرين أنهم سكنوا وادي القرى بين المدينة والشام، وبيوتهم منحوتة في الجبال، ويرجع تاريخهم إلى ما قبل الميلاد، فقد أجلاهم الملك الأشوري صارغون الثاني إلى السامرة في فلسطين وهذا أقدم ما يعرف عنهم.
ورد أسمهم في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، وقد اكتشف علماء الآثار مجموعة من النصوص الثمودية يعود بعضها إلى ما قبل الميلاد، وبعضها إلى ما بعد الميلاد، من بينها نصوص تدل على معرفتهم بالمسيحية وتعد أقدم الاشارات الدالة على وجود المسيحية في شمال الجزيرة، وقد زرعوا الأرض ورعوا الماشية واشتغلوا بالتجارة، ويبدو أنهم أصيبوا بكارثة هائلة مثل زلزال أو بركان.
وتؤكد المصادر التاريخية إقامتهم جنوب البحر الميت، مسرح أحداث قصتهم الشهيرة مع النبي صالح وعقرهم لناقته.
32ـ اليطوريون:
قبيلة تتكلم الآرامية سكنت بين اللجاة والجليل، وترجع التوراة نسبهم إلى يطور بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل، كما أشارت التوراة إلى حربهم مع بني إسرائيل أيام الملك شاؤول – طالوت.
يذكر يوسيفيوس المؤرخ أنهم عاشوا في الجليل شمال فلسطين في القرن الثاني قبل الميلاد , وأن الملك اليهودي أرسطوبولوس الأول غزاهم عام 104ق.م وأرغم بعضهم على اعتناق اليهودية. امتاز اليطوريون بالرماية وتأثروا بالحضارة الهلينية، وأنشأ منهم ماركوس أنطونيوس حرساً خاصاً كي يحتويهم، لكنهم تحرروا فقتل ملكهم ليسانياس بن بطليموس وأعطى جزءاً من مملكته لصديقته كليوباترا.
وحين تولي الإمبراطور أوغسطس السلطة ضمّ ما بقي من مملكة ايطوريا بعد موت ملكها زنددورس سنة 20ق.م وبذلك انتهى عهد اليطوريين.
33ـ الأنباط:
يجمع الباحثون على أن أصل الأنباط عربي ثابت، بدليل مواطنهم "العربية الحجرية" واللغة العربية التي تظهر في كتاباتهم بالآرامية. إضافة إلى أسماء أعلامهم (الحارث، عبادة، مالك، ..الخ). كما أن أسماء آلهتهم تدل على عروبيتهم (اللات، العزى، مناة، ذو الشرى، هبل).
قدم الأنباط من جنوب الجزيرة في القرن السادس قبل الميلاد واستقروا في الحجاز، وامتدت مملكتهم من الحجاز إلى البحر المتوسط. وكانت البتراء أعظم مدنهم على الاطلاق، ويقسم تاريخ الأنباط السياسي إلى قسمين:
الفترة الهلينستية: وتبدأ من أيام البطالمة وتنتهي عام 64ق.م، حيث احتل الرومان جنوب سوريا، ومن ملوك الأنباط في هذه الفترة الحارث الأول والحارث الثاني وعبادة الأول والحارث الثالث. وفي هذه الفترة اصطدم الأنباط باليهود المكابيين الذين احتلوا غزة التي كانت ميناء هاماً، وقد هزم ملكهم عبادة الأول عام 93ق.م الملك اليهودي اسكندر جانوس، كما هزم عبادة الأول السلوقيين بقيادة أنطيخيوس الثاني عشر في النقب عام 85ق.م، وحاصر الحارث الثالث القدس.
الفترة الرومانية: تمكن الرومان في هذه الفترة من هزيمة الأنباط واجبارهم على فك حصار القدس، ودار النزاع في هذه الفترة بين الأنباط وهيرود انتيباس الذي نصبه الرومان ملكاً على اليهود ولم يكن يهودياً. من أبرز ملوك الفترة الرومانية الحارث الرابع (8ق.م ـ 40م) الذي يعد عصره أطول عصور الأنباط وأزهاها. وانتهت مملكة الأنباط سياسياً في 22/3/106 بعد أن أسس تراجان الولاية العربية، لكن النهاية السياسية لم تنه حضارة الأنباط التي استمرت بعد ذلك طويلا.
تمسك بعض الأنباط بديانتهم زمناً بعد انتشار المسيحية، وفي القرن الرابع الميلادي قويت المسيحية وأصبح للبتراء أسقف سنة 325م.
تأثروا بفن بلاد الرافدين وجنوب الجزيرة، واتسم معمارهم بطابع هلينستي، تجلى ذلك بشكل خاص في المدافن، وقد أبدع الفن المعماري النبطي طرازاً جديداً من تيجان الأعمدة. اكتشفت مدينة البتراء عام 1812م على يد بوكهارت الألماني.
34ـ قبيلة تنوخ:
هم قبائل تحالفت وأقامت في مواضعها "تنخت"، ويرجح المؤرخون وجودهم في المنطقة إلى ما قبل الإسلام بقرون، ويختلف في نسبهم وفي كونهم من قضاعة أو من بني أسد، نصبهم ملك الروم على الشام فتنصروا، وهناك رواية عن مقاتلتهم الفرس كافأهم الروم عليها باقطاعهم سوريا وما جاورها. حاربوا خالد بن الوليد في دومة الجندل عام 12هـ. اعتنقوا الإسلام في العصر العباسي ومنهم الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري.
35ـ قبيلة الضجاعمة:
الضجماعمة قبائل عربية تنسب إلى "ضجعم بن سعد" من آل سليح بن عمرو بن حلوان بن عمران بن الحافي من قضاعة، وقد كانت أحدى أسرتين فيهما الملك في مشارف الشام، وقد انتزعوا الملك من بني تنوخ. شمل ملكهم الشريط الجنوبي من بلاد الشام بأكمله، ولأنهم كانوا يدينون بالنصرانية كانت علاقتهم بالروم وطيدة، وقد بلغ وجودهم أوجه في القرن الرابع للميلاد.
انتزع الغساسنة الملك منهم لكنهم ظلوا يستوطنون مشارف الشام. وعندما جاء الإسلام ناصروا الروم على المسلمين كما سبق لهم أن فعلوا في غزوة دومة الجندل، لكنهم أسلموا بعد ذلك وشاركوا في الفتوحات الإسلامية.
36ـ قبيلة عاملة:
قبيلة قحطانية، جاءت من اليمن إلى الشام وأقامت في جبل عاملة المشرف على طبريا، وكانت بعض بطونها خاضعة للزباء ملكة تدمر، وعند ظهور الإسلام كانت قبيلة عاملة قد استوطنت جنوب شرق البحر الميت، وقد ناصرت البيزنطيين على الجيش الإسلامي، وبعد دخول المسلمين بلاد الشام استوطنت القبيلة منطقة الجليل، وقد قامت بمساندة الأمويين غير أنها لم تقم بدور سياسي مهم.
37ـ الغساسنة:
هم أحفاد جفنة بن عمرو، وهم قبائل أزدية يمانية. كان جبلة أشهر ملوكهم الأوائل وقد تمكن من مد نفوذه إلى فلسطين سنة 497م، فتقدم إليه البيزنطيون للإفادة منه. هاجر الغساسنة من اليمن أواخر القرن الثالث للميلاد وتقدموا نحو بلاد الشام الجنوبية وأزاحوا قبيلة الضجاعمة وحلوا محلها، فاعترف لهم البيزنطيون بنوع من السيادة ومنحوهم ألقاباً سياسية رفيعة، وقد أقام الغساسنة دولة حاجزة بين سورية والساسانيين فساعدوا الروم في حروبهم ضد الساسانيين الفرس.
امتدت سلطتهم على القبائل العربية التي نزلت بفلسطين والأردن وأطراف سوريا، وقد اعتنقوا النصرانية على المذهب اليعقوبي.
ازدهرت دولتهم في عهد الحارث بين جبلة، الذي حارب المنذر بن ماء السماء وهزمه سنة 528م، وقد ساعد البيزنطيين في قمع تمرد السامريين سنة 529م فمنحه الإمبراطور جستنيان لقب فيلارك ولقب بطريق وهما لقبان إداريان رفيعان، وتجددت الحرب بين الغساسنة وملك الحيرة على مناطق النفوذ في الإقليم المعروف بالسراط جنوبي تدمر، واستمرت الحرب حتى أحرز الحارث الغساني انتصاراً حاسماً على المنذر الثالث الذي قتل في معركة عرفت بيوم حليمة سنة 554م.
حظي المنذر بن الحارث بحفاوة القيصر مما أوغر صدور رجال دولته، فاستغلوا فرصة هزيمة الجيش البيزنطي أمام الفرس وعزوها إلى خيانة المنذر الذي نفاه القيصر إلى القسطنطينية ثم إلى صقلية حيث مات هناك سنة 583م.
ثار أبناء المنذر بقيادة أخيهم النعمان وحققوا مجموعة من الهجمات الناجحة، لكن البيزنطيين تمكنوا من النعمان وسجنوه عام 584م، وتعتبر هذه بداية أفول نجم وحدة القبائل العربية في سوريا. وحين غزا الساسانيون سوريا بقيادة كسرى أبرويز عام 613م واحتلوا دمشق والقدس، قضوا على آخر نفوذ للغساسنة.
حاربت بقايا الغساسنة جيوش المسلمين إلى جوار البيزنطيين، وقد انتصر خالد بن الوليد على الروم ومعهم الغساسنة في معركة مرج صفر سنة 634م، كما أن جبلة بن الأيهم اشتبك مع خالد بن الوليد في معركة اليرموك سنة 636م، ويعزو بعض المؤرخين جزءاً من انتصار المسلمين إلى تحول جبلة بن الأيهم للحرب مع أبناء جلدته العرب ضد البيزنطيين.
38ـ قبيلة كلب:
قبيلة عربية تنتسب إلى كلب بن وبرة من قضاعة، وكانت أعظم قبيلة في بلاد الشام قبل مجيء الإسلام. انتشر فيها المذهب النصراني، وكانت قبيلة شبه مستقرة. لم يكن موقفهم معادياً للإسلام، ولكنهم دخلوا فيه تدريجياً فحافظوا على أهمية قبيلتهم. بعد تحرير الشام، أصبح لها نفوذاً سياسياً على الأخص في العهد الأموي، وقد تزوج معاوية منهم، وزوجته ميسون الكلبية هي التي أنجبت له يزيد ومن شدة ما دعم الكلبيون الأمويين صارت كلمة كلب مرادفة لأنصار الأمويين.
39ـ الراشدون:
لم تنقطع علاقات الجزيرة العربية مع فلسطين عل مرّ التاريخ، إلا أن الإسلام أخذ يهتم بها بجدية وذلك لارتباطها بمسرى الرسول (ص)، ولكونها أول قبلة للمسلمين قبل اعتماد الكعبة قبلة ثانية.
بدأ العصر الراشدي بخلافة أبي بكر الذي كان أول عمل له هو إرسال جيش أسامة بن زيد، الذي جهزه الرسول لفتح فلسطين قبل وفاته، لكن أبو بكر توفي وفلسطين لم تفتح بعد. واصل عمر بن الخطاب أداء مهمة أبي بكر، وانتقل بنفسه إلى ميدان القتال، حتى أن التاريخ يذكر أن عمر خصّ فلسطين، دون سواها من البلدان التي تم فتحها بأربع زيارات.
كانت فلسطين قسماً من الأقسام الأربعة التي قسم عمر البلاد على أساسها، واحتفظ جند فلسطين بوضعه الذي أرساه عمر بن الخطاب لزمن طويل.
كان عمرو بن العاص أميراً على فلسطين في عهد عمر، ولمّا سار لفتح مصر استخلف أبا عبيدة بن الجراح الذي جعل يزيد بن أبي سفيان أميراً على فلسطين. ومات أبو عبيدة في طاعون عمواس فاستخلف معاذ بن جبل على إمارة الشام، ومات معاذ فاستخلف يزيد بن أبي سفيان الذي وضع أخاه معاوية أميراً على فلسطين فأقره عمر. ولما توفي يزيد تولى معاوية إمارة الشام فأصبح علقمة بن مجزر أميراً على فلسطين. واستمر معاوية في إمارة الشام يولي الأمراء ويعزلهم حتى ما بعد العصر الراشدي.
ظلت الأرض ملكاً عاماً للمسلمين في فلسطين، يزرعها الناس مقابل خراج معين، وحافظ أصحاب الديانات الأخرى على دياناتهم مقابل الجزية.
تدفقت القبائل العربية إلى فلسطين بعد الفتح؛ فاستقرت غسان في اليرموك والجولان، الأشعريون في طبريا ومدين في ما بين تبوك والعريش وبيت جبرين. وسكن أريحا جماعة من قيس وقريش، كما نزلت قبائل من لخم بين مصر والشام، وسكن بنو بكر منطقة جنين وبعض من مضر في نابلس.
أعطى موقع فلسطين لسكانها بعد الفتح دوراً كبيراً في حركة الجهاد، سواء في رد المحاولات البيزنطية لاستعادة فلسطين أو في حركة الفتح الإسلامي. حتى أن معاوية أقام مصنعاً للأسلحة البحرية في عكا، فوضع بذلك أساساً لأول أسطول إسلامي في عهد عثمان.
في الفتنة التي حدثت بعد مقتل عثمان وقف أهل فلسطين مع معاوية في المطالبة بدم عثمان وخرجوا معه للقتال في "صفين"، وعندما انتهت المعركة إلى قرار التحكيم، جرى التحكيم في منطقة أذرح بأطراف فلسطين الشرقية، وظل أهل فلسطين موالين لمعاوية ولمن جاء بعده إلى أن توفي يزيد بن معاوية، فوقف نائل بن قيس الجذامي إلى جانب عبد الله بن الزبير وأعلن له البيعة.
خلق التعدد السكاني في فلسطين بعد الفتح تنوعاً حضارياً وتنوعاً لغوياً، فقام المسلمون بإنشاء دور العبادة ودور العلم في طول البلاد وعرضها، ولما كثر توافد الناس إلى دور العلم بعث لهم عمر بن الخطاب معاذ بن جبل الذي ظل يدرس فيهم حتى وفاته، فتولى التدريس بعده عبادة بن الصامت حتى مات عام 34هـ.
كان من جراء هذا الدور الحضاري أن استعربت غالبية السكان في الشام وفلسطين، فغلبت الصبغة العربية على البلاد مما أدى إلى تعريب الدواوين بعد ذلك كضرورة تاريخية في عهد عبد الملك بن مروان.
40ـ الأمويون:
ارتبطت بلاد الشام بالأمويين منذ ما قبل الإسلام، لذا فقد حظيت فلسطين في عصرهم بامتيازات. وشهد مطلع العصر الأموي استقرار التوزيع القبلي في فلسطين، وفرضت الضرورات العسكرية تكوين الأجناد مما أدى إلى تقسيم الشام إلى 4 أجناد كانت فلسطين واحداً منها.
كانت الأرض في فلسطين شبه مشاعية، واهتم الأمويون بتطوير الزراعة فيها،خاصة في مناطق الغور، وكان معاوية وابنه يحبان الإقامة جوار طبرية. وقد بني الوليد بن عبد الملك قصر المشتى قرب البحر الميت، وبني سليمان بن عبد الملك مدينة الرملة سنة 98هـ. وقام معاوية بترميم سور القدس، واعتنى ببساتينها وغاباتها وبني دارا لصناعة السفن في عكا.
عين مروان بن الحكم ابنه عبد الملك والياً على فلسطين، فواجه ثورة قبلية قضى عليها. ومالت فلسطين في عهد عبد الملك إلى عبد الله بن الزبير في ثورته بمكة، وقد سيطر على فلسطين نائل بن قيس الخزامي سنة 64هـ ودعا إلى ابن الزبير، فالتقاه عبد الملك في أجنادين وقتله. وانتهز الروم فرصة المشاكل هذه فأثاروا الجراجمة في لبنان وفلسطين، فهاجموا سواحل الشام.
وبنى عبد الملك بن مروان قبة الصخرة والمسجد الأقصى، ويعد مسجد قبة الصخرة أول مسجد للإسلام في الشام كلها (72هـ).
استطاع الوليد بن عبد الملك القضاء على فتنة الجراجمة في فلسطين فتميز عهده بالاستقرار.
إثر مقتل الوليد بن يزيد (744م) ثارت فلسطين على واليها، فأخمد يزيد بن الوليد ثورتها وعين عليها ضبعان بن روح. وفي وسط هذه المحن ظهر مروان بن محمد، الذي سار إلى دمشق للانتقام لمقتل الوليد، لكن أهل فلسطين، بقيادة ثابت بن نعيم الجذامي تمردوا على مروان الذي صمد في وجه التمرد وقبض على ثابت الجذامي فهدأت الفتنة مؤقتاً. وظل مروان يخمد فتنة تلو أخرى إلى أن أخضع الشام في النهاية سنة 746م.
وحين بدأت الدعوة للعباسيين وتولى أبو العباس الخلافة سنة 132هـ 749م، كان مروان بن محمد لا يزال صامداً وانسحب إلى فلسطين. وقتل عبد الله بن علي 70 رجلاً من أمراء بني أمية بعد أن أعطاهم الأمان عند نهر العوجا في فلسطين وبذلك انتهت الخلافة الأموية.
41ـ العباسيون:
في عام 132هـ، انتقلت الخلافة من الأمويين إلى العباسيين، وبالتالي أصبحت فلسطين تحت الحكم العباسي الذي استمر حتى الفتح الفاطمي عام 358هـ.
في أواخر العهد الأموي كانت فلسطين أحد مراكز القلاقل، فقد تشتت الناس حسب أهوائهم السياسية ودمرت الزلازل كثيراً من المعالم فيها وكثرت الفتن وضعفت الموارد الاقتصادية وأدى هذا إلى سقوط دولة الأمويين.
بعد معركة الزاب التي حسمت الأمر لصالح العباسيين، تراجع مروان بن محمد إلى فلسطين فوقف منه سكانها موقفاً معادياً فاضطر للجوء إلى مصر، وبعد ثلاثة أشهر من معركة الزاب دخل عبد الله بن علي بن عبد الله العباسي إلى فلسطين سنة 132هـ. حيث قام بمذبحة أسفرت عن سبعين قتيلاً من الأمويين.
يمكن تقسيم العصر العباسي في فلسطين إلى قسمين؛ الأول هو فترة الارتباط المباشر مع بغداد وسامراء الذي امتد بين (132-264هـ)، وفي هذه الفترة لم يعط العباسيون أولوية لفلسطين لشكهم في ولائها للأمويين، وفي عام 255هـ تولى فلسطين عيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني الذي تمرد على الخلافة لمدة عامين، لكنه هزم على يد أماجور التركي، الذي تسلم حكم الشام حتى عام 264هـ حيث توفي وتحرك بعدها أحمد بن طولون من مصر للسيطرة على البلاد.
تمحور اهتمام العباسيين في هذه الفترة على أمن الطرق التجارية والحج وتأمين الخراج كما ركزوا على الاستفادة من المركز الديني لبيت المقدس ورعاية الأراضي المصادرة من الأمويين.
تجند بعض أهل فلسطين في الجيش العباسي في تلك الفترة، ووجدت في سامراء سنة 248 هـ فرقة عرفت باسم فرسان طبريا كان لها دور في الفتنة العسكرية التي انتهت بتعيين المستعين بالله.
لكن الطابع العام لعلاقة أهل فلسطين بالحكم العباسي كان التمرد والثورة الناتجين عن العقدة الأموية والظلم الناتج عن الخراج والنزاعات على المصالح، فيما انتشر الفقر والضائقة الاقتصادية وخصوصاً زمن الرشيد، فظهرت عدة ثورات تم إخمادها بالقوة وإن استمر بعضها خمس سنوات.
في أواخر أيام المعتصم (226هـ) اندلعت في الغور وطبرية وبيسان والرملة ثورة فلاحية قادها المبرقع تميم اللخمي، بلغ عدد أنصاره مئة ألف من الحراثين، ولم يتمكن العباسيون من هزيمته إلا سنة 227هـ حين انصرف عنه أنصاره في موسم الحرث، فاعتقل وسجن في سامراء.
الفترة الثانية في علاقة فلسطين بالحكم العباسي هي فترة الارتباط بمصر ما بين عامي (264-358هـ) حيث كانت مصر في هذه الفترة تشهد نشاطا اقتصاديا ملحوظا عكس بغداد التي أنهكتها الثورات.
وظهرت في هذه الفترة عدة دول؛ كالدولة الطولونية التي حكمت 28 عاماً، وظهرت الدعوة الإسماعيلية في فلسطين مع نهايات هذه الفترة.
كما تضمن هذا القسم ظهور الدولة الإخشيدية على يد محمد بن طغج والتي استمرت 35 سنة.
في النهاية يمكن تلخيص الحكم العباسي في فلسطين بأنه حول فلسطين، على مستوى الديانة إلى الإسلام وفرض العربية كلغة، وسياسياً تحولت إلى حكم القواد الأتراك، واتجه الاقتصاد نحو النمو وأخذت الثقافات المختلفة تندمج ببعضها البعض ضمن الإطار الإسلامي العربي.
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق